عبر عن
مصر من إسكندرية إلي أسوان وهو خلاصة لثقافتها المركبة عبر العصور
يعتبر
يوسف شاهين من كبار فناني السينما في مصر والعالم العربي والعالم، وهو الذي
وضع السينما المصرية علي خريطة السينما العالمية منذ ١٩٧٠ أكثر من أي مخرج
آخر، وكان كل فيلم جديد من أفلامه من الأحداث الثقافية التي تثير الجدل
الخصب علي مختلف المستويات وسوف يظل عالمه الفني الجميل ما بقي الفن
والإبداع.
يوسف
شاهين مصري ولد في الإسكندرية من أم يونانية وأب من أصول لبنانية عام ١٩٢٦،
درس في كلية فيكتوريا بالإسكندرية، ثم درس التمثيل في معهد باسادينا
بالولايات المتحدة الأمريكية، وتزوج كوليت فافودون الفرنسية المولودة
بالإسكندرية عام ١٩٥٥، وأخرج ٣٧ فيلماً روائياً طويلاً و٥ أفلام قصيرة
تسجيلية وروائية منذ عام ١٩٥٠، منها فيلم مشترك مع الاتحاد السوفيتي عام
١٩٦٨، و٤ أفلام مشتركة مع الجزائر من ١٩٧٢ إلي ١٩٨٢، و٩ أفلام مشتركة مع
فرنسا من ١٩٨٥ إلي ٢٠٠٧.
فاز يوسف
شاهين بالجائزة الكبري في مهرجان قرطاج عام ١٩٧٠ عن مجموع أفلامه، وفاز
بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان برلين ١٩٧٩ عن «إسكندرية.. ليه»، وهي
الجائزة الوحيدة التي فاز بها مخرج مصري في تاريخ مهرجانات برلين وكان
وفينسيا، وفاز بجائزة الدولة التقديرية في مصر عام ١٩٩٤، وفاز في مهرجان
كان الـ ٥٠ عام ١٩٩٧ بجائزة اليوبيل الذهبي للمهرجان عن مجموع أفلامه.
مصري
ماذا يعني
أنه مصري، مصر مجتمع له ثقافته الخاصة المركبة التي تكونت عبر العصور، تجمع
مصر بين الصحراء في غربها وشرقها وجنوبها وبين الدلتا التي يشقها نهر النيل
أطول أنهار العالم، وبين آسيا وأفريقيا، وبين البحر الأبيض والبحر الأحمر،
وبين البيض في الطريق إلي الإسكندرية، والسود في الطريق إلي أسوان، ويجمع
تاريخها بين الوثنية الفرعونية والتوحيد الفرعوني عند أخن ـ آتون، وبين
اليهودية التي أنزلت فيها علي النبي موسي عليه السلام، والمسيحية حيث جاءها
النبي عيسي وأمه العذراء، والإسلام حيث كان من بين زوجات النبي محمد عليه
الصلاة والسلام ماريا المصرية القبطية. وفي تاريخ مصر أيضاً فترات يونانية
ورومانية قبل الفترة العربية.
وكما أن
ثقافة المجتمع المصري خلاصة مركبة من كل هذا، كذلك يوسف شاهين الذي عبر
عنها في أفلامه بأسلوبه الخاص. فالمصري من أصول غير مصرية في مصر لا يختلف
عن المصري من أصول مصرية، بل ولا يعبأ أي مصري بأصوله العرقية أساساً. وكم
كان قانون الجنسية المصرية الصادر عام ١٩٢٩ سابقاً لإعلان حقوق الإنسان
عندما اعتبر المصري هو من يرغب في أن يكون مصرياً أيا كانت أصوله وأياً
كانت ديانته، وأياً كانت طائفته.
إسكندراني
وماذا
يعني أنه ولد في الإسكندرية. كانت الإسكندرية منذ أن أسسها الإسكندر علي
شاطئ البحر المتوسط نموذجاً للمدينة المنفتحة علي كل الأعراق والثقافات،
فالسفن كانت الوسيلة الوحيدة للسفر قبل الطائرات، ولذلك كانت الإسكندرية
النافذة التي تطل منها مصر علي العالم، ونافذة العالم علي مصر، كما هو شعار
مكتبة الإسكندرية الجديدة عن حق. وكانت في نفس الوقت مدخل الغزاة منذ
الإسكندر إلي بونابرت.
وحتي
النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي كان أغلب سكانها من الجاليات
الأجنبية خاصة اليونانية والإيطالية والفرنسية. ولذلك فمن يولد في
الإسكندرية غير من يولد في أي مدينة أخري من مدن مصر. قال لي يوسف شاهين:
«كنت دائماً أتطلع إلي الأفق، وأقول ماذا في الناحية الأخري».
ليبرالي
وماذا
يعني أنه ولد عام ١٩٢٦، يعني أنه بلغ العشرين عام ١٩٤٦ في ذروة الفترة
الليبرالية من تاريخ مصر الحديث «١٩٢٢ ـ ١٩٥٢» والتي كانت نتيجة النهضة
الحديثة التي بدأت مع تولي محمد علي الحكم عام ١٨٠٥، وبلغت ذروتها في عهد
إسماعيل في الثلث الأخير من القرن حيث شهدت أول مجلس نيابي، ثم بلغت ذروة
أخري في عهد عباس حلمي الثاني رغم الاحتلال البريطاني الذي بدأ عام ١٨٨٢،
حيث عرفت الأحزاب السياسية عام ١٩٠٧، والثورة الشعبية الكبري والوحيدة في
تاريخها الحديث عام ١٩١٩، وحصلت علي الاستقلال السياسي عام ١٩٢٢، وأصبح لها
دستورها عام ١٩٢٣، وعرفت الانتخابات الحرة عام ١٩٢٤، وانفصلت رسمياً عن
الدولة العثمانية في العام نفسه، وأصدر برلمانها القانون الأول للجنسية
المصرية الذي سبق الإشارة إليه عام ١٩٢٩، وهي الفترة الليبرالية التي انتهت
بعد ثلاثين سنة مع حكم الجيش عام ١٩٥٢.
تعدد
اللغات
وماذا
يعني أن يوسف شاهين درس في كلية فيكتوريا بالإسكندرية. كانت هذه الكلية
إنجليزية بحتة من اسمها إلي لغة التعليم فيها، وكان أغلب الطلبة فيها من
أبناء العائلات الكبيرة المصرية وغير المصرية، وكان يوسف شاهين من الطبقة
الوسطي، ولكن والده المحامي أراد له أن يحصل علي أرقي مستويات التعليم،
وكانت نتيجة تخرج شاهين في كلية فيكتوريا أن أصبحت لغته الأولي هي
الإنجليزية، والثانية الفرنسية، والثالثة العربية، أو بالأحري العامية
المصرية. وظلت لغته من هذا الخليط في بيته وفي الاستديو، وحتي في كتابة
سيناريوهاته.
هاملت في
أمريكا
وماذا
يعني أنه درس التمثيل في معهد باسادينا بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو
في بداية العشرينيات من عمره. يعني أنه اتصل بالعالم الغربي القديم
«أوروبا» وهو طالب، واتصل بالعالم الغربي الجديد «الولايات المتحدة
الأمريكية» بعد أن تخرج. ويعني أنه كان يود أن يكون ممثلاً، وقد مثل علي
مسرح كلية فيكتوريا وهو طالب.
وهناك
لقطات نادرة له وهو يمثل في الكلية مصورة بكاميرا ٨ مللي ضمنها في فيلمه
الأول عن سيرته الذاتية «إسكندرية.. ليه»، وبالطبع وكأي طالب في كلية
إنجليزية درس مسرحيات شكسبير، وربما كأي طالب درس هذه المسرحيات ويهوي
التمثيل كان دوره المفضل «هاملت». ومن الممكن اعتبار «هاملت» من المؤثرات
الجوهرية في حياة وفن يوسف شاهين سواء بالسلب أو بالإيجاب منذ صباه، وطوال
عمره.
مصر ١٩٥٠
ثم ماذا
يعني أنه أخرج أول أفلامه عام ١٩٥٠ وهو في الرابعة والعشرين من عمره بعد أن
عاد من أمريكا، ولماذا لم يمثل، أو لماذا أخرج بدلاً من أن يمثل؟ كان من
المنطقي ومصر قد بدأت اتصالها بالعالم الحديث في مطلع القرن التاسع عشر
الميلادي أن تكون أول بلد عربي وإسلامي يعرف الإنتاج السينمائي، وكان ذلك
في الإسكندرية في ٢٠ يونيو ١٩٠٧ يوم عرض أول فيلم مصري.
وقد أنتجت
مصر نحو ثلاثة آلاف فيلم روائي طويل ناطق منذ عام ١٩٣٣، ومثل هذا العدد من
الأفلام القصيرة، فهي سينما كبيرة من حيث الكم والكيف معاً، وتأتي في
المرتبة العاشرة علي مستوي العالم في المائة عام الأولي من تاريخ السينما.
كان
ازدهار السينما نتيجة التطورات الثقافية التي بدأت مع معرفة المسرح في عهد
الخديو إسماعيل الذي قام ببناء أوبرا القاهرة عام ١٨٩٦، وكلف فيردي بتأليف
أوبرا «عايدة» فهي أوبرا مصرية حصل فيردي علي ١٥٠ جنيهاً ذهبياً من الأموال
العامة للشعب المصري لتأليفها، وفتوي الشيخ محمد عبده مفتي مصر في مطلع
القرن العشرين الميلادي بأن التماثيل ليست حراماً «إلا إذا كنتم تعبدونها»،
ووقوف أول ممثلة مصرية قبطية علي المسرح عام ١٩٠٧، وافتتاح كلية الفنون
الجميلة للرسم والنحت عام ١٩٠٨،
وافتتاح
جامعة القاهرة في العام نفسه، ووقوف أول ممثلة مصرية مسلمة علي المسرح عام
١٩١٥، وإنتاج أول فيلم روائي قصير صامت عام ١٩١٧، وأول فيلم روائي طويل
صامت عام ١٩٢٧، وافتتاح أول معهد للتمثيل للذكور والإناث عام ١٩٣٠، وافتتاح
معهد الموسيقي العربية عام ١٩٣٢.
مدرسة
السينما المصرية
وهناك
حقبة كاملة مغلقة من ١٩٣٣ إلي ١٩٦٣ شكلت الأفلام المصرية فيها مدرسة
سينمائية متكاملة أنتجت ما يقرب من نصف مجموع الأفلام المصرية الثلاثة
آلاف، وكان جمهورها يشمل كل البلاد العربية التي لم تعرف الإنتاج السينمائي
المنتظم إلا بعد ذلك، وامتد تأثيرها إلي تركيا وإيران واليونان.
ولا تزال
أفلام تلك السنوات الثلاثين هي الزاد الرئيسي للقنوات التليفزيونية المصرية
والعربية، ومع الأسف لم تهتم وزارة الثقافة المصرية بإنشاء سينماتيك حقيقي
يجمع الأفلام المصرية، بل لا يوجد دليل علمي محقق عن الإنتاج السينمائي
المصري رغم أن عمره أصبح مائة سنة.
جاء يوسف
شاهين إلي السينما في مصر عام ١٩٥٠، وهي في ذروة عصرها الذهبي. ولم يكن من
الممكن أن يمثل فور عودته من أمريكا بسبب المواصفات الهوليودية الصارمة
التي كانت تحكم سياسة الاستديوهات، ولم يكن يتمتع بأي منها.
وقد ظلت
رغبة التمثيل حبيسة داخل الفنان حتي أصبح مخرجاً له اسمه في السوق، فأسند
إلي نفسه دور قناوي في فيلم «باب الحديد» الذي أخرجه عام ١٩٥٧، وهو دور
بائع الصحف الأعرج المهووس جنسياً في المحطة المركزية للقطارات في القاهرة.
وكان
أداؤه ممتازاً حيث أداره من وراء الكاميرا مساعده حسين كمال الذي أصبح من
كبار المخرجين بعد ذلك بعشر سنوات، ولكنه ظل الدور الوحيد المميز. «مثل
شاهين بعد ذلك في ثلاثة من أفلامه: فجر يوم جديد، واليوم السادس، وإسكندرية
كمان وكمان»، ولكنه لم يمثل في أي فيلم من إخراج غيره.
أسلوب
جديد
حمل «بابا
أمين» أول أفلام يوسف شاهين عام ١٩٥٠ مذاقاً جديداً لم يألفه جمهور السينما
السائدة ولا صناعها. ما هذا المخرج المسيحي الذي يصنع فيلماً تدور كل
أحداثه في شهر رمضان، ويعبر عن شهر صيام المسلمين بقوة وجمال. ما هذا
المخرج الذي يبدأ بفيلم تدور بعض أحداثه في العالم الآخر بعد موت بطله،
والذي نكتشف في النهاية أنه لم يمت، وإنما كان يعاني من كابوس.
ما هذا
المخرج الذي يسند إلي حسين رياض الدور الرئيسي، وهو ممثل عظيم، ولكنه لم
يمثل الدور الرئيسي طوال حياته إلا نادراً، وما هذا الأسلوب الذي يعتمد علي
اللقطات القصيرة ويصنع إيقاعاً سريعاً مع حركة الكاميرا المستمرة. وما هذا
الأسلوب الحيوي في تقديم الأغاني والاستعراضات؟
لم تكن
هناك أي أيديولوجيات وراء اختيار شهر رمضان زمناً لأحداث الفيلم، أو تصوير
العالم الآخر، رغم سذاجة هذا التصوير، وهو من المحرمات الكبري في الثقافة
العربية الإسلامية، كان ذلك لأنه مخرج من الإسكندرية.
ومثل أغلب
مخرجي مصر والعالم كانت السينما الهوليودية المثل الأعلي ليوسف شاهين، وكان
من المعتاد أن يتم إنتاج الأفلام المأخوذة عن الأفلام الأمريكية، وكان
المشروع الأول للمخرج الشاب «ابن النيل» عن فيلم أمريكي، ولكن قيل له إن من
الصعب أن يبدأ به لتكلفته الكبيرة نسبياً، فأخرج «بابا أمين» عن فيلم
أمريكي آخر، وأصبح «ابن النيل» فيلمه الثاني عام ١٩٥١ معبراً عن الفكرة
التقليدية عن أخلاقيات القرية ولا أخلاقيات المدينة، ولكن بأسلوب «فني»
مختلف عن السينما السائدة، ولذلك اختير للعرض في مهرجان كان ١٩٥٢.
ولكن كان
هناك من يري أن الأفلام الواقعية هي فقط السينما «الفنية»، وهي فقط التي
يجب أن تمثل السينما المصرية في مهرجان كان، وغيره من المهرجانات.
تزعم
المخرج الكبير صلاح أبوسيف «١٩١٥ ـ ١٩٩٦» هذا الرأي، ودخل صراعاً عنيفاً مع
يوسف شاهين، وأطلق عليه أول اتهام لاحقه لمدة عقدين عندما قال إنه مخرج
«خواجة»، وكلمة «خواجة» كان يطلقها العامة في مصر آنذاك علي أبناء الجاليات
الأجنبية الذين لا يجيدون العربية.
ولكن
«الخواجة» عند المصري العادي لم يكن عدواً بأي معني من المعاني، ولم يكن
يجد في نطقه الخاص للعامية المصرية إلا مدعاة للطرافة، وهو ما يظهر في
الكثير من الأفلام، وفي نمط «الخواجة بيجو» في برنامج «ساعة لقلبك» أشهر
البرامج الكوميدية في تاريخ الراديو المصري.
كان
أبوسيف يري أن شاهين لا يعبر عن الواقع المصري لأنه لا ينتمي إلي الاتجاه
الواقعي الذي بدأه كمال سليم في «العزيمة» عام ١٩٣٩، حيث عمل أبوسيف
مساعداً، ووصل بهذا الاتجاه إلي ذروة النضج في أفلامه، خاصة عندما اشترك مع
نجيب محفوظ في كتابة عدد منها، وهو مؤسس الرواية الواقعية في الأدب العربي.
وكل من
أبوسيف في السينما ومحفوظ في الأدب عبرا بامتياز عن الطبقة الوسطي المصرية،
وبالذات في أحياء القاهرة القديمة «الإسلامية» حيث ولد أبوسيف في بولاق
وولد محفوظ في الجمالية، وكان الفارق كبيراً علي مختلف المستويات بين أحياء
القاهرة القديمة وأحياء القاهرة الجديدة «الأوروبية» التي أسسها الخديو
إسماعيل، وفي القلب منها كانت دار الأوبرا، التي قيل إنها حتي من الناحية
المعمارية تعطي ظهرها للقاهرة القديمة.
وقد عبر
يوسف شاهين عن الواقع المصري، ولكن بأسلوب «ذاتي» لم يكن معروفاً في
السينما المصرية. إنه «مؤلف» رغم هوليوديته، وإخراجه كل الأنواع، بمعني
تأليف النص السينمائي المعروض علي الشاشة.
كان شاهين
من الإسكندرية ذات الأفق المفتوح، وكان أبوسيف من القاهرة المحاطة بالجبال
حتي سميت بـ«المحروسة»، وبسبب مركزية القاهرة كان سكان الدلتا والصعيد
يطلقون عليها «مصر».
رفض
أبوسيف «سينما التليفونات البيضاء» كما أطلق عليها في إيطاليا منذ أول
أفلامه عام ١٩٤٦، وكذلك شاهين منذ أول أفلامه عام ١٩٥٠. ولكن ميول أبوسيف
الاشتراكية كانت تبعده عن السينما الهوليودية، وتقربه من الواقعية
الإيطالية الجديدة، بينما لم يكن لشاهين أي تحفظات علي السينما الهوليودية.
وكانت ميوله السياسية «وطنية» بالمعني البسيط دون خلفيات أيديولوجية.
وعندما
أعلن الجيش حركة التطهير، كما أطلق عليها عام ١٩٥٢، أيدها أبوسيف وشاهين
معاً مثل أغلب المصريين، ولكن البرنامج الذي أعلنه الجيش في بيانه الأول،
والذي أيدته الأغلبية بناء علي ما جاء فيه لم يكن يتضمن إنهاء حكم أسرة
محمد علي، ولا إقامة الجمهورية، ولا إلغاء الأحزاب ولا حكم الجيش.
المصري اليوم في 28
يوليو 2008
يوسـف
شــــــــاهـين حــدوتـــــــــة مصـــــريــة ٢
كتب
سمير فريد
أربع
مراحل
يمكن
تقسيم أفلام يوسف شاهين إلي أربع مراحل: الأولي أخرج فيها ١٨ فيلماً من
«بابا أمين» ١٩٥٠ إلي «فجر يوم جديد» ١٩٦٥.
والثانية
أخرج فيها ٥ أفلام من «بياع الخواتم» ١٩٦٥ إلي «الناس والنيل» ١٩٧٢.
والثالثة
أخرج فيها ٤ أفلام مشتركة مع الجزائر من «العصفور» ١٩٧٢ إلي «حدوتة مصرية»
١٩٨٢.
والرابعة
أخرج فيها ٨ أفلام مشتركة مع فرنسا من «الوداع يا بونابرت» ١٩٨٥ إلي
«إسكندرية.. نيويورك» ٢٠٠٤.
لم تكن
ثورة الجيش عام ١٩٥٢ بداية مرحلة جديدة في تاريخ شاهين أو تاريخ السينما
المصرية، فقد اهتم النظام الجديد بإنتاج أفلام الدعاية السياسية، ولكنه لم
يسع للسيطرة علي السينما إلا عندما تحول إلي الاشتراكية عام ١٩٦١، بعد أن
جرب القومية المصرية من ١٩٥٣، والقومية العربية ١٩٥٨، بواقع نظام جديد كل
٥٠ شهراً مع تغيير العلم والنشيد الوطني واسم الحزب الحاكم الواحد، بل واسم
مصر الذي ألغي تماماً عند الوحدة مع سوريا عام ١٩٥٨، وأصبح اسم أعرق دول
العالم الإقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة.
باب
الحديد
في
المرحلة الأولي التي وصل فيها العصر الذهبي للسينما المصرية إلي ذروته أخرج
شاهين ١٨ فيلماً من كل الأنواع، أهمها «صراع في الوادي» ١٩٥٤ الذي صور في
الصعيد وسط آثار الفراعنة، و«صراع في الميناء» ١٩٥٦ الذي صور في الإسكندرية
علي البحر وسط صيادي الأسماك، و«أنت حبيبي» ١٩٥٧ الذي عاد فيه مرة أخري إلي
الصعيد، ولكن إلي أسوان.
غير أن
أكثر أفلام المرحلة «ذاتية» وتعبيراً عن المؤلف السينمائي الكبير الذي ولد
في مصر «باب الحديد» ١٩٥٨، الذي عرض في مهرجان برلين، ولقي نجاحاً كبيراً
بقدر فشله في كسب الجمهور في مصر، حتي أن أحدهم بصق علي وجه يوسف شاهين
ليلة العرض الأول.
كان «باب
الحديد» انقلاباً كاملاً في السينما المصرية من حيث الشكل والمضمون معاً،
كانت شركات السينما تتعامل مع يوسف شاهين كمخرج «مجنون»، والمقصود بالطبع
«مختلف».
ولكن
عندما اشتط به «الجنون» إلي حد «باب الحديد» كان العقاب صارماً، ولم يعد
أمامه إلا إخراج أفلام الدعاية السياسية، أو الأفلام الاستهلاكية، وقد أخرج
من النوع الأول «جميلة الجزائرية» ١٩٥٨، و«الناصر صلاح الدين» ١٩٦٣.
ومن النوع
الثاني «حب إلي الأبد» ١٩٥٩، و«بين إيديك» و«نداء العشاق» ١٩٦٠، و«رجل في
حياتي» ١٩٦١، ولم يكن فشل الأفلام الاستهلاكية مع الجمهور أقل من فشل «باب
الحديد».
قال لي
يوسف شاهين إنه لم يكن يعرف أين تقع الجزائر عندما أخرج «جميلة الجزائرية»
أما «الناصر صلاح الدين» فقد كان من مشروعات المخرج الكبير عز الدين ذو
الفقار «١٩١٩ ـ ١٩٦٣» وهو المخرج «الرسمي» للنظام في مرحلتي القومية
المصرية والقومية العربية، ولكن ذو الفقار مرض، واقترح إسناد إخراج الفيلم
إلي يوسف شاهين الذي وافق، وصنع فيلماً هوليودياً من حيث الشكل، دعائياً من
حيث المضمون.
ومن
المعروف أن صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القدس أثناء الحروب الصليبية هو
النموذج الذي يروج له القوميون العرب في نظرتهم لحل الصراع علي أرض فلسطين
بإنهاء دولة إسرائيل، وهو ما يؤمن به تيار الإسلام السياسي أيضاً، بينما
يري الشيوعيون والليبراليون أن الحل يكمن في إقامة دولتين للشعبين العربي
والإسرائيلي. جاء الفيلم لـ«يرمز» إلي أن عبدالناصر هو صلاح الدين الجديد.
أفلام
الدعاية السياسية
تنازل
يوسف شاهين عن عالمه الفني الذاتي بإخراج أفلام الدعاية السياسية حتي يتمكن
من الاستمرار في العمل في ظل حكم الحزب الواحد، وكانت الاعتقالات السياسية
قد وصلت إلي ذروتها عام ١٩٥٩ باعتقال الآلاف من المثقفين من مختلف التيارات
السياسية.
بل أعلن
تأييده للنظام الاشتراكي الجديد بالبدء في تصوير فيلم «الناس والنيل» عن
بناء السد العالي عام ١٩٦٤، وفي فيلم «فجر يوم جديد» عام ١٩٦٥.
ولكن كل
هذا لم يشفع له عند النظام، واضطر للهجرة إلي لبنان حيث أخرج «بياع
الخواتم» ١٩٦٥، و«رمال من الذهب» ١٩٦٦. وكانت هذه الهجرة بداية المرحلة
الثانية من حياته الفنية، أو بالأحري مرحلة انتقالية إلي المرحلة الثالثة
«الإنتاج المشترك مع الجزائر»، والرابعة «الإنتاج المشترك في فرنسا».
تنازل
يوسف شاهين في أفلام الدعاية السياسية، ولكن تنازلاته كانت أكبر في الأفلام
الاستهلاكية.
فقد كان
علي وعي بطبيعة الأفلام الاستهلاكية قبل أن يصنعها، ورغم أنها تظل جزءاً من
عالمه أيا كانت، ولكنه لم يكن علي الدرجة نفسها من الوعي السياسي التي
تجعله يدرك القيمة المحدودة لطبيعة أفلام الدعاية السياسية، التي تظل
بدورها جزءاً من عالمه، فكل فنان هو كل أعماله.
بل يمكن
القول إن شاهين كان مقتنعاً بصدق عما عبر عنه في أفلام الدعاية السياسية
الأربعة (الأفلام الثلاثة التي تمت، و«الناس والنيل» الذي شرع في تصويره).
في «جميلة
الجزائرية» كان يعبر عن موقف ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر، وضد العنف الذي
تمارسه قوات الاحتلال ضد الحركة الوطنية من أجل الاستقلال.
وفي
«الناصر صلاح الدين» كان يكشف وربما لأول مرة في السينما عن حقيقة أن أسباب
وأهداف الحروب تظل دائماً سياسية واقتصادية حتي لو استخدمت الأديان، ومنها
الحروب التي قامت باسم الصليب.
وفي كلا
الفيلمين يبدو المصري الإسكندراني المتسامح حيث نجد في «جميلة الجزائرية»
الفرنسي الشرير والفرنسي الطيب حتي بين جنود الاحتلال، ولا يعدو «الناصر
صلاح الدين» غير رسالة في التسامح من بدايته إلي نهايته بين المسلمين
والمسيحيين.
أما «فجر
يوم جديد» فهو أنشودة حب لمدينة القاهرة التي عاش فيها منذ عودته من أمريكا
بعد أن أتم دراسته، ولكن وعي شاهين السياسي كان قاصراً كما يعترف هو بنفسه
حتي وقعت هزيمة ١٩٦٧، واحتلت إسرائيل سيناء المصرية والضفة الأردنية
والجولان السورية.
من
الدعاية إلي المعارضة
تغير يوسف
شاهين تغيراً كاملاً بعد هزيمة ١٩٦٧ من ناحية، ومظاهرات الطلبة في العالم
عام ١٩٦٨ من ناحية أخري، التي بدأت في القاهرة في فبراير، وصلت إلي ذروتها
في باريس في مايو. انتقل الفنان من صفوف مؤيدي النظام إلي صفوف المعارضة،
وظل كذلك حتي اليوم، عاد شاهين إلي مصر بعد هزيمة ١٩٦٧، واستكمل «الناس
والنيل» كأول إنتاج مصري سوفيتي مشترك، ولكن بروح مختلفة أدت إلي منع
الفيلم لأن كلا الطرفين لم يرض عن صورته فيه، وكانت تلك أول تجربة منع في
تاريخ الفنان، ولكن لن تكون الأخيرة، وبعد سنوات فرض عليه تصوير مشاهد
جديدة، وإعادة مونتاج «الناس والنيل» وعرض عام ١٩٧٢، وبعد عشرين سنة عرضت
النسخة الأصلية عام ١٩٩٢ بعنوان «النيل والحياة» في فرنسا، ولم تعرض في مصر
حتي الآن.
تغير يوسف
شاهين وأدرك أن من يبع الحرية من أجل أي شيء يفقد الحرية ويفقد كل شيء،
وبدا ذلك واضحاً في تحفته «الأرض «١٩٦٩»، وفي «الاختيار» ١٩٧٠ «عرض ١٩٧١».
وقعت
شخصياً وأنا في الثانية والعشرين من عمري عام ١٩٦٥، وفي السنة الأولي من
ممارستي لنقد الأفلام، ضحية لما روّجه صلاح أبوسيف وغيره عن يوسف شاهين،
وكانت أولي مقالاتي عنه في ذلك العام عن فيلم «فجر يوم جديد» تحت عنوان
«فجر يوم جديد من وجهة نظر سائح».
وكم شعرت
بالندم والخجل عندما اتصل بي لأول مرة في حياته عام ١٩٧٩، ووجه لي الدعوة
لمشاهدة «الأرض» في عرض لم يشهده معي سوي شادي عبدالسلام «١٩٣٠ - ١٩٨٦»،
وكان العرض لكبار المسؤولين عن الرقابة في وزارة الثقافة لحذف مشاهد من
الفيلم شاهدت «الخواجة» يقدم الفلاح المصري بصدق وجمال ووعي لم يكن له مثيل
في تاريخ السينما المصرية، ولايزال.
دعاني
شاهين إلي ذلك العرض لفيلم «الأرض» لمساعدته في الحوار مع الرقباء. كانت
الأفلام الثلاثة «الناس والنيل» و«الأرض» و«الاختيار» من إنتاج القطاع
العام، وكان في مرحلته الأخيرة حيث توقف عام ١٩٧١ بعد وفاة عبدالناصر عام
١٩٧٠، وتغير النظام السياسي.
وكان
عبدالناصر بعد هزيمة ١٩٦٧ قد أدرك ضرورة التغيير، وأعلن عن سياسة انفتاح
جديدة فيما يعرف ببيان ٣٠ مارس ١٩٦٨ بعد مظاهرات الطلبة في فبراير، وفي ظل
هذه الظروف أخرج شاهين أفلامه الحكومية الثلاثة، فمنع الأول، وكاد الثاني
أن تحذف منه أهم مشاهده، ولكني ساعدته في الحوار مع الرقباء، وعرض الفيلم
كاملاً، وكنت عنيفاً جداً في ذلك الحوار إلي درجة أدهشت شاهين، وبدأت
صداقتنا منذ ذلك اليوم.
وصل
«الأرض» بالواقعية المصرية الكلاسيكية التي بدأت عام ١٩٣٩ إلي ذروتها بعد
٣٠ عاماً عام ١٩٦٩، والتي كانت من ناحية أخري تعني أفولها. وفتح «الاختيار»
عام ١٩٧٠ الطريق إلي واقعية جديدة، أو إلي ما بعد الواقعية، أو الواقعية
بلا ضفاف، علي حد تعبير جارودي في كتابه عن كافكا وبيكاسو. كان فن السينما
في العالم قد تغير في الستينيات في الوقت الذي عادت فيه السينما المصرية
إلي سينما الثلاثينيات الموجهة في روسيا وألمانيا وإيطاليا، ولم تعد مواكبة
للسينما العالمية، كما كانت حتي نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، وبدأت
السينما المصرية تواكب السينما العالمية من جديد مع خمسة أفلام أنتجها
القطاع العام في ظل سياسة الانفتاح الناصرية الجديدة بعد ١٩٦٨، وهي
«المومياء» إخراج شادي عبدالسلام، و«زوجتي والكلب» إخراج سعيد مرزوق، و«شيء
من الخوف» إخراج حسين كمال، و«الأرض» و«الاختيار» إخراج يوسف شاهين.
كانت
الرقابة تريد أن «تخفف» من «الأرض» مشاهد خضوع العمدة للإقطاعي، واستخدام
الإقطاعي للمشعوذين باسم الدين، ومشاهد خيانة المثقف الأزهري، الشيخ حشونة،
لأهل قريته عندما استنجدوا به لمساعدتهم علي مواجهة الإقطاعي الذي يطمر
أراضيهم ليشق طريقاً خاصاً إلي قصره، ولكن الشيخ حسونة يتخلي عنهم مقابل
إنقاذ أرضه، كانت الرقابة في هذا التوجه تمثل القوي التي أوصلت مصر إلي
هزيمة ١٩٦٧، والتي كانت تدافع عن وجودها واستمرارها في الحكم حتي بعد
الهزيمة، ويمكن علي نحو ما اعتبار «الأرض» و«الاختيار» نقداً ذاتياً،
ونقداً لكل المثقفين الذين باعوا الحرية، وحلقوا مع عبدالناصر في أحلامه
التي فشل في تحقيقها، لأنه بدوره باع الحرية التي نشأ عليها في شبابه.
المثقف
الذي يبيع الحرية في «الأرض» شخصية ثانوية، ولكنه موضوع «الاختيار» الذي
كتب شاهين قصته مع نجيب محفوظ «١٩١١ - ٢٠٠٦». فالشخصية الرئيسية في
«الاختيار» مثقف يعاني من ازدواج الشخصية يقتل توأمه الذي يعبر عن الإنسان
الحر في داخله وداخل كل إنسان، ليتجنب الصدام مع السلطة، ويصبح كاتباً
«مشهوراً» يعيش حياة مرفهة، وينال أوسمة وجوائز الدولة، ويعمل في وفد مصر
بالأمم المتحدة، وقد يري البعض أن نقد المثقفين في هذين الفيلمين جاء في
إطار ما أطلق عليه كتاب النظام الرسميون بعد هزيمة ١٩٦٧ «أزمة المثقفين» في
محاولة لتحميلهم مسؤولية الهزيمة، رغم أنها كانت مسؤولية الجيش، ورغم أن
المثقفين المصريين يدخلون ويخرجون من المعتقلات السياسية بالآلاف منذ بداية
النهضة في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي حتي اليوم، ولكن هذا غير صحيح
فكلا الفيلمين نبع من داخل يوسف شاهين ومن داخل عبدالرحمن الشرقاوي «١٩٢٠ -
١٩٨٧» مؤلف رواية «الأرض» وكاتب السيناريو حسن فؤاد «١٩٢٦ - ١٩٨٥»، وكلاهما
تعرض للاعتقال السياسي قبل وبعد ثورة ١٩٥٢، ومن داخل نجيب محفوظ الذي لم
يبع الحرية أبداً حتي آخر يوم في حياته.
عادت
شركات السينما إلي العمل بعد توقف القطاع عام ١٩٧١، ولكن يوسف شاهين لم يعد
له مكان في السينما المصرية.
إنه مخرج
«الأرض» الذي جعل «شرير الشاشة الأول» محمود المليجي يمثل دور فلاح لأول
وآخر مرة في حياته، وشركات التوزيع في مصر تسمي كل الأفلام التي تدور في
الريف «أفلام الفلاحين»، وتعتبرها لا تصلح للعرض في المدن.
ليقل
النقاد عن «الأرض» ما يقولون، ولكن كم بلغت إيرادته، وليعرض في مسابقة
مهرجان «كان» ١٩٧٠، ويحتفي به نقاد فرنسا والعالم، ولكن ليعرضوه في بلادهم.
كما أن يوسف شاهين هو مخرج «الاختيار» الذي جعل نجمة عصرها سعاد حسني تمثل
دوراً علي هامش الأحداث، ولم يتجاوب معه الجمهور. وكما لاحقت يوسف شاهين
تهمة «الخواجة» منذ أول أفلامه حتي «الأرض»، لاحقته تهمة «غير مفهوم» منذ
«الاختيار حتي النهاية.
المصري اليوم في 28
يوليو 2008
يوسـف
شــــــــاهـين حــدوتـــــــــة مصـــــريــة ٣
كتب
سمير فريد
المرحلة
الجزائرية
أدرك يوسف
شاهين أن عليه أن ينتج أفلامه، فأسس شركته الخاصة «مصر العالمية»، ولكن
شركات التوزيع المصرية رفضت تمويل أي من مشروعاته. وكان القطاع العام
للسينما في الجزائر في ذلك الوقت في ذروة انتعاشه، ويفتح أبوابه لكل مخرجي
العالم العربي والعالم، وبفضله تمكن يوسف شاهين من إنتاج أفلامه الأربعة
التالية من ١٩٧٢ إلي ١٩٨٢. ومع تولي الحزب الاشتراكي الحكم في فرنسا عام
١٩٨٢، وفي ظل سياسات وزير الثقافة جاك لانج التي غيرت السينما في فرنسا
وأوروبا، توجه يوسف شاهين نحو الإنتاج المشترك مع فرنسا في أفلامه التسعة
من ١٩٨٥ إلي ٢٠٠٧.
تحرر
الفنان في أفلامه المشتركة منذ ١٩٧٢ من تقاليد الإنتاج في السينما المصرية،
التي لم تعد كما كانت قبل القطاع العام. كانت الرأسمالية المصرية بعد تولي
السادات الحكم عام ١٩٧٠، وإعلانه سياسة الانفتاح الكامل عام ١٩٧٥ بعد
انتصار حرب أكتوبر ١٩٧٣، تبدأ من جديد علي أسس شديدة الاضطراب استمرت بعد
تولي مبارك الحكم عام ١٩٨١، ولا تزال. ولم تختلف شركات السينما العائدة أو
الجديدة عن غيرها من الشركات، لم تدرك أن للسينما بعداً آخر غير جني
الأرباح المالية، والاستثناء يؤكد القاعدة.
وزاد من
صعوبة عمل المخرجين المبدعين في الأفلام المصرية الثروة النفطية في دول
الخليج بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ عندما ارتفع سعر برميل البترول من ٥ إلي ٣٠
دولاراً أمريكياً، وأصبحت تلك الدول هي الأسواق التي تتوجه شركات الأفلام
المصرية بإنتاجها إليها لأن شركات التوزيع في هذه الدول أصبحت تمول الإنتاج
مقدماً بما يقرب من الثلثين، بينما تمول شركات التوزيع المصرية الثلث
الباقي.
ولم يكن
ذلك التمويل بقصد تنمية الإنتاج السينمائي في مصر، وإنما لعرض إعلانات
الشركات الدولية علي شرائط الفيديو التي انتشرت وأصبحت صناعة كبري في
الخليج من ١٩٧٥ إلي ١٩٩٠ مع العدد المحدود جداً من دور العرض، ومع عدم سماح
السعودية بإنشاء دور عرض سينمائي، وهو الأمر المستمر حتي الآن، وكان الخليج
قد أصبح ربما أكبر مستهلك لبضائع الشركات الدولية، فتضاعفت ميزانيات
الإعلان، وكان الجميع يعرفون مدي حب الجمهور العربي للأفلام المصرية.
وعلي
الصعيد الثقافي ذهب الملايين من أبناء الطبقة الوسطي المصرية للعمل في
الخليج، وعادوا ومعهم الأموال، ولكن معهم أيضاً المفاهيم المتطرفة للدين
الإسلامي المنتشرة في الخليج، والتي تقاومها نخبة الخليج من الأجيال
الجديدة، وانعكست تلك المفاهيم علي المجتمع المصري وشوهت ثقافته الخاصة
التي تكونت عبر العصور.
وطال ذلك
التشويه الأفلام المصرية، والمسلسلات التليفزيونية المصرية، وكل الفنون
والآداب حتي إن مكافأة نجيب محفوظ عن فوزه بجائزة نوبل للآداب عام ١٩٨٨
كانت طعنة من متطرف ديني شلت يده التي كتب بها أدبه العظيم، وفي عام ٢٠٠٦
صدرت فتوي تحرم التماثيل في البلد الذي عرف روائع النحت في العالم منذ خمسة
آلاف سنة.
كان من
المستحيل أن يستمر يوسف شاهين في العمل بشروط توكيلات إعلانات الشركات
الدولية علي شرائط الفيديو حيث كان يتم تحديد أسابيع التصوير حسب مواعيد
عقود الإعلانات، وبشروط المتطرفين الإسلاميين الذين لا يعترفون بالفرق بين
الحقيقة والخيال، ويرون الخيال من أعمال الشيطان، وأن الممثلة يجب ألا تلمس
الممثل حتي لو كان يقوم بدور ابن لم تره من عشرين سنة لأنها تمثل دور أمه،
وليست كذلك في الحقيقة.
انطلق
يوسف شاهين في أفلامه المشتركة مع الجزائر كالعصفور، وهو عنوان أول الأفلام
الأربعة في هذه المرحلة. وقد منع «العصفور» من العرض في مصر من ١٩٧٢ إلي
١٩٧٥ بقرار من الرقابة المصرية، لأنه ينتهي بالمطالبة بالحرب من أجل تحرير
الأراضي المصرية التي احتلتها إسرائيل في ١٩٧٦، ولم يصرح به إلا عام ١٩٧٥
بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ التي حررت تلك الأراضي.
انتقل
يوسف شاهين من «العصفور» الذي يعبر عن الفساد الذي أدي إلي هزيمة ١٩٦٧، إلي
«عودة الابن الضال» ١٩٧٦ الذي يعتبر من تحفه الكبري، وكان ولايزال أجمل
وأطول رثاء لعهد عبدالناصر. وقد رأي البعض تعارضاً بين أن يكون الفيلم
سياسياً وموسيقياً غنائياً في نفس الوقت. ولكن هذا ما كان يحلم به شاهين
طوال عمره حتي إنه قال لي إنه كان يريد أن يخرج «الأرض» كفيلم موسيقي في
البداية.
كانت
نهاية «عودة الابن الضال» حرباً أهلية بالسلاح بين أفراد الأسرة الواحدة،
وكانت الحرب الأهلية في لبنان قد بدأت عام ١٩٧٥. وفي لقاء خاص جمعني وإياه
وصديقنا المشترك الناقد والمخرج سمير نصري الذي توفي ١٩٩١ قال يوسف شاهين:
وماذا بعد «عودة الابن الضال» والحرب الأهلية في لبنان.. لم يعد أمامي سوي
الاعتزال.. كفي.. عمري ٥٠ سنة وأخرجت ٢٥ فيلماً.. وليس لدي ما أقوله. قلت
له: هناك الـ ٥٠ سنة.
رد: ماذا
تعني. قلت: حياتك.. اصنع فيلماً عن حياتك.. عن شبابك.. وسيكون عن مصر
أيضاً. تحمس سمير نصري وصمت يوسف شاهين، وكان «إسكندرية.. ليه» عام ١٩٧٩،
وهو الجزء الأول من رباعية «السيرة الذاتية» (الثاني «حدوتة مصرية» ١٩٨٢،
والثالث «إسكندرية كمان وكمان» ١٩٩٠، والرابع «إسكندرية نيويورك» ٢٠٠٤).
كان
السادات بعد أن قامت في مصر مظاهرات خبز في يناير ١٩٧٧ قد يئس من الحل
القومي العربي والإسلامي لإنهاء الصراع علي أرض فلسطين، واكتشف أن مصر
وحدها تدفع الثمن، أو علي الأقل أكثر من غيرها حتي وصل الأمر إلي مظاهرات
الخبز، أي الجوع، ولذلك قام بزيارته إلي إسرائيل في نوفمبر ١٩٧٧، ووقع
معاهدة كامب ديفيد ١٩٧٨، ومعاهدة السلام مع إسرائيل ١٩٧٩، وثار القوميون
والإسلاميون في مصر والعالم العربي ضد السادات. وفي هذه الأثناء كان يوسف
شاهين قد بدأ يكتب «إسكندرية... ليه»، والذي أتمه ١٩٧٨.
وبالضرورة
عندما عاد إلي الإسكندرية في وقت شبابه، أي أثناء وبعد الحرب العالمية
الثانية عام ١٩٤٥، عبر عن التسامح الذي كان سمة المدينة طوال تاريخها، وقدم
قصة حب بين مصري مسلم وفتاة يهودية، ولكن الجماعات القومية والإسلامية التي
ارتفع صوتها عالياً، وكانت ولاتزال تجد المال الكافي لتمتلك صحفاً وقنوات
تليفزيونية، هبت ضد يوسف شاهين، واعتبرت «إسكندرية.. ليه» دعاية لتوجهات
السادات الجديدة، واعتبروا فوزه بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان
برلين ١٩٧٩ دليلاً إضافياً يؤكد ذلك، بينما لم يكن الأمر إلا مصادفة بحتة.
الاعتراف
الدولي
لم تكن
هناك علاقة بين قصة حب المسلم واليهودية في «إسكندرية.. ليه» ومبادرة
السادات، ولا بين تلك القصة وفوز الفيلم بالجائزة التي فاز بها في مهرجان
برلين، ولكن يمكن أن تكون هناك علاقة بين ذلك الفوز وانسحاب الاتحاد
السوفيتي وكل دول شرق أوروبا أثناء المهرجان، احتجاجاً علي عرض الفيلم
الأمريكي «صائد الغزلان» إخراج مايكل شيمينو، حيث اعتبروه يشوه صورة
الفيتنامي أثناء حرب أمريكا في فيتنام. لقد حضرت المهرجان، وانسحبت مع
المنسحبين، ودعوت شاهين للانسحاب، ولكنه قال إن هناك احتمالاً أن يفوز
بجائزة لأن فيلمه أصبح الفيلم الوحيد الذي يجعل المسابقة دولية لأن كل
الأفلام التي بقيت من أمريكا وأوروبا الغربية.
كان يوسف
شاهين مثل الكثيرين يحلم بالاعتراف «الدولي» عن طريق الفوز بجائزة في أحد
المهرجانات الكبري الثلاثة «كان وبرلين وفينسيا» ويبدو هذا بوضوح في
الأجزاء الثلاثة التالية من سيرته الذاتية بعد «إسكندرية.. ليه». وكنت
ومازلت لا أري أهمية كبيرة للجوائز، لأن هناك العديد من فناني السينما
الكبار لم يفوزوا في المهرجانات الثلاثة المذكورة ولا في غيرها.
ولكني كنت
أدرك في الوقت نفسه أن الجوائز الدولية لها وقع في عالمنا العربي الذي لم
يعد يعرف الحرية ولا الديمقراطية منذ توالت الانقلابات العسكرية منذ انقلاب
سوريا عام ١٩٥١، غير وقعها في الدول التي تعرف الحرية والديمقراطية،
الجوائز الدولية في ظل الأنظمة غير الديمقراطية في العالم العربي تجعل
الكاتب أو الفنان يعمل بحرية أكبر إذا فاز بأي منها. والأهم أن السلطات
القمعية تمتنع عن إيذائه، أو علي الأقل تتردد في إيذائه.
وقد جاء
وزير الثقافة في سوريا إلي القاهرة لتقديم العزاء في وفاة نجيب محفوظ عام
٢٠٠٦، وقال إن مكتب المقاطعة العربية في دمشق، الذي كان قد وضع اسم نجيب
محفوظ علي قائمته عام ١٩٧٨ لتأييده سياسة السادات في السلام مع إسرائيل،
رفع اسمه من القائمة بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب عام ١٩٨٨.
وبالطبع
لم يكن محفوظ قد غير موقفه، وظل مؤيداً لسياسة السلام مع إسرائيل حتي
وفاته.
ولم يكن
هذا التأييد للسادات، وإنما اتساقاً مع موقفه وموقف جيله من الليبراليين
الذين أيدوا قرار تقسيم فلسطين عام ١٩٤٧، ولم يعتبروه «مؤامرة» ضد العرب،
وإنما أيدوه في إطار مواجهة المشاكل السياسية بالتقسيم بعد الحرب العالمية
الثانية، من تقسيم أوروبا إلي تقسيم ألمانيا، بل تقسيم برلين.
وعندما
عرض «حدوتة مصرية» في مسابقة مهرجان فينسيا عام ١٩٨٢ - وكان الجزء الثاني
من سيرة شاهين الذاتية، الذي أخرجه «بعد إسكندرية.. ليه» مباشرة - تطلع
الفنان للفوز بجائزة ثانية بعد جائزة برلين، وقد حضرت المهرجان، وكان
الفيلم يستحق الفوز، ولكن العديد من النقاد اعتبروا الفيلم نسخة مصرية من
الفيلم الأمريكي «كل هذا الجاز» إخراج بوب فوس، وكل ما هناك أن كلاً منهما
مر بنفس التجربة وهي عملية القلب المفتوح في نفس الوقت، وعبرا عنها في
الوقت نفسه.
يري بعض
نقاد السينما أن يوسف شاهين في أفلامه المشتركة الـ ١٣ مع الجزائر وفرنسا
منذ ١٩٧٢ لم يعد يتوجه لجمهوره في مصر، وإنما إلي جمهور مفترض في فرنسا
وأوروبا والعالم، ولكن الأصح القول بأنه لم يعد يتوجه إلي جمهوره في مصر
فقط، بل إن هذا الجمهور كان ولايزال ما يهمه أكثر من أي جمهور آخر.
وبينما لم
يتوجس جمهوره في مصر من أفلامه المشتركة مع الجزائر، يتوجس من أفلامه
المشتركة مع فرنسا، والسبب في ذلك أنه بدأ هذه الأفلام بفيلم «الوداع يا
بونابرت» عام ١٩٨٥.
المرحلة
الفرنسية
كانت
العلاقة بين مصر وفرنسا - ولا تزال - علاقة حب كراهية. فمصر تدين لفرنسا
باكتشاف شامبليون اللغة المصرية القديمة «الهيروغليفية»، وبدخولها العالم
الحديث منذ بداية القرن التاسع عشر الميلادي،
ولكن
بينما يري الفرنسيون أن هذا يرجع إلي غزو بونابرت لمصر عام ١٧٩٨، يري
المصريون أنه يرجع إلي البعثات التى أرسلها محمد على إلى فرنسا بعد أن تولى
الحكم عام ١٨٠٥ بعد خروج بونابرت.
وقد قاوم
المصرىون غزو بونابرت مقاومة شرسة لم تتوقف ىوماً طوال ثلاث سنوات حتي اضطر
إلي الخروج منها مع قواته، لأنه أعلن أنه يأتي لتغيير ثقافتهم، بينما قال
الإنجليز بالقرب من نهاية نفس القرن إنهم يحتلون مصر لتأمين الطريق إلي
الهند، وقد قاومهم المصريون أيضاً، ولكن ليس بنفس الشراسة.
وفي النصف
الثاني من القرن العشرين الميلادي ازدادت علاقة الحب الكراهية بين مصر
وفرنسا عندما اشتركت في العدوان علي مصر عام ١٩٥٦ بسبب تأميم قناة السويس،
وعنف قوات الاحتلال الفرنسية المفرط في مواجهة حركة تحرير الجزائر من ١٩٥٤
إلي ١٩٦١، التي تعرف في مصر والعالم العربي باسم «ثورة المليون شهيد».
وقد دفع
يوسف شاهين ثمن علاقة الحب الكراهية بين مصر وفرنسا عندما بدأ الإنتاج
المشترك مع فرنسا بفيلم «الوداع يا بونابرت»، حيث يرتبط بطله بصداقة مع
جنرال فرنسي لانبهاره بالآلات العلمية الحديثة التي يراها في بيت الجنرال،
وحيث إن الكلمة الفرنسية في العنوان لا تعني فقط الوداع، وإنما يمكن أن
تعني أيضاً إلي اللقاء. وأثناء مونتاج الفيلم أصدر بعض مساعدي شاهين بياناً
احتجوا فيه علي حذف بعض مشاهد المقاومة التي صورت بالفعل. وازدادت الشكوك
عندما أصبح شاهين يمثل مصر في اللجنة العليا لمنظمة الدول الناطقة
بالفرنسية، بينما كان انضمام مصر إلي هذه المنظمة ولايزال موضع تندر
المصريين لأنهم لا ينطقون إلا العربية.
بلغ
الفنان العام الستين، وأخرج «اليوم السادس» عام ١٩٨٦، وهو الفيلم الثاني من
أفلام المرحلة الفرنسية، وأكثرها فرنسية. فالفيلم عن قصة أندريه شديد وهي
كاتبة فرنسية من أصول مصرية، والدور الرئيسي أيضاً تقوم به المغنية
الفرنسية داليدا وهي من أصول مصرية أيضاً، عبر شاهين لأول مرة عن هواجسه
تجاه الموت من خلال رحلة بطلته مع حفيدها المصاب بالكوليرا في سفينة نيلية
تتجه نحو الإسكندرية علي أمل أن يري البحر ويشفي قبل أن يأتي اليوم السادس
الذي يموت فيه مريض الكوليرا.
وتدور
الأحداث في أربعينيات القرن العشرين الميلادي حيث انتشر الوباء في بعض قري
الدلتا. فشل الفيلم في مصر وفرنسا معاً، وتألم شاهين من فشله، ومن انتحار
داليدا في نفس العام.
وفي عام
١٩٨٧ أضرب أعضاء نقابة المهن السينمائية في مصر احتجاجاً علي تغيير قانون
نقابات الفنون من دون علم أعضاء هذه النقابات ليتيح للنقيب أن يرشح نفسه
لأكثر من دورتين، وانضم إلي السينمائيين أعضاء نقابات الفنون الأخري
«الممثلين والموسيقيين»، ووصل إلي حد الإضراب عن الطعام، ومع ذلك لم يتغير
القانون.
وكان يوسف
شاهين من بين المشتركين في الإضراب، وانطلاقاً من هذا الموضوع أخرج الجزء
الثالث من سيرته الذاتية «إسكندرية كمان وكمان»، عام ١٩٩٠، والذي أعلن فيه
بوضوح أنه مع المطالبين بالحرية والديمقراطية في مصر.
ومنه تحرك
إلي التاريخ البعيد في «المهاجر» عام ١٩٩٤ ليواجه بالمنع للمرة الثانية
«بعد منع «العصفور» بقرار من الأزهر، لأن قصته من وحي قصة النبي يوسف عليه
السلام. وقد منع الفيلم في العام نفسه الذي تعرض فيه نجيب محفوظ لمحاولة
للاغتيال، وفي العام نفسه الذي فاز فيه يوسف شاهين بجائزة الدولة التقديرية
في مصر.
ومن ألم
المنع، وألم محاولة اغتيال نجيب محفوظ، ولد «المصير» عام ١٩٩٧ عن حياة
العالم العربي ابن رشد في الأندلس، وكيف واجه المتطرفين الإسلاميين الذين
كفَّروه وأحرقوا كتبه، وكيف تم تهريب هذه الكتب إلي مصر. ثم جاء «الآخر»
١٩٩٩ الذي يعبر فيه عن غضبه من الرغبة الأمريكية في الهيمنة علي العالم،
ورفضه الإرهاب باسم الدين.
وبعيداً
عن العالم، وبعد أن بلغ الفنان الخامسة والسبعين أخرج «سكوت ح نصور» عام
٢٠٠١، الذي جاء بمثابة «استراحة المحارب» حيث عاد إلي الأفلام الموسيقية،
عشقه الخاص، ولم يعبأ بمن قالوا كيف تغني في زمن يتصاعد فيه العنف في كل
مكان.
ثم كان
«إسكندرية.. نيويورك» ٢٠٠٤، الذي يعتبر الجزء الرابع من السيرة الذاتية،
وإن كان يعبر عما كان الفنان يتمني أن يحدث ولم يحدث، وليس عما حدث.
وفي عام
٢٠٠٦، وبعد أن بلغ الثمانين، بدأ شاهين يصنع «هي فوضي» بمساعدة تلميذه خالد
يوسف، والذي عرض في مهرجان فينسيا عام ٢٠٠٧، ويعتبر صرخة من أجل تغيير
الواقع، ودعوة حارة لتضامن الشعب من أجل مستقبل أفضل لمصر التي أعطاها يوسف
شاهين من غير حدود حتي النفس الأخير *
كتب سمير
فريد هذا المقال لأحدث كتاب صدر في إسبانيا عن يوسف شاهين، واشترك فيه عدد
من نقاد أوروبا، وقد خص «المصري اليوم» بالأصل الذي ينشر لأول مرة باللغة
العربية بعد تعديلات طفيفة.
المصري اليوم في 28
يوليو 2008
|