من الظواهر ذات الدلالة على ما آل إليه تواضع أحوال السينما المصرية ذلك
الرضا النقدى الذى قوبل به فيلم "الفرح"، لسبب واحد هو أنه يبدو "فيلما"
إذا ما قارنته بما يعرض الآن، بينما لا ترقى الشرائط الأخرى فى معظمها إلى
أن تستحق هذا الوصف، ومع ذلك فإن فيلم "الفرح" يحتشد بنقاط ضعف عديدة تجعله
لا يصمد للمقارنة مع أفلام من بلدان أخرى لا تختلف كثيرا فى ظروفها عنا،
ولعل السينما الإيرانية على سبيل المثال، بالإضافة إلى أفلام أوروبا
الشرقية، تجعل فيلم "الفرح" يعرف مكانه ومكانته الحقيقيين، فهو فى جوهره
يعكس "شطارة" صناعه لكنه نادرا ما يعكس الرغبة أو القدرة على الإبداع
الحقيقي.
تذكرنى شطارة فيلم "الفرح" بالطرفة التى تحكى عن صحيفة زعمت أنها ترفع شعار
الأخلاق، فخرجت ذات صباح إلى القارئ وهى تحمل هذا العنوان بالخطوط الكبيرة:
"نحن صحيفة أخلاقية ملتزمة نرفض نشر الصور الفاضحة كما تفعل الصحف الأخرى،
وسوف تجد إلى جانب هذه السطور أمثلة من الصور التى نرفض نشرها"! كما تذكرنى
هذه الشطارة بالوصفة التى كان يتبعها سيسيل دى ميل فى إخراجه لأفلام
"جماهيرية" ذات إنتاج ضخم لكنها تخلو من الإبداع: "لكى تصنع فيلما ناجحا
فلابد أن يتكون من تسع بكرات من الجنس، ثم بكرة عاشرة أخيرة من الكتاب
المقدس"، وبالفعل فإن مخرجا مثل حسن الإمام استطاع أن يقدم التنويع المصرى
على هذه التوليفة، عندما كان الفيلم ينتهى فجأة بأذان الفجر، فيتوقف المجرم
عن ارتكاب جريمته، وتتوب الراقصة، ويقلع الزوج عن لقاء عشيقته وشرب الخمر
ويعود إلى زوجته الوديعة، ولم يكن أحد يسأل نفسه: لماذا لا يبدأ الفيلم
بأذان الفجر ويأتى الحل مبكرا لكل هذه المساخر؟ ولكن لو حدث ذلك فكيف تسنح
الفرصة لصناع الفيلم أن يستخدموا هذه المساخر لكى يجعلوها فرجة للمتفرج؟!
وهذه هى التوليفة التى تتبعها معظم الأفلام المصرية فى الفترة الأخيرة،
دراما هزيلة أو هازلة، وشعارات أخلاقية أو سياسية زاعقة، وبين هذا وذاك
فجوة هائلة، ولقد جرب السبكى منتجا، وأحمد عبد الله مؤلفا، وسامح عبد
العزيز مخرجا، هذه التوليفة فى فيلمهم السابق "كباريه"، وقرروا تكرارها فى
"الفرح". ومن الحق أنهم اختاروا فى الفيلمين فكرة لامعة وشديدة الصعوبة: أن
تضع مجموعة متنافرة من الشخصيات فى تجربة واحدة يستغرق زمنها فترة قصيرة لا
تتجاوز اليوم الواحد، لكنها تكون كافية للكشف عن التناقضات الهائلة تحت سطح
يبدو هادئا مستقرا. إنها الفكرة التى تكررت كثيرا فى السينما العالمية، أجد
من بينها الآن فى ذاكرتى فيلم "اثنا عشر رجلا غاضبا" للمخرج سيدنى لوميت،
عن مجموعة من المحلفين الذين يجتمعون لإصدار حكمهم على شاب قاتل، وهم
يبدأون بقرار شبه إجماعى بإدانته، لكن شيئا فشيئا تتغير آراؤهم، والأهم هو
التغير "الدرامي" لرؤيتهم لأنفسهم وللحياة نتيجة هذه التجربة خلال زمن لا
يتجاوز الساعات المحدودة التى استغرقتها مناقشاتهم. وسوف تجد فى السينما
المصرية نماذج مهمة لهذا البناء الدرامى، كما فى فيلم صلاح أبو سيف "بين
السماء والأرض" عن مجموعة من الناس توقف بهم مصعد، وفيلم خيرى بشارة "إشارة
مرور" حين تضطر الشخصيات أن تقضى الليل فى مكان ضيق لأن الطرق أُغلقت
أمامهم، كما يمكن أن يتخذ هذا البناء شكل الرحلة الممتدة خلال ليلة واحدة
كما فى فيلم داود عبد السيد "البحث عن سيد مرزوق"، وفيلم عاطف الطيب "ليلة
ساخنة".
ومعيار النجاح الفنى فى استخدام هذا البناء الدرامى هو أنك تبدأ بفرضية
تبدو واقعية تماما، لتمر الشخصيات بالتجربة التى سوف تجعل النهايات مختلفة
تماما عن البدايات، ليس على طريقة الانطلاق المفاجئ لأذان الفجر، وإنما من
خلال التغيرات الدرامية المرهفة شديدة الصغر، لكنها فى تراكمها تصنع هذا
التحول. ولتنظر الآن فى الفرضيتين اللتين بدأ بهما فيلم "الفرح": الفرضية
الأولى هى ما يسمى بظاهرة "النقوط" فى الأفراح المصرية، الشعبية على نحو
خاص، فهى تمثل نوعا من المشاركة الوجدانية والمادية من جانب المدعوين تجاه
أصحاب الفرح الذين أثقلت تكاليفه كاهلهم، والحقيقة أنها لاتزال سائدة حتى
اليوم خاصة فى ظل تدهور الأحوال الاقتصادية للقطاع الأكبر من الشعب المصري.
أما الفرضية الثانية فهى أقرب إلى الفولكلورية وكادت تختفى بالشكل الفاضح
الذى كانت تجرى به، وهى التى تعرف "بالدخلة البلدي"، عندما يكون على العروس
أن تسلم قيادها مستذلة مهانة لامرأة تقوم بفض بكارتها دليلا على شرفها،
ويرفع المنديل الملوث بالدماء أمام الجميع. من هاتين الفرضيتين "لفق"
الفيلم حدوتته، مثلما لفق المعلم المفلس زينهم فرحا مصطنعا لكى يجمع النقوط
من المدعوين، حتى يتمكن من شراء حافلة صغيرة يكسب من ورائها عيشة، لذلك
فإنه يستأجر عريسا وعروسا بزعم أن العروس أخته، و"يتصادف" أن يكون العروسان
فى حاجة للمال حتى تجرى العروس عملية تعيد بها بكارتها لأن أباها يصر على
"الدخلة البلدي" إعلانا لشرفه.
لا تبدو هاتان الفرضيتان مقنعتين على المستويين الواقعى والدرامى معا، لأنه
كان أمام زينهم ـ مثل كل سائقى سيارات الأجرة فى مصر ـ فرصة "بالعافية"
لشراء سيارة بالتقسيط، فى ظل القوانين والتربيطات التى يقوم بها رجال
الأعمال الوزراء لتفصيل القوانين لترويج بضائعهم، خاصة السيارات، لذلك لم
تكن هناك حاجة لدى زينهم للقيام بهذه التمثيلية الزائفة. من جانب آخر فقد
كان من الممكن استئجار اثنين من الممثلين "الكومبارس" لأداء دور العروسين،
كما أن موضوع "الدخلة البلدي" يبدو هنا محشورا لإظهار غرائبية المجتمع
المصرى، هذا المجتمع الذى أصبح ـ بالمعنى الحرفى للكلمة ـ "فرجة" عند بعض
صناع الأفلام. من جانب ثالث فإن من الجنون أن يكون والد العروس، وليس أم
العريس مثلا، هو الذى يصر على فضح ابنته بهذه الطريقة المبتذلة الفجة أمام
الناس جميعا (كان يمكن له مثلا أن يذهب إلى طبيب للكشف عن بكارتها)،
والغريب أنه يشك فى أن ابنته قد ضيعت "شرفه" مع عريسها، وهما اللذان عقد
قرانهما منذ سبع سنوات كاملة لكنهما لم يستطيعا استكمال الزواج بسبب تعنت
هذا الأب ذاته.
إذا استطعت أن تتجاوز عن هذه "الفبركة" شبه الدرامية، فسوف تجد نفسك فورا
فى قلب الفرح الذى يقام فى حارة بأحد الأحياء الفقيرة فى القاهرة، وهنا
يبدأ اختيار الشخصيات التى سوف نراها، بعضها فى قلب الحدث وبعضها الآخر على
هامشه. ففى القلب تجد زينهم (خالد الصاوي) صاحب الفرح المزعوم، وأمه العجوز
المريضة (كريمة مختار) التى لا تتوقف عن انتقاد تصرف ابنها لأنه "حرام"،
وزوجته صفية (روجينا) التى تضطر لمجاراة زوجها لكنها تعترض عليه فى قرارة
نفسها. ومن حى فقير آخر وبعيد تماما يأتى العريس عبد الله (ياسر جلال)
وعروسه جميلة (جومانا مراد) لكى يجلسا على منصة الزفاف. وسوف يظهر المعلم
حبشى (محمود الجندي) سمسار الأفراح الذى يتواطأ مع زينهم مقابل نسبة
معلومة، وعندما يبدأ الفرح بالفعل سوف تجد الفتاة سميرة (دنيا سمير غانم)
التى تبيع البيرة، وترتدى ملابس الصبيان وتتصرف مثلهم حتى تحمى نفسها وتربى
أخواتها الصغار، لكن مغازلة المعلم حسن الحشاش (باسم سمرة) لها سوف توقظ
بداخلها مشاعر الأنوثة المكبوتة، وهناك أيضا العسلى (ماجد كدواني) الذى
يقوم فى "الميكروفون" بوظيفة الإعلان عن المدعوين والمبالغ التى "نقطوا"
بها لكى يثير غيرة مدعوين آخرين كأنه بائع فى مزاد، ثم المونولوجيست صلاح
وردة (صلاح عبد الله) الذى عفى عليه الزمن، وينتظر بلهفة أن يعود إلى خشبة
المسرح حتى فى مثل هذا الفرح المتواضع، ثم الراقصة التى تخطت منتصف العمر
(سوسن بدر) وتبدو مضطرة لممارسة هذه المهنة بدلا من أن تقع فى الرذيلة،
وأخيرا هناك الجار العجوز شوقى (حسن حسني) الذى لا يشغل باله طوال الفيلم
إلا بمغازلة زوجته الشابة نسرين (مى كساب)، والتى تراه رجلا ضعيفا وتتهمه
فى رجولته لأنه عجز عن مواجهة زينهم بطلب إزالة مكبر الصوت من شرفة منزله.
من أصعب أنواع البناء الدرامى على صناع فيلم ما هو أن تكون لديهم شخصيات
متباينة متباعدة الأهداف، وعلى العمل الفنى أن يغزل مصائرها معا فى بؤرة
درامية واحدة، على نحو ما يمكن أن ترى على سبيل المثال فى الفيلمين
الأمريكيين "سيريانا" و"كراش" اللذين ظهرا بعد نجاح فيلم سوديربيرج "ترافيك"،
لكن هذا البناء لدى معظم صناع أفلامنا يكون وسيلة للهروب من الجهد الفائق
فى ايجاد نسيج متآلف من خيوط متنافرة، ويصبح الفيلم كله مجرد استطرادات
كأنها فقرات منفصلة فى برنامج تمثيلى، كما حدث فى "ليلة البيبى دول"
و"عمارة يعقوبيان". تلك هى الاستطرادات التى ملأت فيلم "الفرح"، بحيث يمكنك
أن تستغنى عن بعض الشخصيات تماما، مثل العجوز شوقى وزوجته نسرين، أو تختفى
سميرة بائعة البيرة فلا تشعر بافتقادها، ناهيك عن المونولوجيست القديم
والراقصة الكهلة، كما يمكنك أن تضيف أى شخصيات أخرى من خيالك، فالهدف هنا
ليس تأمل هذا العالم المقهور ومن يسكنون فيه، بل تنحصر وظائفهم فى إضافة
مزيد من الميلودرامية الزاعقة الفاقعة على الحدث الذى سوف يأتى قسرا لكى
يصل الفيلم إلى موعظته: إن الأم المريضة تموت قبل أن ينتهى الفرح، وهنا
يكون على زينهم أن يختار بين أن يحترم موت أمه ويقف عند هذا الحد من
التمثيلية الزائفة ويقنع بما جمع من "نقوط"، أو أن يخفى الخبر حتى يكتمل
الهدف من خطته.
سوف أتركك لتعرف بنفسك إلى أين انتهت هذه الخطوط، لكننى أتوقف معك قليلا
لتتأمل كيف تعامل الفيلم جماليا وسياسيا مع مادة موضوعه، وإن كنت لاتزال
تتذكر أفلاما مثل "الكيت كات" و"سارق الفرح" لداود عبد السيد، أو "ليه
يابنفسج" لرضوان الكاشف، فإن عالم هذه الأفلام لا يختلف كثيرا عن عالم
"الفرح"، لكن رهافة التناول فيها أصبحت مفتقدة اليوم تماما. كانت تلك
الأفلام "تحب" بحق شخصياتها المقهورة، أما أفلامنا الآن فهى "تستغل" هذه
الشخصيات للفرجة وحدها، وانظر على سبيل المثال كيف أن جميع الشخصيات دون
استثناء تصرخ طوال الفيلم، كأنها فى "وصلة ردح" لا تنقطع لحظة واحدة، إنها
للأسف الشديد "كائنات غرائبية" نتفرج عليها من بعيد، لأن التناول الفنى
يجعلها منفرة حتى فى اللحظات التى تبدو كأنها تستدر عطفك بطريقة مسرفة فى
الميلودرامية. وبرغم أنه يمكن الحديث عن إجادة معظم الممثلين داخل الحدود
الضيقة لشخصيات جميعها مسطحة وذات بعد واحد، فإنك لا تستطيع أبدا أن تتفهم
(ولا أقول تتعاطف) مع أى من هذه الشخصيات وتصرفاتها. أضف إلى ذلك الغياب
الكامل للإمساك بإيقاع الفيلم، فهو فى إطار هذا الصخب المستمر يشبه لحنا
واحدا يظل يتكرر فى دوى لا ينقطع، دون أن يعرف معنى التمهل أحيانا والإسراع
أحيانا أخرى، لأنه لا وجود لمثل هذا التطور بالمعنى الدقيق للكلمة، الذى
يمسك بالتحولات الرقيقة داخل الشخصيات، وإن كان هناك أى تحول فإنه يأتى على
طريقة أذان الفجر المفاجئ فى أفلام حسن الإمام.
من خلال هذه المعالجة فإن الواقع الذى نراه على الشاشة يصبح معطى جاهزا،
ليس له ماض أو مستقبل، وليست له أسباب يخرج المتفرج بعد نهاية الفيلم قلقا
بشأنها وضرورة إصلاحها، أما الأسباب الجاهزة لدى صناع هذه الأفلام فهى
القول بأن غياب "الأخلاق" وراء المصائب التى نعانيها، وهنا نسألهم: أخلاق
من تلك التى يجب أن تتغير إلى الأفضل؟ أخلاق القاهر أم المقهور؟ الجانى أم
الضحية؟ وإذا كانت هناك أخلاقيات سلبية لدى الشعب المصرى الآن فهى أخلاق
الفقر والقهر والزحام وافتقاد التعامل الإنسانى والافتقار إلى العدل
الاجتماعى، إن أخلاق الفقراء ليست مادة للفرجة فى يد صناع الأفلام، الذين
هم أنفسهم فى حاجة لتذكر هذه المواعظ الأخلاقية. إن الفيلم الذى يتحدث عن
الأخلاق يجعلك تعيش غصبا عنك فى "الفرح" المزعوم، تشاهد أغنيتين ورقصة وترى
الانهماك فى شرب البيرة وتكاد شرارات فحم الحشيش تؤذى عينيك!! أما الحديث
عن إبداع النهايتين، فنحن نسأل من ناحية المضمون: هل كنا سوف نتعاطف مع
زينهم لو رضى بما جمع حتى ماتت أمه؟ ومن ناحية الشكل: ماهى علاقة صحوة
زينهم وعدم استكماله الفرح بالنهاية الأخرى التى حدثت للعروسين بعيدا عنه
تماما؟ إنهما نهايتان تعكسان الاستمرار فى التلفيق حتى يؤذن للفجر ويتوب
اللص، وياليت المؤذن قد دعا للصلاة فى بداية الفيلم فربما كان صناعه
اختاروا الانحياز للمبدأ الأخلاقى وتوقفوا عن استكمال الفيلم.
العربي المصرية في
23/06/2009 |