ذات يوم كانت توجد صالة سينما تدعى “فينوس” تقع تحت الأرض ضمن مبنى في وسط
بيروت النابض بالحياة أيام عز المدينة. كانت صالة يؤمها المتعبون من أبناء
الشعب تقدم عروضها متواصلة على مدار اليوم بأسعار تذاكر زهيدة تليق بأحوال
المتعبين الذين يلجون الصالة في أي وقت يشاءون ويخرجون منها متى يشاءون،
وبين هذا وذاك يختارون إما النوم على المقاعد أو مشاهدة قصاصات الأفلام
المتنوعة المعروضة على الشاشة.
قصاصات الأفلام، وهذا الكلام مُوجّه الى محبي السينما من الجيل الجديد الذي
لا يعرف الأفلام إلا عبر تسجيلها الإلكتروني على أقراص مدمجة، أقراص لا
مجال للقصاصات فيها، هي عبارة عن أجزاء من أشرطة سينمائية مقاس 35ملم،
أجزاء تطول أو تقصر، قد تطول على مدى ستين دقيقة عرض متواصلة أو تقتصر على
عرض من دقيقة واحدة أو حتى بضع ثوان.
منشأ القصاصات أشرطة سينمائية عرضت مراراً وتكراراً في صالات سينما شعبية
تستخدم أجهزة عرض قطعت صلتها بمفهوم الصيانة منذ زمن سحيق فصارت نتيجة ذلك
تسحق أشرطة الأفلام التي تمر عبر مسنناتها، وتحولها إلى نتف مصيرها الطبيعي
أن تلقى في حاوية النفايات، وهذه مهمة يفترض في عارض الأفلام أن يقوم
بتنفيذها.
لكن عارض الأفلام في سينما “فينوس”، وهو الذي كان ملما بأحوال مشاهدي
الأفلام المتعبين وعياً وذوقاً ومزاجاً، ما كان يرمي القصاصات مع النفايات،
بل على العكس من ذلك كان يعيد تجميعها ولصقها ليصنع منها خليطا متنافراً
يجعل منه عرضاً سينمائياً متواصلاً على مدار الساعة واليوم موجها لرواد لا
تنطبق عليهم صفة عشاق السينما.
ما الذي كان يمكن للمرء أن يشاهده في تلك الصالة؟ راعي بقر يطلق النار من
مسدسه على خصمه فتظهر إثر ذلك فوراً عارضة أزياء تتمايل في مشيتها أمام
جمهور يتابعها وهي تعرض ما ترتديه ويتلو ذلك مقطع من فيلم وثائقي بالأبيض
والأسود ثم دقائق من مشهد عاطفي، ويمكن بعد ذلك مشاهدة ساعة من فيلم
مغامرات ياباني تضم ما تبقى منه ونجا، إلى حين، من الاهتراء، وهكذا دواليك.
لم تكن صالة سينما “فينوس” البيروتية وحيدة من نوعها فقد كان يوجد، كما
يقال، “مثلها مثايل”، في بيروت وفي مدن عربية أخرى تتعامل مع جمهور من
الشاكلة ذاتها، جمهور لا يهمه إلا قضاء وقت بتكلفة زهيدة.
في الزمن الحاضر الذي شهد إغلاق معظم صالات السينما الشعبية، ما عاد ممكناً
معايشة مثل هذا النوع من العروض السينمائية، فلماذا أسترجع ذكرى تلك الصالة
الآن؟ ذلك لأن الزمن الحاضر شهد ولادة نوع جديد من أنواع العرض الفردية
الجماعية في آن واحد هو العرض من خلال البث التلفزيوني الذي يستعيد بطريقة
جديدة ما كان يحصل في تلك الصالة وأشباهها من تجميع عشوائي لقصاصات أشرطة
أفلام مثيرة للسخرية والتندر، تجميع، صار الآن، في عصر التقنيات الرقمية
الذي حلت فيه الشاشة التلفزيونية محل شاشة صالات السينما الشعبية مع بقاء
نوعية الجمهور المتعب على حالها من حيث الوعي والذوق والمزاج بالعلاقة مع
المعروض، يتكرر ويتحول إلى أسلوب معتمد في الإخراج ومونتاج أفلام الحركة،
وأفلام الرسوم المتحركة الخاصة بالأطفال والتي تصور أبطالاً خارقين، إضافة
الى الأفلام القصيرة والتي يصنعها جيل من المستجدين على المهنة الذين
تعلموا حرفتها ولم يتعلموا ثقافتها، وعلى نحو أخص، العشوائية التي يمكن
ملاحظتها على نحو أكثر وضوحاً في طرق إخراج وتصوير ومونتاج الأغاني
المصورة، فالعشوائية صارت الصفة الملازمة لأساليب الإخراج الرقمية الحديثة
من حيث زوايا وأحجام اللقطات، كما صارت ملازمة لأساليب المونتاج التي لا
تتورع عن تجميع لقطات متنافرة ضمن المشهد الواحد ومن دون أساس منطقي أو
مبرر سردي أو فني.
ما يفرق هذا الحال الجديد عما كان يحدث في تلك الصالة الشعبية القديمة هو
أن العشوائية الجديدة ليست كما التي وجدناها في مثال الصالة الشعبية والتي
هي مجرد حالة فردية معزولة ومحدودة المكان والتأثير نتجت عن اجتهاد شخصي من
عارض أفلام قرر أن يستفيد من قصاصات جرى تجميعها بعد اهتراء النسخ الأصلية
لأشرطة الأفلام، بل هي تعبير عن الافتتان الصنمي بالإمكانات التي توفرها
التقنيات الجديدة، وهو افتتان بات يصل درجة الهوس بالشكل دون المضمون
والإثارة البصرية دون القيمة والتأثير الجماليين ما يتسبب في شيوع فوضى
بصرية يجتهد صانعوها لتبريرها بالقول إنها شكل جديد يتلاءم مع روح العصر.
الخليج الإماراتية في
20/06/2009 |