لا تستغرب أن يكون هناك فيلم يحمل عنوانه كلمة واحدة: "فوق"، فبرغم بساطة
العنوان فإن الفيلم ـ الموجه أساسا لجمهور الأطفال ـ يحمل قيمة فنية
وإنسانية تسمو "فوق" عشرات الأفلام المصرية التى نشاهدها منذ سنوات،
ونشاهدها حتى الآن بصبر منقطع النظير، ويا ليت صناع أفلامنا يتعاملون معنا
باعتبارنا أطفالا ناضجين بحق على النحو الذى تراه فى فيلم "فوق"، الذى يأتى
من شركة بيكسار لأفلام التحريك التى تثبت فيلما بعد فيلم، منذ "قصة لعبة"
وحتى "وولي"، أن فنانينها يضعون نصب أعينهم صناعة وجدان جيل جديد بقدر هائل
من الجدية. وإذا كانت شركة "دريم ووركس" (وسبيلبيرح أحد أهم شركائها) تقدم
بدورها أفلاما للتحريك تنافس شركة بيكسار منافسة شرسة، فإن دريم ووركس تجتر
القيم التقليدية الأمريكية وتعيد إنتاجها: الحياة صراع شرس، سوف يفوز فيها
إما أنت أو الآخرون، ومعيار النجاح الوحيد هو الثروة ومتع الاستهلاك،
والغاية تبرر الوسيلة. والغريب أن أفلام بيكسار تأتى على العكس تماما، حتى
أننى أراها تمثل "يسارا" ثقافيا وفنيا ناضجا بالمعنى الكامل للكلمة، فالقيم
التى تتردد فى أفلامها هى أن الحياة تقوم على التعاون والتفاعل، وأن تحقيق
السعادة يجب ألا يأتى أبدا على حساب "الآخر"، بل ربما كان تحقيقها الفعلى
يأتى "مع" هذا الآخر، ناهيك عن السخرية العميقة والجادة فى أفلام بيكسار من
"البارانويا" التى تجتاح الثقافة الأمريكية فى المستويات العليا من المجتمع
والسلطة أو لدى رجل الشارع العادى على السواء.
لعلك لاحظت أننى بدأت المقال بالحديث عن "الرسالة" فى أفلام بيكسار أو دريم
ووركس، وهو أمر يثير قدرا كبيرا من المرارة بداخلى، فهذه هى السينما
الأمريكية التى نردد عنها أنها سينما هروبية لا تحمل رسالة من أى نوع،
وأنها لا تهدف إلا للتسلية العابرة التى ينسى فيها المتفرج واقعه، بينما
الحقيقة أن هذه النزعة الهروبية ذاتها تكون "الرسالة" فى بعض الأفلام،
والسينما الأمريكية فى كل مراحل تاريخها السلبية والإيجابية تعى تماما
تأثير الأفلام فى المتفرج، وتشكيل وجدانه بشكل غير واعٍ فى أغلب الأحيان،
لا فرق فى ذلك بين أفلام الخيال "شبه" العلمى وأفلام الرعب، بل أفلام
الأطفال أيضا، فى الوقت الذى أرجوك فيه أن تتأمل معظم أفلامنا وتسأل نفسك
عن "الرسالة" فيها، وأؤكد للمرة المائة أننى لا أقصد وعظا وإرشادا، بل أقصد
التأثير الذى يتركه الفيلم عليك بعد أن تشاهده. إنك ترى صناع أفلامنا
يتحدثون فى البرامج التليفزيونية الإعلانية التى تقوم على الدعاية الفجة
لأفلامهم، وتسمعهم يرددون عبارات ضخمة عن المهمشين والعشوائيين، وعن الفوضى
والعنف، لكننى أرجو أن تسأل نفسك بعد مشاهدة تلك الأفلام: هل تغيرت بسبب
الفيلم رؤيتى للعالم الذى أعيش فيه؟ وهل أصبحت هذه الرؤية أكثر عمقا أم
أكثر تشوها؟
أكاد أكرر فى معظم مقالاتى الأخيرة فكرة تعاود الظهور، وأراها جوهر
التخلفين الفادح والفاضح اللذين تعيشهما السينما عندنا، تخلف نبدو أحيانا
فخورين به، غير راغبين فى تغييره، فكما شاخت وترهلت الدولة فى مصر (حكومة
ومعارضة) أصاب الوهن والشيخوخة العديد من أوجه حياتنا، ومن بينها السينما،
لسبب غاية فى البساطة، هو أننا لم نعد نعرف أو نهتم بالطرق المثلى لكى نحكى
"قصة"، وأرجو من القارئ هنا أن ينظر إلى مصطلح "القصة" بالمعنى الأشمل
للكلمة، فحملة أوباما الانتخابية كانت قصة، وهناك فى جوهر خطابه فى جامعة
القاهرة قصة، وصياغة الخبر الصحفى أو المقالة قصة، وفى كل فيلم تسجيلى قصة،
فالقصة باختصار هى نوع من البناء، ومن التراكم الحسى والوجدانى والعقلى،
سواء على مستوى من يصنعها أو على مستوى من يتلقاها، وقصة أى فيلم تسعى إلى
أن تجعلك تدخل شيئا فشيئا إلى عالم الفيلم. وأنا لا أعنى هنا أى بناء
تقليدى من بداية ووسط ونهاية تتبع التطور الزمنى للأحداث، بل ربما كانت
نهاية الأحداث هى بداية الفيلم، ولتتأمل على سبيل المثال فيلم أورسون ويلز
"المواطن كين" (1941) أو فيلم كريستوفر نولان "تذكارات" (2000)، فهما
يتلاعبان بالزمن، لكنهما لا يفقدان أبدا القدرة المحكمة فى السيطرة على
المتلقى، لأن كلا منهما يعرف كيف يحكى حدوته بطريقته.
وليس غريبا بالطبع أن تكون الحدوتة موجودة فى قلب فيلم "فوق"، الذى اشترك
فى كتابته وإخراجه بيت دوكتير وبوب بيترسون، لكن المهم أيضا أنهما ظلا منذ
عام 2004 ولمدة خمس سنوات يطوران هذه الحدوتة، والأكثر أهمية تطوير "طريقة"
حكايتها، وأرجو من القارئ أن يذهب لمشاهدة الفيلم فى دار العرض (قبل أن
ينسحب أمام زحف وعنف ابراهيم الأبيض وأقرانه فى أفلام صيفنا الحار التى لا
تبقى لحظة واحدة فى الذاكرة بعد أن ننتهى من مشاهدة الفيلم)، ففى فيلم
"فوق" سوف تستمتع فى الخمس عشرة دقيقة الأولى ببعض من أرق المشاهد
السينمائية وأكثرها بلاغة وعاطفية وتأثيرا، بل إنها تكاد أن تخلو من
الحوار. تأمل معى هذه المشاهد: نحن فى البداية أمام جريدة سينمائية بالأبيض
والأسود، وأرجو تتأمل ذلك قليلا، فذلك يقول لك على الفور أن زمن الحدث هو
الأربعينيات أو الخمسينيات على الأكثر، أما الأمر الآخر فإنك سوف تسأل
نفسك: فيلم تسجيلى تم تنفيذه بالتحريك؟؟ (ولعل ذلك يذكرك بشطارة الفيلم
الإسرائيلى "الفالس مع بشير" الذى يسحبك إلى عالم يقع بين الحلم والواقع
المفبرك). فى هذه الجريدة السينمائية أخبار عن الرحالة تشارلز مونتز (صوت
كريستوفر بلامر) الذى ذهب بمنطاده إلى أمريكا الجنوبية، وقام بتصوير
"شلالات الفردوس" التى تنبع فيها المياه من "فوق" جبل شاهق، وأحضر معه
هيكلا عظميا لطائر نادر، لكن العلماء يشككون فى اكتشافاته ويتهمونه
بتزييفها، فيقرر غاضبا أن يذهب بمنطاده مرة أخرى إلى أمريكا الجنوبية،
ويقسم أنه لن يعود إلا ومعه هذا الطائر حيا.
فى صالة عرض الجريدة السينمائية يجلس الطفل كارل مبهورا، وهو يرتدى على
عينيه نظارات الطيارين كأنه يتوحد مع مونتز، ويخرج من السينما منتشيا، يقفز
فوق حجر صغير متصورا أنه يعبر التلال، ويدور حول جذع شجرة قصير يعترض طريقه
متخيلا أنه يدور حول جبل إيفريست، وفى طريقه إلى منزله يسمع صيحات طفولية
من منزل خشبى متهدم، ليدخل متسحبا حيث يجد الطفلة إيلى (صوت إيلى دوكتير
ابنة المخرج)، إنها صنعت من البيت القديم المهجور عالمها الطفولى الخاص،
تتصور فيه أنها تقود منطادا يتجه إلى أمريكا الجنوبية، فهى بدورها قد
استحوذت على خيالها مغامرات مونتز، ولكنه الاستحواذ فى جانبه الأنثوى برغم
تصرفاتها التى تشبه تصرفات الصبيان: إنها تحلم أن تقضى حياتها فوق شلالات
الفردوس باهرة الجمال. وبعد أن تنمو الصداقة بينها وبين كارل تطلب منه أن
يقسم على أن يحققا معا هذا الحلم، وتريه كراسة "مذكراتها" التى تترك فيها
معظم صفحاتها بيضاء فى انتظار تحقيق الأحلام، كما تمنحه "وسام" الاشتراك فى
ناديها المتخيل: "غطاء كازوزة" تعلقه على صدره! فى نعومة عميقة التأثير
يمضى الزمن بالطفلين كارل وإيلى، إنهما يكبران ويتحابان ويتزوجان ويصلحان
المنزل الخشبى المهجور ليصبح مرفأهما الجميل، ولاتزال إيلى تحلم بالذهاب
إلى شلالات الفردوس، وتمر الأيام يبيع كارل فيها البالونات للأطفال (إنها
امتداد لمنطاد بطله القديم مونتز)، كما يشارك إيلى فى الأعمال المنزلية
الصغيرة، ويتأمل معها السحب فى السماء فيتخيلان أطفالا لكنهما لا ينجبان،
ويحاولان الادخار استعدادا للذهاب إلى رحلتهما المأمولة، لكن مطالب الحياة
تدفعهما لإنفاق ما ادخراه أولا بأول، وهكذا يمضى العمر بهما ويصلان إلى
مرحلة الشيخوخة (ونصل معهما إلى الزمن المعاصر) دون أن يتحقق حلمهما، وتموت
إيلى ويبقى كارل وحيدا وحزينا وعاجزا.
أرجو أن تتذكر عنصرين مهمين هنا: ففى هذه المشاهد الافتتاحية يعتمد صناع
الفيلم على الحذف البلاغى الذى يكاد يستغنى عن الحوار، أما العنصر الثانى
فهو ذلك القدر الهائل من الشجن الذى يتحدث برقة شديدة عن حقائق الحياة
والموت، وعن العمر الذى يمضى دون أن يحقق المرء هدفه، ويزداد الشجن عمقا فى
وجدان كارل العجوز (صوت إدوارد آزنر ولكن فى هيئة سبينسر تريسي)، الذى يشعر
بالوحدة بعد رحيل رفيقة عمره وأحلامه، بل يصبح الأمر أكثر قسوة عندما يصحو
كارل من نومه فيجد أن العمارات الشاهقة تشيد من حوله حتى يكاد يختنق بينها
كوخه الخشبى الصغير، وفى سورة غضب بعد تحطم صندوق بريده بسبب الإنشاءات
يضرب أحد العمال بعكازه، وفى فوتومونتاج آخر ودون كلمة واحدة تدرك أنه
حوكم، وصدر قرار بإيداعه فى مصحة للمسنين، وتلك ياعزيزى القارئ إحدى قيم
المجتمع الأمريكى، حيث لا مكان للعجائز كأنهم آلات قديمة تعطلت تروسها فيتم
إلقاؤها فى مخزن الكراكيب!
فى صباح يوم تسليمه لدار المسنين يفاجأ الجميع بأن كارل قد ربط آلافا من
البالونات فى مدخنة منزله، وهكذا يطير المنزل فوق المدينة فى مشهد مذهل، إن
كارل قرر فى نهاية حياته أن يحقق لحبيبته الراحلة أمنيتها التى لم تتحقق:
أن يكون لهما بيت "فوق" شلالات الفردوس، ولتتأمل كيف يظل كارل يحدث صورتها
كأنها لاتزال تحيا (أو قل بالأحرى أنها بالفعل لاتزال تحيا، فى وجدانه)،
كما أنه لا يخلع عن سترته "وسام غطاء الكازوزة" الذى منحته له فى طفولتهما.
وبدءا من طيران المنزل الخشبى فى الفضاء سوف يدخل الفيلم فى عالم التشويق،
تتقاطع فيه مشاهد التأمل مع مشاهد الحركة والإثارة، خاصة أن كارل يكتشف أن
صبيا يدعى راسيل (صوت جوردان ناجاي) قد ركب معه المنزل الطائر، فهو عضو فى
الكشافة يريد الحصول على وسام مساعدة العجائز، وهنا ترى كيف أن صناع الفيلم
يؤكدون على اشتراك الشيخ والصبى فى رحلة واحدة نحو تحقيق الحلم، هى أقرب
إلى الرحلة نحو النضج (من المفارقات المدهشة: نضجهما معا!!)، كما لا يفوتك
أن ملامح الصبى راسيل تشير إلى أصوله الأسيوية، وهى لمحة ذكية من صناع
الفيلم الذين يؤمنون بضرورة التأكيد للمتفرج الطفل الأمريكى على قبول كل
الآخرين دون تفرقة أو تمييز، لذلك فإن الطفل البطل ليس هو الصورة الغربية
النمطية التى تطلب السينما الأمريكية فى أغلب الأحوال من الأطفال التوحد
معها.
لن أحكى لك مزيدا من مغامرات الشيخ كارل والصبى راسيل فى أدغال أمريكا
الجنوبية، وعثورهما على الرحالة مونتز الذى أصبح بدوره عجوزا تستحوذ عليه
فكرة الإمساك بالطائر النادر حتى يثبت للجميع بطولته، وهو الاستحواذ الذى
وصل بعد هذه الأعوام الطويلة إلى درجة البارانويا والشراسة (مثل بارانويا
السياسة الأمريكية)، حتى لو انتزع الطائر من صغاره. وسوف يصبح الفيلم فى
الجزء الأخير منه صراعا بين كارل وراسيل من ناحية، ومونتز من ناحية أخرى،
فالشيخ والصبى يحاولان إنقاذ الطائر من براثن الرحالة المهووس بتحقيق
انتصاره. لكننى أرجو أخيرا أن تتأمل بعض التيمات العميقة التى يلقيها
الفيلم إلى المتفرج: إنه يقول لك أنه يجب عليك ألا تصدق كثيرا صدق وبراءة
"الرموز" التى كنت تؤمن بها صغيرا، فربما أصبحت مع الشيخوخة والنهم إلى
السلطة أقرب إلى تحقيق النجاح الفردى على حساب القيم الإنسانية الحقيقية،
كما يعيد كارل تصفح مذكرات حبيبته إيلى فيجدها قد كتبت أنها حققت إنجازا من
بعض أحلامها حين تزوجت منه، وتطلب منه أن يبدأ مغامرة جديدة بعد رحيلها،
فتراه يتخفف من بعض أثاث كوخه (وفيها بعض ذكرياته) لكى يظل قادرا على
الطيران، وأخيرا فإنه يحقق الحلم بأن يرسو البيت الخشبى فوق شلالات الفردوس
كما كانت إيلى تحلم. وفى المشاهد الأخيرة نرى العجوز كارل يجلس على رصيف
الشارع مع الصبى راسيل، كأنهما أب وابنه، ويعطى كارل إلى راسيل "غطاء
الكازوزة" ليعلقه كوسام على صدره. ترى كم واحدا منا تمسك بحلمه القديم مثل
كارل ولم يتحول إلى وحش مثل مونتز؟ كم واحدا منا ظلت صفحات ذكرياته مفتوحة
لكى يكتب فيها مغامرة جديدة؟ كم واحدا منا يحتفظ بغطاء كازوزة من طفولته،
يحتفظ بأحلامه ولا يتخلى عن تحقيقها حتى لو بدا له الأمر مستحيلا؟ لكن
واقعنا وأفلامنا تشوه أحلامنا، وتعلمنا أن نعيش فى الكوابيس، وأن ننحنى
إلي"أسفل" تحت وطأة القهر المادى والمعنوى، حتى أننا لا نفكر لحظة واحدة فى
أن ننظر إلى "فوق"، إلى السماء المفتوحة، ننطلق فيها بخيالنا ولا نتخلى عن
أحلامنا أبدا!!
العربي المصرية في
16/06/2009 |