لم تكن «فرحة»
الفرنسيين منعقدة على مشاركة أربعة أفلام
روائية طويلة («الأعشاب البرّية» لآلان
رينيه و«نبي» لجاك أوديار و«فجأة الفراغ» لغاسبار نويه و«في
الأصل» لزافييه
جيانّولي) في المسابقة الرسمية للدورة الثانية والستين (13/ 24 أيار الفائت)
لمهرجان «كان»؛ أو ناتجة من اختيار إدارة
المهرجان نفسه الممثلة إيزابيل أوبير
رئيسة للجنة التحكيم الخاصّة بهذه المسابقة؛ أو متأتية من فوز
«نبي» أوديار
بالجائزة الكبرى وشارلوت غاينسبور بجائزة أفضل ممثلة عن دورها في «المسيح
الدجّال»
للدانماركي لارس فون ترير والكبير آلان
رينيه بجائزة الدورة الثانية والستين عن
فيلمه «الأعشاب البرّية» (هذا إذا اقتصر التعليق على أفلام
المُسابقة الرسمية، من
دون التوقّف عند البرامج الأخرى)؛ علماً أن «بين الجدران» للوران كانتيه
فاز
بـ«السعفة الذهبية» في دورة العام الفائت، وأثار فيهم فرحاً ما. يُمكن
القول إن
الفرنسيين سعدوا بهذا كلّه، في حال تمّ التعاطي مع المسألة
انطلاقاً من الارتباط
الجغرافي والانفعالي بين الناس وبلدانهم وصناعاتهم الوطنية المتفرّقة؛ لكن
العاملين
منهم في الحقول المختلفة لصناعة السينما مرتاحون إزاء الأرقام التي أعلنها
«المركز
السينمائي الوطني» في فرنسا أثناء انعقاد الدورة الأخيرة
لمهرجان «كان»، لأنها (الأرقام)
كشفت مزيداً من الأرباح والتطوّر الإيجابي، قياساً على العام السابق له
تحديداً، على المستويات كلّها تقريباً: إيرادات العروض التجارية المحلية،
نسبة
الأفلام الفرنسية قياساً بالأفلام الأميركية المستوردة إلى
الصالات الفرنسية
المــحلية، دعم مـالي متـنوّع من الاقاليم الفرنسـية للصناعات السينمائية
والسمعية
البصرية معاً.
عام استثنائيّ
لكن، قبل التوقّف عند هذه الأرقام والمعطيات،
يُشار إلى أن التجربة المتعلّقة بمشاركة أقاليم فرنسية في تمويل صناعة
الصورة
بأشكال متفرّقة أثّرت، بشكل إيجابي، على حركة الإنتاج عموماً، ما أدّى
(بفضل
نجاحها) إلى إتاحة الفرص لسينمائيين أجانب لتصوير مشاريعهم
فيها. إذا لم يكن الأمر
غريباً بالنسبة إلى أبناء دولة عريقة في صناعة الإبداع، فإن دخول الأقاليم
عالم
الصناعة السينمائية، ودعوة بعض المسؤولين فيها إلى إشراك قطاعات سياحية
وفندقية
متنوّعة في تمويل المشاريع وإن بشكل غير مباشر، ليسا قديمين،
إذ لم يتجاوزا ربع قرن
من الزمن بعد. وإذا تعامل الفرنسيون والأجانب، العاملون في صناعة السينما
مع هذه
الحالة بعفوية وتواصل إنتاجي مبني على أسس ثابتة وواضحة، فإن التجربة «قد»
تكون
مفيدة على الصعيدين اللبناني والعربي، لو أن الدول العربية
مهتمة بالنتاج الثقافي،
ومموِّلة أساسية له شرط أن تُحرّر التمويل من أي تسلّط قمعي متمثّل برقابة
أمنية/
بوليسية للنتاج وصانعيه. «قد» تكون مفيدة،
لبنانياً وعربياً، لو أن النظامين
السياسي والاجتماعي/ الاقتصادي المتحكّمين بهذه الدول منفتحان على
الجغرافيا
المحلية كلّها، بدلاً من التخبّط في الفساد والفوضى والمحسوبيات المناطقية
الضيّقة.
إن قراءة الجردة النهائية الخاصّة بالأرقام السينمائية الفرنسية للعام
2008،
التي أعلنها «المركز السينمائي الوطني» أثناء انعقاد الدورة
الأخيرة لمهرجان «كان»،
تكشف بوضوح أن العام المذكور «استثنائيٌّ ومميّزٌ» بمستوياته
المختلفة. فبحسب
المعلومات المنشورة في مجلة «الفيلم الفرنسي» (20 أيار 2009)، نقلاً عن
الندوة التي
انعقدت في هذا الإطار، ارتفع عدد المُشاهدين بنسبة 6،7 بالمئة عن العام
السابق له،
ليبلغ 189 مليوناً و710 آلاف مُشاهد؛ وهذا يعني أن الإيرادات
ارتفعت بدورها، بنسبة 7،7
بالمئة، ببلوغها 1139،38 مليون يورو. بالإضافة إلى هذا، فإن معدل سعر تذكرة
الدخول ارتفع إلى 6،01 يورو، في حين أن نسبة الأفلام الفرنسية التي عُرضت
في
الصالات الفرنسية في العام الفائت، من أصل المجموع كلّه، بلغت
45،20 بالمئة أمام 44
بالمئة للأفلام الأميركية (والباقي متعلّق بأفلام مستوردة من دول مختلفة).
في
الإطار نفسه، ذكر تقرير «المركز السينمائي الوطني» أن «قاعدة الجمهور»
اتّسعت
أيضاً، إذ بلغ عدد الذين ذهبوا إلى الصالات 36 مليون مُشاهد،
أي 63،7 بالمئة من
الفرنسيين الذين تجاوزت أعمارهم الأعوام الستة. والفضل في هذا كلّه عائدٌ
إلى فيلم «أهلاً بكم عند الشـ.. تي» (2008) لداني
بوون (تمثيل: كاد ميراد وداني بوون)، إذ
حقّق 20 مليوناً و328 ألفاً و52 يورو في الفترة الممتدة بين 20
شباط و29 تموز 2008،
في سابقة لم تشهدها الأفلام الفرنسية منذ سنين عدّة؛ علماً أن نجاحاً
تجارياً
كبيراً كهذا، جعل «المدخول» الإجمالي لداني بوون يبلغ عشرين مليون يورو،
متفوّقاً
بهذا على ممثلين فرنسيين اثنين يُعتبران الأعلى أجراً: جيرار ديبارديو (3
ملايين
و540 ألف يورو) ودانيال أوتوي (3 ملايين و500 ألف يورو)؛ إذ
حصل بوون على هذا
المبلغ من اقتطاعه نسباً معينة من إيرادات شباك التذاكر وأسعار أشرطة «دي
في دي»
وغيرهما. إلى ذلك، وبحسب تقرير نشرته
«أونيفرانس» (المؤسّسة المعنية بالتوزيع
السينمائي للأفلام الفرنسية خارج فرنسا) في «كان» أيضاً، فإن
الأفلام الفرنسية
المعروضة في الدول الأجنبية جذبت 84 مليوناً و200 ألف مُشاهد أجنبي، «وهذا
أعلى
مستوى بلغته الأفلام الفرنسية، منذ أن بدأت «أونيفرانس» تجمع معلوماتها قبل
سنين
عدّة»، كما جاء في تعليق رسمي لـ«المركز السينمائي الوطني».
حركة إنتاجية حيوية
من ناحية أخرى، فإن التقارير المنشورة في صحف ومجلاّت فرنسية عدّة ذكرت أن
حركة
إنتاج الأفلام الفرنسية مستمرّة في حيويتها، إذ ارتفعت أرقام
المشاريع المنفّذة في
العام 2008 إلى 240 فيلماً، أي بزيادة 12 فيلماً عن العام 2007: «هناك 3
أفلام (مُنتجة في العام الفائت) زادت ميزانياتها
الإنتاجية على 40 مليون يورو، منها
فيلمان اثنان زادت ميزانياتهما على 60 مليون يورو»، كما جاء في أحد
التقارير التي
أصدرها «المركز السينمائي الوطني»، الذي أضاف أن هذه الميزانيات «عدّلت
الوضع
الإنتاجي في العام الفائت، بشكل استثنائي»، إذ ارتفع حجم الاستثمارات أيضاً
إلى
24،1
بالمئة، أي إن المبالغ المستَثمَرة في هذا المجال بلغت 1490،45 مليون
يورو. في
المقابل، فإن 39،6 بالمئة من الأفلام المنفّذة أُنتِجَت بفضل تعاون إنتاجي
مشترك مع
شريك أجنبي أو أكثر، موزّعين على 28 بلداً مختلفاً. وقد اتّسمت حركة
الإنتاج في
العام الفائت بازدياد عدد الأفلام التي تجاوزت ميزانياتها 7
ملايين يورو؛ من دون
تناسي تمويل المحطّات التلفزيونية (رسوم مدفوعة أو تمويل مجاني)، الذي شهد
تطوّراً
ملحوظاً (13،7 بالمئة)، كما أن الحصص المُقدَّمة بشكل حوالات مصرفية أو
سندات
اعتماد ارتفعت بنسبة 60،4 بالمئة.
تكاد «لعبة الأرقام» هذه لا تنتهي إلاّ
بالإشارة إلى أن عملية توزيع الأفلام وعدد نُسخها ظلّ ثابتاً: هناك 555
فيلماً
جديداً عُرضت كلّها في الصالات الفرنسية، أي إن هناك تراجعاً خفراً حصل
بنسبة 3،1
بالمئة قياساً إلى العام 2007: «إن هذا التراجع مردّه انخفاض
عدد الأعمال الفرنسية (أقلّ
بـ22 عنواناً) والأميركية (أقلّ بـ19 عنواناً) قياساً إلى أرقام العام 2007»،
كما كتب الصحافي السينمائي الفرنسي أنتوني بوبو في مقالته المنشورة في
«الفيلم
الفرنسي» (19 أيار 2009)؛ علماً أن الرقم الإجمالي للنسخ ظلّ ثابتاً هو
أيضاً، إذ
حافظ متوسّط عدد النسخ على 140 نسخة لكل فيلم، من دون تناسي التوزيع الجزئي
أو
الكامل لـ57 فيلماً رقمياً في مقابل 30 فيلماً رقمياً في العام
2007، منها 4 أفلام
عُرضت بتقنية «الأبعاد الثلاثية».
لا تكتمل قراءة المشهد الإنتاجي الفرنسي إلاّ
بالتوقّف عند الدور المهمّ الذي تضطلع به الأقاليم الفرنسية في مجال إنتاج
الأفلام
السينمائية (الروائية والوثائقية، الطويلة والقصيرة) والأعمال السمعية
البصرية. ففي
ملفّ صحافي نشرته المجلة الفرنسية «شاشة كاملة» (16 أيار 2009) أعدّته
فاليري غان
بعنوان «الأقاليم الوفية للسينما»، جاء أن «تورّط» هذه
الأقاليم في صناعة السينما
تجاوز عمره العشرين عاماً بقليل: «لا تدعم الأقاليم الإنتاج فقط، بل
المهرجانات
والأجهزة والمؤسّسات المعنية بشؤون الفن السابع وبرامج تربوية وتنموية
عدّة،
كـ«تلامذة السينما» و«كليات السينما» و«مدارس السينما»، علماً
أن المناطق التابعة
لهذه الأقاليم باتت اليوم «مغطاة» بأكثر من 40 بعثة محلية متخصّصة
بالسينما، لتقديم
خدمات مجانية في مجال استقبال فرق التصوير العابرة للمناطق».
أقضية تُنتج
أفلاماً
بحسب تقرير «مركز صُوَر»، هناك 33 إقليماً لا تزال متعاقدة مع «المركز
السينمائي الوطني» في العام 2008، ضخّت كلّها مبلغ 42 مليوناً
و600 ألف يورو
كاعتمادات لإنتاج أفلام سينمائية وأعمال سمعية بصرية، أضيف إليها مبلغ 14
مليوناً
و500 ألف يورو من المركز نفسه: «هناك أيضاً الدعم المُقدّم من أقاليم غير
متعاقدة
مع المركز، الذي بلغ 55 مليون يورو استُخدمت فعلياً في إنتاج
الأفلام والأعمال
بأشكال متفرّقة، حازت السينما منها على نسبة 62 بالمئة، أي 34 مليون يورو
على شكل
مساعدات تمويلية، استفاد منها 282 فيلماً روائياً طويلاً، وأكثر من 400
فيلم قصير».
وأشارت غان إلى أن الأزمة المالية العالمية لم تصب الاستثمارات التي
«تورّطت» بها
الأقاليم لغاية الآن، في حين أن «الصدمة الفعلية» ظهرت في المجال السمعي
البصري،
«إذ
إن الدعم الإنتاجي للأفلام الروائية والوثائقية انخفض عملياً في العام 2008
قياساً إلى العام السابق له، بنسبة 7 بالمئة للروائي الطويل و5 بالمئة
للروائي
القصير»، مشيرةً في الوقت نفسه إلى أن «هذه الأرقام محصّلة
مباشرة للبلبلة التي
عاناها القطاع السمعي البصري العام، إذ إن مشاريع كثيرة لم تحصل على
مساعدات بسبب
أخطاء حصلت في العلاقة بين المنتجين والموزّعين التلفزيونيين»، مضيفةً أن
البلبلة
التي قد تصيب تنفيذ مشروع سينمائي طويل أو قصير «أقلّ أهمية من
تلك التي يتعرّض لها
الفيلم التلفزيوني أو المسلسلات التلفزيونية»: ربما لهذا السبب ظلّت
الأقاليم وفية
للشاشة الكبيرة؛ إذ إن 34 إقليماً يدعم إنتاج الأفلام الطويلة، و39 يدعم
إنتاج
الأفلام القصيرة، أبرزها (بحسب «دليل 2009» الصادر عن «مركز
صُوَر»): إقليم «إيل دو
فرانس» خصّص 11 مليوناً ونصف مليون يورو بالأفلام الطويلة في العام الفائت،
و«رون
آلب» قدّم 3 ملايين و700 ألف يورو للنوع نفسه، و«بروفانس ـ آلب ـ كوت دازور»
منح
مليوناً و300 ألف يورو. علماً أن أول صندوق دعم إقليمي، في
لائحة مؤلّفة من أربعة
عشر إقليماً تتجاوز القيمة المالية لدعمها الإنتاجي مليون يورو، هو صندوق «إيل
دو
فرانس ـ سان سان دوني ـ فال دو مارن ـ آركادي ـ باريس»، الذي منح 15
مليوناً و168
ألفاً و500 يورو في العام الفائت. في الإطار نفسه، قدّمت مجلة
«الفيلم الفرنسي» (20
أيار 2009) صورة مختصرة عن علاقة «إيل دو فرانس» بالسينما، كتبه باتريس
كاري، جاء
فيه أن 9 أفلام روائية طويلة وفيلمين روائيين قصيرين وفيلماً وثائقياً
واحداً،
حصيلة الدعم الإنتاجي الذي قدّمه هذا الاقليم للسينما في العام
الفائت، (تأسّس
صندوق الدعم التابع له في العام 2001)، منها 4 أفلام شاركت في إنتاجها
عُرضت في
المسابقة الرسمية للدورة الأخيرة لمهرجان «كان»، هي: «نبي» لجاك أوديار
و«الأعشاب
البرّية» لآلان رينيه و«وجه» للماليزي تساي مينغ ـ ليانغ
و«ليالي السُكر الربيعية»
للصيني لو يي: «في خلال تسعة أعوام، شارك هذا الإقليم في تمويل 353 فيلماً
بميزانية
عامّة بلغت قيمتها المالية 88 مليون يورو»، علماً أن العام 2007 شهد تصوير
255
فيلماً بمعدّل بلغ ثمانية آلاف يوم: «استمرّت قيمة التمويل
بالازدياد، إذ انتقلت من
مليون ونصف مليون يورو في العام 2001 إلى 14 مليوناً في العام الجاري».
ليس
إقليم إيل دو فرانس وحيداً في هذا المجال. فاليري غان عدّدت، في ملفّها
الصحافي،
أسماء الأقاليم، وقدّمت نبذات مختصرة عن تاريخها في هذا
المجال، وعن المشاريع التي
موّلتها أو ساهمت في تمويلها، منها: «رون ـ آلب» («رون ـ آلب سينما»
بميزانية تبلغ 3
ملايين و763 ألفاً و500 يورو، و«إقليم رون
ـ آلب» بميزانية تبلغ مليونين وأربعين
ألف يورو) و«بروتاني» (مليونان و107 آلاف يورو) و«بواتو ـ
شارانت» (مليونان و65
ألفاً و500 يورو) و«نور با دو كاليه» (مليونان و834 ألفاً و489 يورو)
وغيرها.
قد يتساءل القارئ عن إفادة ما يُمكن استخلاصها ممّا سبق. لبنانياً وعربياً،
لن
تتبدّل أحوال العلاقة الصدامية بين الأنظمة (السياسية
والاجتماعية/ الاقتصادية)
الحاكمة وصناعة الإبداع، إلاّ عندما تتبدّل الأنظمة نفسها. لكن الاطّلاع
على
معلومات كهذه قد يساهم في معاينة واقع سينمائي لا يزال فاعلاً في المشهد
الدولي،
على الرغم من أن النتاج السينمائي الفرنسي لا يزال غائباً عن
الصالات اللبنانية،
إلاّ نادراً، سواء استورد موزّع لبناني فيلماً فرنسياً أو أكثر بقليل كل
عامين أو
ثلاثة أعوام، أم انتظر المهتمّون بالفن السابع الدورة السنوية لـ«مهرجان
السينما
الأوروبية» (كانون الأول) لمشاهدة بعضها. إنها محاولة متواضعة
لتبيان معالم الأواصر
المتينة بين الجغرافيا والثقافة وصناعة الإبــداع، التي نســجها الفرنسيون
في
بيئتهم التاريخية والثــقافية/ الفنية، ولمعاينة ملامح متفرّقة من
عنايتــهم
الشــديدة بصــناعتهم السينمائية، كأنهم يُعلنون يومياً
التزامهم بما عُرف سابقاً
باسم «الاستثناء الثقافي الفرنسي».
السفير اللبنانية في
08/06/2009 |