لا يزال جهبذ السينما
الفرنسية آلان رينيه، منذ نصف قرن، يُقاتل التسطيح وينتصر لابتكارية
سينمائية تمتد
من روح المؤلّف وتنتهي بأول اقتباس روائي خالص في تاريخه
المديد («الاعشاب
البرّية»، الدورة الأخيرة أيار 2009 لمهرجان «كان» السينمائي)، من دون
إغفال
اقتباسه مسرحية «ميلو» في العام 1986. خلق رينيه معضلته مع «هيروشيما حبّي»
(1959)،
حيث مزج السرديات وشاكس بأزمنتها، وعقّدها أكثر في «العام
الأخير في مارينباد» (1961)، حيث رسم خطاً قاطعاً في القصّ وطاقته وخيالاته. في كل نصّ جديد،
يُدهش
رينيه نخبته ومريديه. وهو، بشعره الأبيض المنكوش، يبدو رجلاً شغوفاً
بتقاعده
المتأخّر، الذي لا شأن له بحميته السينمائية وذكائه اللذين جعلاه أحد صنّاع
الأفلام
الكبار المحترمين.
رينيه، الابن الواعد للمدرسة الفكرية الليبرالية ويسارييها
النافذين بعيد الحرب العالمية الثانية، والشغوف برموز تيار
الوعي الأدبي الفرنسي،
أو من يدورون في أفلاكهم، استأنس لُعب الذاكرة وانقلاباتها وتحرّرها في
التعاطي مع
حاضر يحمل الكثير من البَطر الاجتماعي، من دون أن تمنعه أي حجة سردية من
التلاشي مع
ماض ذي حكمة. هكذا نقابل البطلة «هي» (إيمانويل ريفا) في هيروشيما، التي
تُصارع
إثماً اعتبارياً غير مفهوم، عماده اتهامها بالخيانة في فرنسا
خلال الأيام الأخيرة
للحرب في بلدها، فيما تُصوّر فيلماً وثائقياً في اليابان، على خلفية التباس
علاقتها
بمهندس معماري ياباني. مثلها الأبطال الهائمون في شاتو «... مارينباد»،
الذين
حوصروا بين جدرانه وبذخه الأرستقراطي، ليحيكوا حواريات متداخلة
النيات تعكس
استرخاءً لا مثيل في لا منطقه. وفيما تعيش بطلة «موريل» (1963) هيلين فهماً
ناقصاً
لـ «زمن حاضر» لزيارة عشيقها السابق إلى محل بيع المقتنيات الذي تملكه ومعه
عشيقة
شابة، و«آخر ماضي» يدور حول سؤالها عن ملابسات تخلّيه عنها
بسهولة؛ فإن بطل «أحبك
أحبك» (1968) يُفجع بارتهانه إلى ذكرياته، بعد فشل رحلة خيالية عبر الزمن.
أما
فيلمه الأخّاذ «الحياة فراش من الورود» (1983)، فإن أبطاله ينوسون بين
أزمنة
متضاربة: أهل القصر اليوتوبي الذين يعيشون ماضياً بوهيمياً،
والزوار الحاليين
المجتمعين لبحث خيال الأطفال، والصغار الذين يحلمون بأوبرا رعوية.
حماقات
لا بُدّ لمُشاهد فيلم «مخاوف خاصة في أمكنة عامة» (2006) أن يجد عناصر
مشتركة
مع «الأعشاب البرية»، من حيث إن الشخصيات الست التي تتبادل
الحواريات التي تشي بلا
سعادتها واصطناعية حياتها ومحيطها وبطرها الشخصي الذي يساوي بين اليوميات
وروتينها،
والاستخفاف الذي تبينه على الآخر الذي يقودها إلى ارتكاب الحماقة تلو
الأخرى. إن
بطل «مخاوف ...»، الشاب دان الذي يعاني عطالته وفشل علاقته
بحبيبته نيكول (لاورا
مورانتي)، قبل أن يحقّق اختراقاً عاطفياً مع غيل (إيزابيل كار)، هو النسخة
الأولية
لبطل «الاعشاب البرية» المتقاعد جورج (أندره دوسولييه) الذي يلطخ بَطر
يومياته
وتطامنه في اللحظة التي يرفع بها محفظة النقود الحمراء
الأنيقة، التي صادفها مرمية
عند سيارته المركونة في كراج مجمّع تجاري وسط باريس. إن الحيّز المكاني
الضيق هذا
يفتح آفاق علاقات كانت بالنسبة إلى هذا الرجل الستيني بحكم المنتهية، أو
على الأقل
أشبه بأحلام لن تتحقّق أبداً. وعندما يُسبق جورج أمانته في
توصيل اللُقية إلى
صاحبتها، يكون عليه أن يمر بمراحل ثمان هي، لدهشتنا، خطوات السلامة التي
تُلقَى على
ركّاب الطائرة قبيل إقلاعها.
قبل هذا المطب، نقابل صاحبة المحفظة مارغريت
(سابين
آزما) طبيبة الأسنان والبطلة المتقاعدة لنادي طيران الضواحي، حيث ينمو
العشب
البرّي بأمان، ساعيةً إلى شراء حذاء جديد. بعد الدفع، تتعرّض للنشل، وهو
حدث يترسّم
يومياً في مدن الحداثات الأوروبية. وبين اللقطات المقرَّبة للأرجل وهي تسير
بتقاطعات محمومة داخل المجمّع، التي تشبه لقطة الهبوط من
السماء خلال الغيوم فوق
محيط برج إيفل (مساحة الأحداث في «مخاوف ...»)، وبيت جورج وظنونه الشخصية
بكيفية
إعادة الأمانة، يضع رينيه نصب عينيه الرجّة الصغيرة في أعماق بطله، حيث
تتحوّل
اللقية إلى عذاب يتطوّر إلى امتحان في الأصول. وكما أن ضروب
حياة جورج لا تبتعد عن
أوروبيته الرتيبة، فإن الخضوع للخطوات التقليدية يقوده إلى المهانة
والتشكيك وتهديد
توازن عائلته الصغيرة.
الرتابة والبطر
تغالي رواية كريستيان غايلي «الحادثة»،
التي اقتبسها رينيه، في رسم تفاصيل الرتابة التي تحيط بعالم البطل
العجوز، والموصلة به إلى حافة العزلة والصمت والانكفاء حتى
انقلاب موازينها، عندما
يتجاوز الخط الفاصل بين التجاهل والواجب. المشكلة في «الاعشاب البرّية»
ليست في
رجال الشرطة الذين يقتحمون دارته الفخمة، التي تعكس طبقيته ذات الإرث
المجيد، بل في
السيدة مارغريت صاحبة المحفظة، فهذه العزباء القليلة الأنوثة تجد فيه
موئلاً لعلاقة
قد تزهر عن عاطفة. ومع شروعها بمطاردته وهما بين أماكن الثقافة (قاعة مسرح،
دار عرض
سينمائية وغيرهما) تكتشف أنها غارقة في عائلته أكثر من
محاولتها إبعاده عن حياته.
ولئن كان إثم البطلة أنها لم تكتشف كمّ هي فريدة في وحدتها، فإن إثم جورج
الكبير
أنه وسّط السلطات وخسر المبادرة الشخصية التي يثبت عبرها أنه لا يزال
قادراً على
التواصل مع النساء، ولم تنته مغامراته. وهو بهذا على حق، فبعد
لقاء يشبه المواجهة،
يفوز فجأة باثنتين: السيدة الطائرة وزميلتها في عيادة الأسنان جوزيفا (دور
قصير
وحيوي لإيمانويل دوفو).
يبني صاحب «أريد الذهاب إلى المنزل» (1989) و«الأغنية
القديمة نفسها» (1997) فيلمه الأخير هذا كحكاية مستمرّة لا وقت لها، وهي
قريبة
الشبه بموازينها ومواقيتها مع حكاية فيلم «مسموح التدخين، ممنوع التدخين»،
الذي
أنجزه في العام 1993، وترتيبه علاقات أبطاله القائمة على مفارقة شيئية
تتمثّل هنا
بولع البطلة في تدخين سيكارة، يؤدّي إلى محن متبطّرة ومتعدّدة
المستويات. فصباح
جورج مثل مسائه يدوران حول مركز واحد: عطالته وفراغه الذي تملأه مارغريت.
وبما أن
الشخصيات جميعها ذات محتد يُقارب النبالة القديمة، حوّل رينيه محيطها إلى
ما يشبه
الرسوم الملوّنة كثيرة التفاصيل، التي تشي بأرستقراطية مدينية
لا تتطابق والموقع
البرّي الآخر، حيث يقع موت الجميع. إن العقاب الجماعي الذي يوقعه غايلي
/رينيه لن
يحدث بسبب عطل في الطائرة الشراعية التي تجمع الزوج والزوجة ومارغريت، بل
لعدم وجود
أدوات السلامة، كان من واجبها منع الأخيرة من الهجوم على فتحة سروال جورج
الذي لم
يتمكن من إغلاقها بعد استخدامه الحمّام. هذا التهكّم المفاجئ،
الذي لن يُقدّم رينيه (بذكاء
محسوب) تفاصيله داخل الطائرة، بل نراها (الطائرة) تقوم بلفّات تدفع مزارعاً
نبيهاً إلى إطلاق إنذار شخصي حول أن حركات الأكروباتك غير مسموح بها فوق
مروج العشب
البري. كما لن يسمح رينيه لنفسه في عرض حطام الطائرة وجثث
أبطاله أمام مشاهده،
لأنهم ليسوا كائنات حقيقية بل خيالات للبطر الأوروبي.
)لندن(
السفير اللبنانية في
04/06/2009 |