حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

وحيد حامد:

أنتمي للمهمشين .. نشأت بينهم .. ومازلت أنتمي لهم

بقلم : محمد عبد العزيز

 

·        الملمح الأول هو المواجهة مع السلطة.. والتي بدأت كحل فردي في مجموعة من الأفلام لعل أهمها (الغول، البريء، التخشيبة) ثم تطورت إلي الحل الجماعي الثوري كما في (النوم في العسل) علي سبيل المثال؟

هذا السؤال منصف جدا لي، لأنه موثق.. فبعد مسلسل "الجماعة" كانت هناك حملة شعواء من الإخوان المسلمين تتهمني بأنني من أتباع النظام السابق، وكان هذا متوقعا منهم، وأن يتهموك بالباطل، ولكني لم أهتم بذلك، خاصة وأنني أستند إلي تاريخ، ربما يوافقني عليه البعض، ويختلف عليه البعض الآخر.. ولكن ما رسخ في وجداني أنني قدمت ما قدمته من أفلام وأنا علي قناعة بأنها للناس وعن الناس.. ومنذ اول فيلم لي وأنا ضد السلطة القائمة، وبنوعيتها المختلفة، ولم اكتب في حياتي إلا ما انا مقتنع به.. عبرت عما بداخلي من خلال أفلامي، ثم من خلال مقالاتي، ولم أنحز إلا للناس. هل تعلم مثلا أن حريتي كانت في يدي دائما.. فلم أكن موظفا في أي مصلحة أو جهة حكومية، حتي عندما تم تعييني في مجلة روزاليوسف لم أستمر سوي أسبوع واحد فقط، وشهود الواقعة كلهم أحياء.. فمن قام بتعييني العضو المنتدب آنذاك الأستاذ لويس جريس، وكان رئيس القسم الفني الذي عملت به هو منير عامر.. ولكني اخترت أن أكون حرا حتي أضمن استقلاليتي، ولا أترك مجالا لأحد كي يلوي ذراعي، أو أصاب بأمراض الوظيفة، ولعل أخطرها عدم تطلعك إلي مكانة اعلي والرضا بما هو قائم. ـ أيضا آمنت بشيء مهم جدا، أنه لا يوجد شيء مطلق، كل شيء فيه مساحة من الصواب والخطأ، ولذلك حرصت أن أقدر كل من يفعل الصواب، ولا أسكت عن أي شيء خطأ.. وربما لو طبقنا هذا المبدأ في حياتنا العامة ما وصلنا إلي ما نعرفه اليوم من حال مصر.. وهذا هو أساس العدل. هذا هو منهجي في الحياة وفي الكتابة، وفي تسلسل أفكاري وحتي الآن.. خذ مثلا تطبيق ذلك علي الخصومات، فأنا كان لي مبدأ في المعركة الأخيرة، لو أيقظت نيرون وحضر إلي مصر وأكد أنه سيدعم الدولة المدنية فأنا معه، إذن أنا مع الدولة المدنية.. كرهت مثلا تصريحات محمد مرسي عندما تحدث أن القرآن لا ينص علي زي محدد للمرأة، واعتبرت ذلك يتناقض مع تصريحات سابقة له.. فلا يصح أن تشتري الأصوات بالكذب، او أن تقول كلاما أنت غير مؤمن به.. وهذا هو المبدأ الذي ألتزم به في كل أفلامي وحتي الآن.

·        المبدع والسلطة الملمح الثاني الذي نرصده هو خطورة الاقتراب من السلطة، علي سبيل المثال في فيلم "كشف المستور" عندما اقتربت البطلة من السلطة وعرتها كانت النتيجة تصفيتها بالشكل الذي ظهر في الفيلم؟

الثقافة مهمة جدا بالنسبة للبشر، وهي لمن مهنته الكتابة أكثر أهمية.. والكتاب أساس الثقافة.. وفي بداية مرحلة القراءة هناك بعض المقولات ترسخ في ذهنك حتي تصير جزءا من تكوينك كانها قلبك أو كبدك.. المهم من هذه المقولة ما تجده في كتب التراث، أن رجلا عظيم الشأن كان الخليفة يدعوه دائما للجلوس بجواره، ولكن الرجل كان يفضل الجلوس بالقرب منه، وليس بجواره.. فسأله أحدهم مستنكرا، أيكرمك الخليفة بالجلوس إلي جواره وأنت ترفض؟! فرد قائلا: حتي لا أضطر لأن أترك مجلسي لمن هو اهم مني إذا رأي الخليفة ذلك، فسيقول عندها يا فلان أفسح للقادم.. لكن عندما تكون هناك مسافة بينك وبين الخليفة لن تضطر لترك مكانك وستحافظ علي هيبتك وكرامتك. وهذا الموقف رسخ في وجداني أن الاقتراب من السلطة محفوف بالمخاطر دائما.. وفي بعض الأحيان يكون مهينا، وكلنا تابعنا ما حدث لمبارك وكل من اقترب منه! لكن أيضا هناك اقتراب من السلطة يكون في الصالح العام، عندما تكشف الفساد، وتنصح بالحق والعدل، ويبقي هناك من ضعاف النفوس من يردد أنهم يحيون بالسلطة، لكن في لحظة قد تري السلطة أنها لن تحيا بهم فتقضي عليهم.. تماما كما يفعل المصباح في الفراشات التي ما إن تقترب من الضوء حتي تحترق وتموت.

حكايات الفساد

·        الملمح الثالث.. الفساد وحكاياته، وهو بالطبع في العديد من أفلامك، واضح وجلي؟

الفساد للأسف نحن نزرعه كما نزرع القمح.. فيه ناس فاسدين كانوا شرفاء جدا والذي غير مسارهم هم الراشون.. فالغواية هي بداية طريق الفساد.. يبدأ الأمر بهدية بسيطة، ويقال لك "النبي قبل الهدية"، ولكن النبي لم يقبل ناقة مثلا، وقياسا علي الأوضاع الحالية عندما يهدي لك أحد سيارة مرسيدس فلن تكون هدية أبدا.. وإنما غواية.. والشريف عندما يقبل الغواية يدخل في زمرة الفساد.. ويتحول إلي وحش لا يشبع.. ومن يبدأ الغواية بعشرة جنيهات سيقبل الملايين فيما بعد.. وكان القانون قديما يحاسب الراشي والمرتشي، لكن الآن يقولون للراشي ستخرج براءة عندما تعترف أنك دفعت الرشوة، ويتم سجن المرتشي.. فلابد من معاقبة الاثنين معا. أيضا من ثقافتنا أننا نتستر علي الفساد، وعندما نري مرتشيا لا نبلغ عنه ، فيتوغل الفساد، ويتصارع الموظفون الصغار علي الجلوس للتعامل مع الجمهور حتي يحصلوا علي هذه المبالغ عن طريق "فتح الدرج".

·        الملمح الرابع الذي نرصده.. وأعتقد أن أفلامك من أهم الأفلام التي رصدت هذا الملمح، وهو غابة القوانين المتشابكة التي تربك العدالة وتحول المظلوم إلي متهم في بعض الأحيان؟!

من الأشياء السيئة التي حدثت في مصر وعن عمد أن تتحول عملية وضع القوانين إلي لعبة المتاهات بحيث يكون عندك وفرة لا لزوم لها من القوانين، حتي أنك تجد قانونا يتعارض مع القانون الذي سبقه تماما، وهذه العملية تمد مظلة حماية للفاسدين، لأنهم سيخرجون براءة إذا ما تمت إدانتهم.. فغابة القوانين تعمل لتأصيل فساد الفاسدين!

طبقة الكادحين

·        الملمح الخامس.. هموم الطبقة الوسطي.. طبقة الكادحين.. هناك العديد من أفلامك ترصد هموم هذه الطبقة، ربما "حد السيف" أحدها، والموظف الكبير الشريف الذي يحاول زيادة دخله بهوايته العزف علي آلة القانون.. وهناك فيلم "المنسي" وعالم المهمشين؟

أنا من هؤلاء الناس.. نشأت وسطهم، ومازلت أنتمي لهم.. وكل ما أكتبه نتيجة تعايشي معهم، ورصد كل كبيرة وصغيرة في حياتهم.. تماما مثلما كان يفعل أستاذنا الكبير نجيب محفوظ.. ويوسف إدريس، وبهاء طاهر.. وأريد أن أقول لك سرا.. إن شخصية المنسي حقيقية من الواقع.. وصورنا الفيلم في نفس المكان والكشك الذي تعطل بجواره القطار أثناء عودتي من سوهاج، ولا يزال هذا الكشك موجودا إلي الآن.

·        الملمح السادس.. المرأة حاضرة في أفلامك بقوة.. ومن أوائل أفلامك جعلت من المرأة بطلة وحيدة لأفلامك؟

دعني أبدأ إجابتي عن سؤالك بسؤال.. من يستطيع أن يتجاهل المرأة وهي موجودة في حياتك من أولها إلي آخرها؟.. المرأة لها دورها دورها الكبير الذي تقوم به.. ولذلك أندهش وأغضب من أصحاب الدعوات التي تحاول الحجر علي المرأة، وكلما بحثت عن دوافعهم لذلك لا أجد سببا منطقيا.. فالمرأة هي أمك وأختك وابنتك وزوجتك.. فلماذا يريدون إقصاءها بعيدا عن المجتمع؟! هذه الأسئلة دائما ما تدفعني للتأمل والبحث عن إجابة لها.. وبداية الإجابة بعيدة كل البعد عن الدين.. ومكانة المرأة في الإسلام معروفة.. ولكن هناك أسبابا أخري أهمها عادات الصحراء، فقسوة الصحراء فرضت علي النساء النقاب، وعلي الرجال أيضا، كما في قبيلة الطوارق. مثال آخر: بعيدا عن الصحراء والعرب كلهم.. انظر إلي سكان الإسكيمو.. ستجد ظروف الطبيعة فرضت عليهم ملابس معينة، ولم يقل أحد هناك إنها جزء من الدين، وحجب المرأة بسببها. أيضا في إفريقيا ستجد المرأة هناك ربما لا تستر إلا منطقة العورة فقط، وباقي جسدها مكشوف حتي صدرها، والمجتمع لا يصادر عليها ولا يقصيها لأنها طبيعة.. وعادات هذه الشعوب ومنها الكثيرون من المسلمين.

·        ربما هناك ملمح سابع ومرتبط بما قبله، وهو الحب والجنس، وهذا الملمح أيضا يتم مصادرته، ويشكل مع المرأة إشكالية كبري في الفكر السلفي؟!

لأنهم يفكرون بمنطق الاستحواذ، ولا يفكرون في المرأة إلا علي أنها وعاء للجنس.. والغريب أنهم يتزوجون أكثر من مرة.. هم يرون أن الدنيا كما أحلها الله، هي الطعام والنكاح.. فهل من المعقول، والله تعالي حثنا علي إعمال العقل، تجد أن شيخا يخطب في احد المساجد ويعلم تمام العلم أن من بين المصلين من هم من المثقفين والمتعلمن وغيرهم من البسطاء الذين لم يحظو بفرصة للتعليم، وتجده يقول إن المسلم الحق سيجد في الجنة 70 عذراء، كلما مارس معها الجنس تعود عذراء كما كانت. السؤال الواجب في هذه الحالة.. من أين جاء هذا الشيخ بهذه المعلومات، فهذا أمر غيبي لا يعلمه إلا الله، والطريق الوحيد الذي نعتمد عليه لفهم مثل هذه الأمور يكون إما بالنص عليها في القرآن، أو في الأحاديث النبوية الشريفة.. لكن عندما تبحث في القرآن والسنة لا تجد أثرا لهذا الكلام.. إذن لماذا يردده المشايخ؟! ولدي سؤال أريد أن أسأله لهؤلاء المشايخ.. إذا ما توافرت 70 عذراء له الآن.. فكم واحدة منهن يستطيع نكاحها في الليلة الواحدة؟ وشيخ آخر يقول لك إن المرأة التي تمتنع عن زوجها "يعلقها" الله من شعرها بين السماء والأرض، ويتناسي هذا الشيخ أن الله أحل للمرأة أن تمتنع عن زوجها في حالات المرض أو اعتلال الصحة او الحالة المزاجية ولا يعلقها من شعرها لمجرد الامتناع عن الزوج!! كل هذه الأشياء انت تراها وتسمعها.. وللأسف لا تملك أمامها إلا التعجب وتقول في نفسك، أن البلد أصبحت بلدهم.. فمن يوقف هذه المهزلة؟!

التعليم والسينما

·        ملمح ثامن هو "التعليم" في السينما، وقد تناولت في أفلامك ملامح من العملية التعليمية، سواء في فيلم «آخر الرجال المحترمين» أو في "انتخبوا الدكتور سليمان عبد الباسط" أستاذ علم الإجرام الذي يقع في الجريمة.. و"الإنسان يعيش مرة واحدة".. حتي في فيلم "البريء".. وهناك جملة أذكرها جيدا يقولها الطالب الجامعي "ممدوح عبد العليم" للمجند بلدياته أحمد سبع الليل "أحمد زكي" عندما يسأله الأخير عن سبب اعتقاله، فيرد عليه "لأننا فهمنا حاجة".. هذا الجسر الذي ينقل التعليم من مرحلة الحشو والحفظ إلي مرحلة الوعي والفهم.. كيف تري العملية التعليمية في مصر، وانتقالها لمرحلة الوعي؟

أولا يجب أن نعلم أن أغلب، إن لم يكن كل الأنظمة غير الديمقراطية تكره المتعلم الواعي، لأنه هو الخطر علي هذه الأنظمة بما يمثله من استنارة قد تدفع الشعوب للثورة عليها.. وإن عدت إلي التاريخ ستجد علي سبيل المثال جميع الشعوب العربية تحتفي وتمجد القائد المنصر صلاح الدين الأيوبي، علي الرغم أنه كان ضد الثقافة والوعي.. فقد كان رجلا عسكريا، وكان يردد أن المشاكل تأتي من هؤلاء الغرقين بين الكتب. أيضا ستجد رجلا مثل "جوبلز" وزير إعلام هتلر في ألمانيا، كان يقول كلما سمعت كلمة ثقافة أتحسس مسدسي.. ولذلك نقول إن المعرفة خطر علي كل مستبد، فشيء طبيعي أن يعذب أصحابها.. تذكر ما فعله الحجاج بن يوسف الثقفي.. ألم يقتل التابعي الجليل سعيد بن جبير، وقتل شعراء وعلماء وحكماء؟؟ وعد أكثر إلي الوراء في ثقافات مختلفة ستجد سقراط في اليونان القديمة يشرب السم بعد الحكم بإعدامه.. وجاليليو في العصور الوسطي بأوروبا والحكم عليه بعد أن أكد أن الأرض كروية تدور حول نفسها، وحول الشمس، وتصدي الرهبان له؛ ليعترف أنها لا تدور.. وسجن وعذب واضطر أن يقول بما أرادوه. وفي العصر الحالي خرج علينا مفتي السعودية عبد العزيز بن باز ليؤكد أن الأرض لا تدور كما فعل رهبان العصور الوسطي، دون علم أو وعي.. وللأسف لم يعارضه أحد!!

·        وهل التعليم في مصر يصل بنا لمرحلة الوعي؟

لا بد أن نعترف أن التعليم المصري علي مدار الخمسين سنة الأخيرة علي الأقل هو سبب الكارثة في مصر، من أفسدوا التعليم في مصر طوال العهود السابقة سيعذبهم الله في جهنم بلا رحمة!! ولكي نرفع السوء الذي زرعوه في التعليم لابد أن نبدأ من الصفر.. فنبدأ بتغيير المناهج والاستعانة بخبراء حقيقيين لبناء منظومة تعليمية حديثة، ونعد الاستاذ القادر بالفعل علي تعليم الطلاب.. فالأستاذ الذي يضطلع بالعملية التعليمية اليوم غير فاهم ولا واعي، فكيف يعلم الطلاب؟ نحن نحتاج ثورة علي العملية التعليمية برمتها.. فالتعليم عندنا لا يسمح للطالب بأن يفكر، ويعطل الخيال وتقييده.. والخيال هو مفجر الاكتشافات العلمية، وهو الذي قاد التقدم عبر الإنسانية كلها.. نحن في مصر لا نسمح به، ويسخر الأساتذة والعباقرة من أصحاب الخيال الجامح، ويتهمونهم بأنهم غير واقعيين.. هكذا تدار العملية التعليمية في مصر، فهل تنتظر من وراء ذلك خيرا؟! أريد أن أقول إن كل المشاكل في مصر سهلة وقادرون علي حلها.. ولكن التعليم أصعب مشكلة، أو فلتقل إنها أم المشاكل في مصر.

·        في رأيك من هم الخبراء القادرون علي النهوض بالتعليم؟

قبل خمسين أو ستين عاما من الآن كان المدرس المصري علي أعلي درجة من التعليم، والمدرس المصري هو الذي علم العالم العربي كله، من شرقه إلي غربه، ولكن بعد أن تلوث المدرس المصري بالأفكار المتحجرة وأصبح داعية للمذاهب السلفية وكفر بالخيال والإبداع.. انقلب الحال إلي ما تراه الآن.. وإذا أردت النهوض يجب أن تنهض بالمدرس أولا، وتطهر أفكاره مما تلوثت به من تحجر!!

·        الملمح التاسع هو الحس الكوميدي الذي نراه في أفلامك.. هذا الحس الساخر الذي تميزت به الشخصية المصرية.

أنت قلتها.. تميزت به الشخصية المصرية.. فأنا لم أخترعه، ولكن استقيته من أفواه وحركات المصريين.. فأنا كنت أجلس علي مقاهي وسط البلد قبل المرض، خاصة قهوة أم كلثوم.. وكنت أختار أن أجلس علي الرصيف.. أتأمل في وجوه المارة، وزبائن القهوة.. وكان من بينهم قضاة ولواءات شرطة، وتجار من روض الفرج وصنايعية البلور والأحذية المنتشرين في هذه المنطقة.. إلي جانب هؤلاء المثقفين والكتاب.. أي كانت القهوة مختصر صغير للمجتمع المصري.. وكنت تجد محبة ومودة من الجميع، سواء كنت تعرفهم أم لا. وسأحكي لك حكاية حدثت لي علي هذه القهوة.. فأنا منذ بدايات الكتابة أحب دائما أن يكون معي أقلام كثيرة حتي ولو لم أستخدمها.. لأن عشقي جمع الأقلام، ودائما تجمعها مقلمة أصطحبها معي أينما ذهبت.. وفي إحدي المرات تمزق جلد مقلمة كنت أعتز بها.. فأخذتها معي وذهبت للقهوة، وناديت الجرسون، وكان اسمه علي، وقلت له أن يعطي المقلمة لأحد الصنايعية في الورش لإصلاحها.. وكان يجلس بجواري رجل عجوز يدخن الشيشة، فتدخل في الحوار، واستأذن أن يري المقلمة، وبعد أن تفحصها طلب مني أن أتركها له يومين، فوافقت.. وبعد يومين جاء الرجل ومعه مقلمتين طبق الأصل كأنه استنسخها.. ولم يكن بيني وبينه سابق معرفة.. هذا هو الشعب المصري.. وهذه هي روحه الجميلة. وأنا من عادتي أيضا أن أذهب لشراء احتياجات البيت بنفسي، وتكون هذه فرصة أسبوعية للاحتكاك بالناس من جميع الفئات.. هذا الجو وهذه الروح هي التي تجدها في أفلامي.

·        الملمح العاشر والأخير هو الحرب علي الإرهاب والتطرف.. مشكلتنا مع الإرهاب والتطرف لأنه يصادر عليك أفكارك ويمنعك من التفكير والإبداع.. وعليك في ظل هذا التطرف أن تقبل ما يمليه عليك المشايخ.

سأحكي لك حكاية أخري تؤكد لك قاعدة تسلم بها في حياتك.. لا تناقش الجاهل لأنه حتما سيغلبك.. كنت في إحدي الندوات وكان يتحدث فيها شاب، وقال ضمن كلامه أن حبة القمح علي عهد نبي الله يوسف عليه السلام كانت في حجم حبة الفول، فسألته من قال هذا الكلام، فرد علي مستغربا أن هذا واقع حقيقي.. فقلت له لا هذا ليس بواقع.. وسألته هل تصدق القرآن، رد بسرعة بلي.. قلت له: ألم تسمع قول الله تعالي " سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة" قال نعم.. قلت: إذن لو كانت حبة القمح في حجم حبة الفول، بالله عليك أي سنبلة تتحمل مائة حبة قمح مثله.. وفي نفس الوقت لو كانت حبة القمح في حجم حبة الفول، فكيف يكون حجم حبة الفول؟! فرد علي.. لابد أن آتيك بشيخ يرد عليك!! هذا ما نحن عليه.. أصبحنا نؤمن بالخرافات.. وعندما تتصدي لهذه الخرافات يهددونك بالمشايخ، وسلاح التكفير جاهز دائما. وسأروي لك حكاية أخري.. كنت مدعوا لأحد المؤتمرات المناهضة للتدخين، نظمته وزارة الإعلام، وكان يمثلها الأستاذ امين بسيوني، ووزارة الصحة، ووفد من الأزهر الشريف.. المهم تحدث الجميع من علي المنصة، وجاء الدور علي دكتور ممثلا لوزارة الشباب، وكانت لحيته تتدلي علي صدره، وتحدث الدكتور وقال إن التدخين حرام حرام.. وهو في حرمته مثل الزني! أنا وقعت علي هذه الفتوي فوقفت وطلبت المداخلة، وقلت للدكتور أن التدخين حرام، فكلنا يعرف ذلك.. أما أن يكون مثل الزني فهذا مرفوض تماما.. وما أن قلت هذا الكلام حتي هاج الحضور، وتعالت الأصوات تطلب مني الجلوس، وعدم مقاطعة الدكتور العالم.. فتوجهت بكلامي إلي مشايخ الأزهر لكي يردوا علي الدكتور ويفصلوا في الأمر، وسألتهم هل التدخين مثل الزني؟ فردوا باستحياء وبصوت منخفض: أنت صح.. أنت صح! وهنا قررت أن أترك القاعة وأنصرف.. وبعدها بشهر قابلني الأستاذ أمين بسيوني، وأخبرني بأن طبيبة تحدثت في المؤتمر بعد انصرافي، وأنصفتني وأيدت رأيي، ورفضت ما أورده الدكتور في المؤتمر.. فقلت له إن ما يحدث في مثل هذه المؤتمرات عبث، لأنني وانا خارج من القاعة كان المدعون يدخنون السجائر في الخلف! ما أريد أن أقوله إن مشكلتنا مع التطرف مشكلة فكر في الأساس.. والفكر لابد من مواجهته بالفكر.. واعتقد أن الفرصة الآن متاحة للنقاش الحر.. وأتمني أن يكون المجتمع جاهزا لذلك!

جريدة القاهرة في

07/08/2012

 

هل أغفلت السينما المصرية «العاشر من رمضان» واكتفت بـ«السادس من أكتوبر»؟!

بقلم : محمود قاسم

 

كلما حاول الكاتب البحث عن كيفية تناول شهر رمضان في السينما المصرية كانت هناك أزمة تكرار في الكتابة في أن عدد الأفلام التي تدور الأحداث فيها في شهر رمضان قليلة بشكل ملحوظ وقد ازدادت هذه الأزمة حتي عامين مضيا إلي أن أضيف فيلمان حديثان هما «كابتن هيما» و«عسل أسود».. وغيرهما. لكن، بالبحث الجاد والحقيقي بدأت الصورة تتغير وهي ان العديد من الأحداث التاريخية البارزة في التاريخ العربي في القرن العشرين قد دارت في شهر رمضان، لكن التعرف علي هذه الأحداث من خلال التاريخ الميلادي جعلنا لا نعرف أن الجنود المصريين والعرب ذهبوا إلي حرب فسلطين في عام 1948 وهم صائمون ولاشك أن ذكاء الرئيس الراحل أنور السادات ان أراد تاريخين لانتصار أكتوبر مما جعله يشعر الشعب المصري بالفرحة مرتين، حين كان هناك احتفال رسمي بانتصار أكتوبر في يوم السادس من كل عام، وهناك احتفال إعلامي بالعاشر من رمضان أيضا في كل عام. وعن طريق هذه الرؤية الجديدة لتاريخ السينما فان كتاب سيناريو أفلام حرب فلسطين عام 1948، وما أكثرها عدداً كانت كلها تدور أحداثها في صيف 1948 وبشكل خاص في شهر يوليو وذلك باعتبار أن السنة الهجرية تسبق زميلتها الميلادية وتلحق بها مرة كل ثلاثة وثلاثين عاما ميلاديا تقريبا وبالتالي فان شهر رمضان الذي حل علينا هذا العام في الأيام العشر الأخيرة من يوليو عام 2012، وسوف يأتي في التاريخ نفسه تقريبا في عام 2045 . حرب فلسطين وقد تنبهت إلي هذه الظاهرة بقوة وأنا أشاهد فيلم «الإيمان» الذي أخرجه أحمد بدرخان عام 1952 حول مادار في حرب فلسطين من خلال عائلة مصرية ربطت أبناؤها أنفسهم بحرب فلسطين فذهب الأخ الأكبر صابر «سراج منير» كضابط متقاعد يتم استدعاؤه إلي الحرب فيذهب إلي هناك ويودع بناته وأخاه الأصغر زناتي «محمود المليجي» ويعلن ذهابه إلي هذه الحرب وهو صائم إلي الله بمناسبة حلول شهر رمضان.. وقد قضي الضباط والجنود أيام الحرب القاسية في ظروف مختلفة عما سيحدث في حرب رمضان أو حرب أكتوبر.. فنحن في شهر يوليو وأيضا أغسطس حيث إن المحاربين يرتدون الزي العسكري الخاص بالحرب، ونراهم في الخيام المفتوحة يعانون أيضا الصيام والحر معاً وقد أعلن صابر في أحد مشاهد الحرب عن التزامه الديني بالصيام، وقد كان في صحبته في هذه الرحلة اثنان من أفراد عائلته جسدهما كل من نور الدمرداش وسناء جميل اللذان شاركا في الحرب أيضا كمتطوعين من الشباب وفعلا ذلك وهما صائمان والذي حدث ان صابر قد دفع حياته في المعارك ودفن مع الجنوب الذين ظلوا صائمين وسط القيظ والقنابل والنهار الصيفي الطويل. وإذا كنا سوف نقرأ أفلاماً مصرية تم انتاجها عن هذه الحرب بمواقع أن ماحدث للجنوب والضباط العرب الذين شاركوا في هذه الحرب كانت متشابهة فسوف نعرف إلي أي حد عاني الجنود، لكن الكثير من الأفلام التي تم انتاجها عن حرب 1948 قامت بتسييس الحرب وجعلت الجيوش العربية خاصة في مصر قد أصيبت بالنكبة لسبب آخر هو ما سمي سياسيا بالأسلحة الفاسدة، وعليه فقد تم تجريد قرابة خمسة عشر فيلما مصريا من الظروف الحياتية القاسية التي عاشها الجنود من أجل التأكيد علي فكرة واحدة ان هؤلاء المتحاربين كانوا يقاتلون بأسلحة فاسدة، ولم نر قط أي إشارة إلي أن المقاتل المصري كان صائما في قيظ أغسطس، وهذه الأفلام جميعها تم إنتاجها بعد قيام ثورة يوليو أي عكس ما حاول فيلم الإيمان أن يرويه. ومثلما تحمست الأقلام لسنوات طويلة بالحديث عن الأسلحة الفاسدة في الواقع فان الكثيرين كتبوا أن الأمر كان مبالغا فيه، وانه كان تبريرا لحدوث الهزيمة الأولي والكبري علي أيدي القوات الإسرائيلية وهو أمر تكرر في حياتنا فيما بعد. الأسلحة الفاسدة علينا أن نري أحداث فيلم «أرض الأبطال» لنيازي مصطفي المعروض في 27 إبريل عام 1953 بشكل مختلف وهو أول فيلم فيه إشارة عن قضية الأسلحة الفاسدة.. والغريب اننا رغم وجودنا أمام فيلم يدور في منطقة حارة للغاية وأن الجنود المشاركين صائمون فان السيناريو الذي كتبه نيازي مصطفي لم تكن به إشارة قط إلي المناخ والوقت اللذين تدور فيهما الأحداث. يعني هذا أنه تم إسقاط شهر رمضان تماما من هذا العدد من الأفلام عن القضية الفلسطينية ابتداء من فيلم «فتاة من فلسطين» الذي عرض في أول نوفمبر 1948 وهو فيلم حربي غنائي وطني تحمست لإنتاجه عائلة محمود ذوالفقار فإلي جانب الإخراج والإنتاج والتوزيع والتمثيل فان عزيزة أمير «زوجة المخرج» هي التي كتبت القصة والسيناريو ولم تشارك في التمثيل بل اسندت دور الفتاة الفلسطينية إلي المطربة اللبنانية سعاد محمد. ضمناً إذا رأينا الفيلم مجددا وهو الفيلم الذي تم ترميمه منذ سنوات قليلة لعرضه في افتتاح مهرجان الأفلام الروائية ولا نعرف أين هو الآن فاننا يجب ان نغلف الرؤية بالمعلومات التي توصلنا إليها، فالشاب المصري الطياري عادل كان صائما حين سقطت طائرته في قرية فلسطينية وتعثر عليه الفتاة الفلسطينية سلمي مصابا في قدمه فتستضيفه ضمن مجموعة من الفدائيين المصريين الصائمين الذين يفضلون الموت علي الاحتلال الصهيوني وتحول سلمي منزلها إلي مخزن للأسلحة ووسط هذه الأجواء الحارة تتوالي أيام وليالي رمضان، وتتعرض القرية للتفتيش في وقت تتنامي فيه قصة الحب التي تتوج بعرس فلسطيني شعبي، ويعود الطيار المصري لاستكمال رسالته في الدفاع عن فلسطين. تم إنتاج الفيلم إبان المعارك العربية ـ الإسرائيلية في صيف 1948 البالغ الحرارة وأثناء حلول شهر رمضان علي الأمة الإسلامية وقد اكتست هذه الأفلام بأجواء الهزيمة الكئيبة وليست هناك إشارة إلي قسوة الحرب أو الجو في فيلم «فتاة من فلسطين» ولا إلي علاقة الناس بشهر رمضان أما الفيلم التالي لهذا التاريخ فهو «نادية» الذي عرض بعد أشهر قليلة من عرض «فتاة من فلسطين» عرض في 7 فبراير عام 1949، ألف قصته وكتب له الحوار يوسف جوهر الذي كتب الحوار للفيلم السابق ومن الواضح ان عائلة محمود ذو الفقار تكرر تبنيها السينمائي لقضية فلسطين، لكن موضوعنا ان أحداث الفيلم تدور أيضا إبان شهر رمضان للعام الهجري 1371 حول فتاة تهب حياتها لتربية أخويها فيتخرج أخوها في الكلية الحربية كضابط طيار ويموت شهيدا في رمضان في العام المذكور، وذلك دون أي إشارة من الفيلم إلي أننا في شهر رمضان والجدير بالذكر أن حرب فلسطين حسب هذا الفيلم ليست قصيرة المدة مثل حرب أكتوبر فقد بدأت المواجهة فور إعلان إسرائيل كدولة واستمرت المعارك لعدة أسابيع. تجاهل المناسبة وأغرب ما في هذه التواريخ والحروب ان حرب فلسطين 1948 قد عولجت في الكثير من الأفلام، لكن كل الكتاب لم يقوموا بالإشارة إلي أننا في شهر رمضان بالمرة مما يعني ان السينمائي المصري قد تجاهل المناسبة الدينية من ناحية وأيضا حلول هذه المناسبة مع ارتفاع درجة الحرارة أي أن المحاربين العرب خاصة المصريين كانوا يواجهون ظروفا إنسانية صعبة الصيام، الصحراء، الأسلحة الفاسدة، وعدم التدريب وقد انتهي كل هذا بنكبة لايزال العرب يدفعون نتائجها حتي الآن. لذا يجب مشاهدة هذه الكم من الأفلام برؤية مختلفة باعتبارها أعمالاً ناقصة ذات قصدية محددة من هذه الأفلام «أرض الأبطال» لنيازي مصطفي السابق الإشارة إليه الذي اهتم بموضوع الأسلحة الفاسدة وأغلب أحداث هذا الفيلم تدور في صيف 1948، فهناك شاب يتطوع في الجيش المصري، ويسافر إلي مدينة غزة وهناك يقع في غرام فتاة فلسطينية يتحابان ويتفقان علي الزواج، وليست هناك إشارة إلي أن الأحداث أو بعضها تمر بشهر رمضان من عام 1371، لكن الضابط يصاب في الحرب إصابة تكون سببا في أن يفقد البصر ويعرف أن أباه هو من قام بتوريد الأسلحة الفاسدة وتدور مواجهة بين الأب وابنه وتنتهي الأحداث بانتحار الأب. نيازي مصطفي كاتب الفيلم ومخرجه كان يعرف جيدا مثلما كان أحمد بدرخان يعرف أن الجنود المصريين في صيف 1948 حاربوا وهم صائمون في شهر رمضان وهذا هو الفارق بين مخرج وآخر، بل هو الفارق بين المخرج نفسه بين عهد وآخر حيث ان الضباط الأحرار الذين شاركوا في حرب 1948 في فيلم «الله معنا» لبدرخان أيضا لم تكن هناك إشارة فيما بينهم إلي أنهم صائمون أثناء حرب الأسلحة الفاسدة وبدا بدرخان كأنه ينقلب علي نفسه فالحدث الرئيسي في فيلم «الإيمان» كما أشرنا أن المصريين كانوا صائمين في هذه الحرب، أما عندما تم تسييس الحدث فقد تم التركيز علي موضوع السلاح الفاسد أكثر من القدوم علي الحرب بقلوب مؤمنة، ومسلمون صائمون يدفعون أرواحهم للشهادة في الحرب. صيف ساخن الأمر نفسه تكرر في أفلام أخري علي مدي أكثر من ستين عاما، منها «رد قلبي» الذي رأينا في أحداثه الضباط الأحرار أيضا يقاتلون الصهاينة في الصيف القائظ لهذا العام وتجدد الأمر في فيلم دارت أحداثه بأكملها في هذا الصيف الساخن دون أي إشارة إلي أن ما نراه من أحداث تدور برجال ونساء يعيشون في شهر رمضان 1371 هذا الفيلم هو «طريق الأبطال» إخراج محمود إسماعيل 1961 وهو فيلم مختلف في صياغته في مسيرة المخرج الذي افترض أغرب افتراض في الحروب العربية الإسرائيلية، حيث ان النصر في رأيه كان مكتوبا للقوات العربية المتحاربة، حين تأهب الضابط الكاتب لرفع راية النصر وسط القوات المنتصرة إلا أن جنديا صهيونيا مصابا قام بإطلاق النيران نحو الضابط المصري، فصرعه هكذا كتب النصر للصهاينة وهي معالجة ساذجة والغريب أيضا أن السيناريو الذي كتبه المخرج عن هذه الحرب لم يشر إلي أن هذه الحرب دارت بين طرفين، أحدهما دفع بجنود صائمين تدفعهم عقيدتهم وإيمانهم، أما الصهاينة فلم يأبهوا بمسألة ان تدور الأحداث في شهر الصوم. ومن هذه الأفلام أيضا التي لم تأبه بالجو الحار ولا بشهر الصيام التي شهدتها السينما هناك «وداع في الفجر» لحسن الإمام 1956 و«من أحب» لماجدة 1965 ثم «الأقدار الدامية» لخيري بشارة، فهذا الفيلم مثلا لو أن مترجمه يعرف الأجواء الدينية والمناخية التي عاشها المصريون إبان صيف 1948 لتغيرت الأحداث كثيراً حيث إن هناك علاقة محرمة بين الأم حورية وبين الكابتن كمال وسرعان ما تعرف الابنة طبيعة العلاقة الممنوعة بين العشيقين، حيث إن «علية» تتحرش بكمال وتبلغ أخاها سعد بطبيعة العلاقة بين أمها وبين الكابتن كمال ويتمكن الاثنان من قتل العاشق، أي أنه دون ان يدري كاتب السيناريو علي محرز، ففي شهر الصوم في صيف 1948تحت خيانة زوجية وارتكب اثنان من الإخوة جريمة قتل وكانت النتيجة ان الأم الخائنة ماتت منتحرة. العاشر من رمضان هذه هي المجموعة الأولي التي دارت أحداثها في حرب 1948 في فترة الصوم، أما المجموعة الثانية فإننا نطلق عليها مسمي «أفلام العاشر من رمضان» حيث انها معروفة في مكان زمني آخر بأفلام حرب أكتوبر حيث كان ذكاء أنور السادات كما أشرنا هو تسمية الانتصار بتاريخين الأول ميلادي والثاني هجري وطوال أربعين عاما تقريبا من السنوات الهجرية كان الاحتفال السنوي ثقافيا ورسميا يخص شهر أكتوبر فقط وعليه فقد تم محو بعض مما يخص الثقافة الدينية لهذه الحرب فكلنا يذكر جيدا ان الجنوب والضباط المصريين في ذلك اليوم كانوا صائمين حتي قبل العمليات وكاتب هذه السطور شاهد علي بعض ماكان يحدث في جبهة القتال بالبحر الأحمر مثلا حيث دخلت مجموعات من الجنوب عن الوحدة قبل الحرب بخمسة أيام في وحدة الإشارة التي كنت مجندا بها وقد ظلت المنطقة العسكرية في حالة صيام طوال الشهر أو بالضبط طوال العمليات العسكرية. وعليه فمن المهم ان نتعامل مع كل الأفلام التي تم انتاجها عن حرب أكتوبر باعتبارها أيضا عن حرب العاشر من رمضان وهذه الأفلام يجب أن تتم مشاهدتها بتوقيت جديد حيث ان الكثير منها قد ألغي أهم توقيت عند المصريين، كما أن زهو المصريين في هذه الحرب انهم قاموا بعبور قناة السويس وهم صائمون وان قوة الصيام قد منحتهم قوة النصر، والملاحظ أن بعض هذه الأفلام قد فاخرت بصيام المصريين، وانهم كانوا من خلال هذا الصيام يمتلكون قوة روحانية ملحوظة دفعت بهم إلي النصر حدث هذا في الأفلام التي بدأ عرضها بمناسبة مرور السنة الأولي علي انتصار أكتوبر، كان شهر رمضان لايزال في المنتصف في عام 1974 هذه الأفلام هي: «الرصاصة لا تزال في جيبي» لحسام الدين مصطفي و«الوفاء العظيم» لحلمي رفلة اللذين عرضا في السادس من أكتوبر 1974 أي في السادس عشر من رمضان في ذلك العام تم عرض فيلم «بدور» لنادر جلال في 14 أكتوبر 1974 و«أبناء الصمت» لمحمد راضي في 16 نوفمبر 1974، ويعني ذلك ان السينما احتفلت بالحرب بشكل مكثف في العهد الأول للحرب وباعتبار أن هناك حوالي أحد عشر يوما هي الفارق السنوي بين السنة الهجرية والسنة الميلادية، فان أجواء رمضان ظلت تخيم علي الاحتفاليات طوال عامين متتالين ففي الخامس من أكتوبر عام 1975 عرض فيلم «حتي آخر العمر» لأشرف فهمي مما يعني ان الاحتفالية بدت مكثفة في العيد الأول لحرب العاشر من رمضان، وقد بدا الأمر هنا مبهجا، يستحق الاحتفال به علي أكثر من وجهة هجري وميلادي طالما أنه مطهو بطعم العنصر، بعد ثلاث مواجهات سابقة مع إسرائيل كانت الهزيمة هي الطعم الأشد مرارة للجنود المصريين من ناحية، وبدأ كأن الجيش العربي يتذوق النصر الحقيقي بعيدا عن زعم حول أسلحة فاسدة، أو عدوان خاطف، وبالنظر إلي الأفلام التي تم انتاجها عن حرب رمضان 1371، ثم عن حرب رمضان 1395 هـ نكتشف أن الأولي أفلام سياسية في المقام الأول، أي أننا عرفنا بعض الدهاليز السياسية التي أثرت علي الحرب، من مواقف الملك أو الوزراء الذين ساندوا تجار الأسلحة، ثم حدوث الهزيمة. العبور أما الأفلام التي صورت عن العاشر من رمضان فأغلبها له طابع عسكري أكثر من طابع سياسي، وقد بدا القرار السياسي بعيدا عن الحدث الدرامي وعشنا في هذه الأفلام مع رجال الجيش الذين أدوا الواجب علي خيرما يكون، وعبروا من الهزيمة النفسية، والعسكرية إلي النصر الاجتماعي والسياسي والعسكري. كما أن هناك ملحوظة مهمة للغاية، وهي أن بعض النصوص الأصلية التي أخذت عنها هذه الأفلام كانت مكتوبة في المقام الأول تعبيرا عن مرارة النكسة، وما أصاب الجيش والناس، عقب الهزيمة التي لحقت بالمصريين في سيناء، وفي المطارات المتناثرة فوق الأرض المصرية، مثل رواية قصيرة كتبها احسان عبدالقدوس بعنوان «الرصاصة لاتزال في جيبي»، نشرها أولاً في صحيفة أخبار اليوم، ثم صدرت في مجموعة بعنوان «لا أستطيع أن أفكر وأنا ارقص» عام 1973، أي قبل حرب العاشر من رمضان بعدة أشهر. وعندما عبر المصريون قناة السويس، بدت الرواية القصيرة كأنها تكمل جزءا مهما ناقصا في القصة، لأنه من المهم أن تكتمل أحداث الهزيمة بانتصار اجتماعي وسياسي وعسكري، ونحن نتوقف عند هذه النقطة، لأنه في الفيلم هناك مشهدان بالغا الأهمية في حياة الجندي محمد عبدالكريم، المتعلم الشاب، الفلاح الذي شارك في الحربين معا، كان عليه أن يعود إلي قريته، في المرة الأولي مكتسبيا بالهزيمة، وفي الثانية رافعا راية النصر، فبعد الهزيمة يركب القطار، ويتعرض لسخرية بعض ركاب القطار بشكل مباشر، ويوجهون له الاهانات ضد ما لحق به من عار، فلا يملك القدرة علي الرد، أما في المرة الثانية، فإن ركاب القطار نفسه يتبادلون معه التهاني والمشاعر النبيلة، فهو رمز لما تحقق للوطن من هزيمة في المرة الأولي، ثم ما حققه مع زملائه من انتصار في شهر رمضان وهم صيام جميعا، ولاشك أن هذا يعكس ظاهرة اجتماعية كانت تحدث بشكل مكثف للجنود والضباط بين عامي1964 و1967 أي بين زمن النكسة، وزمن عرض الفيلم. الحرب المفاجئة وقد توقفنا عند الجانب السياسي في هذه الأفلام لسبب مهم، وبارز وهو أن اندلاع الحرب بشكل مفاجئ، وذلك بعد فترة انتظار طويلة وحرب استنزاف مرهقة، وقلق اجتماعي واحساس عام بالاحباط، وقد ولّد نوعا من الرضا السياسي علي المستوي الشعبي واكسب ذلك القيادة السياسية شعبية كبيرة، وإن كان ذلك لم يتضح سينمائيا علي الأقل في المجموعة الأولي من الأفلام التي عرضت في العيد الأول لحرب العاشر من رمضان. ففي كل هذه الأفلام لم تكن هناك اشارة إلي صانع قرار الحرب أنور السادات، ولم تظهر له صورة في أي من هذه الأفلام، وفي مقال نشره مجدي فهمي عن «الرصاصة لا تزال في جيبي.. تحدث الناقد عن حالة الجيشين التي أحس بها الناس قائلا: وفي القلب كان جرح وفي الجرح كان عمق والجراح العميقة تتطلب وقتا أقل كي تشفي، وتحتاج عناية حتي لا تسري العلة في الجسد كله، فالتسمم قد يكون نتيجة جرح صغير أهمل والجرح الذي يحتوي علي صديد لا يندمل لابد من تنظيفه وتطهيره أولا. هذه جراح الأجساد وأصعب منها جراح النفس، مدتها قد لا تكون عمرا بأكمله، من آثارها قد تكون أبدية وإن لم ترها عين، واقسي منها جرح الأوطان، جرح الوطن ينزف من كل قلب ويؤلم كل فرد الوطن الجريح لا يصرخ، وانما الصراع يكون في حناجر الشعب، صراخ جماعي محموم حتي لو لم يكن مسموعا. «وجرح الوطن جريمة، طعنة غادرة استقرت في ظهرها عام 1967 قالوا إنها نكسة وقالوا إنها هزيمة معركة وليست خسارة حرب، وقالوا.. وقالوا. ولكن مصركانت جريحة لا تهم التسمية وانما المهم هو ذلك النزيف الذي اصاب قلب مصر ووجدان مصر وكل مصر». هذا قليل من فيض عبَّر الناقد من خلاله بفرحته بفيلم عن حرب العاشر من رمضان، الفيلم بطله الرئيسي من قرية في الدلتا المصرية، والقرية في الكثير من الأفلام المصرية ترمز إلي صورة مصغرة من الوطن، متدينة متحابة ويمكن أن يكون بها مواطن طاغية من طراز عباس. المدمرة إيلات أبطال فيلم «أبناء الصمت» أيضا هم من أهل القرية المصرية، والفيلم كتبه مجيد طوبيا، وتبدأ أحداثه في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1967، حين أغرق المصريون المدمرة الإسرائيلية إيلات، وتستمر الأحداث إلي أيام الاستنزاف وما بعدها حتي العاشر من رمضان، وتحطيم خط بارليف، حيث تقوم مجموعة من الجنود في تحركات مع قائدهم يعطي القائد بعضهم إجازات مؤقتة مع بداية شهر الصوم، منهم مجدي الجندي الذي يعود إلي القاهرة للقاء خطيبته نبيلة الصحفية صاحبة المبادئ، التي تواجه رئيس التحرير الانتهازي، الذي لا يحس معاناة الشعب تنتهي إجازة مجدي، كما يعود صابر الصعيدي من إجازته، ويعرف ماهر أن زوجته حامل، تبدوالقاهرة كأنها انفصلت تماما عما يدور للجنود والضباط في الجبهة، عندما تقوم الحرب، ويتم العبور يدفع مجدي حياته، وتكتب نبيلة موضوعا عن الشهداء. وتدور أحداث الفيلم بأكمله في الثكنات العسكرية وملاجئ الجنود والضباط وكان عليه أن يخرج بعض الوقت من هذه الأقبية، أو أجواء القتال من أجل إضفاء حس إنساني لابطاله، ولعله الفيلم الأول الذي يدور في هذه الأماكن، بشكل أكثر كثافة عن بقية أفلام حرب العاشر من رمضان، وسوف يتكرر الأمر بالصورة المقاربة في فيلم «العمر لحظة» عام 1978 للمخرج نفسه محمد راضي. إذن فجميع الأفلام التي تناولت هذه الحرب منذ بدايتها تدور بالتالي أثناء شهر رمضان علما أن حرب رمضان قد بدت كأنها استنفدت أهدافها، فالحرب نفسها قصيرة المدة الزمنية علي خلاف ما حدث مثلا في الحرب العالمية الثانية التي استغرقت ست سنوات من شعوب متعددة الهوية في أوروبا، وآسيا وافريقيا والولايات المتحدة الأمريكية وقد كانت الحرب مثلا حدثا رئيسيا في فيلم «كتيبة الاعدام» لعاطف الطيب 1989، لكن كان شهر رمضان قد انصرم، فالفيلم تدور أحداثه بعد حدوث الثغرة، ويجمع رجال المقاومة الذين رفضوا الهجرة بعيدا عن مدينة السويس.

جريدة القاهرة في

07/08/2012

 

«طريق العودة».. السعي وراء اللاشيء

بقلم : أمنية عادل حسن 

الوحدة.. العزلة.. الطريق ...العودة.. الحب.. الشوق.. الشغف.. القتل.. الحرب.. الموت.. العدم.. الهروب.. الاحباط.. الأمل.. جميعها معان يفجرها فيلم " طريق العودة " لإيهاب حجازي هذا الشاب المصري الذي طار لروسيا لدراسة السينما ليعود ويبهر العالم بفيلمه "طريق العودة ". التناول الأدبي إن قيام عمل سينمائي مستند علي عمل أدبي خاصة لروائي مثل " تشارلز ديكينز " هو في ذاته سلاح ذو حدين لأنه يمكن أن يضع المبدع داخل نظرة العمل الأدبي لا أكثر ويحد من ابداعه ورؤيته، وهناك مبدع آخر يضعه العمل الأدبي في تحد ليصل من خلاله لرؤيته الخاصة وبهذا يصبح العمل الأدبي مجرد وسيط بين المبدع ورؤيته، وهذا ما فعله حجازي خلال اقتباسه من قصة ديكينز . يستقي إيهاب حجازي عمله من خلال فكرة النص الادبي للروائي البريطاني " تشارلز ديكينز " وقصته " قصه طفل " والتي توافق فكرة العودة والطريق كما يسلكه حجازي في فيلمه، فلابد من إلقاء نظرة عميقة بعض الشئ علي العمل الأدبي لديكينز . لا يمكن حجر فكرة لأحد عن الآخر ولكن ديكينز يعبر عن الأنسان من خلال رحلته في الحياة، حبكة العمل تقوم علي مسافر يجوب الأقطار باحثا عن اللاشيء لكنه يلتقي أشخاصا أولهم طفل يدعوه لللعب لكن بعد وقت يختفي الطفل وثانيهم صبي كل ما يفعله هو الحب فيلتقي فتاة أحبها ولكنهما اختفيا أيضا في يوم واحد، يسير بعد ذلك ليري رجل في منتصف العمر ليسأله ماذا تفعل؟ أجاب أعمل هنا دائما، لتعمل معي وجاءت زوجته وأولاده ليساعدوه في العمل ولكن في لحظة اختفي كل هذا من حول الرجل ليتحول شعره للرمادي لكنه يظل يعمل لأنه لا يمكنه التوقف، تركه وسار فوجد رجل عجوز يجلس علي شجرة فسأله ماذا تفعل ؟ فأجاب: أتذكر لكن الأمر لم يدوم . يستخدم ديكنز تيمة عالمية وهي فصول السنة من خلال لقائه يعبر ديكينز عن مختلف مراحل الحياة التي يحياها الانسان فيبدأها باللهو واللعب في الصغر ويسير ليجد الشباب والحب لكنه لا يدوم طويلا ليأتي بعده الجهد والكدح وينتهي مع الشيخوخة ولا يتبقي من الحياة سوي الذكريات ، فصول السنة هذه التيمة العالمية تضفي علي العمل بعدا إنسانيا عميق ومن هنا استقي حجازي مما هو عالمي ليحوله لرؤية خاصة محلية بدولة كروسيا إلي جانب احتفاظه بالبعد الإنساني من خلال رصد مراحل حياة شاب روسي. تقنيات سينمائية تناص حجازي مع النص الأدبي لديكينز وأوضح ذلك سواء علي المستوي الضمني المفهومي وكذلك علي المستوي البصري، فعلي المستوي الضمني كما ذكرنا سابقا تيمة الفصول، كذلك فكرة السير ورحلة الحياة، فالطريق مشترك ما بين البطلان - القصة والفيلم- فكل منهما يبدأ من النهاية، كذلك كذلك كل منهما هائم علي وجهه في الأرض ولا يعرف مكانه .. فقط الطريق هو مكانهما . مسألة الطريق هي من أهم العناصر النتاص خاصة لأن العمل لدي حجازي قائم علي العودة وهي طريق في ذاته، لهذا يظل يسير إلي ما لا نهاية وهذا ما يصدره في الفيلم في النهاية فطريقه مازال طويلا وغير واضح المعالم. كذلك يوضح حجازي مسألة الزمن واللعب به بشكل بارع من خلال التداخل الزمني والذي ينفي صفة الترتيب المنطقي للحدث لكنه يخلق في النهاية رؤية متكاملة وخاصة، فيمزج بين الماضي والحاضر في انتظار مستقبل مجهول، كذلك هو حال بطل قصة ديكينز . فيتلاعب بالسرد بما يتوافق مع فكرة الاستياق من الذاكرة بحسب الحدث المناسب لها . لكن هناك فرق يختلف في التناول السينمائي وهو الراوي الذي استعان به حجازي في عمله، فالراوي هنا هو البطل ذاته، وبهذا نحن بصدد رؤية ذاتية وخاصة فنري بعين البطل ونسمع بأذنيه وبهذا فهو يضعنا داخل خياله وذاكرته لانها ذكرياته الخاصة . قضايا وموضوعات تطرق حجازي للعديد من الموضوعات ، لأن ديكينز يتناول الحياة بمنظور تشاؤمي من خلال التأمل في الوجود الإنساني، فحجازي ينظر للإنسان في إطار المجتمع المحيط به ومدي تأثيره عليه، لهذا لابد من التواصل مع المجتمع الذي يدور في فلكه، فيطرح شخصية شاب روسي ومراحل حياته بما تحويه من تقلبات، نتيجة لما طرأ علي المجتمع الروسي من ملامح جديدة كالعولمة والاحباطات السياسية وتراجع دورها عالميا مما انعكس بدوره علي المواطنين فظهرت ملامح عدة منها انعدام الهوية والبطالة وحقد والجريمة، ليظهر مجتمع مشوه بالنهاية فماضيه تلاشي وحاضره تحطم ومستقبله مجهول . وحتي نقرأ الفيلم بشكل صحيح وكامل لابد من معرفة الظروف التي نشأ بها هذا الشاب ونبدأها من نهاية الحرب علي أفغانستان والتي عاد والده من حرب دامت عشر سنوات من 25 ديسمبر 1979 : 15 فبراير 1989، نتائج هذه الحرب غيرت ملامح خريطة العالم وبالتالي دوله كروسيا، في هذا الوقت كان يطلق عليها "الاتحاد السوفيتي" ولم تكن هزيمة الروس في الحرب علي الافغان هي اللطمة الأخيرة لكنها كانت بداية طريق النهاية لهم والذي أنتهي في 25 ديسمبر 1991 بتفتيت الاتحاد السوفييتي . كما يسرد البطل يعود الأب من حرب دامت عشر سنوات وهو لا يعرفه فمن خلال الحرب يطرح قضية هامة وهي العزلة ما بين الحيل الأول - الاباء- والجيل الثاني - الأبناء- وبهذا تقتل أي صلة فيما بينهم وتصبح علاقة متوترة لا يعرف فيها كل منهما الآخر، وهنا يفقد الابن التوجيه الأبوي، فيظل وحيدا وكذلك دور الأب لديه فارغ دائما . كذلك يعود الأب محمل بروح الهزيمة وذكريات بائسة ينغلق عليها، فلا أمل أو عمل وكما ما لديه هو ذكريات وبذلته العسكرية والتي تعزله عن العالم وحينما يصدم بالواقع ينهار وينكمش داخل عالمه الصغير لأنه يكتشف غربته عنه ويتسأل إين بلادي وحياتي ؟، لهذا يتمسك اكثر بماضيه وهذا ما تبقي له . أما الابن فنجده تائها في عالم كبير منهار يدفعه دفعا للجريمة فالبطالة هي الطريق أمامه ولا مجال للحب لأنه يعد من الرفاهيات لهذا يتجه للجريمة وتظل هي السبيل الوحيد والذي يذكره البطل أنه كالمستنقع كلما نزلت به تغرق ولا مجال للعودة . فتولد عن هذه الظروف نموذجان من المواطنين الأول عاجر عن الفعل لهذا يهرب وينغلق علي ذاته وتصبح حياته مجرد ذكريات في محاولة منه لعدم الانغماس في الواقع المألم، وآخر يهرب للواقع ويغرق به حتي لا يكون هناك مجال للعودة، وفي الحالتتين هما شخصان محطمان لا يمكن بناء مجتمع صحيح من خلالهما، فلا العزلة أو عالم الجريمة هو طريق لبناء المجتمعات. من أهم القضايا التي يطرحها حجازي في الفيلم هي قضية الإيمان والاعتقاد التي يقع بها المجتمع الروسي، فلم يكن تفتيت الاتحاد السوفيتي فعل سياسي فحسب وإنما أثر علي جميع مناحي الحياة وكذلك الأفعال، فبعد العيش في عام لا يعترف بإله إلي عالم يصبح الإله جزءا منه، لا يمكن لشخص أن يسير علي درب ويغيره في لحظة، مما يخلق ازدواجيه بداخل هذا المجتمع، فرغم محاولات الثبات لكن المعوقات كثير . لا ينظر حجازي لروسيا كدولة في مصاف الدول الكبري وإنما ينظر للمواطن الروسي وما آل إليه في هذه الظروف، لهذا تبرز معاناته ورحلته في الحياة والتي تمثل رحلة ضياع وليست حياة، فالضباب يغيم علي هذه الحياة كما هو حال البطل . كذلك كما طرح ديكينز بطله دون أسماء لتدعيم البعد العالمي فعل حجازي مع بطله فلا أسماء أو ألقاب لا سوي هو ذاته وبهذا فهو يعكس حال جميع مواطني روسيا وليس فرض بعينه . قضايا واقعية برؤية سيريالية رغم الغرق في الواقعية وطرح قضايا معاشة داخل المجتمع ولكنه يضفي عليها لمسة فنية تلائم ما يطرح فالرؤية السيريالية في ذاتها تهتم بالذات والنفس التي تعبر عن ما بداخلها وهذا ما فعله حجازي . من خلال خلق حالة الحلم والتذكر والغرق في الذاكرة عن طريق مواقف غير متصلة بخط زمني واحد لكنها مكملة لبعضها فيخلق في النهاية كولاج للوحة لا نفهمها حتي نجمعها، ولم يتوقف الأمر حد السرد وإنما تطرق لجماليات الصورة المرئية، فاستخدم أسلوب الرسوم المتحركة غير الواضحة في بعض الأحيان مما يدعم الغموض والترقب طوال العمل، فهناك دائما مجهول. اتسمت الصورة بالتجانس والتناغم فاللعب بالألوان خلق حالة تلائم كل لحظة فهناك مشاهد تغيم العتمة عليها وتدعم حالات الترقب وكذلك مشاهد الجريمة ، وأخري بها الألوان زاهية خاصة في مرحلة الطفولة ومشهد البحر، مما يعكس البهجة والتي تتلائم مع هذه المرحلة. اتسمت الصورة بالحساسة الشديدة خاصة في استخدام الكاميرا وتنوعها في اللقطات والتي عبرت وأوضحت كل المشاعر التي تحملها المشاهد . تضافر هذا مع عمل المونتير وربطه للمشاهد معا والذي لعب دورا هاما في تحديد إيقاع العمل، رغم قصر مدة العمل وهي 38 دقيقة لكنه طرح موضوعات مهمة وكثيرة استعرضها بشكل عميق ومكثف . استخدم حجازي جزء من الفولكلور الروسي وهو "الغجر" وغنائهم ويوظف عملهم المشتهرين به وهو التبصير في مشهد مهم لحظة قراءة الغجرية طالعه ونعرف في النهاية أنها والدته ليس إلا . لكن عودته لهم تعد عودة للجذور والأصول. لا يمكن إغفال التمثيل في العمل والذي كون روح العمل ككل بالتضافر مع عناصر العمل كاملة، بداية من الراوي والذي كون خلفية للحدث المرئي، لعب "إيهاب حجازي" دور البطولة ونجح في عبور حواجز اللغة م خلال عملية الدوبلاج والذي تضافر مع عمل الممثليين، كما حدث في دور الأب والذي لعب دوره " أشرف سرحان " وهو ممثل مصري، رغم تنوع جنسيات القائمين علي العمل لكنه أوضح البعد الإنساني وعمقه أكثر . يتسم العمل بلحظات مميزة وهي لحظات الصمت والتي تزيد من حالة الترقب والتأمل في اللحظة الحالية والتعمق بها وكذلك تدعم خيال المشاهد لما يراه أمامه . لعبت الموسيقي لـ"فيكتور أجرانوفيتش " دور مهم رغم عدم وجودها كثيرا وهذا يدعم التفكير وتحفيظ عقل المشاهد لكنها كانت مؤثرة في لحظاتها وتنوع استخدام الالآت بحسب المواقف والحالة فمثلا في لحظات الطفولة استخدم الآت وترية مرحة، علي عكس الالآت الإيقاعية في مشاهد الترقب والجريمة . لا نستمع لأصوات خارجية فنحن داخل ذاكرة البطل التي تتذكر الحدث ذاته وليس ما يحيطه من أجواء . إنجازات يعد حجازي من الوافدين الجدد علي العمل السينمائي فرغم حبه للفنون منذ الصغر وتخرجه بعد ذلك كلية الفنون الجميلة جامعة الاسكندرية عام 1999 بعد التخصص في الفنون التعبيرية للسينما والمسرح، لم يكتفي وسافر لروسيا لدراسة الأخراج السينمائي علي يد المخرج الروسي الشهير " فلاديمير خوتينينكو" . قهو مخرج ومنتج وكذلك بطل العمل الذي نحن بصدده ألآن " طريق العودة" لكنه حقق الكثير من الأمور وهذا يظهر في الجوائز التي حصدها العمل ومنها جائزة ابتكار في السينما من قصر السينما في مصر في مايو 2011، إيضا حصل علي الجائزة الفضية في مهرجان كاليفورنيا في أطار مسابقة أفلام الطلاب، إلي جانب مشاركته في أطار مهرجان جوته للسينما المستقلة مايو 2011، وإيضا غلين روز السينمائي في تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2011 . مع اللحظات الأخيرة التي نشهدها بالفيلم نظل نفكر هل سيصل البطل لطريق لعودته فعلا ؟ هل سينجح في العودة؟ ما الخطوة الأتية؟، الفعل هي أسئلة هامة تطرأ علي عقلية مشاهدة الفيلم كما هو حال السينمائيين الذين يتسألون ما هو الآتي من إيهاب حجازي، خاصة بعد البداية القوية التي شهدتها السينما بفيلمه "طريق العودة".

جريدة القاهرة في

07/08/2012

 

 

«الليـل الطويل» .. يتجاوز الخطوط الحمراء

بقلم : آلاء لاشين 

"الليل الطويل "من الأفلام التي تعبر عن مدي ضياع وإهدار حقوق الإنسان ليس في القطر السوري الشقيق فقط ولكن في أي مكان وزمان.. الفيلم يدافع عن حقوق السجناء السياسيين في سوريا في محاولة لإلقاء الضوء علي البعد الإنساني لقضية السجناء السياسيين. لجأ الكاتب والمخرج هيثم حقي الي الرمز وابتعد عن المباشرة في تناول أحداث فيلم " الليل الطويل "هربا من الرقابة إلا أنها لم تبال بقدرات الفنان الإبداعية ومحاولته الإفلات من مقص الرقيب الجائر فقررت منع الفيلم من العرض العام في سوريا. ورغم ذلك فقد امتاز الفيلم بالجرأة في عرض الواقع السياسي السوري والعربي. المخرج ومجموعة كبيرة من نجوم سوريا الذين يحملون افكارا ثورية ويؤمنون بحرية التعبير عن الرأي مما يدفعهم الي تجاوز جميع الخطوط الحمراء وتحدي السلطة لكسروا حاجز الخوف باتحادهم وتكاتفهم وتقديمهم هذا العمل غير عابئين بقهر النظام وارهابه لمن يعبر عن رأيه كما حدث لبعض الفنانين من ابناء وطنهم كرسام الكاريكاتير السوري (علي فرزات) الذي قطعت اصابعه نظرا لرسمة رسومات تعارض النظام والفنان الشاب السوري «إبراهيم قاووش»، الذي هتف بسقوط النظام وقدم اناشيد واغاني ثورية فقاموا بذبحه بسكين بارد ونزع حنجرته وغيرهم فالنظام السوري لا يحترم الفن وحرية الابداع بل يتعامل معه بمنتهي الوحشية والدموية والقهر الذي أدي الي منع عرض الفيلم في سوريا وإن كان سوف يري النور قريبا في مصر. ردود أفعال أربعة من سجناء الرأي السياسيين يطلق سراح ثلاثة منهم ويتم التحفظ علي الرابع تعلم أسر السجناء بالافراج عنهم. وتبدأ ردود أفعال العائلات في استقبال ذويهم في جو مليء بالارتباك والقلق وفي ظل طقوس وتحذيرات كثيرة لا تنتهي واستعادة تفاصيل من الماضي لها علاقة بهؤلاء المعتقلين. برغم الجرأة التي امتاز بها الفيلم من خلال تطرقه لهذا الموضوع الا أن السيناريو الذي كتبه هيثم حقي جاء غير مباشر حيث إن السياسة قلب هذا السيناريو ومحوره ولكنها تأتي عن طريق عبارات علي لسان الابطال، فالفيلم يريد بطريقة غير مباشرة إعادة النظر في أوضاع السجناء السياسيين من خلال فتح ملفات هؤلاء المفكرين والفنانين الذين أهدرت حقوقهم ودمرت حياتهم داخل المعتقلات. فتاة حائرة أمل عرفة قدمت دور (عروبة) الفتاة الحائرة بين عائلتها وزوجها دون تكلف وبتلقائية فقد أظهرت احساسها بالفرح لسماعها نبأ الإفراج عن والدها وفي نفس الوقت خوفها وارتباكها من مواجهة أبيها لأنها سوف تفتح أبوابا من الماضي مضي عليها أكثر من عشرين عاما . واثناء انتظارها عودة الأب قدمت أداء وتعبيرات وجه جيدة ممزوجة بإحساس بالقلق والفرح والذنب في آن واحد وجاء مشهد تبريرها لما حدث ومحاولتها اصلاح الماضي مع الحاضر بطريقة عفوية خالية من الانفعالات في الأداء. باسل الخياط قدم دور (كفاح) الابن المؤمن بمبادئ وأفكار والده السجين السياسي بإحساس صادق، فهو رافض لما يحدث حوله من انتهاكات لحقوق الإنسان إلا أنه أيضا يكتشف أنه مثل شقيقته مجاورا للسلطة عن طريق خطيبته التي تعمل عند زوج أخته، وقد جاء رد فعله في هذا المشهد جيدا وهو الانسحاب من الحوار والجلوس مع ذاته ليفكر فيما حدث فهو لم يستخدم فيه سوي تعبيرات وجه بسيطة معبرة عن الغضب بطريقة سلسة. وجميع أبطال الفيلم من خالد تاجا وحسن عميتي وزهير عبد الكريم ورفيق سبيعي وجرجس جبارة جاء أداؤهم جميعا بشكل طبيعي صادق معبرين عما هم فيه من القلق والارتباك اللذين تسبب فيهما خبر الافراج عن المعتقلين. تعبير موسيقي الموسيقي التي وضعها كنان ابو عفش استخدمت هنا بطريقة صحيحة وجيدة فهي عبرت عن الحدث المعروض فقد كانت مصاحبة لبعض المشاهد وليست طوال الفيلم سردت حدثا بعينه واوصلت احاسيس معينة للمشاهد يريدها المخرج كمشهد سقوط المطر علي الأب المسجون منذ عشرين عاما كان مشهدا معبرا عن الحرية وعن مدي حرمانه من تلك الحرية والانطلاق في احضان الطبيعة، فكانت الموسيقي هنا هي التي تسرد الحدث ونقلت الاحساس الذي يريده المخرج للمتفرج . دراما تليفزيونية حاتم علي يعتبر فيلم الليل الطويل الفيلم الروائي الثالث في تاريخه السينمائي فهو له تجربتان غير هذا هما "عشاق" و"سيلينا" . جاء تصوير الفيلم أقرب للدراما التليفزيونية والايقاع رتيبا والصورة تفقد العمق والحيوية التي تمتاز بها الصورة السينمائية، الا أن كل هذا جاء في النهاية في صالح الفيلم . الليلة التي يتحدث عنها الفيلم هي بالفعل أطول ليلة قضاها المعتقلون واسرهم، والخلل الذي حدث بالفيلم جاء مناسبا للسيناريو, واختياره لليل كزمن واقعي ورمزي في آن واحد كان ملائما للقصة كما أن ادارته للممثلين كانت جيدة فالفيلم قدم بشكل فني تلقائي سواء كان تمثيلا او موضوعا . لكن يجب أن يأخذ المخرج في عين الاعتبار مشكلة عدم احساسه بالفرق بين الكادر السينمائي والتليفزيوني من خلال الأحجام والعمق ويحاول أن يتغلب علي هذه المشكلة في افلامة القادمة ويرجع ذلك لكثرة اعمالة الدرامية فهو مخرج تليفزيوني معروف قدم اعمالا ناجحة كالملك فاروق وملوك الطوائف وربيع قرطبة وغيرهم من الاعمال الدرامية، وسيظل فيلم الليل الطويل من أهم الأفلام التي حاولت أن تتطرق لموضوع جريء يصعب في المجتمعات العربية التحدث عنه فالاقتراب من حياة السجون السياسية محظورة ولذلك منع عرض هذا الفيلم في سوريا . وسوف يعرض فيلم الليل الطويل ضمن فعاليات مهرجان الإسكندرية السينمائي المقبل في دورته الثامنة والعشرين تحت شعار السينما وحقوق الإنسان، بينما يعرض في مهرجان الغردقة للسينما الآسيوية في دورته الأولي ضمن قسم أفلام تتحدي الاستبداد لكي نؤكد أن العمل الجيد يعيش ولا يستطيع أحد التعتيم عليه ولا يدفن ويتواري عبر الزمن وأن شمس الحرية لابد أن تشرق وتنشر أنوارها مهما بلغ الظلم والاستبداد ذروته.

جريدة القاهرة في

07/08/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)