حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"ما هتفت لغيرها":

زمن الحلم الفردي والحلم الجماعي

أمير العمري

 

لعل أهم ملامح فيلم "ما هتفت لغيرها" وهو من نوع الفيلم غير الخيالي، أي انه يمزج بين التسجيلي والوثائقي والروائي، أنه أولا يعكس التجربة الشخصية لمخرجه وصانعه وهو الناقد والمخرج اللبناني محمد سويد، وهو بهذا المعنى يعد أحد أفلام "السيرة الذاتية.

وثانيا: يعكس الفيلم بوضوح هواجس مثقف كان مسيسا حتى النخاع في الماضي، حين ارتبط بحركة اليسار من جهة، وبحركة فتح الفلسطينية من جهة أخرى، مزواجا بين الأفكار الأممية، والأفكار المتعلقة بالتحرر الوطني، وهي مزواجة لها مبرراتها فقد كان خطاب الثور ة الفلسطينية في تلك الفترة من أواخر الستينيات حتى منتصف السبعينيات، خطابا يمزج بين الأفكار اليسارية والوطنية. وكان الانضمام لحركة "علمانية" مهربا من التيار الطائفي الجارف الذي كان سائدا في الساحة اللبنانية، وغن كان الفيلم لا يهتم كثيرا بهذه النقطة. ولكنه بهذا المعنى فيلم مثقف تبدو نكهة الثقافة والتفلسف فيه عالية، وأحيانا تلتبس الأمور بعض الشيء بسبب الطموح الكبير من جانب المخرج لكي يروي كل شيء في سياق فني مبتكر.

وثالثا: بسبب زحام الأفكار والمواد والمعلومات، وتدفق المقاربات والمقارنات والشهادات، يبدو الفيلم أحيانا – من الناحية الأيديولوجية- شديد التشوش، خاصة بالنسبة للمشاهد غير المطلع تماما على التناقضات في الواقع السياسي اللبناني: فالقومي هو الوطني، واليساري يناصر صدام حسين القومي البعثي، والأممية لا معنى لها في سياق ينشد الذوبان في "العروبة"، والعلماني يمكن أن يكون شيعيا أيضا، وبالتالي يمكن أن ينشأ حزب الله من داخل جناح من أجنحة حركة فتح كما يروي لنا المعلق في الفيلم، وحركة فتح ترتبط في الوقت نفسه بحركات التحرر الشيوعية في فيتنام.

والسؤال الكبير الذي يطرحه الفيلم: هل نجحت بيروت في تجنب مصير هانوي، ولماذا فشلت بالمقابل، لت تصبح مثل دبي وهونج كونج؟

"حيث يكون قلبك يكون كنزك".. بهذه المقولة المتكررة يفتتح فيلم "ما هتفت لغيرها". وعنوان الفيلم هو حد الأناشيد الذائعة لحركة فتح في الستينيات، فيالبداية نجد أنفسنا أمام ضابط فيتنامي في ميدان كبير في هانوي. الضابط يتخذ وضعا للتصوير.. وهذه اللقطة تحديدا ستعود لتتكرر كثيرا باختلاف الضباط والجنود، ثم حديث عن أبو داود، حيث يروي حاتم حاتم تجربته في فتح ولكن على لسان المخرج دلالة على العلاقة المباشرة بين المخرج وشخصية حاتم المعادلة له في شبابه البكر.

البطل يفترض أنه يتعقب تجربته الشخصية في مجال السياسة في محاولة لفهم كيف حدث ما حدث ولماذا لم تصبح بيروت هانوي أو سايجون، ولماذا ايضا لم تصبح معجزة النهضة الاقتصادية، ويتناول علاقته بالسيمنا، ولعه المبكر بها، ورغبته في الولوج إلى عالمها. لكنه يبدو كما لو كان يتعقب تجربة والده. والحقيقة أن التليق الذي يرد في الفيلم على لسان الراوي مكتوب بجاذبية واقتصاد وجمال بدون أي تكلف، وهو جزء من سحر الفيلم وجماله ويساهم في شد المتفرج إلى المتابعة.

أنت تسمع في هذا الفيلم الكثير من الشخصيات التي تروي علاقتها بالمكان.. ببيروت ثم بدبي، أما فيتنام فلا صو هناك في الصورة، فقط لقطات هادئة أقرب إلى الصور الخيالية التي تمليء بالابتسامات والإيماءات الرقيقة دون أي تعليق.

محاور الفيلم الأساسية: بيروت، دبي، هانوي، والشخصيات الأساسية: لبناني مقعد بسبب اصابته في الحرب في دكان لبيع الدراجات والمخلفات في بيروت كان أحد المناضلين السابقين في السبعينيات، ورجل أعمال هندي الأصل في دبي يشرح ويتكلم ويعقد المقارنات، ومدير نادي السيارات في بيروت، وكاتب هو عادل عبد الصمد .. يتوقف عند وصفه القديم للبنان بأنه "بلد امبريالي وأنه هانوي العرب".

وهناك أيضا امرأة إيرانية فرت من بلادها بعد الثورة الإسلامية تتحدث عبر الفيلم إلا أنها تفاجئنا حينما تصف وجه الخميني بأنه "جميل وروحاني".

في هذا المزيج الذي يخضع لطريقة في البناء تعتمد على الانتقالات الحرة، والمقابلات، واللقطات المأخوذة من الأرشيف، وعلى الموسيقى واستخدام الوثائق المصورة لأغاني وأناشيد الثورة الفلسطينية (حركة فتح تحديدا)، مع أغنيات شهيرة (لبيك ياعلم العروبة وغيرها) تكمن ملامح عمل شديد الطموح: أساسه فكرة البحث المعذب عن حقيقة الذات، من خلال وجود الفرد في الماضي وسط الواقع الموضوعي.. ودائما، في طيات الفيلم، هناك العلاقة الحميمية مع السينما وعالمها، رغم ابتعادها عن الواقع، ربما تجسد السينما لبطلنا "البطولة" التي كان ينشدها في الواقع.

هناك من يقول لك إنهم "اغتالوا صدام حسين"، وهناك حديث عن أبو داود ودوره البارز الملهم للشباب في تلك الفترة، ثم صور من جنازته، وهناك أبو الحسن هانوي تلك الشخصية الأسطورية التي كانت شديدة الصلة والحماس لفتح ثم قطعت العلاقة معها وذهبت للعيش في جنوب لبنان.

فيلم محمد سويد فيلم معذب، بالبحث الشاق عن الحقيقة، حقيقة النفس وحقيقة الوطن، لن يمكنك الإمساك بكل ما فيه تماما، فهو يربكك بانتقالاته العديدة، ومقارناته التي تبدو ساخرة أيضا، سخرية من الحالة اللبنانية بأسرها، تلك الحالة التي تجعل لبنان يظل "رهينة" وسط الفرقاء في الداخل والخارج، وهو لذلك يدفع الثمن دائما، ولذا لم يكن من الممكن ان تصبح بيروت مثل دبي، أو دبي مثل بيروت. رجل الأعمال الهندي في دبي يعزو الأمر إلى ان "بيروت مدينة كبرى في لبنان.. بينما دبي مدينة صغيرة.. بيروت تعاني من مشاكل العواصم المكتظة" ولا يبدو أنه سيصل قط إلى لب الحقيقة.. لطن الصور التي يدخلها المخرج على خلفية صامتة تظهر دبي عامرة، وبيروت مدمرة.

هناك دائما استرجاع ما للحرب الأهلية، لأجواء القلق والتوتر والصراع المسلح، واستدعاء لزمن الكفاح ولو من خلال الأغاني وشريط الصوت المنسوج ببراعة كبيرة في الفيلم.

ربما يعاني الفيلم من بعض التكرار والإطالة، وربما كان يمكن ضبط الإيقاع أكثر إذا ما خفف المخرج أو تخفف من بعض المقابلات وجعلها اكثر تركيزا. لكن التجربة بشكل عام، ممتعة بصريا وصوتيا، وتجعلنا نخرج وفي أذهاننا عشرات الأسئلة عن الماضي الذي كان، كيف كنا وكيف أصبحنا، ما الذي ينتظزنا في المستقبل، هل كانت التضحيات تستحق أن نخوضها، وما النتيجة القائمة حاليا، من الذي جنى "النصر" بالمعنى المادي المباشر.. هل انتصرت بيروت، هل أصبحت سايجون.. هل تتمتع بهدوء ورونق فيتنام التي أصبحت الآن "مزارا سياحيا" كما نرى في الفيلم، أم أنها فشلت فقط في أن تصبح "دبي"!

عين على السينما في

30/07/2012

 

"بروميثيوس":

ريدلي سكوت يعود إلى الفضاء

رامي عبد الرازق 

يعتبر برومثيوس في المثيولوجيا أو الأساطير اليونانية، أحد أهم الآلهة التي قدمت خدمة جليلة للبشر، فقد سرق النار من جبل الأوليمب ووضعها في يد البشر ايمانا منه بقوة الإنسان ورغبة في جعله مساويا للآلهة.

من هذه الفكرة ينطلق سيناريو فيلم المخرج البريطاني الكبير ريدلي سكوت ولكن عبر عالمه الأثير الذي يمزج بين التفسير الديني للحياة، والإيمان بأن صراع البشر الأكبر هو ضد انفسهم وليس ضد اي شئ أخر.

سكوت صاحب "مملكة الجنة" و"المصارع" ومن قبلهما "الوحش الفضائي" Alien يجمع هنا العديد من مفرادت عالمه الأثير، مستعيدا عناصر من افلامه الأولى كي يؤكد على ان موقفه الفكري والانساني لم يتغير رغم ما يشهده البشر من تحولات كبرى في الألفية الجديدة ومن هنا نجد أن تحديد زمن الفيلم يأتي مع نهاية المئة عام الاولى من الألفية الحالية، فالزمن ليس مفتوحا أي مجرد مستقبل بعيد متطور تكنولوجيا، ولكنه معروف من أجل فتح القوس لاستقبال افكار الفيلم بمنطق الحاضر وليس المستقبل المجهول.

المشهد الاول في الفيلم يصور كائنا يشبه الإنسان لكنه ليس انسانا، يقوم بوضع شئ ما في فمه.. هذا الشئ يصيبه في ثوان بحالة تحلل شاملة تؤدي إلى سقوطه في الماء مفتتا إلى درجة تحلل جيناته نفسها حيث نرى الشكل الجيني الشهير وهو يذوب في الماء.

بعد قرون طويلة نرى بعثة علمية تكتشف وجود رسومات ترجع إلى اكثر من 35 الف سنة اي في زمن انسان الكهف الاول. هذه الرسومات تصور البشر يعبدون كائنات فضائية تشبهنا ولكنها اضخم وتصور الرسوم خريطة لوجود مجموعة شمسية تشبه مجموعتنا على بعد ألاف السنين الضوئية ومن هنا يقرر احد رجال الأعمال ان يقوم بتمويل بعثة إلى هذا النظام الشمسي لاكتشاف ما إذا كان هؤلاء الفضائيين هم اصل البشر.

إلى هنا والتمهيد لكون الفيلم ينتمي لنوعية الخيال العلمي تميهد جيد يتم من خلال عالم ايهامي خارق مبني بالكامل عبر الجرافيك وقد زادت تقنية ال 3Dمن روعته وابهاره وهو اول افلام سكوت بتقنية الأبعاد الثلاثة.

لقد قدم سكوت من قبل احد اهم افلام الفضاء عام 79 "الوحش الفضائي" وهو قادر من خلال اختيار زوايا الكاميرا واحجام اللقطات وايقاع حركة الشخصيات في المشهد بل واسلوب المونتاج أن يصنع تلك الحالة الإيهامية الكاملة بوجود الشخصيات في الفضاء الخارجي وليس فقط من خلال الخدع البصرية او العالم الرقمي وقد استطاع سكوت ان يوهمنا بهذا العالم الفضائي في فيلمه السبعيني رغم أن التطور التقني لم يكن قد وصل لنفس المستوى.

الإنسان الآلي

هنا نجد شخصية مهمة لدى سكوت نعرف ملامحها منذ "الوحش الفضائي" وهي شخصية الإنسان الآلي الذي يشبه البشر ولكنه ليس بشريا ويقدم الشخصية هنا الممثل الفذ "مايكل فاسبندر" بملامح وجهه الثابتة ونظراته الثلجية وتقاطيعه المنحوتة، ويقدم لنا السيناريو مفتاح الشخصية من خلال مشاهدة هذا الآلي لمشهد من فيلم "لورنس العرب" حيث يقوم ديفيد- ولاحظوا دلالة الاسم الدينية (داود)- بصبغ شعره وتسريحه مثل لورنس، فهو رغم كونه غير بشري لكنه تعلم الخداع والمراوغة والكذب من البشر، حيث نكتشف انه يحمل سرا هاما طوال الوقت وانه يعيش بين مجموعة البعثة ليس فقط كمعاون ولكن كجاسوس ومحرك للأحداث نحو مجراها الخطير.

في مقابل ديفيد لدينا تشارلز ثيرون في دور"مرديث" بأداء آلي وتكاد تشبه ديفيد في ملامحها الجامدة ونظراتها الصامتة فهي نموذج للنزعة المادية في البشر والتي لا قلب لها حتى انها تمارس الجنس مع قائد السفينة لمجرد أن تثبت له انها امرأة من لحم ودم وليست روبوت، ولم يكن غريبا ان نكتشف أنها ابنة رجل الاعمال العجوز الذي يظهر في النهاية كفكرة شريرة نبتت في رأس البشر ذات يوم عندما منحهم الله الحياة وهي الرغبة في الخلود والتخلص من شبح الموت، فهي لم تمت كما قال لهم ولكنه جاء على متن الرحلة للقاء "خالقه" كما يقول كي يجد عنده ما يمكن ان ينفي عنه الموت او يؤجله.

أما هي فتمثل نموذجا لكل ما هو مادي ونفعي فحديثها دوما بلغة المال ورغبتها في الاتيان إلى الكوكب الغريب دافعها هو التأكد من أن الأب لن يعيش طويلا فهي تريد الميراث والمال وحالة القتل الوحيدة التي يتعرض لها احد افراد البعثة على يد انسان تكون هي القاتلة عندما تطلق النار على زوج العالمة الذي اكتشف اصابته بفيروس خطير نقله إليه ديفيد ليختبره عليه.

دلالات الإسم

عندما تتطور الأحداث نكتشف أن اسم برومثيوس له اكثر من دلالة تتجاوز إسم سفينة الفضاء التي تحوي البعثة العلمية، فالفضائي الذي انتحر بشكل غريب في البداية والذي تحللت جيناته وصارت ربما هي نواة جينات البشر كما قدمها الفيلم ربما كان هو نفسه برومثيوس الذي سرق النار من الآلهة ليساوي البشر بهم حيث نكتشف ان الكوكب المجهول الذي حطت عليه البعثة ما هو إلا قاعدة عسكرية لتخزين أسحلة بيولوجية كان من المفترض ان تذهب إلى الأرض كي تبيد البشر فيما بعد.

وهنا يطرح سكوت سؤالا فلسفيا شهيرا: اذا كان الله قد خلق الحياة فلماذا خلق الموت؟ ولماذا لم يمنح البشر الخلود؟ وكشأن كل الأفلام الجيدة لا يجيب الفيلم عن السؤال ولكنه يترك الإجابة لذهن المتلقي الذي يجبره ايقاع الفيلم في النصف الأخير على التركيز في مغزى هذا السؤال المفتوح!

يقدم سكوت تحية لنفسه من خلال المشاهد الأخيرة خاصة عندما يقوم احد الفضائيين بتمزيق الرجل الآلي ديفيد مثلما حدث في فيلم Aien\كذلك يقوم السيناريو في ذكاء بالعودة إلى الفيلم الكلاسيكي من خلال استخدام موتيفة فلسفية هامة وهي خروج الوحش الفضائي من داخل الانسان بعد تعرضه للدغة من كائن غريب، هذه الموتيفة التي صارت احد اشهر الموتيفات السينمائية بصريا ودراميا تستخدم هنا للتأكيد على فكرة أن البشر هم مصدر الشر، وأن الوحشية التي يحاربونها تأتي من داخلهم وليس من خارجهم وأن شيطان الإنسان في قلبه وليس حوله ونحن نرى الوحش الفضائي في النهاية يخرج من باطن الكائن الفضائي الذي هو اصل الانسان بعد أن لدغة كائن فضائي اخر خرج من بطن رئيسة البعثة.

ان سكوت هنا لا يُذكر الناس بفيلمه الأشهر ولكنه يؤكد على نفس المعنى الذي قدمه في معظم افلامه وهي ثنائية الخير والشر القادمان من نفس المنبع واللذان هما محور صراع البشر مع انفسهم فمعركة الإنسان الكبرى ضد نفسه وليست ضد أخيه.

سيناريو: جون سبايهيتس- ديمون لنديلوف

إنتاج وإخراج : ريدلي سكوت

بطولة : تشارلز ثيرون- نعومي ريبيكا

مدة الفيلم : 124 ق

عين على السينما في

31/07/2012

 

فيلم "قيامة فارس الظلام":

شعوذة أمريكا الجمعية!

هند هيثم 

بشائر فيلم "قيامة فارِس الظلام"، الفيلم الأخير في ثُلاثية باتمان كريستوفر نولَن، كانت مُفزِعة: جيمس هولمز، طالِب دكتوراه في علم الأعصاب، ألقى قُنبلتي غاز في قاعة سينما في أورورا، كولورادو، ومن ثم فتح النار على رواد دار السينما فقَتَل من قتل وجَرَح من جَرَح، في عرض مُنتَصَف الليل لفيلم "قيامة فارِس الظلام".

في البداية، ظهرت أخبارٌ تربط الحادث بعملٍ إرهابي، ثُم سُحِبَت هذه الأخبار. أصدر كريستوفَر نولَن وفريق الفيلم بياناً أَسِفُوا فيه لِما حدث. واستمر الناس في الذهاب إلى قاعة السينما، على أنّه يُقال إن هذه الحادثة قد قللت إيرادات الفيلم المُتوقعة.

وجدتُ الحدث صادماً ومُحزناً، بطبيعة الحال. وانتظرتُ الأخبار حوله باهتمامٍ بالغ. التكَهُنات حول هوية القاتل ربطت الأمر بعملٍ إرهابي، الأمرُ الذي وجدته غير معقول. لا أحد طموحٌ بما يكفي ليُنسِق حملة هجماتٍ مُتزامنة على دور سينما في مُدنِ عديدة، في ولاياتٍ مُختلفة، ليلة عرضِ فيلمٍ بعينه. هذه فِكرةٌ هوليوودية. ثُم إن عروض مُنتصف الليل في كُل الولايات المُتحدة قد مرت بسلام، ولا أحد في مكانٍ آخر قد تأذى.

وإذَن، فقد عزَمتُ على أن أُشاهِد الفيلم في دارِ ريف - كالعادة - بعد أن عَمَدَهُ أربعة عشر شخصاً بدمائهم في قاعةِ سينما لا شك في أنها تُشبه القاعةَ التي شاهدتُه فيها. ومضيتُ في عزمي هذا، مع شعورٍ مُنغِصٍ بالذنب، لم يُخفف منه أن وادي ليهاي كُله قد انكب في سينما ريف ليُشاهِد الفيلم، جماعاتٍ جماعاتٍ، كأنهم وفودٌ جاءت تُسَلِم على ملك العالم.

مُشاهدة الفيلم الأخير في ثُلاثية نولَن ليس أمراً سهلاً، ثمة حفلةٌ جديدة للفيلم كُل نِصف ساعة، من التاسعة صباحاً حتى الثانية بعد مُنتَصَف الليل، وتذاكر كُل الحفلات تنفدٌ قبل عدة ساعات من موعدها. تزامن موعِد البدء في عرض الفيلم مع دخول شهر رمضان، وبسبب اجتماع الشهر الفضيل والدراسة، فإن ساعات المُشاهدة التي تُناسبني كانت محدودةً للغاية، وعليها طلبٌ شديد. فكان علّي أن أتدبّر أمرَ الحصول على تذكرةٍ قبل يومين من موعِد العرض، وأن أذهَب إلى قاعة السينما مُبكراً.

كُنتُ قد نويتَ أن أفعل ما فعلته يوم عرض "تايتانِك"، فأذهب إلى قاعة السينما قبل وقتٍ من موعد بدء، وأُعسكِر أمام صالة العرض، فأضمن لنفسي مكاناً مُمتازاً في قاعة السينما.

هكذا، وصلتُ مُبكراً جداً، مع شعورٍ طفيف بالغرابة. لقد وصلتُ في موعِد حفلاتٍ أُخرى ولم ألحق بها. ستبدأ حفلتان وأنا أُعِسكُر أمام القاعة رقم 3، وهذا تضييع للوقت. حسناً، لقد قللتُ من شأنِ جمهور “باتمان”، فالطابور أمام القاعة 3كان أطول طابور سينما يُمكِنُني الوقوف فيه. (ولو طال أكثر من ذلك لغادرتُ المكان، فثمة أشياء أكثر أهمية في الحياة من الوقوف في الطابور لمُشاهدة فيلم).

جمهور الفيلم

كان الجمهور مُتنوعاً، إذ ظهر الطُلاب الآسيويون الذين اختفوا مُنذ بداية الصيف. كذلك، كان ثمة هنودٌ وأتراك وسود، من كُل شكلٍ ولون. الأمرُ الذي رفع الإحساس بالحصار الذي يُحسِه أي شخصٍ من عِرقٍ مُختلف عندما يكون الوحيد المُختلف في قاعةِ السينما.

جمهور القاعةِ التي دخلتها كان يخلو من العجائز خلواً تاماً، وهذا غريب، خصوصاً وأنهم كانوا موجودين في عرضِ فيلمٍ للمُراهقين مثل "توايلايت". كذلك، فإن الجمهور كان مُقسماً إلى جماعات، ولم أرَ غيري قد جاء وحيداً إلى قاعة السينما.

حين دخلتُ إلى القاعة، حرصتُ على أن أجد لي مقعداً في أحد صفوفي المُفضلة، وقد كان هذا سهلاً نسبياً، بسبب كون الباقين في جماعاتٍ، الأمرُ الذي يُصعِب عليهم اختيار المقاعد، خصوصاً وأنهم لا يرغبون في الافتراق عن بعضهم البعض.

في الصف أمامي جلست عشيرة مكونة من رجلٍ وامرأة بالغين، وستة أو سبعة مُراهقين، وطفلين. في البداية، ظننتُ المُراهقين لوحدهم، ثم اتضح لي أنهم جزء من العائلة. عن يميني، جلس قطيع طلابٍ آسيويين كانوا يتناقشون بحماسة حول ما إذا كان كريستوفر نولَن أعظم مُخرِج في التاريخ أم لا. وعن شمالي، جلس قطيع طلابٍ بيض كانوا مقتنعين جميعاً بأن نولَن رائعrock ، وظلوا يُكررون التعبير حتى خُيِّل إلَّى أن ثمة طائفة نولَنية في المدينة.

لحُسن الحظ، لم يستمر التعذيب بإعلانات ما قبل الفيلم طويلاً - خلاف ما توقعت - ويبدو أنهم كانوا بحاجة إلى تقليل وقتِ الإعلانات ليتمكنوا من طردِ الجمهور أبكر قليلاً تمهيداً للحفلة التالية. هكذا، سكتت الطوائف النولَنية، ورحلت بائعة الذرة المنفوشة (البوب كورن) أو الفشار، ولم يعُد يُسمَع غير أصوات (قرط) الوجبات الخفيفة، والتنهدات، والفيلم يبدأ.

قبل عرضِ الفيلم، كُنتُ قد كتبتُ تحليلاً استباقياً في مدونتي الشخصية بعنوان "عصر ليمون بتمنجي"، يعتمد على تحليل تريلر (مقدمة) الفيلم ومقطوعات شريطه الصوتي، وخَلُصَت المُراجعَة الاستباقية إلى أن الفيلم يُخاطِب العقلية الأمريكية اليمينية، بخلطه ما بين الشيوعية والإرهاب، واستخدامه المُفرِط للخطاب الديني.والفيلم كان هكذا، بالفعل.

شرير الفيلم

مُعظم المُراجعات للفيلم كانت تحتوي إلماحات إلى الحادي عشر من سبتمبر في عناوينها، وتربط ما بين الفيلم، وبين الحادي عشر من سبتمبر. في الواقِع، الفيلمُ عبارةٌ عن عرضٍ طويلٍ كالعروض التي يقوم بها السَحَرة لتمثيل صيدِ فريسة، أو لتمثيل شَرِ مُعيَن والظَفرِ به لرسمِ دائرةٍ سحرية حول أهاليهم، تُبعِد عنهم العدو. هذا ما تفعله أمريكا باستمرارٍ عن طريق تُراثها في الرُعب وأفلام الحركة، ويتجلى في "قيامة فارِس الظلام".

يبدأ الفيلم بعمليةٍ إرهابية، تشملُ عالِماً روسياً - كما في "الرجل الحديدي – 2"(2010) - وطائرة يخطفها إرهابيون شبه عسكريين. هكذا، يُقابِل الجمهور للمرة الأولى شرير الفيلم الرئيسي الجديد: بين. جمهور"باتمان"الخبير يَعرِف بين، وتعلم أن يهابه، إذ أنّه الشرير الوحيد الذي تمكن من كسر باتمان. وهو كُتلة مُهدِدَةٌ من العضلات والعنف الجسدي المُباشِر. في الواقع، ليس هذا أول ظهورٍ لبين في أفلام باتمان، فقد ظهر في فيلم "باتمان وروبن"(1997) في هيئة بلطجي خفيف العقل يتبع بويزن آيفي (اللبلابة السامة) ليُخيف أعداءها، الأمرُ الذي أحنق جمهور باتمان بشدة، فبين واحدٌ من أعداء باتمان ذوي الهيبة.

وبين في فيلم نولَن شريرٌ مُعتَبَرٌ وذو هيبة. الفيلم يأتي بعد "فارس الظلام"، الذي ينفرَد فيه هيث ليدجر بأفضل أداء لأفضل شخصية في أفلام الكومِكس كُلها، الجوكر. الجوكر أفضل أشرار باتمان وأكثرهم هيبة، وإلى حدٍ ما، فإنّه يدخل ضمن تصنيف إرهابي، إذ يُمارِس أعمالاً إرهابية بحق غوثام سيتي لتحقيق أهدافه الخاصة. الجوكر يعمل لنفسه، ويخدم أجندته الشخصية: الفوضى. الجوكر يُعبِر عن فلسفته حين يُحرِق ملايين الدولارات التي استردها للعصابات عن طريق عملية مُعقدة، قائلاً إنّه يُحِب المتفجرات فحسب، وهي رخيصة.

وسيفتقد الجمهور الجوكر مع بين. ليس ذلك لأن "بين" شرير مُسطَح، أو أن توم هاردي لا يقوم بعملٍ جيد في الفيلم - رغم أنّ وجهه مُختفٍ فيه، بل للاختلاف الشديد بين الشخصيتين. الجوكَر شخصية فائقة الذكاء، ذات حِسٍ بالدعابة والمُفارقة، وهو يعمل لنفسه، ولنشر فكرة الفوضى التي يعتنقها. إنّه مثل لوكي، إله الليل والفوضى والخداع الإسكندنافي. في المُقابِل، فإن بين أمير حرب، وهو إرهابي ذو طبيعة عسكرية، يخدمُ آيديولوجيا مُحددة جاء بها قائدٌ "مُلهِم". كذلك، فإن شخصية بين قريبة من شخصية كريتُس، بطل ثُلاثية ألعاب "إله الحرب" من سوني، حيث أن كليهما يمتاز بذكاء بهيمي - إن جاز القول - فكلاهما يستطيع التفكير في طُرِقٍ سريعة وفعالة للقتل والأذى، وكلاهما يُجيد نصب الفِخاخ المُحكمة والفرار منها، وكلاهما يعرف الخوف، وكيف يتعامل معه.

هكذا، سيختطف بين - غوثام سيتي كُلها، ويختطف الجمهور معها. خُطة "بين" لا تتضمن تجارب اجتماعية كالتي يُجريها الجوكر على نطاقٍ واسِع، أو فِرقة نينجا تهجم عليها - مثل فرقة رأس الغول - لتنشر الجنون فيها وتجعلها تُدمِر نفسها بنفسها. استراتيجية بين بسيطة ودموية: يحتل غوثام، يفرض عليها الحصار، يُبيدها بسلاحٍ نووي ويحيلها إلى رماد.

من أي حُفرةٍ يأتي الإرهابيون؟

ليس في الفيلم شخصيات عربية - أو مسلمة - أو ذات لونٍ قد يوحي بذلك. كُل الشخصيات بيضاء - عدا لوشيوس فوكس، مدير شركات وين التنفيذي الأسود، وبضع شخصيات ثانوية أو كومبارس. غير أن هذا لا ينفي أن الفيلم يتحدّث بوضوح عمّا يُعرَف بالإرهاب الإسلامي، ويُخصِص هذه المرة الإرهاب العربي، أو الشرق أوسطي - كما في التسمية المُحايدة سياسياً.

رأس الغول (ليام نيسن)، شرير الفيلم الأول "بداية باتمان"(2005)، شرير عربي، كما يعرف جمهور باتمان الخبير، وهو شريرٌ خارِق، بسبب الفكرة الشائعة في عالم باتمان عن خلوده. في فيلم "بداية باتمان"، كان رأس الغول جُزءاً من منظمةٍ عالمية هدفها الحفاظ على تقدم الحضارة عن طريق تدمير المُدن التي يأكلها الفساد. وبطبيعة الحال، فقد فشِل في مسعاه لتدمير غوثام مع عصابة النينجا التي تتبعه، و(قُتِل) في العملية.

في "قيامة فارِس الظلام"، تظهر قصةُ رأس الغول عن طريق قصة بين نفسه وسجن الحُفرة، السجن الذي خرج منه بين إلى العالم. سِجنٌ الحُفرة يقع في بلدٍ شرق أوسطي أو وسط آسيوي - أو رُبما يقع في الشرق الأوسط الكبير كما ارتأت إدارة بوش - له الطبيعة ذاتها التي يُمكِن أن توجد في أفغانستان أو في بلدي، اليمن. مع طرازٍ معماري إسلامي. سِجنُ الحُفرة سجنٌ لا أمل في الخروج منه، ولا يُوضِح الفيلم كيف يدخل المرء إليه - عدا في حالة رأس الغول.

يقع السجن تحت الأرض، وثمة فوهة مفتوحة تقود إلى الخلاص خارجه، بل ثمة حبلٌ يُعين من يُريد التسلق على أن يتسلق، لكن لا أحد يُفلِح في الوصول إلى القمةِ والخروج من السِجن.

من حُفرة الجحيم - حرفياً - التي تقع في الشرق الأوسط الكبير هذه يخرج الإرهابيون، يخرج رأس الغول ونسله، ويهجمون على أمريكا. رأس الغول يهجم على أمريكا بدعوى آيديولوجية، حيث أنها صارت أرضاً متفسخة، ويهجم بين على أمريكا لسببٍ وحيد: لقد أراد رأس الغول تدمير أمريكا وفَشِل.

بعد هذا، لا يحتاج نولّن - صاحب الأجندة الفاشية في الأساس - إلى أن يأتي بأي مُمثلٍ غير أبيض إلى فيلمه.

الوحش ذو العاطفة

فيBatman-lore التراث المعرفي الباتماني، فإن بين يعتمد في معيشته وقوته على جهازٍ يضخ السُم في عروقه بشكلٍ مُستمر، نتيجة لتجربة خاطئة. في فيلم "قيامة فارِس الظلام"، يتخلص كريستوفر نولَن من هذه الفكرة، ويصير بين مُعتمداً في معيشته على الضخ المُستمِر لمُسكِنات الألم في عروقه، بسبب ما تعرض له في سِجن الحُفرة.

بين يُشبِه التراثيات البُكائية العربية في التاريخ الأوروبي - الذي ورثته أمريكا بطبيعة الحال - من قِصص القسوة الوحشية (حيث مزقوا وجه بين في السجن)، إلى قِصص الملك الذي بكى غرناطة كما في تراث "زفرة العربي الأخيرة"، إلى قصص الخُلفاء الذين ماتوا وجداً، ثُم إلى عطيل، الذي قتل ديدمونة وانتحر.

العربي وحشٌ عاطفي في المُخيلة الغربية، و"بين"وحشٌ عاطفي كذلك. حيث أنّه ليس أكثر من حارسٍ للأميرة يُحبِها وتُحبِه، ويفتديها بحياته، وتحنو عليه في لحظات موته. كأنها قصةُ الجميلة والوحش، مع لمسةٍ مأساوية.

كذلك، يكتسي الأمرُ طابِع قصص ألف ليلة وليلة - في المُخيلة الغربية - من القصة الغريبة التي تُفسِر حياة طفل رأس الغول في سِجن الحفرة، ودخول رأس الغول نفسه في سجن الحفرة. إذ أنّه كان مُرتزقاً عند زعيم محلي. (أفغانستان؟) وعَشِق ابنته، وتزوجها سِراً، فأمر بِه الزعيم، فألقِي في سجن الحُفرة، إلى أن افتدته زوجته. لا أفهم القصة، شخصياً، ولا تُقنعني. قد أفهم أن يقتل الزعيم ابنته، وقد تزوجت من مرتزقٍ من رجاله، لكنني لا أفهم أن يرميها في سجن الحُفرة بدلاً عنه، وسجن الحفرة يمتلئ بالرجال. إن هذا مما يُسقِط فكرة الشرف كُلها من أساسها، فالنساء لا تُحبَس مع الرجال، ولو سقطت مروءة هذا الزعيم الخيالي، وحبس النساء مع الرجال، فلن يحبس ابنته.

غير أن العرب وحوشٌ عاطفيون في مُخيلة الأمريكان، وفي أرضهم البربرية يُمكِن أن تحدّث هذه القصص التي لا تُصدَق. ألم تقُل ديزني في فيلم "علاء الدين" (1992): "قدِمتُ من أرضٍ بعيدة/ حيث تطوف قوافل الجمال/ حيث يقطعون أذنك/ إذا لم يُعجبهم وجهك/ إنّه مكانٌ بربري، لكنّه وطني!”

المرأة القطة

زوجة رأس الغول ليست المرأة الوحيدة التي حُبِسَت في سجن الرجال - وسبَبَت شغباً، فالمرأة القطة (آن هاثاوي) - كذلك - سببت شغباً كبيراً حين حُبِسَت في سِجن الرجال، وقد حبسوها هُناك لأنّه سِجن مُشدد الحراسة، وقد كانت لتهرب من سِجن النساء لو حبسوها فيه.

بطبيعة الحال، سيُفكِر الجميع في ميشيل فايفر من فيلم "باتمان يعود"(1992) الذي أخرجه تِيم برتُن - أول من أعطى باتمان صيغته الظلامية. مثل ميشيل فايفر، فإن آن هاثاوي لصةٌ تُساعِد شريراً ضد باتمان. في البداية، تخدم رجل الأعمال رون داغِت وتسرق له بصمات بروس وين مُقابِل أن يُعطيها برنامج حاسوبٍ يمحو سجلاتها لدى الشُرطة. ثم تُوقِع بباتمان عِند بين، وتشهد عذاب باتمان الرهيب.

غير أن العلاقة بين المرأة القطة والرجل البطريق في فيلم "باتمان يعود"، أكثر عُمقاً وظلامية من أي علاقةٍ بين المرأة القطة وأي شخصية أخرى في فيلم “قيامة فارِس الظلام”. المرأة القطة في "قيامة فارِس الظلام"ليست أكثر من مُعادلِ أنثوي نولّني لشخصية محفوظة، اللص الذي يظهر ألا فائدة منه أبداً، وأنّ حاله لن ينعدِل أبداً، ثُم يظهر أنّه (ابن بلد أصيل) حين تتعرض بلده للاحتلال.

مُعظم المُراجعات حول الفيلم تُشيد برشاقة آن هاثاوي وخفة حركتها، وقد يعود هذا - غالباً - لأنّه ليس في دورها أي شيء آخر يستحق الذِكر أو الإشادة. وإذا كان نولّن قد تفوق على بِرتُن في شخصية الجوكر، فإن بِرتُن قد تفوق عليه في شخصية المرأة القطة.

زُحام

الفيلم مُزدحِمٌ للغاية، طوله ثلاث ساعاتٍ إلا قليلاً، ويحمل أثقالاً من الفيلمين السابقين. فبالإضافة إلى ثِقل رأس الغول وميراثِه من الفيلم الأول، يحمل الفيلم ميراث الفيلم الثاني، حيث يموت هارفي دِنت (ذو الوجهين)، ويتحمل باتمان اللوم عن الجرائم التي قام بها، لأنّه كان المُدعي العام لغوثام سيتي وبطلها وفارس الضياء فيها. كذلك، فإن حبيبة باتمان، ريتشل دوز، تموت، ويجعل هذا بروس وين (باتمان) يكفُ عن الرغبة في الحياة.

ثماني سنوات قد مرَت، باتمان في خِزي وعار. بروس وين يعيش منعزلاً، يتعكز على عصا. العالم يتحرك من دونه. آلاف المُجرمين يُحبسون بالشُبهة بناء على قانون دِنت. يرغب المفوض غوردن (غاري أولدمان) في قول الحقيقة بخصوص هارفي دِنت، ويكتب خطاباً يشرح فيه الأمر، لكنّه لا يجرؤ على قوله. غوثام سيتي تتحرك وقد تجاوزت ماضيها - ظاهرياً.

ثم تنفتح أبواب الجحيم. تسرق المرأة القطة بصمات بروس وين، وتختطف أحد السيناتورات الأمريكيين وتصطحبه معها وسيلة حماية، فتحاول الشُرطة تحرير السناتور، وهناك يجذب شيء تحت الأرض انتباههم. يقبض أتباع بين على المفوض غوردن، لكنّه يفرُ من بين أيديهم، جريحاً يوشك على الموت، بعد أن استحوذ بين على خطابِه، واستخدمه ليُطلق الرُعب على طريقة مُبارَك: فتح السجون وإطلاق سراح البلطجية.

ينفعل باتمان، ويخرج. تُطارده الشُرطة، فيلتهون عن مُطاردة بين وأتباعه. يحتل بين وجماعته ما يبدو أنّه المُقابل الغوثامي لسوق الأسهم في وال ستريت، ويتسببون في تدمير البورصة، وإفلاس شركات وين. باتمان مُهتمٌ بالمرأة القطة، ولم ينتبه للجيش تحت الأرضي الذي يُديره بين.

المفوض غوردن يُصِر على أن ثمة جيشاً تحت الأرض يتربَص بأمريكا ويُريد بها سوءاً، من دون أن ينتبه لكلامه أحد، ما عدا شُرطي اسمه جون بليك (جوزِف غوردن-لفِت ويتضح بالفعل أن جون بليك من تظنون).

ثم يستولي بين على مقاليد الأمور، ويُدمِر باتمان، ويُرسِله إلى سِجن الحُفرة، ويبدأ الاحتلال. ثمة الكثير من الشخصيات في الفيلم، والكثير من الأحداث، بشكلٍ يصعب تلخيصه، ويُصبِح الإمساك بخيوطه في الفيلم صعباً. ليس الأمرُ أن الفيلم مُمِل، لكنّه مُشتَت للغاية.

دشي باسارا

من التريلر، اشتهر نشيد "دشي باسارا"الذي يُنشِده المساجين في الحُفرة. المفروض أن النشيد يعني "قُم"، باللغة (البربرية) التي يتحدثون بها في الحُفرة. رُبما بسبب المظاهر العسكرية المُفرطة للفيلم، فإن الصُور التي انثالت على ذهني كانت لاحتلال العراق، وخُيِل إلّي أن "دشي باسارا"ما هي إلا التحريف الأمريكي لـ "دِش البصرة"، أي "ادخل البصرة". ثم سمعتُ من يقول إنها تعبيرٌ بالعربية أصلاً، والمفروض أن ما يُقال هو "تِجي بسرعة"، وترجموها إلى "طِر"أو "قُم".

في كُل الأحوال، فإن لُغة النشيد (البربرية) ذات إيحاء عربي، والأغنية تُغنى لباتمان نفسه، الذي يُسأل أن يقوم من بين الأموات، ويأتي ليُحرِر أمريكا. يُقيمه القوم البربريون أنفسهم في الحفرة، ليذهب ويُدمِر ابن جلدتهم.

رُبما يعود هذا إلى تأثير الحرب الذي لا يزال ماثلاً في ذاكرتي، فالاحتلال العسكري الذي فُرِض على غوثام - من جيش بين ومن الجيش الأمريكي نفسه - يُذكِر بالاحتلال الأمريكي للعراق، حيث المركبات العسكرية العملاقة المهولة، في وسط الأحياء السكنية.

كذلك، يُشير الفيلم إلى هذا بوضوح، حيث أن لباتمان في الفيلم الجديد طائرة عسكرية مُخيفة، وفي المُطاردة النهائية لدبابات الأشرار، يقول لوشيوس فوكس بوضوح: "لا شيء مثل التفوق الجوي"، مُردداً ما يُردده المسؤولون العسكريون الأمريكيون الذين يعتمدون على التفوق الجوي لاصطياد أعدائهم.

يتعامل الفيلم، في الأساس، مع فكرةٍ تُرعِب الأمريكان: لدينا سلاحٌ متفوق، فماذا لو وصل إليه الأعداء واستخدموه ضدنا؟ بين لا يبتكر سلاحاً، وإنما يسرق ترسانة السلاح الأمريكي ويوجهها ضد أمريكا نفسها. هكذا، تُمارِس أمريكا هذه التمثيلية السحرية، فتُصوِر سيناريو كارثياً فعلياً، يستولي فيه الأعداء على السلاح الأمريكي، ويحتلون أمريكا، ثُم تُصوِر الأبطال الأمريكيين ينتصرون على الأشرار، ويقتلونهم، فتكتمل الدائرة السحرية، ويشعر الأمريكيون بالراحة والأمن.

فادِه رِترو آرابيز! فادِه رِترو كومونِه!

سلسلة باتمان الأصلية تنتمي إلى مرحلة الذعر الشيوعي، وأيام التجارِب العلمية الغامضة، وتجارِب التحكم الاجتماعي التي يجريها عُلماء النفس على الجمهور. وفي سلسلة نولَن، فإن ثيمات الإرهاب، العربوفوبيا، ورُهاب الشيوعية حاضرة طوال الوقت، وتزداد تجلياً في فيلم "قيامة فارِس الظلام"، الذي هو عبارة عن هذيانٍ أمريكي حول القوة العُظمى لأمريكا، الشيوعية، وقيامة المسيح المُخلِص مُفتدي أمريكا.

دوافع المرأة القطة للسرقة بسيطة: هي لا تملك شيئاً، بينما الأثرياء مثل بروس وين يملكون كُل شيء، وهي تسرقهم من دافعِ الحقد الطبقي. (بكُل معنى الكلمة). خطابها لبروس وين يحمل ثيمات شيوعية: "كيف أمنكم أن تعيشوا على هذا القدر من الرفاه تاركين الفُتات لبقيتنا؟".

بين، كذلك، يجلب أيديولوجيا شيوعية إلى غوثام سيتي عندما يحتلها، إذ يستولي على بيوت الأغنياء ويفتحها للعموم، وينصب لهم مُحاكمات علنية سريعة لا تحكم إلا بحُكمين: الإعدام أو الموت. (قاضيها هو جوناثان كرين، الفزاعة، في ثالث ظهورٍ له في السلسلة). فيجمع ما بين التهديد (البربري) الشرق أوسطي، وبين التهديد الشيوعي - وكُلها أشياء مصدرها (الشرق).

تظهر بوادر (التوبة) و(الصلاح) على المرأة القطة حين تدخل بيتاً وتتأمل الصور المُهشمة، فتقول: "كان هذا بيت أحدهم". وترد عليها امرأة: "هذا بيت الجميع الآن"فتعود: "كان هذا بيت أحدهم".فكرة (بيت أحدهم) مُقابل (بيت الجميع) ما تنبني عليها الولايات المُتحدة الأمريكية، التي تُقدِس الملكية الفردية، وتعتبرها وحدة بناء الحضارة، بينما كُل ما هو جمعي (بيت الجميع) أمرٌ بربري وبدائي، بل ومعادٍ للمسيحية. ومن إدراك المرأة القطة لهذا، تكون توبتها عن مُصاحبة الشيوعيين، أو الشيوعو-عرب مثل بين، ونُصرتها لأمريكا.

إذ ذاك، تكتملُ الدائرة السحرية التي تُرسَمها أمريكا حول نفسها، ويصرخ كهنتها كالممسوسين: "تراجعوا يا عرب! تراجعوا يا شيوعيين!"كما كان الرُهبان الكاثوليك يصرخون: "تراجع يا شيطان!"باللاتينية ("فادِه رترو ساتانا".

في الواقِع، هذا مُثيرٌ للاهتمام. إذ أن أمريكا مبنية على المبادئ البروتستانتية - وهي ظاهرةٌ في الفيلم - من تقديسٍ للملكية، وقيم العمل والثروة والإحسان المسيحي (دار الأيتام التي كانت ترعاها مؤسسة وين حاضرة باستمرار في الفيلم). لكن ما تُمارِسهُ أمريكا في فنها مُمارسة كاثوليكية، قائمة على الرموز والطقوس والإشارات والتحولات، حيث تُحوِل أمريكا خوفها إلى بُنية فنية مُتكاملة، وتصرفه بطريقة الرُهبان - التي لا تبعُد في جوهرها عن مُمارسات السحرة. رُبما، إذا استخدمنا المُصطلح الذي يُنسَب إلى صدام حسين: "أخرج منها يا ملعون! أخرج منها يا ملعون!"(حيث احتلال العراق حاضرٌ بقوة في الفيلم). وسحر الغرب غَلَب سِحر الشرق.

العَسَس

جُزء مُثيرٌ للاهتمام من التاريخ الأمريكي فكرة العسس المدني، حيث سَبَق العسس المدني الوكالات الحكومية كُلية العِلم، كُلية القوة، كُلية الحضور. إذ نظمت الجماعات البروتستانتية البيضاء عصاباتٍ مدنية لمُراقبة العامة، ومنع التصرفات (البهيمية)، مثل العلاقات بين السود والملونين وبنات البيض، وخروج النساء إلى المراقِص والملاهي، ولقاءات الفساد. تقوم فكرة العسس الأمريكية على مذهب أنّه يجب أن تحمي قِلةٌ فاضلة المُجتمع من فساده، وتُقوَمِه، وتطور ذلك إلى فكرة البطل المُقنَع، خصوصاً، باتمان، أكثر الأبطال المُقنعين التصاقاً بعالم الجريمة الليلي. (رُبما لأن غوثام المُقابِل لمدينة نيويورك، أشهر مُدِن العَسس).

فكرة العسس تتناقض مع فكرةِ الحكومة المركزية، فالحكومة - في رأي العسس - غير فعّالة، ولا تُفيد - إلا إذا تعاونت مع العسس. بل إنها قد توفر الحماية لأراذِل المُجتمع، فتُساهِم في فساده وتفسخه. الإعلاء من شأن العسس، وتدمير فكرة الحكومة المركزية من مبادئ اليمين الأمريكي الأساسية. اليمين الأمريكي يرى أن الحكومة حين تفرض الضرائب، وقوانين الرفاه الاجتماعي - مثل الضمان الاجتماعي، والضمان الصحي - فإنها توفر بذلك الحماية لمن يجب على المُجتمع التخلص منهم، وتمنحهم طُرقاً للعيش، وللإمعان في فسادهم.

بدلاً عن ذلك، يستبدل اليمين فكرة رفاه الدولة، بالرفاه الرأسمالي، ونظام الإحسان. حيث أن رجال الأعمال الأثرياء يرعون المشاريع الخيرية، مثل مشاريع إيواء الأيتام والمشردين، ويقدمون الرعاية لمُدنهم، ويوفرون لها سُبل العيش. ولفرض طريقتهم في العيش على الجميع، فإنهم يلجأون إلى أمرين: العسس المدني - وتطوره الطبيعي، باتمان، الذي هو مزيجٌ بين رجل عسس ورجل أعمال - والمليشيا - أسلحة وين. في هذه المُعادلة، لا مكان للحكومة المركزية، ولا للجيش المركزي. (غياب الجيش الذي تتحكم به الحكومة المركزية لا يُلغي مظاهر عسكرة المُجتمع، وإنما يحولها من يد الحكومة إلى يد أصحاب الثروة والنفوذ فيه).

فيلم "قيامة فارِس الظلام"، يُظهِر ذلك بوضوح، حيث الجيش الأمريكي يُحاصِر غوثام سيتي، ويفشَل في حماية سُكانها، بسبب الفشل المركزي في الحكومة الأمريكية. بهذا الشكل، تصير غوثام مُنقطعة عمّا حولها، ومُعتمدة على ذاتها فحسب، وبطلها المُخلِص، فارس الظلام، الذي قام من الحُفرة.

الرمزُ واضحٌ جداً في الفيلم، لدرجة أن محاولة تفسيره أمرٌ مُزعِج، لكن، لِنرَ: المسيح صُلِب جُمعةً وبُعِث أحداً. باتمان كُسِر ظهره ودُفِن، ثُم بُعِث من مرقدِه، وحرر غوثام سيتي، وانتهى في هالةٍ من نور.

صنعة الفيلم الفاشي

فيلم "فارِس الظلام"كان مانيفستو فاشياً، أمّا "قيامة فارِس الظلام"فخطابٌ فاشي مُكتمل الأركان، فيه كُل عناصِر الفاشية التي يُمكِن تخيلها: ثُنائية الخير مُقابل الشر، خلط المفاهيم بين الشيوعية والإسلامية - المُهِم أنهم جميعاً أعداء الرأسمالية ونظام العالم (الحُر) - الإيمان بالبطِل المُحرر، طُغيان فئةٍ على فئة، مظاهِر العسكرة المُبالغ فيها، الاعتماد على الأساطير، العسس، استدعاء القصص الديني. ومن ثم، يُضيف كريستوفر نولَن البريطاني ما لم يفعله مُخرجٌ أمريكي قبله: فيلم "قيامة فارِس الظلام" الفيلم الوحيد - على حد علمي، في العقد الأخير - الذي يُنشَد فيه النشيدُ الوطني الأمريكي كاملاً، ضد فكرة احتلالِ أمريكا.

غير أن "فارِس الظلام" كان مانيفستو فاشياً مضبوط الإيقاع، فيما "قيامة فارِس الظلام"فيلمٌ مُشتت للغاية. مُزدحم بالشخصيات والأفكار والقصص، من دون عُمقٍ حقيقي. حتى نهايته التي يُفترض أن تكون عظيمة، كانت نهاية مغشوشة.

تصوير مشهد الاستيلاء علىالطائرة كان مشهداً ممتازاً، لكنّه المُتوقع من فيلمٍ يعتمد على الحِرفية. غير أن شريط صوت الفيلم يُناقض فِكرة الحِرفية، إذ كان مُزعجاً للغاية، فبالإضافة إلى صوت باتمان الصناعي، فإن صوت بين صناعي، ومُعظمه تمتمة، مما يُورِث الرأس صُداعاً. تقليدياً، فإن موسيقى أفلام باتمان صاخبة، لكن موسيقى الفيلم الأخير تصير مُزعجة مع شريط الصوت.

اختيارات المُمثلين كانت مُزعجة، وبعضها موروثٌ من أفلامٍ سابقة. كريستيان بيل نفسه ليس أفضل خيارٍ لباتمان، لكن باتمان لم يكُن أبداً الشخصية التي تعتمد على هيبة المُمثل. باتمان هو قناعه. خارِج طاقِم الشخصيات الرئيسية، فإن اختيارات نولَن للمثلين جاءت كسولة للغاية. مثلاً، عُمدة غوثام يلعب الدور نفسه في مُعظِم الأعمال التي يظهر فيها: المسؤول ضئيل الحجم الذي يرفض أن يرى الخطر، ويتصف بالخفة والطيش وضيق الخُلِق، ويُعاني مما يُسميه الأمريكان "متلازمة الرجل الضئيل". رون داغِت في الأصل رجل أعمالٍ ضخم الجثة، له طلعةٌ مُهيبة، وصفاتٍ نازية. غير أن نولَن لا يزيد عن أن يقص شخصية جستن هامر من فيلم "الرجل الحديدي"، ويُسميها رون داغِت، ويُلصِقها في فيلمه. أمّا نائب داغِت، فقد أكمل دائرة الإزعاج، لأنني رأيتُ له نفسَ الدورِ تقريباً غير مرة، مما كسر حاجز الوهم في الفيلم.

صحيحٌ أن المُخرِج يوكِل اختيار الأدوار لمُخرجٍ مُتخصص في اختيار الأدوار، لكن له القول الفصل فيها. ونولَن يُمارِس كسلاً على كسل، هو ومُخرج الأدوار في الفيلم.

من فيلم "إنسِبشن"، يأتي نولَن بماريون كوتيار وجوزِف غوردن-لفِت (والمرء يتساءل، لِمَ لَم يطلب من كِن واتانابي وليوناردو ديكابريو ظهوراً شرفياً في بعض الأدوار التي كان اختيارُ مُمثليها رديئاً). كوتيار أدّت المطلوب منها، ولم يكُن لها دورٌ كبيرٌ في الفيلم، وإن كان مؤثراً. أما غوردن-لفِت فقد كان مُسطَحَاً ومُزعجاً - رغم أنّه من الممثلين الذين يروقون لي - ولم يكُن صعباً أبداً التنبؤ بحقيقة شخصيته. (وإلا لِمَ جاء بِه نولَن؟).

كَسَل نولَن المُريع في اختيارِ الممثلين يُلقي بثقله على الفيلم، كما يفعل تشتت السيناريو - الذي شارك أخوه في كتابته - وشريط الصوت المُزعِج. غير أن الإنصاف يقتضي القول أن اختيار توم هاردي لدور بين كان موفقاً، فرغم أنّه أصغر حجماً من التصوير التقليدي لبين، إلا أن بُنيته كانت قابلة للتصديق، وبذلك صارت أكثر إرعاباً. إضافة إلى ذلك، فإن المشهد الوحيد الذي يظهر فيه وجهه ينجح في خلق التناقض، بين الوجه الصبوح الذي كان له، وبين ما أصبح عليه، ويُري الجمهور كيف تراه حبيبته وراعيته.

في المُجمَل، ينبغي أن يُشاهِد الفيلم كُل من تابع السلسلة مِن قبل، ليحصل على خاتمة ثُلاثية نولَن. أما من لم يفعل، فسيجد تتبع خيوطه صعباً للغاية، كما أنّ طول مُدة الفيلم يجعله أصعب بكثير. الفيلم أطول من اللازم، مُشتت أكثر من اللازم، وحافلٌ بالخيارات الفنية المؤسِفة. علاوة على ذلك كُله، فإنّه فيلمٌ فاشي تام الفاشية، تُمارِس أمريكا عن طريقه تعويذة تحفظ نفسها بها مِن غائلة عملها.

عين على السينما في

31/07/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)