حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الافتتاح كوميدي والختام عامر بالنجوم

أفلام "ترايبيكا" بين الجديد والغريب

محمد رضا

 

روبرت ردفورد لديه مهرجان “سندانس” وروبرت دي نيرو لديه مهرجان “ترايبيكا” . واحد في جبال ولاية يوتا، والثاني في مدينة نيويورك . الأول للسينما المستقلّة تحضره هوليوود للبحث عن أفلام صغيرة يمكن أن تنجز نجاحات كبيرة ما ساعد عدداً كبيراً من المخرجين الجدد، والثاني يحضره مثقّفو مدينة نيويورك وهواة الأفلام الفنية لكنه يعرض بعض إنتاج هوليوود أيضاً .

هذا العام يقام المهرجان النيويوركي في دورته الحادية عشرة ويقع ما بين الثامن عشر والتاسع والعشرين من الشهر الجاري، وفيلم الافتتاح هو “خطوبة لخمس سنوات” وهو كوميديا عاطفية مع إميلي بْلنت وجاسون سيغال . أما فيلم الاختتام فهو “المنتقمون” وهو معبّر كامل عن السينما الهوليوودية الكبيرة، ليس فقط بسبب ميزانية بلغت 220 مليون دولار، بل أيضاً بسبب مجموعة أبطاله: كريس همسوورث، سكارلت جوهانسن، روبرت داوني جونيور، جيرمي رَنر، سامويل ل . جاكسون ومارك روفالو .

لكن بين الافتتاح والاختتام هناك أعمال ذات مواضيع بارزة يأمل المهرجان منها أن تمنحه المزيد من الصورة الإيجابية بين المهرجانات التي يزدحم بها هذا العالم . التالي عرض لاختيارات الناقد لأحد عشر فيلماً يعتبرها المهرجان من بين أهم ما لديه .

هناك، على سبيل المثال، مجموعة من الأفلام الوثائقية يتقدّمها “العالم أمامها”، وهو فيلم هندي يفتتح مسابقة السينما التسجيلية، حول صدام بين ثقافتين هنديّتين: ثقافة تلتزم بها نساء محافظات من ديانة الهندوس ترفض خلالها كل ما هو غربي، وأخرى مناقضة تماماً تعبّر عنها المرأة الهندية المنفتحة تلك التي نجدها في أفلام اليوم أو في مسابقات ملكات الجمال .

فيلم تسجيلي آخر يتوقّعه النقاد هو “وافومبا” الذي يمكن تلخيصه بحكاية “العجوز والبحر” على طريقة إفريقية في هذا الفيلم التسجيلي حول لقاء المخرج الهولندي جيرون فان فلزن بصياد بحر عجوز اسمه مسعود متخصص بصيد أسماك القرش .

أيضاً في النطاق ذاته، فيلم بعنوان لافت “هل كانت هناك ديناصورات أيام نوح؟” لمخرجه سكوت ثورمان الذي يتطرّق إلى الوضع التعليمي في الولايات المتحدة وينفذ من خلاله إلى ما يحدث من خلافات بين العلم والدين .

درامياً يبرز فيلم “بينما كنّا هناك” المصنوع على طريقة أفلام ستينات القرن الماضي (بالأبيض والأسود) حول زوجين يكتشفان خلال رحلة سياحية إلى إيطاليا أنهما لا يحبّان بعضهما البعض، والأفدح أن الزوجة وقعت في حب شاب التقت به خلال الرحلة .

وفي “أول الشتاء” جمع بين الدراما والتشويق حول مجموعة من الشبّان يؤمّون معسكراً لليوغا، لكن كارثة كونية تقع ما يحدو بالجميع لصرف النظر عن التمارين الروحانية للاهتمام بالمحيط الواقعي الجديد .

وهناك ممثلتان كانتا اختارتا الإخراج وتقدّمان هنا ما حققتاه مؤخراً: جولي دلبي تقدّم فيلمها الروائي الثاني “يومان في نيويورك” (الأول كان بعنوان “يومان في باريس”) الذي تقوم ببطولته أيضاً . المخرجة الثانية هي سارا بولي التي كانت حققت نجاحات في أفلامها القليلة السابقة (أحدثها الفيلم الممتاز “بعيداً عنها”) وهي لا تضع نفسها أمام الكاميرا أيضاً، بل تترك بطولته لسث روغن وميشيل وليامز .

الغرابة تتبدّى في فيلم بعنوان “غفران قاتل البوذي” لبن- إك راتاناروانغ حول قاتل مأجور في مهمّة لقتل بوذي، لكنه يتلقّى رصاصة في رأسه . حين يستيقظ من الغيبوبة بعد ثلاثة أشهر يشاهد الأشياء جميعاً مقلوبة . الكاميرا تتبع وجهة نظره حيث الأرض هي السقف والسماء تحتها .

وهناك حادثة غريبة أخرى يبني عليها المخرج كامبل هوبر فيلمه “43 ألف قدم” حول رجل يسقط من الطائرة التي كان يستقلها بعدما فُتح الباب فجأة .

والمخرج السوريالي الإسباني “أليكس دي لا أغلزيا يوفّر فيلمه الجديد “تبعاً للحظ” وهو الذي كان قدّم عملاً مبهراً قبل سنتين في مهرجان فينيسيا بعنوان “إنشودة الترومبت الأخير” . الفيلم الجديد حول عاطل يتحوّل إلى حديث المدينة بعدما وجدت إحدى المؤسسات طريقة لاستخدامه لكي يدر لها الشهرة . سلمى حايك تتدخل وتنقذه من وضع يائس .

حكايات حول فيلم أندرسن الجديد

هناك احتمال كبير لدخول فيلم بول توماس أندرسن الجديد الذي ما زال بلا عنوان نهائي مسابقة مهرجان “كان” الذي كان القائمون عليه طلبوا مشاهدته، لكن قبل المضي في محاولة معرفة ماهية هذا الفيلم، لابد من التذكير بأن أندرسن هو المخرج الذي تبوّأ فيلمه السابق “سيكون هناك دم” مركزاً كبيراً بين النقاد وهواة السينما الفنية، عندما خرج للعروض قبل أربع سنوات .

ذلك الفيلم دار حول الرجل الذي خاصم الدنيا سعياً لمصالحه الماديّة، وذلك في حكاية تقع أحداثها قبل نهايات القرن التاسع عشر .

الفيلم الجديد الذي يتكهن البعض بأن عنوانه سيكون “السيد” منضوٍ تحت ستار شديد من السريّة، لكن واحدة من أقوى الشائعات المنتشرة هي أنه يتحدّث عن كنيسة السيانتولوجي، وهي كنيسة (بدورها سريّة) تقوم  بمساعدة المنتمين إليها على تبوّأ مناصب كبيرة، بينما تعاليمها المتزمّتة تمنع من يدخلها الخروج منها .

وهناك أقاويل أخرى مفاد أحدها أن القصّة تدور حول جندي من البحرية ومصاعب حياته التي انتهت به سكيراً . ويضيف البعض أن هناك تشابهاً بين مصير الشخصية الرئيسة والحياة الواقعية لبول تومانس أندرسن الذي مات والده قبل بضع سنوات وكان بدوره جندياً في البحرية .

والشائعة الأخرى تؤكد أن الفيلم هو “وسترن” كما كان فيلم أندرسن السابق “سيكون هناك دم” . كل ذلك والمخرج يرفض الحديث للصحافة ليؤكد أياً من هذه الأقاويل أو ينفيها .

الفيلم السابق الذي قام ببطولته دانيال داي لويس كان نقطة تحوّل لمخرج برهن في أفلامه الأولى عن جديّته وأهميّته، لكن ليس إلى حد استثنائي . من تلك الأفلام “ليالي مفزعة” الذي كان واحداً من آخر أفلام نجم الأمس بيرت رينولدز ولجانبه كل من جوليان مور وجون س . رايلي ودون شيدل ومارك وولبرغ ووليام ه . مايسي . و”مغنوليا” الذي ضم توم كروز في الدور الأساسي لجانب فيليب سايمور هوفمن وفيليب بايكر هول وجون س . رايلي ووليام ماسي وجوليان مور أيضاً .

هذان الفيلمان كانا أفضل من عمل المخرج الثالث “حب سكير” الذي كان “كوميديا جادّة” إذا ما صح التعبير، وهو من بطولة إميلي واتسون وأدام ساندلر .

“سيكون هناك دم” فاق بسبب معالجته الفنية وإيقاعه الفاحص للحياة الأمريكية كل هذه الأفلام الثلاثة مجتمعة . صحيح أن المخرج لم يخرج من سباق الأوسكار بجائزة، لكن الأكاديمية منحت الفيلم جائزتين ثمينتين واحدة لدانيال-داي لويس كأفضل مخرج والثانية لمدير التصوير روبرت إلسويت .

بالنسبة للفيلم الجديد الذي يقوم فيليب سايمور هوفمن ببطولته، فما هو مؤكد أن السيناريو كان جاهزاً منذ عامين على أساس أن تقوم شركة “يونيفرسال” بتمويله، لكنها تراجعت عنه رغم صغر ميزانيّته (30 مليوناً) لتلتقطه بعد ذلك شركة صغيرة .

أوراق ومشاهد

علي وإيما

“علي: خوف يأكل الروح”، هو فيلم للألماني الراحل راينر فرنر فاسبندر أنجزه سنة 1974 حين كان في مطلع تألّقه . كان أخرج “دموع بترا فون كانت المرّة”، و”رقّة الذئاب”، وبعده حقق “فوكس وأصدقاؤه”، وهي أفلام متقاربة، فالمسافة الزمنية بين هذه الأفلام لا تتعدّى أشهراً قليلة . المثير لقدرٍ من الدهشة هي أنها لا تحمل أي علامات سرعة، خصوصاً حين يأتي الأمر إلى هذا الفيلم، إذ قام فاسبندر بتصويره في خمسة عشر يوماً فقط .

إنه فيلم قشيب، لا يتمتّع بأي عناصر إنتاجية كبيرة، لكنه مُعفى من الأخطاء أيضاً . إلى ذلك هو فيلم مهم بين تلك التي ناقشت قضايا المجتمع والآخر . قصّة شاب من المغرب العربي اسمه علي (قام بدوره الهادي بن سالم) يعيش مهاجراً في ألمانيا (الغربية في زمن إنتاج الفيلم)، وامرأة تكبره بنحو عشرين سنة (بريجيت ميرا) وهما على علاقة يعيشان معاً ويتلقيان معاً سهاماً من نوعين: طبقية وعنصرية، فكلاهما عامل فقير . الألمانية البيضاء تعمل منظّفة وعلي مسلم عربي أسمر اللمحة يعمل ميكانيكي سيارات . حبّ كل للآخر هو حب إشباع رغبة . هي من فاتها القطار وهو من يعيش وحيداً، وفاسبندر هو من ينسج حولهما صورة لمجتمع قاس يحكم سريعاً ويمارس عنصريّته من دون رادع .

في أحد مشاهد الفيلم تتلقّى إيما إهانة ألمانية نموذجية: أحد المتعصّبين يقول لها إنها ليست ألمانية “صافية”، لأنها لو كانت لما صاحبت هذا “الغريب”، وهو ما لا يترك ريباً في عنصرية المجتمع نفسه الذي خرج من رحى حرب استخدمت تميّز وعنصرية الشعب الآري شعاراً سياسياً .

يسلّط فاسبندر الضوء بلا خشية على هذا التصنيف العنصري الذي يحمل قدراً من فاشية الموقف ويدينه. فيلم فاسبندر ليس عن نضال الشخصيات والمواقف العاتية بحد ذاتها، إذ ليس هناك مواقف بطولية لا من إيما ولا من علي، بل أوضاع حرجة يحاولان تحدّيها بكل ما يملكانه من ضعف أو قوّة . وعن علاقة لا يعتقد أنها متساوية في الأصل ولا تحمل أفقاً مستقبلياً مرضياً لأي منهما .

الهادي بن سالم الذي لا تأتي المصادر على ذكر مولده لكنها تحدد أنه مات سنة ،1992 لم يكن ممثلاً سينمائياً حين ظهر في خمسة أفلام من أعمال فاسبندر، ولا مثّل في أفلام سواه . أول أفلامه معه كان “تاجر الفصول الأربعة” (1971) وآخرها “فوكس وأصدقاؤه” . “علي: خوف يأكل الروح” كان الرابع في عداد تلك الأفلام .

م .ر

merci4404@earthlink.net

http://shadowsandphantoms.blogspot.com

الخليج الإماراتية في

22/04/2012

 

«لا أفر» يعيده مجدداً إلى الشاشة الكبيرة

آكي كوريسماكي.. الطيبــة والبوهيمية وكل شيء في السينما

زياد عبدالله - دبي 

ألاحق راينر فاسبندر في أفلام المخرج الفنلندي آكي كوريسماكي «1957»، ثم أعدل عن ذلك، أعاود مشاهدة أفلام روبرت بريسون ومعها حفنة من أفلام جان بيير مالفيل، والسبب هذا اللعين كوريسماكي، أتوقف عن كل ذلك وأعود إلى أفلام الأخير ممتنعاً عن خوض غمار مقارنات لن تفضي إلى شيء، كما لو أني أعمل على عزله عن أسس مملكته السينمائية، الأمر الذي سيبدو صعباً إلى حد ما، رغم المساحة المكانية الخاصة به تماماً التي تستدعي زمناً خاصاً به أيضاً، ولهذه المساحة شخصياتها التي تتحلى بالطيبة أولاً و تدفع ثمنها عن طيب خاطر أو رغماً عنها، وفي أحيان أخرى سيكون لهذه الطيبة أن تكون موجعة لمن غرروا بها وتلقفوها وراحوا يمرغوها في التراب.

في مثل هذه الحالة يمكن الاستعانة بالأدب كمدخل، وربما دويستوفسكي بالمتناول وليزافتا نيقولايفنا تقول في «الشياطين»: «حياة تمضي وأخرى تبدأ لتحل محلها ثالثة، وهكذا دواليك إلى غير نهاية. النهايات كلها تشبه أن تكون مقطوعة بمقص»، لا ريب أن المصائر تتحدد بمقص وهو سينمائياً المونتاج ومن ثم النهايات القاطعة والحاسمة وتلك المفتوحة على شتى الاحتمالات، وفي إحالة ذلك إلى أفلام كوريسماكي تمسي الحيوات تنتهي في فيلم لتنتقل إلى آخر ودائماً هناك حقيقة سينمائية فاقعة ألا وهي «إن ما يجري الآن مهم لأنه ليس معزولاً عن الماضي والمستقبل»، والحقيقة الوحيدة التي تصرخ بنا هي حقيقة فيلم كوريسماكي نفسه، إذ يمتزج الزمن على طريقته تماماً، فالأزياء قد تكون دائماً في الستينات لكن الأحداث تجري في أواخر القرن العشرين أو في عام 2011 كما هو الحال مع «لا أفر» ،2011 وإحياء «الهيبيز» من جديد. وبما أنني استعين بدويستوفسكي، فإن أول أفلام كوريسماكي كان «الجريمة والعقاب» ،1983 وذاك الصرصار الذي يطالعنا في اللقطة الافتتاحية من الفيلم يمشي على سطح خشبي فإذا بساطور تقطيع اللحمة يطبق عليه ومن ثم يزيحه، وليتبع ذلك مشاهد تقطيع اللحم في مسلخ كبير، ولنقع على رايكينن يدخن سيجارة وليعود إلى غسل الدم، ومن ثم سيتحول رايكينن إلى راسكولينكوف الذي سيقدم على قتل رجل لا نعرف عنه إلا أنه ثري، وذلك من خلال أثاث البيت وفخامته وثيابه، وحين يوجه رايكينن مسدسه إليه يقول له «لماذا تقتلني؟» فيجيبه رايكينن «لن تعرف أبداً!» ومن ثم تأتي ايفا إلى البيت، لتشاهد رايكينن جالساً إلى طاولة ضحيته يعبث بأغراضه، ويسألها «ماذا تريدين؟»، فتجيبه بسؤال «ماذا حدث له؟» فيقول لها رايكينن «لا شيء! إنه ميت»، وتقول ايفا «لديهم حفلة هنا إنني أساعدهم في ذلك»، فيجيب رايكينن «لن يكون هناك من حفلة، لقد قتلته، ما الذي تنتظرينه؟ هيا اتصلي بالشرطة». أورد نص الحوار هذا والمترافق مع تكات الساعة، للإضاءة على أسلوب الحوار في أفلام كوريسماكي، الذي يكون متقشفاً دائماً وقليلاً إلى حد بعيد، لكنه يقول الاشياء كما هي، ووفق منطق فلندي.

بدايات كوريسماكي أدبية بامتياز، فالحديث عن «الجريمة والعقاب» سيضعنا أمام رؤيته هو تحديداً لهذا العمل، وعلى شيء من التحدي على اعتبار أن هيتشكوك قال لفرانسوا تريفو إنه وجد صعوبة كبيرة في تحويل تلك الرواية إلى فيلم، وكوريسماكي قرر أن يخوض ما لم يتجرأ على فعله هيتشكوك بعد قراءته لحوارات هيتشكوك - تريفو الشهيرة، وليمضي يصيغ بصرياً ما كان على تناغم مع دويستوفسكي، فغرفة رايكينن لن تكون إلا غرفة راسكولينسكوف، مع أننا حيال قصة مختلفة ظاهرياً لكنها على اتصال بالرواية في العمق، كما هو رايكينن الذي قد يبدو دافعه لارتكاب جريمته متلخصاً في أنه ينتقم لخطيبته ممن تسبب بحادث لها أودى بحياتها، لكن بعد ثلاث سنوات على ذلك الحادث، وفي ملاحقة شخصية رايكينن سيكون مثله مثل راسكولينكوف لديه الكثير من الدوافع التي لا يعرفها والتي تتعدد ولا تستقر على دافع واحد، حسبنا ما يتفق عليه كل من رايكينن وراسكولينكوف ألا وهو أن البشر ليسوا إلا قملاً، ولا يريد كل واحد منهما أن يكون مجرد قملة.

من مقاربة كوريسماكي لدويستوفسكي ينتقل في عام 1987 مجدداً لتقديم فيلم جذوره أدبية ومسرحية بامتياز ينقض فيه على هاملت شكسبير، يحمل الفيلم عنوان «هاملت يتوجه للعمل» إن صحت الترجمة، حيث سيكون على أمير الدنمارك أن يكون وريث والده، والمعبر الدرامي لمأساة هاملت يجري من خلال «البزنس» العائلي، والذي لن نعرف منه إلا تصنيع بطة بلاستيكية، فبعد مقتل والد هاملت على يد كلاوس عم هاملت وعشيق أمه، فإن هذا الأخير سيستولي على كل شيء ويضع هاملت الذي يملك 51٪ من أسهم الشركة جانباً، مشغولاً في اجتماع لمجلس الإدارة برسومه الطفولية المنكب عليها بأقلام الشمع، أو كتابة رسائل إلى حبيبته أوفيليا وقراءة كتب «كوميكس» التي يجيب كما هاملت شكسبير «إنها كلمات كلمات».

بين هذين الفيلمين أي «الجريمة والعقاب» و«هاملت يتوجه للعمل» سنتعرف إلى كوريسماكي متكئاً على الأدب، وعلى عملين كلاسيكيين لهما أن يكونا الأشهر أدبياً، ولعلهما سيكونان وثيقتين جماليتين لإمكانات هذا الكائن السينمائي في التعامل معهما بحرية كبيرة، وتقديم مشهدية خاصة به، ونقل المسرحي في «هاملت» من كونه سؤالاً متعلقاً بما يوشك أن يحصل إلى شيء نتلقاه في الراهن وهو يمضي إلى نهاية هاملت المآساوية وفق حلول إخراجية تجعل من هاملت قاتل والده، لا بل إن كون التراجيديا تنتهي بسلسلة من الميتات، فإنها ستكون مع كوريسماكي محققة وفق معالجة تبقى ماثلة بالأذهان، تبتعد وتقترب من «هاملت» شكسبير لكنها تراجيدية على طريقة كوريسماكي، مثلما هو الحال مع مشهد مجابهته كلاوس، حيث يتفادى طعن أخي أوفيليا له بضربه بالراديو الضخم حيث يدخل رأسه ومن ثم يشغل الموسيقى وقد صار وجه أخي أوفيليا راديو كبير الحجم يصدح بالموسيقى.

سيكون طيف روبرت بريسون حاضراً بقوة في هذين الفيلمين، وعلى شيء من النسبة والتناسب إن تعلق الأمر بالأبيض والأسود كما هو الحال مع «هاملت يتوجه للعمل»، أو حتى «ظلال في الجنة»، 1986 الملون، الواقع زمنياً بينهما والذي لطالما وجدت في شخصية نيكادر، العاشق عامل النظافة مقدمة للتعرف إلى كل تلك الشخصيات الآسرة في أفلام كوريسماكي ونحن نخطو إلى «سينما المؤلف»، فينكادر سيقول لتلك الشقراء التي يقع في غرامها، «أنا ذاهب إلى استوكهولم لزيارة أختي المقيمة في مصح عقلي، هل ترغبين بمرافقتي؟»، إنه الشخصية الأولى التي سنمضي معها إلى كائنات كوريسماكي التي تنبض حقيقة، والتي لن تكون غرابتها إلا من جراء تورطها بأن تكون على طبيعتها، لا ترتكب إلا ما يتسق تماماً مع حياتها، والاصرار على دفع الاثمان مهما بلغت فداحتها، فأحياناً تنجح كما هو الحال مع فينكارد وتنجو، لكنها دائماً تتحمل تبعات ما ارتكبته وما انحازت إليه إلى حد الجنون والتمركز حوله، ولتكون التغيرات الدرامية التي تطرأ عليها متأتية من ذلك، كأن يحسم فينكارد أمره ويمضي ليأخذ ايلونا من محل الأزياء الذي تعمل فيه، وليطال التغيير ايلونا أيضاً في حسم أمرها والانحياز إلى قلبها، وذلك بعد عدم تمكنها من أكل لقمة واحدة في المطعم الذي دعاها إليه صاحب محل الأزياء، بينما منعها من دخوله صاحب المطعم حين كانت برفقة فينكارد.

التركيز على فينكارد سيقودنا إلى شخصيات وأفلام أخرى، على اتصال به بشكل أو آخر، ففي «فتاة معمل أعواد الثقاب» 1990 سنكون حيال ايما بوفاري التي لا تنتحر بسم الفئران، بل تذيق الموت كل من حولها بهذا السم - كما لو أنها ضد بوفاري كما صاغها غوستاف فلوبير - انتقاماً من وحدتها، من تعامل كل من حولها معها كما لو أنها حشرة، هي الوحيدة على الدوام والتي ما إن تقع على رجل حتى يعبث بها ويتخلى عنها وهي تقول له في رسالة عن حملها منه «إنها تفضل أن تكون حاملاً ببنت وإن كنت ترغب في صبي فسأحب ذلك، لكن يمكن شراء أشياء جميلة للفتيات بينما يحب الصبيان الأشياء القاسية كالهوكي». بعيداً عن التراجيديا نقع في «غيوم عابرة» 1996 على الحظ العاثر الذي يصيب ألونا ولاوري، ومعهما حفنة من الطيبين، حيث يغلق المطعم الذي تعمل به أولونا أبوابه، ويطرد لاوري من عمله كسائق ترامواي بعد إجراء قرعة بين الموظفين الذين يجب الاستغناء عنهم، لكن سرعان ما يتحول ذلك إلى غيوم عابرة حين ينجحا في افتتاح مطعهما الخاص، الأمر الذي لن يكون كذلك في «أضواء الغسق» ،2006 حيث ذاك الحارس الذي تخشخش مفاتيحه سيقبل مصيره كاملاً فقط لخاطر الحب، مهما أذاقه ذلك الحب من خديعة، لا بل إنه وحين يقع على تلك المرأة التي تستغله مراراً سيقول شيئاً واحداً «هل تتزوجينني؟»، ومن ثم ستتوالى هزائمه التي لا يقر بها أبداً ويلدغ من الجحر نفسه مراراً.

تلك الشخصيات سابقة الذكر على ارتباط بمهنها، لكل منها لعنة تطاله من عمله أيضاً، لكن ماذا عن البوهيمية في أفلام كوريسماكي، إنها تبدأ مع أولئك الثلاثة في «الحياة البوهيمية» 1992 الناطق بالفرنسية، حيث الكاتب والموسيقي والرسام يجتمعون على حياة تصاغ حسب مشيئتهم، ولعلها كذلك في أشهر أفلامه «رجل بلا ماض» ،2002 الجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي ،2002 والذي يبدأ من مشهد له أن يكون الأعنف في أفلامه، وذلك حين ينام «السيد أم» على مقعد فيتلقى ضربة على رأسه وتتم سرقته، وليصبح ذلك الرجل الذي لا ماضي له، وليقول كوريسماكي عن هذا المشهد «أردته أن يكون صادقاً، لأن البشر يريدون أن يشاهدوا العنف كأمر جيد. هناك شيء خطأ في رؤوسهم، ولهذا صنعته حقيقياً، سريعاً وبشعاً». سرعان ما سينجح «السيد أم» في الحاضر الذي يجد نفسه فيه محاطاً بأناس ليس للمال من معنى في حياتهم، وليستأجر «كارفان» متداعياً ويسكنه ويحوله إلى جنة بوضع صندوق موسيقي «جيوك بوكس».

أجد «لا أفر» 2011 (ناطق بالفرنسية) على اتصال وثيق بـ«الحياة البوهيمية»، حيث سنقع مجدداً على شخصية مارسيل ماركس، الكاتب في «الحياة البوهيمية»، والذي قرر أن يسكن في بلدة «لا أفر» ويعمل ماسحاً للأحذية يجمع القليل من المال ويحمل الكثير من الحب لزوجته التي سرعان ما يصيبها مرض يجعله يزورها يومياً في المستشفى وفي يده باقة ورود. مارسيل ماركس في «لا أفر» سيكون على اتصال بمشكلات المهاجرين، سيسعى هو وكل من حوله إلى انقاذ طفل افريقي من الاعتقال كونه مهاجراً شرعياً والنجاح في نقله إلى بريطانيا حيث تسكن أمه، وعبر وسائل لها أن تقول مازال العالم كما في الستينات وأخلاقيات مارسيل ماركس مازالت قابلة للتطبيق، حيث لا مكان للجشع والعنصرية، والمال لا يعني شيئاً أبداً.

أحداث «لا أفر» التي تجري في زمننا الحاضر لا تعير هذا الزمن إلا استعماله كإطار بينما الشخصيات في أزيائها وعوالمها تنتمي للستينات، وبالتالي سلوكها أو كما يقول كورسيماكي في لقاء معه في «الغادريان»: «كل شيء كان مختلفاً عما هو الآن، كان يمكنك أن تكون متشرداً ومن ثم تحصل على عمل، أما الآن فإنك تموت من البرد».

أفكار في الحمام

آكي كوريسماكي فعل كل شيء في السينما، أفلاماً ملونة، وبالأبيض والأسود، وحتى فيلماً روائياً صامتاً كما هو الحال مع «جوها» .1999 شغف بالموسيقى التي يستخدمها على طريقته الخاصة في أفلامه التي لا تخلو من فرقة موسيقية تعزف في مطعم أو ناد، وفي عام 1994 قدم فيلماً موسيقياً عجيباً غريباً عنوانه «كاوبواي ليننغراد يلتقون موسى»، إذ سنتعرف إلى فرقة موسيقية عجيبة أفرادها أصحاب غرة شعر مترامية تتناسب والأحذية المسننة التي ينتعلونها، والتي تماثل في طول مقدمتها طول غرة شعر كل واحد منهم، ومن ثم رحلتهم إلى نيويورك ومكسيكو تحت زعامة فلاديمير العجيب الذي يعطيهم حين يجوعون كيس بصل وبرفقتهم طوال الوقت تابوتاً لزميل لهم مات إثر انغراز غيتاره فيه، وفي هذا غيض من فيض من سريالية الفيلم وتحول الفرقة إلى الروك الذي يعشقه كوريسماكي ويكره في الوقت نفسه هوليوود، ويعتبرها وباء سينمائياً، ليس في أفلامه إلا ما يقف على النقيض منها، هي التي يعتبرها تقدم وجبات من العنف والجمال المفبرك، ففي «غيوم عابرة» و«أضواء في الغسق» تحضر السينما ولا شيء فيها سوى أصوات إطلاق نار ودون أن نرى الشاشة، والممثلون في أفلامه ليسوا وسيمين ولا حسناوات، بل إنهم يتكررون ويتنقلون في أفلامه مثلما هو الحال مع ماتي بيلوبا وكاري فانان وماركو بيلتولا وكاتي كوتينن الذين يحملون سمات أناس عاديين غير صالحين للنجومية بالمعنى الهوليوودي الملمّع، ومع «لا أفر» أكد كوريسماكي أنه مازال حاضراً، وقد كان أعلن قبل ظهور هذا الفيلم أنه توقف عن إخراج الأفلام، وقد صرح عام 2003 «كنت أجلس في الحمام وتأتي إلي الأفكار، لكنني لم أعد شاباً، وأنا الآن أجلس في الحمام فقط».

الإمارات اليوم في

22/04/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)