حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«بيروت في الليل»

من يقين السينما الجيّدة الى اسئلة الرغبات الاستفزازية

إبراهيم العريس

مع الضجيج المتجدد حول الفيلم الجديد للسينمائية اللبنانية دانيال عربيد، والمعنوَن في نسخته اللبنانية «بيروت في الليل»، علماً أن عنوانه في الخارج هو «بيروت أوتيل»، يمكننا القول ان هذا الفيلم بات يعتبر من أكثر الأفلام المحلية إثارة للمشاكل ولفتاً للأنظار... وذلك في انتظار ان يعرض – او لا يعرض! – على الشاشات المحلية وغيرها بعدما عرض على الشاشة الصغيرة في فرنسا قبل فترة. ومن المعروف ان الضجيج الذي نشير اليه هنا، يتعلق بموقف الرقابة الرسمية في لبنان من الفيلم، حيث تصرّ الرقابة على منع عرضه، ويصر اصحابه على هذا العرض الى درجة انهم رفعوا القضية برمّتها الى مجلس شورى الدولة عبر شكوى هدفها كسر قرار الرقابة حاشدين في سبيل ذلك أعداداً تتزايد من المثقفين والإعلاميين ومن افراد المجتمع المدني المدافعين عادة عن الحريات العامة. وحتى كتابة هذه السطور لا يزال من غير الممكن معرفة إلام سيؤول الأمر؟ وهل سيحقق اصحاب الفيلم ما يتطلعون اليه؟

ومع هذا يمكن القول منذ الآن ان الفيلم، ولا سيما من طريق الألوف من النسخ المقرصنة، بات منتشراً في كل انحاء لبنان... وربما سيؤدي ازدياد الضجيج حوله الى جعل الفيلم من دون حاجة الى ان يعرض في الصالات او حتى على شاشات التلفزة المحلية نظراً الى ان معظم الذين يهتمون بمشاهدته سيكونون قد شاهدوه... في بيوتهم. ومن هنا، من الواضح ان استمرار اصحاب الفيلم في الصراع حول السماح بعرضه، لن يكون اكثر من مسألة مبدأ. ومن المنطقي القول هنا ان هؤلاء، في المعركة التي يخوضونها ليسوا وحدهم... فالمسألة، ومهما كان من شأن التفاصيل، مسألة حريات في بلد تتقلص فيه اكثر وأكثر هوامش الحرية. ومسألة مستقبل في زمن الفضاء المفتوح وتكاثر وسائط ايصال الفنون وغيرها من ضروب التعبير، وهي وسائط نعرف انها تتجاوز كل انواع الوصايات والقمع والتعسّف والأحكام المسبقة.

التقنية المنتصرة

من ناحيتنا هنا، نعرف ان كل هذا الكلام بات غير قابل للسجال... ولئن كانت المسألة كلها تستند الى بعد معنويّ وأخلاقيّ لا لبس فيه، فإنها ايضاً تستند الى بعد تقنيّ ينبع مما جاء في السطور السابقة وخلاصته، بكلمات اخرى، ان كل محاولات المنع والحجب في زمننا هذا، باتت تقف خارج الزمن. بل إن في وسعنا ان نقول، استطراداً، ان الرقابات، بكل اجهزتها وسلطاتها، لم تعد في حقيقة الأمر اكثر من وكالة (طوعية ومجانية) للترويج لكل ما هو ممنوع... حيث يكفي ان تمنع عملاً ما، فنياً كان او غير فني، حتى يسعى الجمهور العريض الى الحصول عليه من دون ان يكون قد عرف شيئاً، حتى، عنه او عن صاحبه، وبتدفق يفوق بعشرات الأضعاف ما كان يمكن هذا العمل ان ينتشر لو لم تمرّ عليه عصا الرقيب. ولعل في امكاننا هنا ان نعطي عشرات الأمثلة التي يبقى اشهرها وأهمها مثال ما حدث لرواية الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي «الآيات الشيطانية».

ونعرف ان هذه الحكاية اندلعت اواخر النصف الثاني من ثمانينات القرن الفائت حين اصدر رشدي، الذي كان يومها مجرد كاتب نخبويّ معروف في اوروبا ضمن الحلقات المثقفة بفضل اعمال سابقة له مميّزة مثل «العار» و «اطفال منتصف الليل»، اصدر تلك الرواية التي سيقول كبار النقاد لاحقاً انها كانت من اسوأ اعماله حتى ذلك الحين. منذ صدور «الآيات الشيطانية» إذاً، اعتبرت مسيئة الى الإسلام وتحديداً الى شخص النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم)، وراحت تهاجم الى درجة ان زعيم الثورة الإيرانية الإمام الخميني، اصدر في حق رشدي تلك الفتوى القاتلة التي باتت شهيرة إثر ذلك... طبعاً رحل الخميني وبقي رشدي حياً يكتب ويكرّم ويزداد عدد قارئيه. اما الرواية المدانة نفسها فيقال اليوم ان عدد النسخ التي بيعت منها ومن ترجماتها، يعد بعشرات الملايين. ناهيك بأنها ترجمت الى عشرات اللغات. وفي هذا المعنى قيل دائماً ان الفتوى الخمينية، كانت اكبر محفّز للناس على قراءة الرواية التي سيقول معظم الذين قرأوها انها لم تكن تستحق تلك الضجة وأنها لو تركت على حالها لما تجاوز عدد قرائها عشرات الألوف حاكمين عليها فنياً بالضحالة وصعوبة التعبير وافتعال الأحداث. وطبعاً ليس هذا الجانب من القضية ما يهمنا هنا. ما يهمنا هو الإشارة الى هذا الدور الساذج الذي تلعبه الرقابة – كل رقابة – اذ تتحول رغماً عنها الى اكبر مروّج لما تريد منعه!

رواج سينمائيّ

اذا كنا نكتفي هنا بهذا المثل العالمي الواضح في معناه ومبناه، لا بدّ من ان نشير الى ان لبنان شهد خلال السنوات الماضية، احداثاً عدة من هذا النوع، لعلّ من الطرافة ان نذكر هنا ان معظمها وأشهرها يتعلق – ويا للمصادفة الغريبة! – بنتاجات فنية ايرانية معارضة سرعان ما وجدت الرقابة الرسمية اللبنانية نفسها تمنعها متيحة لقراصنة الأسطوانات المدمّجة فرصة ذهبية لتحقيق ارباح طائلة... ولتلك الأعمال انتشاراً لم تكن لتحلم به. وهذه الحكاية تتكرر هنا مع فيلم دانيال عربيد «الليل في بيروت» الذي باتت نسخه «المقرصنة» منتشرة بالألوف موزعة في كل بيت.

ان السؤال الذي نصل اليه هنا انطلاقاً مما تقدم وفي صدد هذا الفيلم هو الآتي: هل يستحق فيلم دانيال عربيد الجديد (والثالث كروائيّ طويل لها) كلّ هذا الضجيج؟ من موقع حرية التعبير: أجل يستحقّ. غير ان الاكتفاء بهذا الجواب لن يوصل قضية الفيلم برمّتها الى اكثر من نصف الكلام. وذلك بكلّ بساطة، لأننا نجدنا، بعد مشاهدة الفيلم على الشاشة الفرنسية الصغيرة ثم على الشاشة «المقرصنة»، امام حال من المفارقات والالتباسات، تنتمي الى تلك التي باتت تتكرر فصولاً منذ اكتشف المنتجون المبدعون «فوائد» التجابه بين اعمالهم والرقابات... وفي مقدمها ان التجابه هذا، وكما اسلفنا، بات درباً ممهداً للانتشار والشهرة. والحال هنا هي انه اذا كانت مثل هذه المجابهة تفيد اعمالاً متوسطة القيمة او ضئيلتها بحيث تعطيها مكانة وأهمية لا تستحقانها، فإنها هنا في فيلم دانيال عربيد تفعل ما هو عكس هذا تماماً: تسير بقيمة العمل في اتجاه معاكس لمنطقه وقيمته. ونقول هذا هنا تحديداً لأننا في الحقيقة بصدد فيلم جيد بل مميّز في الكثير من جوانبه. بل لعله واحد من افضل الأفلام اللبنانية التي حققت خلال السنوات الأخيرة، على الأقل من خلال أبعاده الفنية ولغته السينمائية. ومن هنا نستطرد قائلين ان مخرجته، اذ صاغت فيلمها على هذه الشاكلة، لم تكن في حاجة الى ان «تقحم» فيه اياً من ذينك العنصرين اللذين من الواضح انهما استثارا الرقابة، بل استفزّاها، فتحركت: عنصر الجنس من ناحية، ومن ناحية اخرى، عنصر الدنوّ مما يعتبر «قدس الأقداس» في التركيبة السلطوية في لبنان، وهو كل ما يتعلق بأمن الدولة والصراع «المفترض» بين اجهزة الاستخبارات وما الى ذلك. والحقيقة ان هذين العنصرين معاً، عند الحدود القصوى اللذين وصلا اليها في الفيلم، يبدوان مقحمين من الخارج، حتى على حبكة الفيلم ومنطقه وإيقاعه.

خطوة مقصودة؟

ومن هنا حتى نفترض، مع بعضهم، ان هذا الإقحام المزدوج انما جاء هنا عن تصوّر وتصميم من جانب اصحاب فيلم يعرفون سلفاً ان النتيجة ستكون حتماً، منع الفيلم، خطوة يسهل عبورها. ولعل ما يسهّل هذا العبور ان دانيال عربيد نفسها كانت حين قدمت فيلمها السابق «رجل ضائع»، في دورة سابقة لمهرجان «كان» السينمائي اعلنت حين سئلت عما اذا كانت تأمل ان يعرض الفيلم، بكل «الإباحية» التي تملأه، في البلدان العربية ولبنان، ان عرض الفيلم «هناك» لا يهمها! والحقيقة ان الأمر كان يهمها وكان من الواضح ان الاستفزاز هو ما يحرّكها.

وهذه المرة يبدو لنا اننا امام حالة مشابهة. ويبدو ان الغاية هي الاستفزاز... ولكن مع فارق اساسي هو ان ما كان جوهرياً لا مفر منه في «رجل ضائع» (المشاهد الجنسية الإباحية) بات هنا في «بيروت في الليل» ثانوي الأهمية بل يشكّل عبئاً على الفيلم. ذلك اننا في العلاقة التي تجمع بين المغنية اللبنانية سهى/زاهية والفرنسي الغامض، ماثيو، يبدو واضحاً لنا على الشاشة ان كلّ المشاهد التي يمكن الرقابة ان تعتبرها إباحية، انما تقلل من شأن العلاقة اذ تدخل الكاميرا حميمية العاشقين. بل قد يمكن القول ان المشاهد اتخذت احياناً بعداً بيولوجياً حيوانياً امام الكاميرا، مع ان منطق العلاقة نفسها وعلى الأقل من منظور سهى، يشي بشيء من العاطفة الصادقة والخفر الشرقي الممتع. وتماماً كما ان المشاهد «الحميمة» بين سهى وماثيو بدت مقحمة (ناهيك بأنها من ناحية أخرى تبدو للمتفرح اللبناني/العربي سابقة صادمة اذ يجد نفسه هنا للمرة الاولى امام ممثلة عربية تتعرى على الشاشة الى هذا الحدّ، وتمارس الجنس بمثل هذه الصراحة!)، كذلك بدا مقحماً البعد الثاني، أي إدخال المحظور الأمني الرسمي اللبناني في سياق الفيلم. فالفيلم لم يكن، في أية حال من الاحوال، في حاجة الى مثل هذا الإقحام... بخاصة انه لم يزد شيئاً الى موضوع الفيلم، ولم يحدث أي تبديل في شخصية ماتيو، ولا في موقف سهى منه. كل ما في الامر ان عدداً من المشاهد والمواقف الملتبسة (أو التي أضفى عليها سيناريو بدا مفككاً في بعض اللحظات، التباساً ما) توالت، بين مطاردات وحوارات وغياب وحضور، لتوصل ماتيو في نهاية الأمر الى المطار وقد «نصح» بأن يغادر البلد... بعد ان تبيّن ان لا شيء يدينه!

والآن، إذا نحينا هذين البعدين جانباً، وعدنا الى ما قلناه اول الكلام ثم كررناه، مباشرة او مواربة، من ان «بيروت أوتيل» لم يكن في حاجة اليهما، ليكون فيلماً مميزاً، لا بد لنا من العودة الى هذا الامر بوضوح هنا، انطلاقاً من قولنا اعلاه ان هذا الفيلم هو افضل ما حقق في لبنان منذ سنوات. فالحقيقة ان ما لدينا هنا انما هو عمل فني – سينمائي - أخّاذ، يثبت من جديد ما كانت اقترحته افلام دانيال عربيد السابقة (ولا سيما «معارك حب» وعدد من الأفلام العائلية القصيرة)، من اننا هنا امام سينمائية حقيقية، سينمائية تعرف لغتها جيداً، وتسيطر على موضوعها وتحسن، قبل اي شيء آخر، إدارة ممثليها. فمن خلال دارين حمزة (في تعابيرها وحواراتها، أكثر مما بجسدها الذي انتشر في الفيلم في شكل يخرج عن سياقه، كما قلنا)، تمكنت عربيد من العثور على الشخصية اللبنانية القوية، الشخصية التي تدرك قيمة التعامل مع العواطف وتتكلم بنظراتها وتعابير وجهها - وحتى ارتباط تلك التعابير بحركات يديها -، الشخصية التي تدرك قيمة الحب، ثم تعرف كيف تواجه الشر (في لقطة اولى مع زوجها) ثم تسيطر عليه (في لقاء لاحق مع هذا الزوج ترفض فيه العودة اليه لكنها تطبع على جبينه قبلة صنعت ما يمكننا تسميته «اجمل لحظات الفيلم»). بوضوح، لا بد من ان كل من شاهد الفيلم لاحظ كيف ان دارين حمزة، تحت إدارة دانيال عربيد، بدت مسيطرة على شارل برلنغ في معظم المشاهد التي جمعتهما، بدلاً من ان تبدو «خائفة» من سطوته كواحد من أبرز الممثلين من جيله في فرنسا. فهل نقول ان دانيال عربيد تمكنت هنا من خلق واحدة من أقوى الشخصيات النسائية على الشاشة اللبنانية؟

بالتأكيد... غير ان قوة أداء وحضور دارين حمزة على شاشة هذا الفيلم - بين ممثلين وشخصيات اخرى في الفيلم - لم تكن فضيلة دانيال عربيد الوحيدة هنا. كان هناك أيضاً الإيقاع، الذي ضبط الفيلم بدءاً من اللقطة التي افتتحت الفيلم مأخوذة من خلف سهى وهي تغني في الملهى الليلي والجمهور غامض مشوش امامها، وصولاً الى اللقطة الختامية، مأخوذة في شكل معاكس حيث سهى نفسها من وجهة نظر الجمهور فيما تبدو وهي تغني مواجهة لها. فالحال ان هذا التأطير بين سهى في البداية وسهى في النهاية ضبط حكاية الفيلم وإيقاعه في شكل لا نراه على مثل هذا الوضوح في السينما اللبنانية - او حتى العربية - عادة. اذ هنا حددت المخرجة اطار حكايتها: الحكاية التي لا تتجاوز اصلاً فصول علاقة سريعة قامت بين مطلّقة لبنانية شابة وأفّاق فرنسي لن نعرف ما الذي اتى به الى لبنان وما هو النوع الحقيقي للعلاقات الغامضة واللقاءات العابرة التي تمر بها رحلته اللبنانية. بصعوبة نتكهن بمن يراقب من ولماذا. بصعوبة سوف نفهم ما دخل السوريين ومقتل الرئيس الراحل رفيق الحريري في هذا كله. وبصعوبة سنفهم ما يمكن ان تكون الأجهزة اللبنانية توصلت اليه. لقد قلنا ان هذا كله شكل عبئاً - بدا مجانياً في بعض الأحيان - على فيلم كمن جماله في قدرة مخرجته على الطلوع من حبكة لا معنى لها الى فيلم انيق مضبوط، يضيف الى السينما اللبنانية جديداً من دون شك. لكنه في الوقت نفسه يدفع الى سؤال اساسي هو: اذا كنت قادراً على ان تقول الأشياء ببساطة فلماذا تقولها بشكل معقّد؟

الحياة اللندنية في

23/03/2012

 

مشاهد من الحياة الزوجية في مرايا مهشمة

دمشق – فجر يعقوب 

يقدم فيلم «صباح ظهر مساء صباح» للمخرجة السورية الشابة غايا جيجي صورة متداخلة لأزمنة عدة من خلال سرد لا يدوم أكثر من 19 دقيقة مثقلة بأسئلة لا تعرف أجوبة أو هي ليس مقدراً لها أن تتلقّى أجوبة من أي نوع.

الفيلم الذي يقدم زوجة وزوجاً وابناً، يتنقل بيسر بين زمنين مختلفين: الزمن الأول حين يكون الابن صغيراً، والزمن الثاني حين يصبح شاباً يتحرك بين الأم والأب في محاولة لإنهاء الانفصال بينهما، أو عله على الأقل يحظى بأجوبة مقنعة عن الأسباب التي أدت بهما إلى هجران متبادل. لن تكون هناك أجوبة مقنعة بين الزمنين، وكل ما يدور أمام الكاميرا لن يتعدّى محاولة نقل الإحساس بثقل هذين الزمنين إلى الداخل، فلا نكاد نشعر بما يدور بعيداً عنهما، وليس هناك من إشارات على حدوث تبدل جوهري بينهما إلا من خلال بعض الإشارات (الإذاعية) حول تشابك وتعقّد هذين الزمنين.

وما خلا ذلك ليس هناك إشارة إلى شيء يعكر صفو الجو من حولهما، وهو بالطبع ليس صفواً قريباً من ذلك الوصف، بل صفو تتحدد معالمه عبر تحديق الزوج والزوجة بالمرايا الداخلية ليكون طرح الأسئلة مجدياً من خلالها، بدل أن تكون صيغة السؤال نفسها هي الإطار الذي سيكشف لنا عن ماهية الحالة الخاصة التي يقدمها هذا الفيلم القصير المتقن.

هجران بلا معنى

يخفق الابن في الجمع بين أمه وأبيه، لأنه ليس ثمة أجوبة جاهزة هنا. فلا الأب يدرك معنى جاهزاً لحالة الهجران التي لقيها من زوجته، ولا الزوجة تبدو مهمومة أصلاً بمعرفة إجابة عن السبب الذي دفع بها إلى حالة الهجر. كل ما في الأمر لن يتعدى التحديق المطول بزمنين اثنين يتوزعان على صباح وظهر ومساء وصباح آخر يقترب فيه الشاب من ذلك اللقاء الذي لن يفضي إلى شيء، بل سيعود بنا إلى الصباح الأول، ففي حين يبدأ الفيلم بالولد صغيراً وأمه تجرّه على غير هدى، سنعود ثانية نحو صباح مختلف بإيقاع لا يختلف عن سابقه. فالابن هو هنا ثانية برفقة الأب والأم وهو صغير في الوسط، وفيما يتذرع الأول بذهابه لشراء السجائر، وتتركه الأم قائلة بأنها ستعود بعد قليل، يبقى على الولد الصغير الإصغاء ومعرفة ما إذا كان يفترض به أن يصدق. أن حال اللاجدوى التي وصل إليها أبواه ستكون مجدية حقاً بمعرفة ما إذا كان مهمّاً بالفعل إدراك أنهما سيعودان إليه ثانية.

المخرجة جيجي لم توفر جهداً باللعب على منافذ الإضاءة عندها، للتنقل بين أزمنة اختارتها لفيلمها، ولتشكل ضغطاً إضافياً على الحال النفسية للزوجين، بل يمكن القول إن لعبة الإضاءة هنا تشكل مقياساً حاسماً بالنسبة لحال هجران منتهية، إذ لا يمكن العودة عنها، لأنه ما من أجوبة هنا على أي سؤال يتردد صداه في جنبات الماضي والحاضر المتعثرين، حتى إن الابن في صباه لا يبدو مهتماً بالفعل بعودتهما إلى حالة ميؤوس منها، بمقدار ما يبدو مهتماً بإيجاد أجوبة مقنعة عن أسئلة راودته وهو صغير وتائه بينهما، أو وهو تائه في لعبة مرايا داخلية مهشمة عادة ما يدركها الكبار حين يبدأون بتحطيم بعضهم بعضاً حتى من دون أن تتفتت هذه المرايا في لعبة المؤسسة الزوجية وتظل على حالها متماسكة وعصيّة على التفسير حين لا يكون هناك أجوبة عن أي شيء، فلا أحد يكون مهتماً بمعرفة ما إذا كان يدور هناك شيء في الواقع.

لن يلتقي الزوجان في زمنين أو مسارين داخليين ترسمهما غايا جيجي لهما، وسيكون في وسع الصبي المهموم بإيجاد أجوبة لأسئلة مستحيلة عن سبب الوصول إلى مثل هذا الطريق المغلق أن يختار في النهاية بينهما من خلال انتظاره لهما، وهو يدرك أن ما من أجوبة مقنعة تنتظره حتى حين يعود صغيراً في ذلك الصباح الأخير الذي لن يكون وراءه فسحة زمنية أخرى يمكن العثور فيها على أي نوع من الأجوبة حتى لو لم تكن مقنعة.

وما فعلته الإضاءة والظلال والمرايا بالفيلم كاف على أية حال لتحديد مسار حالة الهجر التي تستمر بأن تكون مثل الزمن المفقود الذي لا يعود إلا بالبناء عليه مع التقليل من شأنه وأهميته. وهذا ما فعلته جيجي حين أبقت على حيرة الولد في «صباح ظهر مساء صباح»، ولم يدركه الزوجان بافتراقهما تحت ذريعتين مفبركتين تطاولان عودة مستحيلة.

الحياة اللندنية في

23/03/2012

 

 

«الفنان»:

صامت يحتفي بسينما الصباحات الأولى

دمشق - إبراهيم حاج عبدي 

بعد مرور أكثر من قرن على وصول قطار الأخوين لوميير إلى المحطة، مبشراً بفن سابع جديد. وبعد أكثر من ثمانية عقود على فيلم «مغني الجاز» (1927)، الذي أعلن عن ولادة السينما الناطقة. وبعد تطورات تكنولوجية هائلة توافرت للسينما، يأتي المخرج الفرنسي ميشال هازانافيسيوس (مولود في باريس 1967) ليغامر بتحقيق فيلم صامت بالأبيض والأسود، وكل ما يتمناه ألا «يشتمه الجمهور ويعرض عنه». غير أن فيلم «الفنان»، الذي يعد بمثابة تحية للعقود الثلاثة الأولى الصامتة من عمر السينما، حظي بالتقدير والاحتفاء ما لم يحظَ به سوى أفلام قليلة، فهو لم يحل في مسابقة أو مهرجان إلا وتسابقت إليه الجوائز، ولعل التتويج الأخير والأهم جاء من هوليوود حيث انتزع الفيلم الفرنسي خمس جوائز أوسكار بينها أفضل إخراج، وأفضل تمثيل، وأفضل فيلم، متفوقاً بذلك على عناوين وأسماء هوليوودية، باهظة السطوة والحضور.

باريس/هوليوود

إذا كانت باريس هي مهد السينما الأول، فإن هوليوود هي التي رعت، لاحقاً، هذه الصناعة ودفعت بها إلى الأمام، وظل المكانان يتبادلان الأدوار ويقرّان بالاعتراف المتبادل حول دوريهما في مضمار هذا الفن. ولعل فيلم «الفنان» يحاول أن يلمّح إلى هذه المعادلة، فهو مشغول بيد الفرنسيين، لكنه يذهب إلى الولايات المتحدة ليروي حكاية نجم من نجوم السينما الصامتة، وهذا يشبه، إلى حد بعيد، ما قام به الأميركي مارتن سكورسيزي الذي جاء، بدوره، إلى باريس الثلاثينات ليوجه تحية حارة عبر فيلمه «هوغو» إلى السينمائي الفرنسي جورج ميلييس، ونال، أيضاً، أوسكارات عدة، وكذلك وودي آلان في فيلمه «منتصف الليل في باريس» الذي نال أوسكار أفضل سيناريو.

وبمعزل عن الغزل السينمائي المتبادل بين ضفتي الأطلسي، فإن هاجس الفشل الذي انتاب في البداية، مخرج فيلم «الفنان» يبدو مبرراً، ذلك أن الفيلم، الذي لم يستعن بالنجوم المكرسين، هو عبارة عن محاكاة حَرْفية؛ تامة لبدايات السينما الصامتة، محاكاة تكاد تكون مجرد مونتاج لعدد من أفلام تلك الحقبة، سواء في الديكورات أو الأكسسوارات أو الملابس أو الموسيقى المصاحبة، بل كذلك حتى في الحوارات المكتوبة على لوحات تتخلل المشاهد. وقبل هذا وذاك محاكاة في الأداء المدهش الذي يقدمه الممثل الفرنسي جان دوجاردان عبر تجسيده دور بطل الفيلم جورج فالنتين، وبدرجة أقل، الممثلة بيرينيس بيجو عبر تجسيدها شخصية الممثلة الصاعدة بيبي ميللر.

لكن أسلوب المحاكاة الذي اتبعه المخرج، وخشي بسببه من الفشل، هو نفسه كان وراء نجاح الفيلم الذي يستعيد مناخات وأجواء السينما الصامتة بكل تفاصيلها، بدءاً من التيترات وشكل خطوط الكتابة، مروراً بالإيماءات والحركات والرقصات، وصولاً إلى تسريحة الشعر، وكأن الفيلم هو بمثابة اختبار لمدى قدرة المخرج على استعادة ملامح وسمات مرحلة السينما الصامتة. وإذ نجح في هذا الاختبار، فإنه وظّف هذا القالب السينمائي الكلاسيكي لنقل حكاية تنطوي على بعد تراجيدي رزين، من دون مبالغة ولا ابتذال.

ويبدو أن هذا الخط الدرامي المشحون بالعاطفة، والذي ترثي به السينما ذاتها، لعب دوراً في جلب الجوائز للفيلم، فقد عرف الفيلم كيف يخاطب الوجدان، ويثير مشاعر الحنين لدى السينمائيين «المحكمين»، الذين رأوا في الفيلم معاني عادت بذاكرتهم إلى تلك البدايات السينمائية الشاقة حينما كان منتجو السينما ومموّلوها يضعون شباك التذاكر فوق الممثل والفن وقيم الوفاء والإخلاص، ويضحّون بكل شيء في سبيل أن تبقى السينما «مصرفاً» يدر الأرباح. ولا نبالغ، إن قلنا، أن هذه العقلية سائدة حتى اليوم. فمن الصعب، مثلاً، أن يحصل مخرج مثل داوود عبد السيد أو محمد خان بسهولة على التمويل، في حين أن ذلك متاح بيسر أمام مخرجي الموجة الشبابية الجديدة الذين لم يفهموا من السينما سوى التهريج.

جحود

هذا «الجحود» هو بالضبط ما يتعرض له بطل الفيلم جورج فالنتين، النجم الذي حقق نجاحاً واسعاً، وسمع الكثير من كلمات الإطراء والمديح، وهو يعيش في رفاهية على الصعيدين المهني والاجتماعي، غير أن كل هذا المجد السينمائي سرعان ما ينهار عندما «تنطق السينما»، ليصبح الفنان عالة على استوديوات كينوغراف التي استثمرت موهبته الصامتة حتى إذا نطقت السينما أبلغه «المنتج البدين» بإن عليه أن يفسح المجال لوجوه جديدة تجيد النطق أمام الكاميرا، لا مجرد الاكتفاء بتمتمات خرساء.

هنا يأتي دور تلك الفتاة المجهولة بيبي ميللر (التي لا تملك أي رصيد فني سوى صورة التقطت لها، صدفة، وهي تطبع قبلة على خد نجمها المفضل فالنتين، ونشرتها مجلة «فاريتي»)، فتقوم بداية بأدوار كومبارس، لكن فرصتها الكبرى تكون مع السينما الناطقة. ففي حين يخفت بريق النجم الصامت مع خفوت السينما الصامتة، تتصدر الصحف وواجهة صالات السينما وحديث العامة اسم وصورة النجمة الصاعدة بيبي ميللر التي تمد يد العون لصديقها الفنان الذي يفشل في تجربة سينمائية يقوم بها بنفسه بعيداً من استوديوات كينوغراف، ثم يعاقر الخمر ويضطر إلى بيع مقتنياته الشخصية من المنحوتات والتذكارات واللوحات في مزاد علني. ويبدو أن مقولة تينيسي وليامز «الذاكرة الضعيفة هي مصدر ارتياح عظيم» لا تنطبق على بطل الفيلم الذي يتذكر ماضيه الذهبي المتألق، والمخبّأ، الآن، في علب باردة، بنوع من الحنين المرضي المدمر، فيقوم بحرق نسخ أفلامه، ويكاد أن يحترق معها لولا كلبه الوفي الذي أنقذه.

وفي مقابل أفول نجم فالنتين، فإن فتاة الكومبارس المجهولة تحقق النجاح تلو الآخر، وتتابع عن قرب مأساة صديقها وحبيبها فالنتين، وتساعده دون أن يعلم، وتأتي النهاية منسجمة مع النهايات الكلاسيكية السعيدة، إذ تقوم بيبي ميلر بابتزار «المنتج البدين» وتجبره على القبول بعودة النجم المحبط فالنتين للمشاركة معها في الأفلام، وهذا ما يحدث فعلياً.

الصوت والصمت

في غضون هذه الحكاية يجتهد المخرج في إظهار جدلية العلاقة بين الصوت والصمت، إذ يوظف هذه الثنائية عبر شريط الفيلم بصورة تنم عن النباهة، وتنطوي على دلالات معبرة في السياق الدرامي لفيلم يرصد تلك الانعطافة الكبرى في تاريخ السينما التي راحت تثرثر، بل وتهجو أرشيف الصمت المتراكم. في المشهد الأول من فيلم «الفنان» نرى مشهداً من فيلم لفالنتين وهو جالس يُعذّب على كرسي كهربائي بغرض انتزاع اعترافات منه، لكنه يصرخ: «لن أتكلم، لن أقول أي كلمة» (نفهم ذلك من اللوحة الكتابية)، ولن يكون لهذا المشهد أية أبعاد لو ظهر في أي فيلم آخر، تماماً مثل المشهد الذي تبدي فيه إحدى المعجبات إعجابها بكلب الفنان الآيل إلى النسيان، وتعلق: «لو يستطيع الكلام فقط!».

وتبلغ السخرية مداها الأقصى في مشهد يحلم فيه بطل الفيلم، الذي خسر شهرته ومكانته بعد ظهور السينما الناطقة، بأنه فقد صوته، فهو يسمع أصوات الأدوات من حوله مثل الكأس ومنفضة السجائر والفرشاة حينما يضعها على الطاولة، لكنه يحاول الصراخ دون جدوى، كما نسمع صوت نباح كلبه، وصوت خطواته وهو يفر مذعوراً إلى خارج المنزل ليرى أن ريشة تتهادى برفق من الأعالي وحين تصل الأرض تحدث دوياً هائلاً يوقظه من النوم لينتهي الحلم، ومشهد الحلم هذا هو المشهد الوحيد الناطق في الفيلم، فضلاً عن اللقطة الأخيرة عندما يشرع الممثلون في تصوير أحد الأفلام الناطقة، عندئذ، يطلق المخرج الصيحة المعروفة: «صمت...آكشن»، ليعقب ذلك، مباشرة، ظهور «تيترات» النهاية.

فيلم «الفنان» يداعب خيال السينمائيين وعشاق الفن السابع، ويظهر الوجه الجميل للسينما وتلك الرومانسية الهادئة التي طغت عليها لفترة، وكذلك يرصد هموم السينما والمحطات الوعرة التي سلكها هذا الفن. وليس فالنتين هو الضحية الأولى في تاريخ السينما، فثمة الكثير من أمثاله ممن دفعوا أثماناً باهظة في سبيل رفعة هذا الفن، وما يؤكده الفيلم هو تلك العلاقة الوثيقة التي تربط بين السينما والحياة، إذ يمتزج، في هذا الفيلم، سحر السينما بصخب الواقع حتى يصعب التمييز بينهما، فالسينما في النهاية هي استعارة فنية جمالية لفوضى الحياة، والحياة، في وجه من وجوهها، هي شريط سينمائي طويل؛ مزدحم بآلاف الصور والمعاني والقصص التي تنتظر العدسة.

الحياة اللندنية في

23/03/2012

 

مذاق أوّل لجديد «كان»

باريس - «الحياة» 

لا يزال الوقت، اليوم، أبكر كثيراً من أن يسمح بمعرفة الأفلام التي سوف تعرض في شتى تظاهرات الدورة المقبلة لمهرجان «كان» السينمائي والتي ستقام بين السادس عشر والسابع والعشرين من أيار(مايو) المقبل. فثمة ما يقرب من شهر لا يزال يفصلنا عن الموعد الرسمي لإعلان أسماء المشاركين ولا سيما منهم أولئك الذين ستخوض أفلامهم المسابقة الرسمية التي يرأس لجنة تحكيمها هذه المرة المخرج الإيطالي ناني موريتي الذي سبق له أن شارك في مسابقات «كان» وفاز غير مرة.

ولئن كان من المعروف عادة أن لجان الاختيار والتصفيات لا تنجز عملها إلا قبل أسبوع من موعد الإعلان، فإن العادة قد جرت على أن تبدأ التكهنات والتوقعات بالظهور قبل ذلك بشهر. وغالباً ما يكون الاعتماد في هذا على المواعيد المعلنة لبدء العروض التجارية في فرنسا على الأخص لبعض الأفلام، أو على «تسريبات» تكون صحيحة في معظم الأحيان...ثم في أحيان كثيرة على موعد إنجاز عدد من مخرجي «كان» أفلامهم. إذ هناك أسماء لا يمكن أن يفوت «كان» الحصول على أفلام أصحابها إن كان موعد إنجاز الأفلام قريباً من موعد المهرجان.

انطلاقاً من هنا سنحاول في هذه العجالة أن ندلي بدولنا في لعبة التوقع فنشير على الفور إلى أن عدداً لا بأس به من المخرجين الذين اعتادوا أن يكون العرض الأول لأفلامهم في «كان» داخل المسابقة أو خارجها سيحضرون. ومن هؤلاء وودي آلن في جديده «نيرو فيدلد» وكين لوتش في «حصة الملاك» وميكائيل هانيكي في فيلمه الجديد والمنتظر بقوة «حب».

وإلى هذا الثلاثي غير المفاجئ نضيف بالطبع فيلم والتر ساليس الجديد «على الطريق» المأخوذ من رواية جاك كيرواك الاستثنائية بالاسم نفسه والتي طبعت أدب البيتنكس في أميركا الخمسينات. ومن المعروف أن فرانسيس فورد كوبولا - الذي يحضر بدوره من خلال جديده «وينكست» - ظل يحلم طويلاً بأفلمة هذه الرواية قبل أن يتخلى عنها لساليس.

من العروض المتوقعة أيضاً جديد دافيد كروننبرغ « كوزموبوليس» اضافة إلى العمل المنتظر بدوره الذي يعود به بول توماس اندرسون بعد سنوات من رائعته «ستكون هناك دماء» ونعني به فيلمه الجديد «السيد»، فيما يعود وانغ كار واي بجديده «السيد الكبير»...أما الافتتاح الذي جرت العادة أن يكون عملاً هوليوودياً ضخماً فربما يكون من نصيب الجزء الثالث من «رجال باللون الأسود»...أما المفاجأة الكبرى والتي ينتظرها كثر إنما بتحفظ وحذر فربما ستكون في عودة تيرنس ماليك للسنة الثانية على التوالي بفيلمه الجديد الذي يبدو أنه لم يعنون نهائياً بعد. ونعرف أن عنصر المفاجأة يكمن في أن ماليك الذي حصد في العام الفائت «السعفة الذهبية» عن رائعته «شجرة الحياة» معروف بقلة إنتاجه (5 أو 6 أفلام في أكثر من ثلث قرن) وها هو الآن مرتين متتاليتين في «كان». وفي المقابل ينتظر أهل «كان» توقعات أخرى قد يكون من بينها جدد مثل فيس كرافن في «مملكة مونرايز»، ومخضرمون مثل تيم بيرتون...أما بالنسبة إلى المشاركات العربية فالأرجح أن علينا أن ننتظر بعض الأيام الأخرى أو ...مواسم «كانيّة» مؤجلة!

الحياة اللندنية في

23/03/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)