حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

المخرج العراقي قاسم حول:

"السينما العربية" تعبير مجازي!

حوار: أحمد سيجلماسي- الرباط

قاسم حول (71سنة) كاتب ومخرج وممثل مسرحي وسينمائي عراقي مقيم بالخارج (هولندا حاليا) . بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة سنة 1964 أسس شركة أفلام وأنتج باكورة أفلامه السينمائية "الحارس"، وهو فيلم من إخراج خليل شوقي كتب قاسم حول قصته وشخص أحد أدواره الرئيسية، الذي حصل سنة 1966 على التانيتالفضي من مهرجان أيام قرطاج السينمائية بتونس.

بعد ذلك أصدرت شركته مجلة سينمائية بعنوان "السينما اليوم" اضطلع برئاسة تحريرها. لكن سرعان ما أوقفت السلطة الحاكمة آنذاك هذه الشركة ومجلتها السينمائية، فأسس قاسم حول شركة أخرى، إلا أنها لم تتمكن من ممارسة أنشطتها، فلم يكن أمام صاحبها إلا خيار مغادرة بلاده للإستقرار في لبنان.

وفي سنة 1975 عاد قاسم إلى العراق وأخرج فيلمين طويلين الأول وثائقي بعنوان "الأهوار" والثاني روائي بعنوان "بيوت في ذلك الزقاق".

بعد رجوعه إلى لبنان انتخب رئيسا لرابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديموقراطيين العراقيين وأصبح عضوا في السكرتارية العامة للرابطة في العالم.

يعتبر قاسم حول أحد مؤسسي تيار السينما العربية البديلة سنة 1970 بدمشق وأحد مؤسسي اتحاد السينمائيين التسجيليين العرب وأحد مؤسسي الحركة السينمائية الفلسطينية بلبنان في السبعينيات من القرن الماضي.

أخرج للسينما أكثر من عشرين فيلما وثائقيا وروائيا آخرها "المغني" سنة 2010 ، الذي كتبه وصوره كاملا بمدينة البصرة بدعم من قناة " أرتيه" الفرنسية/الألمانية ، كما صدرت له كتب عن السينما والتلفزيون وروايات ومجموعات قصصية ومسرحيات وغيرها.KASSEM HAWAL.com

الحوار التالي مع قاسم حول للتعرف على ملامح تجربته السينمائية:

·         هي انطباعاتكم الأولية بعد حصول فيلمكم "المغني" على جائزة أحسن ممثل، التي نالها الفنان مجيد عبد الواحد الذي شخص دور العقيد سيف والحاضر معكم بالرباط؟ وبعد تنويه لجنة تحكيم مهرجان الرباط برئاسة المخرج التونسي رضا الباهي بالمجهودات الفنية والتقنية المبدولة فيه؟

** الفيلم في تقديري يستحق أكثر من ذلك، وهذا ما كان واضحا من خلال تجاوب الجمهور معه والحديث عنه بإسهاب في أروقة المهرجان. كنت أتوقع جائزة أفضل. أعتقد أن جائزتي الحقيقية هي حب الجمهور لهذا الفيلم وما أثاره من نقاش جاد ومثمر بعد عرضه بقاعة النهضة وخارجها.

·         لماذا اخترتم عنوان "المغني" لفيلمكم الذي يصور تجاوزات حاكم عربي ديكتاتوري؟ وهل وراء اختيار موضوع الفيلم دوافع ذاتية؟

** هناك فرق بين الموقف الذي له هدف عام وبين الموقف الذي يعكس تصفية حسابات شخصية، والثقافة لا تتحمل تصفية حساباتك الشخصية مع نظام سياسي أو مع شخص معين، لأنه في المجال الثقافي ينبغي أن تكشف الواقع الموضوعي، ولا توجد دوافع ذاتية.

المخرج يحس بواقعة معينة ويحاول أن يكتب عنها إذا بدى له أنها تشكل موضوعا مثيرا للعمل السينمائي دون السقوط في الرتابة والملل. لماذا عنوان "المغني"؟ لأن الواقعة حقيقية حصلت لمغني مع إبن ديكتاتور عربي، تأخر المغني عن حفل عيد ميلاد الديكتاتور ولمعاقبته طلب منه أن يغني ووجهه إلى الحائط.

عن الفيلم والديكتاتورية

الفكرة مثيرة لأن الديكتاتور شخص أرعن، ليس له إحساس بالفرد وبالحياة وبالحب وبالجمال. وفي مثل هذه الواقعة المثيرة للضحك المر مع المغني قد تقود الرعونة أيضا إلى اتخاد قرار حرب تدمر البلد. وهكذا قررت أن أخرج فيلم "المغني" لكي  أثير الإنتباه إلى هذه الحالة المرضية في التاريخ العربي والإنساني,

·         في فيلم "المغني" يطغى عنصر الحوار، وفي جانب منه تحضر المباشرة. وأنتم تعرفون أن المباشرة تقتل الإبداع. ما تعليقكم؟

** أولا عدد الكلمات والجمل في الفيلم هي أقل من أي فيلم في تاريخ السينما العربية، فلا تتجاوز الصفحتين  وهي عندي مطبوعة ومترجمة. الحوار قليل في الفيلم، أما إذا كان المقصود بالمباشرة هو خطاب الديكتاتور، فهذا الأمر هو الوحيد الذي يعتقد أنه مباشر. فعندما يكون عندك مشهد والزعيم يريد أن يخطب أو يقول كلمة لابد أن يسمح له بتمرير فكرته .

·         بماذا يتميز فيلم "المغني" عن أفلامكم السابقة ؟

** بصراحة أعتبر "المغني" خطوة متقدمة في مسيرتي السينمائية. كان بالإمكان أن يكون أفضل. لو لم يعجبني الفيلم لما وضعت عليه إسمي.أشعر باعتزاز  كوني استطعت إنجازه في ظروف قاسية جدا. لقد ترك هذا الفيلم، في تقديري الشخصي، تأثيرا كبيرا جدا على الجمهور المغربي الذي أعجب به وشارك في مناقشته بشكل عميق ومفيد ومستفيض مباشرة بعد عرضه بالرباط. أنا فخور به.

·         هل غياب الحرية هو الذي عطل اشتغال قاسم حول بالسينما داخل العراق؟ ألم يكن بالإمكان إنجاز أفلام في ظل النظام الديكتاتوري ، خصوصا وأنه سبق لكم أن أنجزتم أفلاما روائية وتسجيلية؟

غياب الحرية

** نعم غياب حرية التعبير والإبداع هو الذي دفعني إلى ترك العراق منذ سنة 1970. وعندما عدت إلى بلدي سنة 1975 بدعوة من السلطة الحاكمة لتأسيس اتحاد السينمائيين التسجيليين العرب في مؤتمر، حضرت المؤتمروبعد ذلك طلب مني أن أخرج فيلما وثائقيا فأخرجت فيلم "الأهوار"، الذي حصلت لي أثناء تصويره مشاكل عدة، لكنني تجاوزتها. ثم طلب مني إنجاز فيلم روائي في ظل النظام الديكتاتوري فأخرجت فيلم "بيوت في ذلك الزقاق"، لكن بعد الإنتهاء طلب مني إلغاء مشهد من الفيلم وتصوير آخر بدلا له فرفضت، وكاد هذا الرفض أن يتسبب في موتي، وبطريقة دراماتيكية نجحت في مغادرة العراق ووصلت إلى ليبيا ثم ذهبت إلى إيطاليا ومنها عدت إلى بيروت. فنادوا على المخرج محمد شكري جميل وأنجز لهم المشهد البديل للمشهد الذي لم ترض عنه السلطة الحاكمة وأدخلوه في الفيلم بدل مشهدي. هذا عمل مضحك يشكل نموذجا من سلوكات الديكتاتورية التي لا تتحمل حتى مشهدا سينمائيا. لقد ارتعبوا من اللقطات التي صورتها أنا.

·         *ما هو واقع الإنتاج السينمائي في عراق ما بعد نظام صدام حسين؟

** لا يشكل إنتاج الأفلام في العراق حاليا ظاهرة يمكن أن نطلق عليها إسم سينما عراقية، وذلك لأن السينما لا تتمثل فقط في إنتاج الأفلام بل أيضا في بناء القاعدة المادية للإنتاج السينمائي وبناء مراكز الأرشفة والسينماتيك والقاعات وإصدار قوانين دعم الثقافة السينمائية وضمان إنتاج مستمر وتأمين حياة الفنانين.. الخ

·         ما هو تقييمكم لمهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف الذي شاركتم في دورته السابعة عشر؟

** مهرجان الرباط مهرجان ثقافي بحق، تمتعنا فيه بمشاهدة الأفلام المشاركة وتمكننا من معرفة مستوى الفيلم العربي في حاضره. إنه بشكل عام قيمة ثقافية لا يمكن الإقلال من أهميتها.

عاش للسينما

·         سبق لكم أن كنتم عضوا أو رئيسا في لجان تحكيم بمهرجانات عربية ودولية، كيف تقيمون أفلام مسابقة الدورة 17 لمهرجان الرباط من حيث قيمتها الفنية والفكرية وارتباطها خصوصا بسينما المؤلف؟

** هذا أيضا سؤال في غاية الأهمية. ترأست ثلاث مرات لجان التحكيم: مرة بأكاديمية السينما في العراق ومرة في مهرجان السينما الكردية ببريطانيا ومرة في مهرجان قليبية بتونس. أما العضوية فكانت في عدة لجان تحكيم بمهرجانات موسكو وروتردام وغيرهما. عند ترأسي للجان التحكيم كنت أعتبر نفسي رئيسا عادلا وذلك لأنني كنت ألح على مشاهدة الأفلام أولا مع الجمهور.

في مهرجان الرباط حاولت اللجنة ذلك في الأيام الأولى وبعد ذلك حصلت ارتباكات فقرر أعضاء لجنة التحكيم مشاهدة الأفلام لوحدهم في صالة أو عبر وسيط آخر لا أعرف. المشاهدة عندي ينبغي أن تكون مع الجمهور وفي قاعة مظلمة للوقوف على ردود أفعاله، فطقوس المشاهدة الجماعية داخل قاعة السينما لها معنى آخر. أما أن نشاهد الأفلام على شاشة التلفزيون بواسطة الدي في دي  فهذا يقلل من قيمة الفيلم الحقيقية ويظلم مخرجه. أنا لا أعول على هذه الطريقة من التحكيم وعندما أشعر بأن لجنة التحكيم بدأت تسلك هذا المسلك أتيقن بأن المهرجان ارتبك وبالتالي لن تكون النتائج عادلة. في الغرب تشتغل لجان التحكيم بجدية، وهناك عدالة ومناقشة مستفيضة للأفلام المشاركة.

·         قصدت بسؤالي تقييمكم للأفلام التي شاهدتموها داخل القاعة السينمائية؟

 ** أنا لست عضوا في لجنة التحكيم، ولكن كصديق أو سينمائي عاشق أتمنى من أصدقائي السينمائيين العرب أن يكون إنتاجهم للأفلام نابع بالفعل من الرغبة في الكشف الحقيقي عن الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي في منطقتهم ، كل واحد في بلده. وعموما أعتبر أن تعبير "السينما العربية" هو تعبير مجازي وليس حقيقي لأن السينما المغربية لا علاقة لها بالسينما السورية وهذه الأخيرة لا علاقة لها بالسينما الموريتانية وهكذا. كل بلد له سينما ذات إيقاع خاص وذات وسائل إنتاج خاصة وذات ظروف خاصة تختلف عن بقية البلدان. ما يجمع الأفلام العربية هو اللهجة فقط.من بين الأفلام العربية المشاركة  أعجبتني أفلام تدل على أن وراءها مواهب جديدة لكنني لمست فيها تأثرات بأساليب مخرجين ينتمون إلى حقب زمنية انتهت (ألان رينيهو بيرجمان نموذجان). فلا يعقل أن نستنسخ هذه الأساليب ونطبقها على واقع سوري أو كويتي مخالف تماما للواقع الفرنسي أو السويدي. أساليب المخرجين الكبار ينبغي التعلم منها شريطة أن يكون للمخرج أسلوبه الخاص وهويته الخاصة فكريا وفنيا وجماليا.

·         أصدرتم بعض الكتب ومجلة سينمائية وأعمال أدبية، هل هذه الإصدارات شكلت لكم بديلا في فترات توقفكم عن إنتاج الأفلام؟

** هناك شيء من هذا القبيل، لكن الكتابة هي أولا رغبة ذاتية مثل السينما،ففي الوقت الذي يستعصي علي فيه إيجاد تمويل لإنجاز فيلم أكتب رواية. فأنا كاتب قصة سينمائية بالأساس وكاتب قصة قصيرة، أحب الأدب ولي كتب حول السينما.

·         *ما هو حاليا واقع السينما العربية البديلة التي أنتم أحد مؤسسي تيارها؟ 

** كان حلما ثم استيقظنا فوجدنا أنه مجرد حلم لا يمكن تحقيقه.

عين على السينما في

02/02/2012

 

شاعر سينمائي كان هاجسه التاريخ والرحلات والحدود والمنفى

لندن- فيصل عبد الله  

رحيل المخرج والناقد والناشط السياسي اليوناني ثيو أنجلوبولوس في حادث دعس  وسط العاصمة أثينا، الأسبوع الماضي، جاء وكأنه يحاكي فصلاً من فصول  التراجيديا الإغريقية القديمة، بين إفلاس مالي يشهده البلد، ما وضع مقدرات  كيانه وأقدار ناسه بيد سماسرة البنوك، وبين عطب وفساد رجال السياسية ورثاثة حلولهم، آتي غياب أحد أعمدة "الأكروبولس" ليطبق بلعنته على حاضر اليونان بـ "ثالثة الأثافي". والأخيرة، ليست بالجديدة على الاستعمالات اليومية هناك، وعبر حركة تقوم بشبك الإبهام والسبابة والوسط لأصابع اليد ورميها بوجه الآخر، كإيماءة تعبير عن شتيمة قاسية. لعنة تحتاج الى زمن طويل للخروج من استحقاقاتها السياسية والمالية، مقابل زمن أطول بتكريس مخرج سينمائي له حضور وسيرة مترعة في الوسط السينمائي الأوربي مثل الأستاذ ثيو أنجلوبولوس.

بعد دراسته القانون في جامعة أثنيا، وإكماله الخدمة العسكرية، وجد أنجلوبولوس نفسه غير قادر على إكمال دراسته في جامعة السوربون. فقرر الانخراط في "المعهد العالي للدراسات السينمائية" الباريسي ذائع الصيت، لكنه سرعان ما طرد منه لكونه لم يلتزم بقواعد مدرسيه الصارمة. قفل راجعاً إلى بلاده وليعمل ناقدا سينمائيا في صحيفة يسارية كانت تصدر في أثينا قبل أن يغلقها نظام دكتاتورية العسكر عقب انقلابهم في عام 1967. ما دفعه إلى العودة ثانية إلى باريس ليستقر بها على مدى العقود الأربعة التالية.

تلك العودة، وما صاحبها من خيبات على المستويين الشخصي والعام، حددت خياراته القادمة ونوع الصنيع السينمائي الذي أراد. وكان من أولى ثمارها شريطه «إعادة البناء» العام 1970، والذي عرض في مهرجان سالونيك وفاز بجائزته الكبرى، ومن بعد بجائزة جورج سادول العام 1971. ولعل ذلك الشريط قد مهد الى وضع البصمة الأولية على أسس السينما اليونانية الجديدة، تلك التي ظلت حبيسة راهنها السياسي المعقد، والهزات الاجتماعية التي واجهت هذا البلد لفترة طويلة من الزمن. كان ذلك الفيلم، ايضاً، بمثابة تمرين فني لانكباب المخرج على انجاز مشاريع سينمائية طموحة، ابتداء من «ثلاثيته التاريخية» التي دشنها بفيلم «أيام الـ 36» (1972) ثم فيلم "الممثلون الجوالون" (1975)، وفيلم "رجال الصيد" (1977) كان الخاتمة. تدور هذه الثلاثية حول موضوع واحد تقريباً، وهو الأحداث والنقاشات السياسية الحامية التي عاشتها اليونان على مدى العقدين السابقين، مروراً بديكتاتورية ميتاكاكس ثم الحرب الأهلية وما بعدها. إذ وجد انجلوبولس نفسه معنياً بنبش ذلك التاريخ بكل ما يحمله من قساوة وفظاعة أفضت إلى انكسار وتشظي الأحلام الكبيرة، لتحل محلها جروح عميقة في نفوس من حملوا مشروعاً سياسياً، خصوصاً هزائم اليسار السياسي وتأثيرات ذلك في أنصاره وفي البلد بشكل عام.

استعان انجلوبولس في تجربته السينمائية بالتاريخ الذي كان شفيعه في عكس رؤيته وتأصيل خطابه الفني وتأملاته الفلسفية. ولكن أي تاريخ؟ لقد عرف، وهو المسكون بحسن الفنان صاحب القضية، كيف يزاوج بين تاريخه الشخصي القريب باعتباره شاهداً حياً على تقلباته، وآخر غير شخصي كونه وريث تقاليد المسرح والتراجيديا الإغريقية القديمة بكل ما تحمله من ملاحم وأساطير، ليوظفها بشكل باذخ في أفلامه القادمة. صحيح أن الثلاثية المشار إليها سالفاً، مكّنت انجلوبولس من حصد جوائز مهرجانات سينمائية عدة وحققت له سمعة عالمية. إلا أنها، وهذا هو الأهم برأينا، عمقت من فهمه ونضجه الفني، ونجد ذلك واضحاً في شريطه الملحمي "الاسكندر الكبير" (1980) الذي حاز جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا للعام نفسه، إذ يضع المخرج إصبعه على تساؤل عصي يدور فحواه حول قيمة التاريخ، وكم يمكننا أن نستفيد من دروسه إزاء الانعطافات التاريخية الحاسمة؟ وكان هذا الفيلم بداية مرحلة جديدة من حياة المخرج عرفت بفترة المادية الجدلية.

لكن الصمت والتأمل استحوذا عليه هذه المرة، ليكرس لهما ما اصطلح على تسميته بـ «ثلاثية الصمت». ففي فيلم "رحلة إلى سايثرا" (1984) نجد أن ثقل التاريخ الشخصي والعام يقود إلى المنفى، وبالتالي تتسع مساحة الصمت حول أحاسيس الأحياء المرة. الرجل الكبير في هذا الفيلم يواصل رحلته من دون أن يعرف أين تنتهي وأين تبدأ من جديد، وحتى بيته القديم يمر به كعابر سبيل. انه يلوذ بتاريخه متنقلاً من منفى إلى منفى، انه ضياع في الزمان والفراغ. بينما يمعن بطل "النحال" (1986) أكثر في صمته، فيفقد جسده وحبه في آن. رحلته تكتمل بصمت بيولوجي وإيديولوجي وروحي. وعلى الموال نفسه، ينسج في شريطه "عراء في ضباب" (1988) حول معنى الصمت وتأثير الطبيعة. وفيه نتابع رحلة طفلين يتيمين إلى مكان غير محدد في ألمانيا، وعندما يصلان إلى نهاية الشوط، سيدركان أن رحلتهما وفّرت لهما مجال كسر الصمت الذي تقاسماه طيلة الرحلة، وأنهما قادران على التخاطب والبناء وإعادة خلق عالم جديد.

عُرف انجلوبولس في أفلامه أعلاه، بأسلوب سينمائي مميز يعتمد على اللقطات المتوسطة والطويلة التي تولد الإحساس بالتلقائية، وغايته من ذلك إشباع اللقطة بكل عناصرها الفنية الضرورية والحفاظ على إيصال رسالتها للمشاهد. وهذا ما ساعده في تناول ومناقشة أفكار كبيرة، ربما لا يتسنى لمخرج آخر التعامل معها. ضمن هذا المنحى جاء شريطه "الخطوة المعلقة لطائر اللقلق" (1991)، الحاصل على جائزة سعفة كان الذهبية، ليناقش عبر لقاء صحافي تلفزيوني اختفاء سياسي - قام بالدور الممثل الإيطالي القدير مارسيللو ماستروياني -  عوالم الهجرة غير الشرعية والنفي والموت والغربة والمستقبل المبهم للاجئين. وكان بمثابة قراءة شعرية بصرية لمفهوم الحدود السياسية والإنسانية التي تفصل بين الإرادات البشرية. بالمقابل، يجعلنا نتساءل عن جدوى وجود الحدود؟ ولماذا تقسم؟ ولماذا لا يمكن للشعوب أن تتنقل وتتخاطب من دون معوقات وأحكام مسبقة؟ شكلت هذه الأسئلة عصب الفيلم، تلك التي وظفها في شريطه المهم "تحديقة عوليس"، الحائز على سعفة كان الذهبية وجائزة النقاد للعام 1995. ويدور حول عودة مخرج سينمائي يوناني من أميركا الى مسقط رأسه بعد غياب دام 35 عاماً (يؤدي الدور الممثل الأميركي القدير هارفي كيتل) بحثاً عن مراجع لفيلمه. لكن السبب الحقيقي وراء عودته كان هاجس البحث عن ثلاث بكرات سينمائية صورها الإخوان ماناكياس في بداية القرن. وتقوده هذه الرحلة عبر بلدان البلقان، مروراً بألبانيا ومقدونيا وبلغاريا ورومانيا وبلغراد وأخيراً سراييفو.

- ومع أن الفيلم يتجاوز توصيفات هذه الأماكن، فإن غاية المخرج كانت واضحة، وهي اشراكنا كمشاهدين في رحلته المفتوحة تاركين مخاوفنا وراءنا لأننا في النهاية سنكون أكثر معرفة وحكمة. يستعين انجلوبولس في تعميد رحلة بطله بمقاطع شعرية منتقاة بدقة لشعراء معروفين. ذلك انه أراد لفيلمه ان يبحث في موضوعين في آن: الحروب الأهلية والاثنية التي تشهدها بلدان البلقان خصوصاً على جبهة يوغوسلافيا السابقة، والاحتفاء بالسينما في ذكرى مئويتها. وشاغله هو عالم اليوم، بحروبه وويلاته وما يجر ذلك من انتزاع قسري للحيوات الإنسانية، الحلم والمنفى والحدود والاختلافات الثقافية. في حين جاء شريطه "الأبدية ويوم واحد"، جائزة سعفة مهرجان كان الذهبية للعام 1998، ليضرب على هاجس من خانتهم الأحلام والوعود بعالم قائم على العدل والإنسانية، وعبر الكسندر الشاعر (برونو غانز) الذي يعاني من جفاف روحي وأزمة إبداع سببها جمع نثار قصيدة قديمة كتبها شاعر آخر في القرون الوسطى. لكن عالم الوحدة التي يعيشها سرعان ما يتكسر عند اقتفائه صبياً ألبانيا مهاجراً يعمل بطريقة غير مشروعة، واحتضانه بعيداً عن أعين الشرطة مما قاده الى عالم خفي عماده تهريب المهاجرين والمتاجرة ببيع الأطفال إلى الأوروبيين.

* ولكن هل يمكن القول أن العيش في المنفى هو الحل؟

إن تجارب المنفيين تقول، إن اللحظة التي يقرر فيها المنفى العودة الى بلده والعيش بين أبناء وطنه، والتمتع بالتحدث بلغتهم يجد ان الكلمات عاجزة عن تمثل الخسائر والجروح، ويكتشف ايضا أن الكلمات ما عادت سهلة بفعل سنوات الصمت.

- كنت قد التقيت الأستاذ أنجلوبولوس قبل حوالي العقدين عقب عرض شريطه "تحديقة عوليس" في العام 1996، أقتبس بعض مقاطع ما دار بيننا.

·         تبدو رحلة بطلك (كيتل) قريبة من رحلة مواطنك الشاعر كافافي الذي استعنت به في فيلمك، خصوصاً قصيدته (أيثاكا)، فما هي أوجه الشبه والاختلاف بين الرحلتين؟

- ثمة تقارب بين الرحلتين، وكلانا نهل من الميثولوجيا. ولكن رحلة كافافي لم تكن غايتها الوصول، بل تبقى مفتوحة دائماً لبداية جديدة وربما نهاية، وهنا تكمن فكرتها الأساسية، أنها توفر لي ممكنات كبيرة لمعرفة النفس والآخرين.

·         ولكن كيف تسنى لك تصوير هذه الرحلة في بلدان تتآكلها الحروب والنزاعات؟

- زرت هذه البلدان قبل بداية التصوير، وكنت الى حد ما على معرفة بالوقائع اليومية، وهذا ما جعلني في بعض الاحيان أتعامل مع بعض المشاهد بطريقة مختلفة. فعلى سبيل المثال، أردت انهاء التصوير في سراييفو ولكن في ذلك الموقع سقطت طائرة كانت تنقل عدتنا، مما حتم علينا ان ننتظر لمدة اسبوع لكي يفتح مطار سراييفو. لقد خربت الحرب كل شيء في سراييفو وكان علينا ان نغير من خططنا. وحتى السيناريو الأصلي جرى عليه بعض التغييرات، اذ كان هناك عدد كبير من نصب لينين الصغيرة استعضنا عنها بنصب واحد عملاق طوله 20 متراً كونه يفي برمزية الغرض، خصوصاً عند نقله عبر نهر الدانوب.

·         هل يمكننا اعتبار الفيلم كتأريخ للبلقان؟

- الفيلم هو بمثابة تحية للأخوين ماناكياس اللذين ارتحلا عبر البلقان. انه تحديقة مخرج في نهاية القرن العشرين لمغامرة الأخوين في بداية القرن وما حملته من معان.

·         هل تعتبر أن "ثيمة" الفيلم نوعاً من الضرب في الوهم؟

- على العكس من ذلك انه مؤشر للفشل، فالقرن الحالي بدأ بسقوط سراييفو التي أشعلت شرارة الحرب العالمية الأولى. انه فشل للأوروبيين والعالم كوننا لحد الآن لم نتعلم من دروس التاريخ. وإذا لم نتعلم فإننا سنرتكب الأخطاء والحماقات نفسها.

·         بطل الفيلم يمر ببلدان تمزقها الحروب ولكننا لا نشاهد عنفها ودمويتها؟

- إنني ضد العنف في السينما، وبعض مشاهد العنف والدم يمكن تنفيذها غرافياً والحصول على النتائج الفنية نفسها. ليس هناك تبرير لمشاهد العنف إذا كانت غايتها العنف بذاته. وإذا كنت تسأل عن مشهد الإعدام في الضباب حيث نسمع طلقات نارية من دون أن نرى من قام به، فإنني أردت أن اجعل مرتكبه غير محدد الهوية من اجل إدانة كل الأطراف المساهمة في هذه المجزرة. إنني على خلاف ما تحويه أفلام السينما الأميركية من مشاهد عنف، ذلك أنها تريد تشكيل حقائق وأوهام تنفرد فيها الولايات المتحدة.

المدى العراقية في

02/02/2012

 

هذا التقدير الفطن والمؤثر لعصر السينما الصامتة هو واحد من أكثر الأفلام الذي يقدم متعة صافية

فيلم "الفنان" لآزانافيسيو.. تناغم تام

ترجمة: عباس المفرجي 

التقدم في العمر والكبت النفسي يجعلاني الآن عرضة للبكاء على الأفلام. لكن  ستكون هذه أول مرّة أذرف فيها دموع الفرح. إنها ليست مبالغة، فهذا يحدث في  كل مرّة أشاهد فيها اللقطات الأخيرة من هذا الفيلم الرائع والفكه والرقيق  على نحو موجع، للمخرج الفرنسي ميشيل آزانافيسيو، وهو فيلم عن عصر الأسود والأبيض الصامت لهوليوود، والذي هو نفسه بالأسود والأبيض، وصامت ــ أو تقريبا صامت. هناك بضع كلمات منطوقة، وموسيقى اوركسترالية متواصلة وضعها لودفيك بورس.

مذ شاهدت فيلم " الفنان "، في عرضه الأول في مهرجان كان العام الماضي، أصبحت واحدا من جمع غفير عالمي من المبشرين الثرثارين، والخوف من التسبب برد فعل سلبي فقط هو الذي يثنينا عن المضي في الحديث أكثر عن فنيته. الكوميديا اللامبالية والخليط من القطع الفنية المتنوعة مرهقان بإضاءة مبهجة ؛ قصة الغرام رقيقة، ومع هذا مشبوبة العاطفة على نحو غير متوقع. إنها قصة حب لاهية تماما ومعجزة من التسلية، وتقول على نحو غير متوقع الشيء الكثير عن الكبرياء الذكوري والتربية العاطفية. إنها حتى تلمع، بطريقتها اللامبالية، الى مسألة ما إذا كان فن السينما أنقى حين كان صامتا.القصة هي تنويع على ثيمة من فيلم " نجم يولد ". نجم أفلام أكبر سنا، مستقر يساعد إمرأة شابة موهوبة في طريقها الى المجد، فقط ليرى مسيرته الفنية تنحدر حين تصيب هي نجاحا. إنها مغازلة يكون فيها الرجل هو المعلم، المرشد والعاشق؛ في "الفنان"، يكون الحب مستحيلا بسبب القدر وإنقلاب الأحوال. الإكتمال الجسدي هو غير مهم: الصفقة المتشابكة للنفوذ والشهرة هي أكثر إثارة من الجنس.

إنه العام 1927، وجورج فالنتاين، الذي يلعب دوره جان ديجاردان، هو نجم أفلام صامتة مفعم بالحياة وسخيف على نحو محبب، ذو وسامة مفرطة وجفون طويلة وشارب كأنه خطّ بقلم رسّام كارتون. علامته الفارقة هي الظهور على الشاشة دائما برفقة كلبه الصغير المحبوب، أوغي، وهو أيضا رفيقه خارج الشاشة، داهية وشجاع مثل لاسي. فالنتاين، بالطبع، هو شبيه صغير بردولفو فالنتينو، وربما يبدو ذلك أكثر وضوحا في أدائه دور مغامر غامض، وهو أيضا شبيه بجين كيلي، في بسمته التي يظهر بها أسنانه. وهو أيضا، بقبعته وربطة عنقه البيضاء، كثير الشبه بموريس شيفالييه.

فالنتاين يرتقي في لعبته الى أعلى درجة، حين نراه منتشيا في حفل إفتتاح فيلمه الجديد "علاقة حب روسية "، وهو قصة محرّفة سياسيا، يظهر فيها مؤديا دور طيّار وجندي يقاتل من أجل إستقلال جورجيا. الأشرار الروس يشاهَدون وهم يعذبون شخصيته في المشهد الإفتتاحي، بأقطاب كهربائية مثبتة على جمجمته، محاولين أن يرغموه على الكلام. لكنه لن يتكلم، وبالتالي يهيأ هذا المشهد للصلابة، التكتم، قابلية السقوط بيد الأعداء والخوف من المستقبل. في الخارج، وسط الحشود المبتهجة التي جاءت لحضور الفيلم، تجازف فتاة ساذجة صغيرة، بطريقة ما، بعبور صف من الشرطة، وتنتهي الى تقبيل فالنتاين على خده، الأمر الذي يبهج المصورين الفوتوغرافيين.

هذه الفتاة هي بيبي ميللر، التي تؤدي دورها الممثلة الارجنتينية بيرينيس بيجو، والتي تظهر أيضا مع ديجاردان في فيلم آزانافيسيو "القاهرة عش الجواسيس" (2006). مغازلتها له، وإفتتانها به، يكسبانها حظا سعيدا مع السينما، إذ تنجح هذه الفتاة الصغيرة بلفت نظر منتج جورج، آل زيمر (جون غودمان)، وكذلك سائقه الداهية المخلص كليفتون (جيمس كرومويل). لكن جورج نفسه ليس مخادعا ولا أخلاقيا؛ إنه متزوج، وإن يكن غير سعيد، وبذلك مثل هذه العلاقة لن تكون. وفي حين تتقبل بيبي، بشكل حاسم، تكنولوجيا جديدة في الأفلام تشتمل على كلام كثير، يرفضها هو بتشكّي ويعتبرها مجرد بدعة. ترتقي هي أعلى سلم النجاح، تاركة جورج يتجه بعناد نحو الأسفل: رجل ولى زمانه.

كل شيء حول "الفنان" يقترب من من الأتقان كما لم يفعل فيلما من قبل: بوجه خاص مشاهد بداية الفيلم حيث نرى تعاقب لقطات لمشهد واحد يرقص فيه فالنتاين رقصة سريعة مع بيبي في حفلة رقص في فيلمه "اعتذار الجنتلمان". في البدء يقومان بحركات خرقاء، ومن ثم يفسدان تصوير المشهد بخروجهما عن النص والضحك في كل مرة أكثر وأكثر على نحو لا يقاوم. وعندئذ يتم التخلي عن المشهد، لأنهما يأخذان بالنظر الى بعض بجدية مفرطة، مدركان شيئا مهما. فهما في هذه اللحظة يقعان في الحب.

جورج نفور، على نحو غريب، من الكلام. زوجته، تتوسل إليه أن يتحدث معها عمّا أصاب علاقتهما من فتور، لكنه لن يفعل، وكبرياؤه بلا شك سوف لا يسمح بمناقشة إمكانية بدء مسيرته الفنية من جديد في الثرثرة، حيث فقدَ عرشه. لكن الأمر لم يكن مجرد هذا: جورج، بطريقته المشوّشة العجولة، يعتقد أن الثرثرة ليست سوى جهل مطبق، وهو فنان. الصمت هو فن: ما يهم هو المشهد ونشوة المشاهدة. والفيلم ينحاز، على نحو دونكيخوتي، الى جانب جورج لكونه صامتا، مع عناوين فرعية للحوار حتى النهاية ــ حين يتفوه جورج بشيء، فإنه يكشف عن سبب آخر لمعارضته أن يكون مسموعا، وأيضا حول الجذور الاوربية لهوليوود الامريكية.

يا له من فيلم مدهش: واحد من تلك الأفلام التي تتوق إلى مشاهدتها المرة تلو المرة، برغم الخوف من إفساد التجربة. إنه واحد من أبلغ الأفلام التي يمكن تخيلها.

المدى العراقية في

02/02/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)