حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان مصغّر للسينما العربية في السويد

غوتنبرغ (السويد) - قيس قاسم

يُمكن وصف البرنامج الخاص بالسينما العربية في مهرجان غوتنبرغ الدولي، بأنه برنامج مُصغر مستقل، داخل دورته الخامسة والثلاثين. ليس على مستوى عرضه أفلاماً لها علاقة بـ «الربيع العربي»، فحسب، فهذا ديدن غالبية المهرجانات الدولية هذا العام، بل على مستوى سِعته بما يشكل شبه تظاهرة سينمائية، تصاحبها ندوات ولقاءات مباشرة مع بعض من صُناعها إلى جانب نقاشات مفتوحة مع الجمهور تلي قسماً من عروضها. وفي هذا الإطار نُظمت ندوة لمخرجين عرب بينهم: عمرو سلامة، محمد دياب والفلسطينية مي عودة، ليتحدثوا فيها عن تجاربهم وأفلامهم. ووفق ما قالته مديرته الفنية ماريت كابلا في إطار تقديمها برنامج الدورة الجديدة: «في السنوات الماضية حدث الكثير من المُتغّيرات السياسية في عدد من الدول العربية، هنا، حاولنا جمع نخبة من أفضل أفلام المنطقة، أفلام تعكس الحياة اليومية للناس وتعطي خلفية لأسباب الحراك السياسي الدائر. والكثير منها قدّم بطريقة مؤثرة وفعالة واقع المرأة العربية والظروف المحيطة بها. كما سَعينا لتقديم صورة تاريخية للسينما العربية عبر مسارين: الأول، نعرض فيه مختارات من النتاج الكلاسيكي والثاني يُذكر بـ «الحرب الأهلية» في الجزائر، عبر مجموعة أفلام قد تساعد على فهم ما يجري اليوم من صراعات في العالم العربي».

فتش عن المرأة

لا يخفي الأوربيون وبخاصة الإسكندنافيين اهتمامهم بقضية المرأة العربية ولا يحتاج الأمر إلى تفحص شديد لإدراك أن قرابة نصف الأفلام المعروضة تمس في شكل أو في آخر المرأة وواقعها، وأن وزعت على أكثر من خانة، والروائي «678» يصلح أن يكون نموذجاً لفيلم جريء، ضمن هذا التوجه، كونه مَسَ ظاهرة التحرش الجنسي في مصر، والتي يمكن تعميمها وبسهولة على بقية مجتمعات المنطقة. و «رشيدة» الجزائرية ليست ببعيدة مشكلتها عن بقية مشكلات بنات جنسها في عالمنا العربي الذي يشهد صعوداً للتيارات الإسلامية المتشددة والواقفة بالضد من حرية المرأة ومساواتها. المخرجة يامينة بشير شويخ وقبل عقد من الزمن تناولت التطرف الديني في بلادها عبر حكاية المدرّسة الشابة «رشيدة» التي واجهت ضغوطاً كثيرة من قبل متطرفين حاولوا إجبارها على ترك عملها وتغيير زيّها، وحين رفضت وجّهوا لها تهديداً بالقتل، فاضطرت إلى التخفي عن عيونهم في مكان بعيد. الفيلم أثار جدلاً في حينه ووصفه بعض النقاد بـ «صرخة شجاعة» في وجه الأصولية إلى جانب الإشادة بجودة صناعته السينمائية.

في حين تقارب «يوميات» مي عودة أشكال الضغط الاجتماعي والسياسي عند طرفين متناقضين: الإسرائيلي بمحاصرته وتسميمه حياة الفلسطينيين يومياً ومواقف «حماس» المحافظة والمتشددة في مدينة غزة. وبكثير من الوضوح يعبر فيلم «على الحافة» عن معاناة المرأة المغربية في ظل الفقر والعوز. إلى جانب مخرجته ليلى كيلاني ولتكريس حضور «السينمائيات العربيات» في المهرجان، اختيرت أفلام أخرى لمخرجات من بينهن: سوزان يوسف وفيلمها «حبيبي راسك خربان» ورانيا اسطفان ووثائقيّها «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة» وصافيناز بوصبايا مع فيلمها الممتع «إل غوستو». وتجنباً للتكرار فأن جُلَ الأفلام المختارة قد تقاسمت عروضها مسبقاً ثلاثة مهرجانات عربية هي: أبو ظبي، دبي والدوحة. من بين الخمسة والعشرين فيلماً استعادات كلاسيكية كـ «وقائع سنوات الجمر» للأخضر حامينا وتحفة الإيطالي جيلو بونتيكورفو «معركة الجزائر» و «باب الحديد» لشاهين.

إيران وتركيا أفلام أقلّ

لوحظ هذا العام قلة الأفلام الإيرانية المشاركة وإلى حد ما التركية التي جاء منها «كان يا ما كان في الأناضول» لنوري بلغي جيلان والحائز على جائزة لجنة التحكيم الكبرى في دورة مهرجان «كان». عنوانه يشي بمثيولوجيا مكانية تخص تلك البلاد لهذا يبدأ الفيلم بمشهدية واسعة لأراض يلفها الليل وتخترقها مصابيح سيارات تسير على غير هدى باحثة عن مكان لتقف فيه وتجد الحفرة التي دُفن فيها رجل ما. لا يفصح جيلان عن الحدث بل يتركنا نتعرف إليه عبر تفاصيل دقيقة وتطورات بطيئة، معتمداً على كاميرته بصفتها الوسيط لنقل مشاعر أبطاله وقصصهم، وبذلك يصنع لنفسه طريقة خاصة في سرد الحكاية.

أما جديد هذا العام فكان استحداث خانة «المال والحياة» التي تضمنت أفلاماً تدور حول المال وأثره في حياتنا، وهي تنشد الذهاب عبر الثيمة إلى الأزمة الاقتصادية العالمية التي يعيشها العالم اليوم وتلمس آثارها التدميرية. وبالتعاون بينه وبين مهرجان روتردام الدولي نظما برنامجاً خاصاً للأفلام الوثائقية الصينية في محاولة لتعريف المشاهد في كلا البلدين إلى المتغيرات الجديدة في الصين عبر عيون سينمائييها.

جائزة واحتفاء

جائزة التنين الشرفية أعطيت للمخرج الإنكليزي مايكل وينتربوتوم وفي أسباب ترشيحه جاء: «منذ أواسط التسعينات ووينتربوتوم يواظب وبانتظام على إنجاز فيلم واحد كل عام من دون أن يجد صعوبة في الانتقال من نوع إلى آخر، فهو في «24 ساعة احتفال شعبي» كوميدي، ورومانسي في «جنوة» وسياسي في «مرحبا في البوسنة» و «في هذا العالم» وصانع وثائقي في «الطريق إلى غوانتنامو». وبمهارته الحرفية النادرة التي تجمع بين الفكاهة والهموم الإنسانية تكون جائزتنا قد ذهبت إلى الشخص الذي يلائم مواصفاتها بالضبط». أما الاحتفاء فهو بالسينمائية النمسوية ياسيكا هاوسنير ويُعرض لها وبوجودها بين الجمهور أفلام عدة من بينها: «فندق» و «معجزة في لودز». وفي «الماستر» يحضر المخرج وارنر هيرزوج والأميركي اليوناني الأصل ألكسندر باين.

ويشاهد الجمهور للأول رائعته الوثائقية «كهف الأحلام المنسية» وللثاني «الأحفاد» المرشح بقوة للحصول على أكثر من جائزة في أوسكار هذا العام. ومع كل الحشد العالمي يبقى مهرجان غوتنبرغ إسكندنافي الطابع، كونه الأكبر بين مهرجانات المنطقة وسنواته الأولى كرست لسينماتها، وترسيخاً لهذة الروح سلطت الدورة الحالية التي تمتد (من السابع والعشرين من يناير حتى السادس من فبراير)، ضوءاً على السينما الدنماركية ومن المفرح أن يكون بينها فيلمان لعمر شرقاوي هما: «2/1 ثورة» و «مع السلامة جميل» إلى جانب أخرى ذات مستوى عال ومنتمية إلى مدارس سينمائية مهمة كـ «إخوة» سوزان بير والفيلم الاستعادي «انكسار الموج» لمؤسس حركة «دوغما 95» لارش فون تيريه إلى جـانب الفيلم المميز «غرفة 304».

أما التسيد وكما هو متوقع فسيكون للسينما السويدية حيث نسبة الأفلام المشاركة هي الأعلى وفيلم الافتتاح «أفالون». والجمهور، سيساهم بدوره كما جرت العادة في اختيار أفضل فيلم سويدي في الدورة، وسيحدد بمشاركته وحضوره مقدار نجاحها، فالمهرجانات هنا للجمهور قبل كل شيء!

الحياة اللندنية في

27/01/2012

 

ردم البحر على الطريقة الهولندية

دمشق - فجر يعقوب  

من احدث الأفلام السورية فيلم «على شاطئ الذاكرة»، وهو فيلم وثائقي للمخرج السوري الشاب الياس حموي. في فيلمه هذا يقتفي المخرج أثر كورنيش مدينة اللاذقية الذي اختفى مطلع ثمانينات القرن الماضي على يد شركة هولندية، ليحل محله المرفأ (أبو الحاويات والسفن والكتل الحديدية الهائلة). هذه المحاولة في اقتفاء الأثر تتم من خلال الدخول إلى ذاكرة ثلاثة أشخاص فقط من أهل المدينة، هم مصور فوتوغرافي وصاحب مطعم العصافيري المشهور ومحام (عضو مجلس نيابي في الوقت نفسه)، والحال أن هذا عكس تقصيراً واضحاً من جانب المخرج الحموي بلجوئه إلى هذا الاختزال القسري، الذي كان ممكناً تبديده والشغل عليه في منحى آخر قد يخدم الفكرة نفسها، وبخاصة كما نعلم، - وهذه على العكس مما تقدم تسجل لحسابه -، ان هذا الفيلم يشكل أول محاولة طموحة وفيها جرأة واضحة، بالحديث عما هو مسكوت عليه. فهذا الكورنيش الذي شكل ذاكرة مهمة للمدينة البحرية السورية العريقة بأهلها وأمكنتها، هو نفسه ما شكل ذاكرة هؤلاء الأشخاص الثلاثة، الذين يستدعيهم المخرج للحديث في فيلمه عن مسوغات خيانة ذاكرة شخصية بالدرجة الأولى، وذاكرة جماعية في الدرجة الثانية جرى الاستيلاء عليها ومحوها في شكل تعسفي، وهذا ما دأب الفيلم على تحميله وقوله عبر دقائقه الثلاثين.

ولا يخطئ المخرج الشاب، حين يعمل على فكرة «تبليط» البحر التي أجمع عليها ضيوفه الثلاثة، وكل من موقع ذاكرته الشخصية، وهي الفكرة الشعبية المتعارف عليها، أو الشائعة بين الناس، حين يقرر من خلالها امتحان قدرة المرء على الذهاب للتوغل في المستحيل، وهي فكرة كانت وحتى إقدام الشركة الهولندية «على سرقة الكورنيش من أهله» مجرد خيال، واذا بها تتحقق في ردم البحر على مرأى المقيمين في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة، وإقامة هذا المرفأ، وتخليص ذاكرة أهل المدينة من حيز وفضاء بحري كان لغة ورموزاً وإشارات في سياق تحولات مدينة، والأهم هو الحيز العاطفي الذي تركه الكورنيش للناس قبل محوه. لأن ما يشغل المتكلمين عموماً، كان هو هذا الحيز الذي اختفى، واختفت معه ذاكرة المدينة نفسها.

المحامي سري حداد يتحدث عن ذاكرة مطفأة، وإن بدت للوهلة الأولى ذاكرة حيّة تمتد من خمسينات القرن الماضي وحتى مطلع الثمانينات، ذلك ان محوها تعسفياً غذّى هذا الشعور في الفيلم، ومنح شعوراً ثقيلاً بأن الكورنيش لم يكن موجوداً أصلاً، وإنما قد جرى اختراعه في ذاكرة المتكلمين ليتم الحديث عنه، وإن ما يقال أمام الكاميرا لا يتعدى محاولة تشويه هذا الحيز الثابت المقيم عند حافة البحر، وهو الحيز الذي لا يكون عادة ضرورياً عندما يدور الحديث عن تبسيط في ذكريات الناس بهدف «تفتيح» صورة كانت غامقة، أو مغيبة، من أجل تصوير فيلم يوثق لحادثة مهمة في حياتهم، كانت شاهداً كبيراً على تحولات نفسية وإنسانية واجتماعية وحتى اقتصادية في سياق مد متغّول كان ممكناً تلافيه بالبحث عن مكان آخر وإقامة مرفأ للسفن، ولكنه مثل كل تلك التحولات التي أصابت كل الأمكنة التي شكلت فضاء شعبياً جمع الناس وصنع لهم ذاكرة وذكريات هدرت مع هذا التوغل البشع فيها.

طويلة ومقلقة ذكريات ثلاثة أشخاص عن الكورنيش. ربما كان ممكناً تشذيبها ورفدها بذكريات مغايرة لشخصيات أخرى. هذا ليس ممكناً الحديث عنه بالطبع، فهذه خيارات المخرج نفسه، ويظل أن المحاولة مهمة في هذا السياق، مهما بدا أنها ناقصة في مكان ما، ولكن مجرد اقتراب الكاميرا من ذاكرة مسورة بأحاديث غامضة عن نهضة اقتصادية وعمرانية تظل محاولة تسجل لها جرأتها، لأن ما ينقص الآن في حياة النفس بالفعل، هو ذلك الحيز العاطفي الذي دفع بالناس، على الأقل من أصحاب الذاكرة المتعلقة بهذا الكورنيش، إلى التمعن في حجم الأذى الذي سببته فكرة «تبليط» البحر، لأنه لم يكن ممكناً تصورها حتى في الأحلام، وإذا بها تتحقق بفعل شركة هولندية، لم تكن هي الأخرى ممكنة ليس بسبب عدم واقعيتها، بل لأن ضيوف الفيلم وقعوا في الواقعة نفسها التي تجيز لأولي الأمر التحكم بفضاء العقول والذهاب بهذا التحكم إلى الحد الأقصى حين يكون ذلك ممكناً ومسلماً به.

الحياة اللندنية في

27/01/2012

 

«حروب النار» لروزني: في بدء التاريخ كانت العنصرية!

إبراهيم العريس  

بالنسبة الى البعض لا تقل أهمية الكاتب البلجيكي الأصل ج.هـ روزني الكبير، عن أهمية جول فيرن في مجال روايات الخيال العلمي. ويرى البعض الآخر ان ثمة تطابقاً «غريباً» بين بعض ما كتبه هـ.ج. ويلز وما كتبه روزني، علما أن روزني - تاريخياً - كان سبّاقاً على ويلز. ويفترض آخرون ان رواية «طفل روز ماري» التي اقتبس منها رومان بولانسكي فيلمه الشهير الحامل الاسم نفسه، مأخوذة الى حد كبير من رواية كان روزني نشرها بعنوان «الغولة الصغيرة» (1920). ومع هذا يرى كثر من الباحثين اليوم أننا إذا حللنا الأبعاد الفكرية في أعمال هذا الكاتب، سوف نجدنا أمام فكر فاشي عنصري.

> والحال أن كل هذه السجالات والآراء المتعلقة بروزني، لم تبرز إلا خلال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة، أي بعدما عاد اسمه الى الساحة الأدبية والفنية بقوة، حين حقق الفرنسي جان - جاك آنو، فيلم «حروب النار» انطلاقاً من واحدة من أشهر روايات روزني. وقد أتت استعادة شهرة هذا الكاتب يومها لتذكّر بأنه يكاد يكون الكاتب الوحيد في تاريخ الأدب الذي امتد نطاق زمن رواياته وقصصه (التي يزيد عددها على الخمسين) منذ ما قبل التاريخ، الى وهاد المستقبل البعيد، عصر الفضاء وصولاً الى اليوم الذي ماتت فيه الأرض، على ما يقول لنا عنوان واحدة من رواياته الكبرى («موت الأرض» - 1910). وعلى رغم هذا كله، ومن قبل أن «يكتشف» المخرج آنو رواية «حروب النار» ويؤفلمها، كانت هذه الرواية شديدة الانتشار والشهرة، بل إنها قرئت دائماً من جانب أناس ما اهتموا أبداً باسم كاتبها، وخيل اليهم انه انكليزي، طالما أن الانكليز كانوا ولا يزالون سادة هذا النوع من الأدب.

> و«حروب النار» التي نشرها روزني للمرة الأولى في عام 1911 تتنافس، عادة، مع رواية جاك لندون («قبل آدم» - 1906) للحصول على لقب «الرواية التي تحكي أقدم الأحداث في تاريخ البشرية»، ذلك ان رواية روزني هذه تدور أحداثها في أزمان ما قبل التاريخ الساحقة، بل حتى في أزمان ما قبل النطق والأسطورة يوم كان الإنسان لا يزال يقطع خطواته الأولى في التحول الى كائن بشري. وكان لتوّه قد اكتشف وجود النار، ما أضفى على حياته كلها طابعاً جديداًَ. والرواية تبدأ في ذلك الزمن، ومع جماعة الأولهامر، التي فقدت النار المشتعلة ذات يوم فأحست بالكارثة الى درجة أن واحداً من أفرادها (نوح، وهو غير النبي المعروف بالإسم نفسه بالطبع) يبدأ بقطع الفيافي والقفار سعياً وراء الحصول على نار جديدة، مشتبكاً في طريقه مع أنواع الضواري، وجماعات من البشر أكثر ضراوة وأقل تمدناً من جماعته بكثير. وفي الوقت نفسه يتعرض نوح هذا الى منافسة وصراع الشقي آغو، وهو الشاب الأكثر شراً بين شباب الأولهامر، والذي يريد ان يحل مكانه لكي يحظى بالحسناء غاملا، التي كان الزعيم قد وعد الفائز بالنار بالحصول عليها.

> غير أن أحداً، في حقيقة الأمر، لا يمكنه أن يغلب نوحاً، وليس فقط بسبب قوته الجسدية اللافتة والتي تمكنه من خوض الصراعات على أنواعها، بل كذلك لأنه يتمتع بصفات لم تكن معروفة في زمنه: الذكاء الذي مكنه من ترويض أعتى الوحوش ووضعها في خدمته، وحس التضامن مع الآخرين الذي يجعل منه زعيماً محبوباً، لا مرهوباً، من جانب المقاتلين الذين يرافقونه، كما يمكنه من أن يتحالف مع شعب مجهول يلتقي به ويرى أن الدنو منه أمر محبّب ومفيد. وهكذا، منذ عصر حروب النار المبكر ذاك، يضعنا الكاتب روزني في مواجهة ذاك الذي قد يصح أن يطلق عليه اسم «الإنسان الأول» بالمعنى المعاصر للكلمة، أي الكائن البشري ذا الصفات الإنسانية، خصوصاً أن نوحاً يبدأ، بين الحين والآخر، بالتصرف في شكل هرطوقي يتناقض تماماً مع الأعراف والقيم التي كانت سائدة في زمنه: من ذلك، مثلاً، حين نراه خلال القتال يستنكف عن الإجهاز على الجرحى إذ يهزمون ويصبحون خارج المعركة ومن ذلك أيضاً أن حبه للفتاة الموعودة ليس حباً حيوانياً بيولوجياً كما كان شأن «الحب» في ذلك الحين، بل انه حب عاطفي خالص يمس شغاف القلب والمشاعر، لا أطراف الجسد وحدها. وبهذا يكون روزني قد رسم ملامح الإنسان، في تميزه البدئي عن وحوش ما قبل التاريخ.

> غير أن هذه السمات التي صاغها روزني لبطله، وعلى ضوء التحليل الفكري لهذا العمل - ولأعمال أخرى أيضاً لروزني نفسه - لم تتمكن من إخفاء سمات عنصرية واضحة في سجايا هذا الفكر ككل. ففي هذه الرواية، كما في أعمال أخرى للكاتب، نجد ان الشعوب المجاورة هي دائماً شريرة وقبيحة ومعادية، قصيرة وذات أخلاق كريهة، لذا يتعين مجابهتها وبالتالي إما «تمدينها» وإما «تصفيتها» لكي تستقيم الأمور. وهذا الأمر إذا كان قد بدأ جنينياً ويحمل شيئاً من الحياء التعبيري في «حروب النار»، فإنه كان أوضح بكثير في رواية أخرى لروزني نفسه نشرت عام 1929، وفي وقت كانت فيه الفاشيات وشتى ضروب العنصرية تعتمل في أوروبا واضعة اياها أمام الكارثة. وهذه الرواية هي «الرجال/الضباع» التي اعتبرت من جانب الكثيرين، منشوراً سياسياً ضد سكان المستعمرات و «أنشودة تتغنى بمزايا الانسان الشمالي الأبيض وتفوّقه»... علماً أن المرأة في الرواية، حتى ولو كانت بدورها بيضاء وشمالية، تظل مثل البشر الأدنياء متسمة بالغريزة الحيوانية المسيطرة عليها.

> والحال أن هذا البعد الجلي الى حد كبير في «الرجال الضباع» كان هو الذي فتح الأعين على الجوانب التي كانت تبدو خفية بعض الشيء في «حروب النار». ومع هذا، فإن روزني نفسه لم يبال كثيراً بالتحليلات التي طاولت عمله، وأبدى دائماً استغرابه إزاءها من دون أن يردعه ذلك عن مواصلة التعبير عن فكره نفسه، كما نرى في رواية «الهر العملاق» التي هي امتداد لرواية «حروب النار» اذ تروي مغامرات ومآثر أبناء نوح وغاملا، بعد زمن من اتحاد هذين الأخيرين إثر انتصار نوح في الرواية الأولى.

> وروزني (واسمه الحقيقي جوزف بوكس، غيّره لكي يتميز عن أخيه الذي كان يكتب معه شراكة أول الأمر) ولد عام 1856 في بروكسل التي أمضى فيها طفولته قبل أن ينتقل الى لندن حيث عاش عشر سنوات، عاد بعدها واستقر منذ كان في الثلاثين، في باريس التي ظل فيها حتى مماته في عام 1940. وهو اضافة الى امتهانه الكتابة وخوضه شتى أنواعها، ولا سيما الخيال العلمي والرواية التاريخية، كان رجل علم حقيقياً، واعتبر عالماً من جانب العلماء أنفسهم، من الذين حين عقدوا مؤتمراً لعلم الفلك في باريس في عام 1929 لم يتوانوا عن دعوته الى المشاركة فيه بصفته مبتكراً ورائياً في هذا المجال، لا بصفته أديباً. واللافت في هذا كله أن روزني كان، في مجال المعرفة الأدبية والعلمية، عصامياً لأنه ترك المدرسة وهو بعد في الخامسة عشرة. وفي فرنسا أثارت قصصه ورواياته الأولى اعجاب ادمون دي غونكور، الذي وجد نفسه تلقائياً يسند اليه رئاسة اكاديميته بدءاً من عام 1907. وكما أشرنا أربى عدد روايات روزني على الخمسين، بين نصوص طويلة وقصيرة. وهو عاش طويلاً وظل ينتج حتى آخر أيامه. ويروى أنه لم يمرض ولم يتعب في حياته وعلى رغم تقدمه في السن، وانه لم يزر طبيبا على الاطلاق.

alariss@alhayat.com

الحياة اللندنية في

27/01/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)