حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

أفلام الثورة المصرية يغلب عليها الوثائقي والقصير

نحو ولادات بصرية جديدة

نديم جرجورة

أحد عشر يوماً فقط شكّلت الفاصل الزمني بين تحقيق التونسيين أحد أبرز أهداف حراكهم الشعبي العفوي، المتمثّل بسقوط الطاغية زين العابدين بن علي وهروبه إلى المملكة العربية السعودية، وبداية حراك شعبي عفوي وسلميّ عربي ثان، شهدته القاهرة ومدن مصرية أخرى. أحد عشر يوماً فقط. هذا زمن قصير في لحظة الانقلابات الحاصلة في المشهد العربي الراهن. هذا زمن قصير، أسّس لحظة البداية: تحطيم جدار الخوف العربي، وإطلاق الصرخة عالياً، تلك الصرخة المدوّية لغاية الآن في أصقاع عربية عدّة. أحد عشر يوماً فقط، احتاج المصريون إليها لإطلاق حراكهم بشكل عفوي بحت. في مقابل ثمانية عشر يوماً آخر، هي المدّة التي فصلت بين «نزول» مصريين كثيرين إلى الشارع بدءاً من صباح الخامس والعشرين من كانون الثاني 2011، أي في يوم «عيد الشرطة»، و«تنحّي» الطاغية حسني مبارك.

السينما حاضرة

احتفل التونسيون بذكرى مرور عام واحد على تحطيم جدار الخوف. يستعدّ المصريون للاحتفال بذكرى مرور عام واحد فقط أيضاً على إقصائهم الطاغية، القابع حالياً في السجن، بانتظار انتهاء محاكمته بتهم مختلفة. السينما حاضرةٌ في الاحتفال. أو بالأحرى، خيارٌ شخصي للاحتفال بالذكرى. السينما حاضرةٌ في مصر قبل «الثورة» وأثناءها. حاضرةٌ بأشكال متنوّعة، وأنماط متفرّقة. الحراك الشعبي ألهم مصريين عديدين صُوَراً وثائقية وروائية قصيرة، بالتزامن مع استخدام مصريين كثيرين وسائط الاتصال الحديثة جداً لالتقاط اللحظة، وحمايتها من الاندثار والنسيان. أقول السينما، مع أني أفضّل استخدام تعبير آخر هو «العمل البصري» للإشارة إلى النتاج الذي أوحت به «ثورة الخامس والعشرين من يناير». الأفلام المصنوعة خلال عام «الثورة» لا تملك كلّها شفافية اللغة السينمائية وإبداعها. لا تملك كلّها الحرفية الناضجة في استخدام أدوات التعبير. الحدث أقوى؟ ربما. لكن الواقع انعكاسٌ لارتباك المشهد برمّته. الغالبية الساحقة من الأفلام المصنوعة لـ«الثورة»، بفضلها وعنها، تُعتبر إعلاناً «رسمياً» لولادة بصرية جديدة، يُفترض بها أن تتطوّر لاحقاً، لبلوغ حالة سينمائية متكاملة. الأفلام المصنوعة خلال عام «الثورة» موزّعة على البعض القليل من الاشتغال الاحترافي اللافت للانتباه، وعلى كثرة الأعمال العادية جداً.

الفرق الأول بين النتاجين البصريين التونسي والمصري، المرتبطين بالحراك الشعبي العفوي هذا، كامنٌ في غياب النسق الروائي القصير عن المشهد التونسي، لغاية الآن على الأقلّ. الروائي الطويل غائبٌ عن المشهدين السينمائيين التونسي والمصري. في مصر، هناك عدد وافر في النتاج الوثائقي، وإن بدا الريبورتاج التلفزيوني طاغياً. الذاتيّ حاضرٌ في بعض العناوين. هناك مخرجون رووا اختباراتهم الفردية. دخلوا منازلهم الشخصية. التقوا أفراداً من عائلاتهم. هذا مهمّ. الحكاية الفردية ضرورية. غير أن المشكلة واضحة في الشقّ الفني. الاختبار الروائي القصير إحدى سمات النتاج البصري «الثوري» في مصر: قبل وقت قصير جداً على بداية الدورة الأخيرة لمهرجان «كانّ» السينمائي (أيار 2011)، أنهى عشرة مخرجين مصريين تنفيذ مشاريعهم المتعلّقة بإنجاز عشرة أفلام روائية قصيرة جُمعت كلّها في عنوان واحد، هو «18 يوم». يُذكّر هذا بما فعله المنتج الفرنسي آلان بريغان، قبل عشرة أعوام: عشية الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى للجريمة البشعة التي نُفِّذت ضد الولايات المتحدّة الأميركية في الحادي عشر من أيلول 2001، أنتج بريغان فيلماً جماعياً اتّخذ تاريخ وقوع الجريمة عنواناً له، ومُكلّفاً أحد عشر مخرجاً من أنحار متفرّقة من العالم، بإنجاز أحد عشر فيلماً، مدّة كل واحد منها إحدى عشرة دقيقة وتسع ثوان ولقطة. لم يفعل المصريون شيئاً كهذا. الظروف مختلفة: هناك حراك شعبي أفضى إلى سقوط الطاغية من دون إسقاط النظام الفاسد كلّه. هناك صدمة ناشئة من كون الحراك نفسه جديد على المصريين. هناك عفوية كبيرة لدى السينمائيين هؤلاء، جعلتهم يلتقون من دون تخطيط عميق، ويُنجزون أفلاماً من دون ميزانيات تقريباً. عفوية مُضافة على رغبة عميقة في البوح. في قول أشياء ذاتية بحتة، متّصلة بالحدث والناس معاً. في رسم صُوَر ما عن راهن مستمرّ في غليانه.

غير أن العفوية تلك لم تحل دون إنجاز سينمائي «جميل»، صورة ومعالجة واختباراً. عشرة أفلام متناقضة الجودة الإبداعية، ومتشابهة كلّها في انبثاقها من رحم اللحظة الآنيّة. في انفلاشها على المشهد الإنساني العام. في بساطة بعضها وانفعاله، كما في شفافية بعضها الآخر وبراعته في التقاط سينمائي للراهن. عشرة مخرجين منتمين إلى تجارب مختلفة وعوالم سينمائية متفرّقة، بدءاً من شريف عرفه (احتباس) ويسري نصرالله (داخلي/ خارجي)، وصولاً إلى كاملة أبو ذكري (خلقة ربّنا) ومريم أبو عوف (تحرير 2 ـ 2) ومروان حامد (1919) ومحمد علي (إن جالك الطوفان) وشريف البنداري (حظر تجوّل) وخالد مرعي (كعك الثورة) وأحمد عبد الله (شبّاك) وأحمد علي (أشرف سبيرتو). كل واحد منهم اختار قصّة. كل واحد منهم قال رأياً. أو قدّم صورة. التقط شيئاً من واقع الحال. فكّك بنية اجتماعية ما. حلّل وضعاً نفسياً. الفتاة التي غيّرت لون شعرها لحظة بدء الحراك (خلقة ربّنا)، لا تختلف عن المرأة الراغبة في الانخراط في الحراك، لولا معاندة زوجها الموافق لاحقاً على ذلك (داخلي/ خارجي). وهما لا تختلفان عن الزوجة (تحرير 2 ـ 2) التي انتبهت، لاحقاً أو متأخّرة، إلى أن الحاجة إلى المال لا تعني بالضرورة ممارسة أي عمل (زوجها «بلطجي» اصطدم بقذارة أفعاله بعد حين).

تنويعات

القصص متنوّعة: الانغلاق على الذات خوفاً مما يجري خارج المساحة الخاصّة (كعك الثورة)، شبيهٌ إلى حدّ ما بانغلاق من نوع آخر في محل الحلاقة (أشرف سبيرتو) المنتهي، على نقيض الانغلاق الأول، بانفتاح على الحدث. التحقيقات البوليسية (1919) مشغولة بحرفية مبدع سينمائي شاب، والحساسية الإنسانية إزاء ما يجري خارجاً (شبّاك) لا تختلف عن مفهوم الانغلاق خوفاً في غرفة ضيّقة، قبل أن يذهب الواقع بالناس إلى المشاركة. هناك أيضاً انغلاق مشفى الأمراض العقلية (احتباس)، والعملية التجارية البحتة، المتمثّلة ببيع الأعلام والصوَر مهما كان واقع الحال (إن جالك الطوفان). أما الحصار الجغرافي بسبب منع التجوّل، فتحوّل إلى نوع من حصار نفسي عانى تداعياته جدّ وحفيده في رحلة ليلية داخل أزقّة وحالات (حظر تجوّل).

الاشتغال السينمائي أوضح. الروائي القصير حقّق المعادلة المطلوبة في قراءة اللحظة الراهنة. في معاينة الارتباط (الانفعالي. الذاتيّ. الاجتماعي... إلخ.) بين الفرد وبيئته الضيّقة. جمالية الصورة نتاج حرفية سينمائية، برزت في «شبّاك» و«حظر تجوّل» أولاً. برزت أيضاً في «أشرف سبيرتو» و«1919» و«كعك الثورة»، وإن بدرجة أقلّ. يُسري نصرالله منصرفٌ إلى تحليل صدام خفيّ بين الخوف والرغبة في المشاركة. بين الخوف والسعي للتحرّر من طغيانه. هذه نماذج. «شبّاك» مثلاً بدا مائلاً إلى الشعريّ في اختزال المشهد (شاب منعزل في غرفته يُراقب ابنة الجيران الناشطة في الحراك). هذه نماذج برهنت أن الروائي القصير قادرٌ على اللحاق بالحدث. قادرٌ على المعاينة والكشف، بلغة سينمائية هادئة.

وثائقياً، اختلف الأمر. الأفلام المُنتجة لغاية اليوم متنوّعة الاتّجاهات. الفيلم الروائي الجماعي قابَلَه فيلم وثائقي أنجزه ثلاثة مخرجين شباب: «تحرير 2011: الطيّب، الشرس والسياسي» لتامر عزّت وآيتن أمين وعمرو سلامة. العمل المشترك سمة. أفلام روائية قصيرة ارتكزت على قصص أفراد. هذا موجود في أفلام وثائقية أخرى: «مولود في الخامس والعشرين من يناير» لأحمد رشوان. «نصف ثورة» لعمر شرقاوي وكريم الحكيم. هذان متناقضان و«تحرير 2011». الأخير مفتوح على الفعل الجماعي أكثر. قصص الأفراد موجودة. لكنها مجتمعة كلّها في إطار جماعي. بصرياً، بدا «نصف ثورة» أنضج وأهمّ. كاميرات صغيرة الحجم استخدمها المخرجان ورفاق لهما: صورة مرتبكة. ألوان باهتة أو شبه باهتة. عدسات منصبّة على الأزقّة والشرفات والداخل. يوميات الثورة توقّفت عندما قرّر الجميع مغادرة القاهرة. اللعبة البصرية متناغمة والموقف الإنساني. الخوف المتجذّر في أعماق المجتمع المصري حال دون استكمال المشهد. الخروج من الحدث مشابه لخروج الكاميرا من اللعبة. علّق ناقدٌ على الفيلم بقوله: «إنه مشغول بحرفية دقيقة وصائبة، إلى درجة لا تُحتمل أحياناً». التقنيّ متين جداً، على نقيض الارتباك الذي عاشه «أبطال» الفيلم، الذين غادروا قبل «اكتمال» الثورة. بخلاف هذا كلّه، اختار أحمد رشوان نفسه وعائلته (ولداه تحديداً). العلاقة بين ولادة الطفل وبداية الحراك ركيزة. متابعة الوقائع من خلال عيني المخرج أو عدسة الكاميرا عادية جداً. «تحرير 2011» ذهب إلى ما هو أبعد من الواجهة: المواطنون العاديون توزّعوا المهمّات، وخاضوا المواجهة سلمياً (الطيّب). رجال الأمن والشرطة مصرّون على شرعية تحرّكهم (الشرس). اللعبتان الإعلامية والترويجية لحسني مبارك مدخل إلى قراءة المسارات السابقة للحراك (السياسي).

الاختبار البصري المصري أكثر عدداً من شبيهه التونسي. الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لبداية الحراك مقدّمة لقراءة محتاجة إلى مشاهدة أفلام مُنجزة أخرى أيضاً. الحراك البصريّ مشابه للحراك الميداني. هذا دليل عافية. النقد بات جاهزاً لمواكبة الحراك البصري أيضاً. هذه ضرورة.

كلاكيت

عن الجوائز

نديم جرجورة

تُشكّل الجوائز السينمائية محطّة في المسار الزمني للأفلام. محطّة يعتبرها البعض جوهرية. يراها آخرون ضرورية. هناك من لا يكترث بها أبداً. أو من يتعاطى معها كلحظة عابرة، وإن كانت لحظة مهمّة. الجوائز الممنوحة من مؤسّسات فاعلة في المشهد السينمائي باتت جزءاً من حكاية السينما. شركات الإنتاج تطمح إليها. مخرجون وممثلون وتقنيون أيضاً. إنها محطّة تحوّل. إنها لحظة مباركة. التحوّل مرتبط بالمسار المهني لصنّاع الفيلم. الجائزة دفعٌ إضافي إلى الأمام. البركة متعلّقة بمستقبل العمل وصنّاعه معاً. لهذا، تكافح الغالبية الساحقة من العاملين في صناعة الفن السابع للحصول على جائزة أو أكثر، بدءاً من «الكرة الذهبية (غولدن غلوب)»، وانتهاءً بمهرجانات أساسية (برلين، كان، البندقية)، ومروراً بـ«أوسكار» ومثيلاته الأوروبية.

هذا كلّه صحّي. الذين يجتهدون لإنجاز أفلام سينمائية تتلاءم وطموحاتهم الثقافية والجمالية والفنية، يستحقّون تكريماً كهذا. الذين يسعون لتقديم الأفضل والأهمّ والأبرز، جديرون بنيلهم جائزة أو أكثر. غير أن الأسئلة المطروحة دائماً في مناسبات كهذه، معقودةٌ على جوهر القصّة: من يمنح من؟ كيف تُمنح الجوائز؟ لا أسأل عن آليات العمل في المؤسّسات أو اللجان المانحة جوائزها، بل عمّا هو مخفيّ في اللعبة: ألا تُمنح الجوائز هذه وفقاً لـ«أمزجة» (ثقافية أو سينمائية أو جمالية أو إنتاجية إلخ.) خاصّة بمن يُشكّل فرقاً أو لجاناً تُقرّر منح الجوائز؟ الفيلم الفائز نال جائزته وفقاً لمعادلات خاصّة بأعضاء الفرق واللجان هذه. صحيح أن جوائز المؤسّسات تُمنح وفقاً لآراء عدد كبير من أعضائها. هذا لا يُسقط المزاجية العامة من حساباتهم. فكيف الحال بالنسبة إلى لجان تحكيم خاصّة بالمهرجانات: عدد الأعضاء قليل، والوقت قصير، والجوائز «يجب» أن تُمنح؟

لا شكّ في أن المَنْح مرتكز على قواعد وأسس. مرتكز على ما يُقدّمه هذا الفيلم أو ذاك المخرج أو تلك الممثلة. لا أتحامل على أحد. لا أُسقط عن المانحين «نزاهة» ما. أقصد بذلك أن المزاجية عاملٌ فاعل. أو ربما المصالح العامّة أحياناً. الدليل على ذلك: كم مرّة مُنحت أفلامٌ جوائز أساسية ومهمّة، في حين أن نقّاداً ومشاهدين انفضّوا عنها؟ هذا طبيعيّ للغاية. هذا لا يعني أن الفيلم «سيئ» لأن نقّاداً اعتبروه منقوص الإبداع مثلاً. والعكس صحيح. هذا يعني أن «المزاجية» العامّة عامل فاعل، من دون أن يعكس شمولية عامّة. الفيلم الفائز لا يعني أنه ذو براعة إبداعية فاقعة. خسارة مخرج أو ممثل أو تقني لا تعني أن هؤلاء فاشلون. سينمائيون أمضوا حياتهم المهنية كلّها في تقديم المبدع الباهر، لم يحصلوا على جوائز. سينمائيون آخرون «برعوا» في تقديم الأقلّ أهمية في تاريخ السينما حصدوا جائزة أو أكثر. الإبداع الحقيقي نال حظوة كبيرة في عالم الجوائز. العاديّ ممنوع من دخول العالم هذا أيضاً.

أميل إلى القول إنها لعبة. لكنها لعبة مثيرة حقّاً.

فجر يعقوب: «جماليات الإنسان الأرضي»

إذا بدا الفيلم الوثائقي المنتج حديثاً جزءاً أساسياً من الإبداع السينمائي، فإن التاريخ الفني قدّم بدايات تأسيسية حقيقية لهذا النوع من التعبير البصري، وشهد محطّات وشخصيات فاعلة في بلورة الأفق الراهن له. كتاب الزميل يعقوب هذا، الحامل عنواناً فرعياً هو «دراسات في السينما الوثائقية» (وزارة الثقافة السورية، المؤسّسة العامة للسينما)، استعاد به أبرز المحطات، لبلوغ الراهن.

محمد رضا: «أسس النقد والناقد»

لا يقف الزميل محمد رضا، في كتابه (عن مركز الخليج للدراسات، الشارقة) عند اهتمامه الأول، السينما، بل انعطف إلى شؤون الأدب والفن أيضاً، في محاولة ذاتية لتحديد أسس النقد ومعاييره، في زمن التخبّط الفظيع في الكتابات المتنوّعة. وعلى الرغم من ميل واضح إلى التلقين الأكاديمي أحياناً، إلاّ أن رضا رسم صورة تاريخية واجتماعية وثقافية وفنية للنقد، محاولاً ضبط الأمور، وساعياً لاختزال المفاهيم وتكثيفها، في قراءته واقع الحال الآنيّ، في لحظة تفشّي الكتابات العشوائية، التي تدّعي معرفة ووعياً وثقافة ونقداً.

السفير اللبنانية في

19/01/2012

 

أفلام «الموجة الجديدة» في «متروبوليس»

رحلة مختلفة في عالم الصورة

نديم جرجورة 

الحكاية معروفة جداً، تاريخياً وثقافياً وجمالياً واجتماعياً: سينمائيون فرنسيون قادمون إلى صناعة الصورة من الكتابة النقدية عنها، حقّقوا انقلاباً على السائد في الصناعة السينمائية الفرنسية بدءاً من الخمسينيات الفائتة. زمن الانقلابات؟ ربما. أو ربما لأن اللحظة أنضجت انقلاباً كهذا، فباتت «الموجة الجديدة» تحطيماً لقواعد تقليدية لم يعد هؤلاء قادرين على احتمالها. التعبير هذا (الموجة الجديدة) استُخدم للمرّة الأولى في الثالث من تشرين الأول 1957، في مقالة لفرانسواز جيرو مرتكز على تحقيق سوسيولوجي لظواهر الأجيال. استعاده بيار بيلار في شباط 1958 في مجلة «سينما 58». التعبير هذا خاصّ بأفلام جديدة موزّعة على الشاشات الفرنسية في العام 1959، وتحديداً تلك المشاركة في دورة العام نفسه لمهرجان «كانّ». قيل يومها إن حملة إعلانية لـ«المركز الوطني للسينما»، هدفت إلى إلغاء المعنى الاجتماعي للمفردة، لاستخدامها بشكل خاصّ بالسينما فقط.

تحرّر

هذا كلّه تاريخٌ. «الموجة الجديدة» فرضت قواعدها المتحرّرة من اللغة الكلاسيكية في تحقيق فيلم سينمائي. التحرّر يعني تفلّتاً من القيود المتداولة. يعني إطلاق الحرية الكاملة للصنيع في أن يكون فيلماً مفتوحاً، من دون التزام البناء المعهود. تحطيم القيود بداية التأسيس. لكن «الموجة الجديدة» لم تكن ثمرة بحث طويل حول السينما، بل نتاجاً مباشراً لعصر، وخلاصة لقاء جمع سينمائيين شباب بعضهم مع البعض الآخر: فرانسوا تروفّو. إيريك رومر. جان ـ لوك غودار. آنياس فاردا. جان أوستاش. جاك ريفيت. كلود شابرول. هؤلاء نواة الحركة السينمائية الجديدة. بعضهم سيكون «حاضراً» في بيروت بفيلم واحد، بفضل التظاهرة المنطلقة مساء اليوم في صالة سينما «متروبوليس» في «أمبير صوفيل» (الأشرفية). جمعية «متروبوليس»، بشراكتها مع «المعهد الفرنسي في بيروت»، تفتتح «وقتٌ للحياة: ثمانية من طليعيّي الموجة الجديدة»، بعرض فيلم قصير لرومر بعنوان «تقديم، أو شارلوت وقطعة اللحم الخاصّة بها» (1951، 12 د.)، يليه مباشرة «سيرج الجميل» (1958، 98 د.) لشابرول (بدءاً من الساعة الثامنة مساء، موعد عرض الأفلام كلّها، المعروضة بنسخ فرنسية أصلية، مرفقة بترجمة إلى الإنكليزية، باستثناء فيلم واحد فقط لفرانسوا تروفّو، المعروض بلغته الفرنسية).

هواة السينما مدعوون إلى رحلة مختلفة في عالم الصورة. بدءاً من مساء اليوم، ينتقلون بين أفلام وأساليب منضوية في عالم «الموجة الجديدة» طبعاً، ومنفتحة على أسئلة جمالية وفنية وثقافية وحياتية. هذا طبيعي. الانتماء إلى عنوان واحد لا يلغي التفرّد والذهاب إلى أقصى الاختبار. المرحلة التاريخية حينها تطلّبت جرعة إضافية من اللامألوف. الدور النقدي أساسي في ولادة فضاء جمالي جديد. الأمر معروف: مجلة «دفاتر السينما» أدّت دوراً أساسياً. مخرجون عديدون بدأوا يبلورون «المشروع» الجديد على صفحات المجلة. في طيّات كتاباتهم. خرجوا من المجلة إلى الاستديو لإنجاز فيلم، بعد أن جاءوا البلاتوهات لمتاعبة وقائع التصوير، وللكتابة. البلورة لم تأت نتيجة تراكم. حدث شيء ما في لحظة ما. ثم انهار التقليد أمامهم. ليس انهياراً تاماً، بل انهيار حقيقي. «الموجة الجديدة» حرّرت النصّ السينمائي من سرد روتيني للحبكة، المغلّف بأشكال أليفة ومعتادة. حرّرت الإبداع من قيود ما، دافعة إياه إلى التخوم القصوى للتفلّت الإبداعي في صوغ مشاهده.

بداية الأسبوع البيروتي لـ«الموجة الجديدة» معقودة على فيلمين اثنين: الأول قصير مثّل غودار فيه دور شاب مرتبط بعلاقة مرتبكة بشارلوت الساعية للخلاص من البلدة ومنه ومن العلاقة كلّها. التأثّر بألفرد هيتشكوك معقودٌ على ثلاثة من سينمائيي الموجة تلك: رومر وشابرول وفرانسوا تروفّو. أنجز الأولان كتاباً عن معلّم التشويق. تروفّو حاوره في كتاب بات مرجعاً. شابرول عكس تأثّره به في «سيرج الجميل»: عودة أحدهم إلى قريته دونها صعوبة التأقلم. دونها صعوبة استعادة الذات وسط التبدّل الحادّ الذي أصاب أناساً وحياة. أميل إلى الاعتقاد أن ترابطاً ما جمع الفيلمين هذين: شارلوت وسيرج. وحدانية الفرد. شعور قاس بالحصار. ارتباك ذاتيّ مدمِّر. استعادة الفيلمين في افتتاح التظاهرة مدخلٌ إلى عالم معقّد ومتشابك ومتداخل، عن أناس وحالات. غالب الظنّ أن العوالم هذه، أو بالأحرى نواتها المبطّنة داخل الذات والحالة معاً، جوهر الأفلام المختارة. نموذج عن المناخ العام.

اختبارات

تروفّو مختلف قليلاً: «أطلقوا النار على عازف البيانو» (1960، 78 د.، بالفرنسية من دون ترجمة إلى الإنكليزية، الثامنة مساء غد الجمعة): في الكتاب الجميل والقيّم للثنائي أنطوان دو باييك وسيرج توبيانافرانسوا تروفّو»، منشورات «غاليمار»، سلسلة «فوليو»، الطبعة الثانية، 2001) جاء أن الفيلم هذا كان، بالنسبة إلى مخرجه، مزدوج الحضور: تصويره رائع، لكن توليفه صعبٌ ومملّ، لأن تروفّو باح بمكابدته خوفاً مرضياً من السيناريوهات كلّها المبنية على الـ«فلاش باك». علماً أن التصوّر الأساسي لفيلمه هذا مبنيّ على «فلاش باك» طويل أعاد إحياء قصّة حبّ مأسوي بين عازف البيانو إدوار سارويان (شارل أزنافور) وزوجته تيريزا (نيكول بيرجي). مع هذا، لا تقف الحكاية هنا: لم يشأ تروفّو الاستمرار في تقديم ما فعله سابقاً في «أربعمائة ضربة» (فيلمه السابق). لم يرغب في سرد قصّة ثانية عن مراهقين وانفعالات بسيطة. اختار رجال عصابات وعاهرات وعازف بيانو مكتئب، في فيلم «فانتازي» صاف، هو مزيج التراجيديا بالكوميديا، ساعياً بهذا لتغيير جذري في النوع.

إلى ذلك، هناك «باريس لنا» (1961، 137 د.) لجاك ريفيت (السبت): عن باريس صيف العام 1957. عنها وفيها أيضاً، عبر شخصيات شابّة تتداخل مسارات حياتهم ومصائرهم بعضها بالبعض الآخر، في إطار مأسوي ذاهب بهم إما إلى الداخل الذاتيّ، وإما إلى المشهد الإنساني العام. في «كليو من الخامسة إلى السابعة» (1962، 90 د.) لآنياس فاردا (الأحد)، اختبار واقعي بحت. أي أن المخرجة تتابع تفاصيل خاصّة بالشخصية الرئيسة بشكل دقيق ومفتوح على أسئلة الحياة والوجود واللغة التعبيرية. مع «موريال أو زمن عودة» (1963، 117 د.) لآلان رينيه (الاثنين)، تتألّق لغة الصدام بين شخصيات ثلاث مرتبطة بعضها بالبعض الآخر بشكل حادّ، تلتقي في لحظة تبدّلات خاصّة بكل واحدة منها، على خلفيات مختلفة لا تخلو من السياسي والإنساني أيضاً. هناك أيضاً «مظلاّت شيربور» (1964، 90 د.) لجاك دومي (الثلاثاء): إذا عَبَر «موريال»، في بعض مناحيه الدرامية والحكائية، في الجزائر وحربها، فإن «مظلات شيربور» مدّت بعض ظلالها على ذاك البلد وحربه من أجل الاستقلال. هذا كلّه من خلال العلاقة الجامعة بين ابنة بائع مظلاّت وشاب مُستدعى للالتحاق بالجيش في حرب الجزائر. اختارت «جمعية متروبوليس» فيلماً لجان ـ لوك غودار بعنوان «ألفافيل» لاختتام التظاهرة مساء الأربعاء المقبل. «ألفافيل، مغارمة غريبة لليمي كوتيون» (1965، 97 د.): محاولة استشراف الغياب المطلق بين الواقعي والمتخيّل، من خلال إعادة بناء مدينة (باريس) على أسس غامضة، لسرد حكاية أناس مقيمين فيها بارتباك وقلق ونزعات متضاربة.

السفير اللبنانية في

19/01/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)