حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الفيلم القصير "برد يناير":

لحظات تألق الثورة المصرية

د. وليد سيف

فى هذه الأيام وأنت تستعيد أجمل ذكريات عاشتها الأجيال المعاصرة سوف تجد العديد من الأفلام التى وثقت لثورتنا، المجهضة إلى أجل، أو سعت للتعبير عنها دراميا. ولكنك لن تلتقى كثيرا بفيلم قصير فى مستوى "برد يناير" الذى فاز بجائزة مهرجان الإسكندرية عن جدارة.

من أول لقطة سوف تتنبه لهذا الإبداع السينمائى الفريد والموهبة النادرة للمخرج رومانى سعد الذى صنع من كل لقطة ونقلة وكلمة وإيماءة معنى.

أما على مستوى العمل ككل فقد شيد بناءا نموذجيا يثير التأمل ويزخر بالتفاصيل ويتشبع بالأحاسيس ولا تغيب عنه روح الصراع بأنواعه ولو للحظة واحدة. وهو ما يضطرنى لأن أقدم مع تحليلى للفيلم ما هو أقرب إلى وصف تفصيلى له حيث يصعب القفز فوق بعض الأحداث أو إختزال بعض المناطق فى هذا الفيلم الذى تم بنائه بمنتهى المهارة و الإحكام.

كأى سينمائى موهوب متمكن يصدر رومانى شريطه بلقطة سينمائية من الطراز الأول مصاحبة لعنوان الفيلم. فالكادر تشغله مساحات من الظلال والأضواء المموهة الغامضة ويلوح لك على مهل مع إتضاح محدود للصورة دخان حريق يتصاعد فى عمق الكادر. بعدها تتوالى العناوين مع لقطات قصيرة ومتنوعة ومترابطة بجهد مميز للمونتيرين بيشوى ورفيق جورج، وباختيار إستهلالة فى أجواء ضبابية فجرية حتى تتلاءم مع التصدير.

ظل ونور

ننتقل إلى زمن أكثر إشراقا مع استمرار اللقطات العامة القصيرة لجموع المتظاهرين مع هتاف "تغيير.. حرية.. عدالة إجتماعية" يتداخل معها لاحقا صوت أنين يتصاعد ليصنع إيقاعا ويدعم الحالة ويلطف من حدة الأصوات. وتنتقل الصورة بحسابات دقيقة تدريجيا إلى إظلام الليل مع لقطة للدخان الذى يتصاعد حتى تكتشف أنها إعادة توضيحية أقرب لشرح أو تفسير للتصدير الأول.

وهكذا مع نهاية العناوين تكون أجواء الفيلم وخلفيته الزمانية والمكانية قد اتضحت. كما يتضح لك هذا الحس السينمائى وذلك السعى الحثيث نحو التعبير بلغة الفيلم وتوظيف الصورة بفهم سليم و بتعاون مثمر بين المخرج الذى يدرك ما يريده والمصور فادى سمير القادر على الوصول بخيال الصورة ورسمها بالأضواء والظلال بديناميكية ودرامية لتحقيق هذا الهدف، بل وبإلهام الفنان نحو التحليق إلى آفاق أبعد فى توظيف مختلف العناصر الفنية، وهو ما يتبدى فى ختام هذه المقدمة حيث تتصاعد  مع أجواء حريق الدخان وأصوات الأنين لتصنع علامات استفهام سوف تجبرك على التأمل و التلهف على مشاهدة المزيد.

من حرارة النيران التى تشبعت بها الصورة ننتقل إلى برد الحجرة الفقيرة التى تكاد تخلو من الأثاث حيث ننتقل من التسجيلى إلى الدرامى. مع لقطة بانورامية تكشف عن المدخل الذى يخلو من الباب بينما تتكرر شكوى الطفلين من البرد. فلا تجد الأم بدا من الخروج للسطوح بحثا عن حل.. نتابعها وهى تتلفت فى المكان ثم تتوجه نحو السور وتخلع لوحة معلقة على الجدار تحملها فى حرص وتضعها مكان الباب. لنكتشف انها صورة مبارك المقيتة فى حملته الانتخابية المستفزة.

الأب الغائب

لا تكفى الصورة لسد فراغ الباب كله ولا ينسى المخرج الذى لا تفوته تفصيلة أن يجعل الأم تضع الصورة بالمقلوب. ومع لقطات أفقية ورأسية تستعرض صورة مبارك، يتوالى الحوار عن الاب الغائب لتمتزج صورة مبارك مع سيرة الأب "هو أبويا باع الباب والعفش ليه"؟

فترد الأم فى غضب وانفعال، وكأن الكلمات تسدد طلقات نحو مبارك مع أنات الناى الحزين" أبويا!.. ما سمعش حد فيكوا يقول ابويا تانى.. اللى باع العفش حته حته ما فكرش فى ولاده ما يتقالوش ابويا .. اللى ساب ولاده من غير باب يحميهم فى عز برد يناير ما يتقالوش ابويا".

لن ينتهى المخرج سريعا من هذه المقارنة الرائعة. فقد أمسك بقلب موضوعه ولن يفلت من أبدا.

يعقب الليل فوتومونتاج نهارى فى مشهد عابر للأزمنة حيث نعود من جديد للقطات التسجيلية والأرشيفية، إلى صور البؤس العادية جدا والوجوه الشاردة فى الشارع المصرى، بلا مبالغة او مباشرة او ميلودراما.

تمتزج اللقطات الحية مع خطاب قديم لمبارك فى فاصل من أكاذيبه المفضوحة "يظل هدفنا هو المواطن المصرى فى رزقه و دخله وحقوقه وكرامته.. ونجتهد لنخفف عنه اعباء المعيشة ولندعم ثقته فى مستقبله ومستقبل أولاده".

يعود رومانى للدراما من جديد وبأسلوبيته المعتادة فى توظيف حركة الكاميرا الأفقية للتأسيس نرى الأم تلجأ لصاحب كشك الجرائد– يؤدى الدور بحنكة المخضرم كمال سليمان- طلبا للمساعدة. يختزل السيناريو بمهارة الكثير من الثرثرة والتكرار حيث تشير الأم لأعلام مصر الموضوعة فوق الجرائد وهى تتساءل فى إستنكار "علم ايه يا معلم اللى عايزنى أبيعه!؟..العيال عايزين باب يحميهم من البرد".

يرد الرجل مفسرا "ما هى دى بقى اللى بتجيب الفلوس اللى تقدرى تجيبى بيها الباب اليومين دول".. "ودى مين اللى بيشتريها؟ ".. فيشير إلى جموع المتوجهين نحو التحرير "الناس اللى ماشيه قدامك دى".. فتنظر إلى الأعلام فى إستهانة: "هى بتتباع بكام دى يا معلم؟".. "شوفى بقى ياستى انا حاديكى العلم بخمسه جنيه وانتى وشطارتك تبيعيه بخمسه بتمانيه".. فتجيب فى إستسلام "إتفقنا".

ولكنه ينبهها فى لقطة مخصوصة ومهمة جدا دراميا لأنها سيكون لها تأثيرها الكبير على ذهنية البطلة وحركة الدراما لاحقا. فتتساءل فى دهشة واستنكار "الريس يمشى.. يمشى يروح فين".. ثم تستدرك وقد لفت نظرها بوستر يجمع صور البرادعى وعمرو موسى وايمن نور.."هما مين  دول يا معلم ؟".. فيرد الرجل شارحا و مفسرا "آه دول بقى اللى عايزين ينطوا مكان الريس".

ولا ينسى رومانى أن يركز على الطفلة وهى تتأمل الصور، فهى جزء أساسى من المشهد كما أن المشهد وحواره سيترك أثرا ما فيها.. سوف تنصت لأمها وقد زاد إستنكارها وهى تتساءل فى عفوية واستنكار "ينطوا.. هما دول حاربوا فى اكتوبر؟".."لا".. فتعود لتتساءل من جديد "امال حاربوا فين؟ ".. لا يجد الرجل ردا.. فتعود لتستدرك متسائلة فى براءة تكشف عن الشك الأصيل فى قلب وعقل كل مصرى يملك فطرة سليمة ومنطق بسيط " إلا صحيح يا معلم هو ما حدش حارب غير الريس.. اصل عمرنا ماسمعنا حد حارب معاه".. وهنا تتزايد حيرة الرجل فيرد منهيا النقاش وليوقف سيل التساءلات المنطقية جدا "حلى عن مخنا بقى عايز اشوف اكل عيشى".. فتهم المرأة بمغادرة المكان وهى تعلق فى تشكك وهى تلملم الاعلام "لما نشوف الاعلام دى حتجيب لنا ايه".

مع نهاية هذا المشهد يكون السيناريو قد استكمل كل مراحلة التمهيدية دون ان تفلت منه لحظة واحدة او جملة واحدة بلا دلالة أو قيمة وبعد أن تكون خلفية الشخصيات قد إكتملت وبذرة الصراع بمستوييه قد تحددت. فالصراع الأول مادى بحت حول تدبير المبلغ المطلوب لشراء باب والذى إرتبط تحقيقه فى ذهن البطلة بوجود مبارك الذى تتلخص أهمية بقائه فى ذهنها باستمرار إقبال الناس على شراء الأعلام.

أما الصرع الثانى فهو صراع فكرى محض يدور داخل رأسها وربما يدور داخل رؤس أولادها أسئلة شبيهة فى حدود وعيهم وفهمهم حول ما نسميها مسألة شرعية وجود مبارك فى السلطة وارتباطها بفكرة مثيرة للتشكك بكل تأكيد وهى أنه الوحيد الذى حارب من أجل مصر.

حضور الأبناء

من الآن فصاعد سيتزايد حضور الأبناء فى المشهد فهم شركاء رئيسيون فى الحلم بالباب الذى يسترهم من البرد وأيضا بالرغبة فى الفهم أيضا وسط أجواء مشبعة بالغرابة والغموض بالنسبة لهم وقد تواجدوا فى قلب المظاهرات بين الثوار وهم جمهورهم الحقيقى فى شراء الاعلام وبالتالى من خلالهم سيتحقق الأمل فى تدبير المبلغ المطلوب.

على ناصية كوبرى قصر النيل تتوقف الأم وتجلس لتوزيع الأعلام على أولادها ليشاركوها البيع. يأتى من الطفلة سؤال متأخر نوعا ما "هو لو الريس مشى حنشيل صورته ونحط صورة واحد من دول وحتحوش البرد".. "الصور ما بتحوش البرد يا ضنايا".. "حابيع بكام حتبيعى بعشرة وإمسكى ع العشرة بس لو لقيتى الزبون حيمشى بيعى بتمانيه ".. يتساءل الطفل "أما.. لو بيعنا دا حتجيبى لى ساندويتش هامبورجن؟".

ومن هنا يبدأ رومانى فى ترصيع الفيلم ببضع لمحات كوميدية يستخدمها كموتيفات ويستطيع من خلالها بمهارة أن يخفف من حدة موضوعه وحقق بسمة لمشاهده.. وهو لا يفوته أبدا تحقيق حيوية للصورة بالإنتقال الكلاسيكى من الثابت إلى المتحرك ومن المتحرك إلى الثابت.

مشهد مخصوص

ومع حركة النداء على الاعلام وبالقرب من الأم وفيما يمكن اعتباره مشهدا مخصوصا يجمع بين الطفلة التى أوقفها المخرج على الرصيف تنظر لأعلى إلى شقيقها الأصغر الذى اوقفه على قاعدة تمثال أسد قصر النيل مما يمنح الصورة والزوايا ألقا وذكاءا لم نألفه فى أفلامنا التى قتلتها التقليدية و الركاكة.

"قمر أنده اقول علم زيك؟".. "قول علم علم او عيش حرية عدالة نسناسية".. "عيش ايه؟" "قول اللى انت عايزه" فيقرر الطفل أن ينادى على مطلبه هو "هامبورجن .. هامبورجن" .. نعود إلى الأم التى بدأ يعتريها اليأس من النداء على بضاعتها حتى يأتيها أول زبون و يدفع الجنيهات العشر بكل بساطة فيما تراها هى قطعة قماشة مثبته بخشبة لا تساوى شىء.

يتناول الشاب العلم و ينصرف بينما تبدو الفرحة العارمة على الأم بعد لحظة شرود وقد آمنت بقيمة ما تبيع لتنادى بحماس وأمل أكبر فى جركة شبه راقصة "علم.. علم".. ومع ندائها تبرز فرحتها مع صوت الكمان والرق فى أنشينيهات (لقطات ممتزجة) فرحة.

تتوالى حلقات الصراع من أجل تدبير المال والوصول للحقيقة أيضا. وعلى موقع قريب من الكوبرى حيث تقف الطفلة يقترب منها أحد الشباب - محمد رمضان فى حضور خاص- "باقول لك إيه.. بكام العلم؟" "بعشره جنيه مافيش فصال" فيردد وراءها متسائلا فى مداعبة "بعشرة جنيه ومافيش فصال".. يناوالها النقود ويأخذ العلم، فتسأله هو انت حتعمل بيه ايه؟" "حاشاور بيه " "لمين" "لمصر" "آه.. عشان تشوفك".. يتأمل السؤال ثم ينزل لها على ركبتيه فى تأثر "تعرفى ان انتى بتتكلمى صح.. حاخد العلم وأنزل الميدان وأقعد أشاور أشاور.. لحدما مصر تشوفنى.

ثم تمر لحظة صمت مع الموسيقى حتى يستدرك "بس يا رب تشوفنى صح" فتدعوه الطفلة فى تخابث "طب ما تاخد علم تانى عشان تشوفك بسرعة" ينظر لها وهو يدارى ابتسامته من مكرها وينصرف لتناديه "كابتن كابتن.. ما تقوللى كلمتين انادى بيهم اصل اول مره ابيع اعلام "يتوقف مفكرا ثم فى حماس و تأثر "قولى خد علم إتأسف لمصر.. حقك عليا با بلدى.. اتاخرت عليكى كتير انا اسف يا مصر" ثم ينصرف وهو يكاد  يتبخر فى إضاءة معبرة مع صوت الكمان ونداء منغم فى شبه أنين "ياااا مصر".

قد يرى أى مونتير يسعى إلى اختزال مساحات من الفيلم أن هذا المشهد بلا ضرورة أو أنه أطول من اللازم. وقد يقتنع بهذا من يعتقد ان الصراع فى الفيلم هو حول توفير المال فقط وأن المشهد ينتهى ببيع للعلم للشاب. ولكن الحقيقة أن الصراع الآخر من أجل الفهم هو الأهم دراميا وهو الذى يصنع قيمة حقيقية للفيلم. وهو الذى يطوره من مجرد معالجة تقليدية لتيمة شاهدناها كثيرا ربما منذ فيلم سلفنى تلاته جنيه لتوجو مزراحى و الكسار.

والحقيقة ايضا ان هذا الصراع الظاهر هو الذى يقودنا للصراع الباطن الأكثر أهمية والذى يجعل القصة تحمل مستويات أكبر ويجعل هذه الأسرة الصغير تمثل قطاعات عريضة من جموع هذا الشعب التى تسعى مع تدبير اللقمة إلى فهم وإدراك ما يدور حولها.

فرحة الناس

من الخاص إلى العام ننتقل مجددا لنعود إلى اللقطات التسجيلية لمظاهرات التحرير التى تتصاعد حدتها مع المطالبة باسقاط مبارك والنظام وتصل إلى ذروتها مع دخول صوت عمر سليمان الكادر قبل ظهوره ببيانه الشهير عن تخلى مبارك عن السلطة. وبينما تنطلق الموسيقى وتتوالى مشاهد تسجيلية لفرحة الناس العارمة بخلع الرئيس.

يعود رومانى إلى أسرة فيلمه عبر لقطة متابعة بان panعلى الكورنيش لنرى الأم على النقيض من الجميع مهمومة وحزينة – بأداء صامت ورصين وملفت لإيمى- وإلى جوارها طفليها وقد غطت رأسها بالعلم من شدة البرد وربما من شدة صداع الرأس المنهك بالهم والتفكير. ويجد الدرامى البارع وسيلة للتعبير عما يدور فى ذهن الأم من خلال طفليها عبر حيلة سيبدأ بإستخدامها هنا.

"هى امى زعلانه كدا ليه؟".." كدا الناس اللى بيشتروا الاعلام حيمشوا واحنا مش حنعرف نجيب حق الباب" ويعود الصغير ليكسر الحالة "مش حتجيب لى ساندويتش هامبرجان " فترد الأم "مش لما نجيب حق الباب".. "وكمان حيشيلوا صورة الريس".. "زعلانه عشان حيشيلوا صورة الريس فتهون عليها الطفلة "هى اصلا ما كانتش عامله حاجة وكنا حنموت من البرد".. تنظر اليها مليا وهى تقاوم دموعها و لكن الدمعه تغالبها فتحتمى بحضن الأولاد.

فى طريقها للعودة منكسرة ويائسة وحزينة يأتى صوت أحدهم يناديها "يا بتاعة الأعلام" فتلتفت فى عدم تصديق "ممكن علم".. فتتساءل فى إندهاش "انتوا مش خلصتوا؟" "خلصنا؟ دا احنا ابتدينا".. تتألق الاضواء خلفها عن بعد لتعادل لحظة التنوير التى تعيشها.. فالعلم قيمته زادت بعد رحيل مبارك وليس العكس.

وقبل أن تستوعب ما يدور يأتى آخر "علم لو سمحتى" ويناول طفلها مبلغا مضاعفا فيتساءل الطفل فى فرحة واستغراب "كل دا" " طبعا يا سيدى دا أغلى علم.. دا يسوى أغلى حاجه فى الدنيا .. وبكرة تعرف". تسير الأم ومعها أطفالها فرحين ورافعين أعلامهم من جديد بينما تنساب موسيقى حالمة مشبعة بالأمل والشجن.

تسجيل الفرحة

وتواصل الكاميرا تسجيلها للحظات الفرحة والاحتفالات برحيل المخلوع المقصى فى أنشينيهات تذوب فى بعضها وكأن الام والأطفال قد ذابا أخيرا وسط زحمة الجموع لتمتزج فى مهارة اللقطات التسجيلية مع الدرامية.

هل انتهى الفيلم عند هذا الحد؟.. ربما ولكن رومانى مازال يدخر مشهدا عبقريا يحيل فيه الإجابات إلى تساءلات كأى فنان حقيقى يعرف أنه ليس من ملاك الحقيقة المطلقة. فمع الصباح التالى نرى الأم وأولادها وهم فى طريقهم لعبور الكوبرى من جديد ليواصل المبدع توظيف حيلته الدرامية بأسلوب أكثر إيحاءا وللوصول إلى نهاية أكثر ذكاءا وتعبيرا وتأثيرا.

فمن تمثال سعد زغلول نهبط على الأم تسير بين طفليها عند بداية الكوبرى حيث تسأل الطفلة أمها سؤال بالغ التعبير فى رمزيته" ياما هو إحنا حنعدى الكوبرى" فترد الأم فى شرود "مش عارفه ربنا هو العالم".

ثم تتوالى أسئلة الولد و البنت و الأم شبه صامته وكأن أسئلة الأطفال ترديد لما يدور فى ذهنها. أو ربما لما يدور فى أذهاننا جميعا حتى الآن: "حتجيبى لى هامبورجن كتير" "خلاص مش حيبقى فيه برد تانى" "العلم دا حيفضل غالى ولا حيرجع تمنه زى الاول " حتودينى المدرسة ياما" "يعنى حنبيع فى الشارع براحتنا ومش حيودونا القسم" "وابويا مش حيبهدلك تانى.. ومافيش ظابط حيضربك فى القسم وحنرمى صورة الريس" "وحنعلق صورة ريس تانى".

يدخل صوت انين منغم مع نزول عناوين النهاية مصاحبة للصورة مع إستمرار صوت أسئلة الطفلين.." هى الدبابات فى الشارع عشان نتصور معاها ".."العساكر حيفضلوا لامتى" "يعنى ايه مصر".."يعنى ايه رئيس جمهورية" "يعنى ايه شهيد".." هى الثورة حتيجى امتى تانى".."جيش يعنى ايه".."نظام يعنى إيه".." أنا باحبك قوى يا ما".. "انا باحبك قوى ياما".

وهكذا على مستوى البناء الدرامى، يحرص المخرج المؤلف على محاصرة موضوعه.. كما يحرص على أن يغزل كل تفاصيله فى خدمة مضمونه ويضعها داخل دائرته. ويجيد السيناريو تقديم الشخصيات فى مواقف معبرة وبحوار مكثف و بأسلوب سينمائى متميز سواءا من خلال اللقطات البانورامية أو التفصيلية أو التقطيعات على الوجوه وردود الأفعال التى تبدو أحيانا أهم من الأفعال ذاتها  ليعبر عما فى نفوس الشخصيات.. كما يخلق إختيار المكان وتأثيرات طبيعة التكوينات المعبرة بما يتيحه من حرية حركة للكاميرا وما يحققه للشخصيات من إنطلاق جميل.

فى برد يناير الذى تدور أحداثه أثناء مظاهرات التحرير كانت روح الثورة والفهم العميق لمعانيها والإيمان المطلق بها تفوح من كل كادر، دون أى مباشرة أو مبالغة أو تلفيق. وكان توغل هذه الروح و إنتقالها إلى شخصيات الفيلم يتسرب بإيقاع سينمائى بارع وكأنها تنساب داخل كيانهم كما يتغلغل فى نفسك الشعور بمصداقية الفيلم لتتوحد تماما مع هذا العمل الساحر.

هذه هى الخبرة التى حاولت أن أنقلها عبر هذه السطور، ولكن الفيلم القصير "برد يناير" ومدة عرضه 12 دقيقة فقط، يستحق وصفا تفصيليا وتحليلا لكل كادر من كادراته حتى نوفيه حقه ونشرح جمالياته وأسلوبيته ومعانيه الجميلة والعميقة رغم بساطته ووضوحه. 

عين على السينما في

05/01/2012

 

السينما الثورية التي لم توجد بعد

أمير العمري 

المقصود هنا السينما الثورية في مصر والعالم العربي، فالملاحظ أنه رغم الثورات التي اندلعت في عدد من البلدان المؤثرة في المنطقة العربية أن السينما أو الأفلام التي تظهر هنا وهناك لاتزال تعتمد على نفس الأساليب القديمة البالية، باستثناء حفنة من الأفلام الوثائقية والتسجيلية التي ظهرت عن الثورات أو سعى صناعها لتسجيل وتوثيق الأحداث أو تقديم رؤية فنية لها.

السينما الثورية هي تلك التي تسعى إلى  هدم أسس السينما السائدة التقليدية العتيقة أي سينما التسلية الفارغة من المعنى التي تسعى إلى إشغال المشاهد بمجموعة من المواقف والأحداث الملفقة التي تدور حول نفس القوالب المتهالكة القديمة: مثلث الخيانة الزوجية الشهير، مشاكل الزوجين، تشابك العلاقات وظهور أنماط من الشخصيات التي تسخر مما يحدث في الواقع، البطل الذكوري الذي يقوم بالتعليق على ما يجري حوله من أحداث وتغيرات سواء من وجهة نظر عدمية أو ساخرة أو في أفضل الأحوال رؤية نقدية، دون طرح رؤية بديلة.

السينما الثورية تطرح عادة رؤى بديلة، لا تكتفي بالوقوف على السطح الخارجي للأشياء، لا تدور في اطار تناقضات طبقة واحدة بل تنزل الى الشارع، تصور الحدث وتمزجه بالخيال، تبتكر طرقا جديدة في السرد تحطم القوالب الدرامية المألوفة، تنحو إلى الحداثة بالضرورة، تنحاز إلى قضية الثورة، التغيير، الإحلال، أي إحلال منظومة فكرية محل المنظومة القديمة، في اتجاه تقدمي بالضرورة، يقود الى التنوير، إلى تغليب العقل على الخرافة، ورفض التعامل مع الحياة والواقع كما لو كانا محكومين بقدرية غاشمة لا فكاك منها، مطلوب منا أن نخضع لها دون تردد أو تساؤل محير.

في قلب السينما الثورية يوجد الفنان- الفرد، العقل والعاطفة، الرؤية والموهبة والقدرة على التعبير، والفرد لا ينفصل هنا عن المجتمع، عن المحيط بل وعن العالم كله بما يجري فيه، بل يربط بين واقعه وبين الواقع الثوري المتغير في أرجاء العالم المختلفة.

السينما الثورية ليست سينما الدعوة إلى الفضيلة أو الأخلاق الرفيعة فهذه الدعوة مكانها الطبيعي المسجد والكنيسة، بل عرض رؤى فنية عن الواقع من خلال أشكال قد تصل الى أقصى درجات الهجائية والرفض والفضح والتعرية، تعرية مظاهر التخلف في الفكر والسلوك والممارسات والفعل السياسي والاجتماعي ولكن دون أن يتحول المفكر السينمائي أي المبدع، إلى "داعية" يعرف كل شيء ويملك المنطق النهائي الحاسم.

السينما الثورية لا تخلط النسبي بالمطلق، ولا تتحدث عن القيم المطلقة بل عن نسبية الحقيقة، وتغير الثوابت بفعل تطور التاريخ.

لا توجد خطوط فاصلة في السينما الثورية بين التسجيلي والروائي، بين الخيالي وغير الخيالي، وبين التمثيلي والتخيلي والرمزي، وبين التوثيقي والمعاد تجسيده. إنها تجمع بين كل هذه الأساليب والرؤى ولكن من خلال وحدة فنية خلابة. فالسينما الثورية لم تعد بالضرورة سينما غير مسواة، صورها خشنة، مونتاجها بدائي بالآلات والأجهزة الحديثة أصبحت متوفرة مثل لعب الأطفال في أيدي كل من يريد أن يصور ويولف الأفلام، وليس كما كانت في الستينيات، زمن السينما الثورية في أمريكا اللاتينية التي كانت تصور سرا، وتعرض سرا، ويواجه صناعها الموت قتلا والنفي والهرب والتعب والمطاردة.

السينما الثورية المطلوبة اليوم يجب أن تبحث أيضا عن جمهور جديد خارج دائرة جمهور "المول" التجاري، والمنتديات النخبوية الثقافية في العواصم، بل تسعى للوصول الى الريف والساحات الشعبية في المدن الداخلية والمدارس والمقاهي.. وغير ذلك.

السينما الثورية أخيرا، هي سينما جديدة، يجب أن تبحث أيضا عن جمهور جديد.

عين على السينما في

05/01/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)