حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«الفائز» يفتتح «مهرجان السينما الأوروبية الـ18»

موعد للغنى والتنوّع

نديم جرجورة

إنه الموعد السينمائي السنوي المنتظر. الكلام عنه مُكرّر: ما يحدث في بيروت في الفترة نفسها من كل عام، بات مساحة خصبة لمعاينة جديد النتاج السينمائي الأوروبي. ذلك أن «مهرجان السينما الأوروبية»، الذي تُنظّمه «بعثة الاتحاد الأوروبي في بيروت» سنوياً، استقطب، في دوراته السبع عشرة الفائتة، مُشاهدين كثيرين، باتوا جزءاً من المشهد المحلي. والأفلام المختارة لكل دورة شكّلت حلقة إبداعية لتواصل ما بين المُشاهدين هؤلاء والحراك الإنتاجيّ في دول الاتّحاد. أما صفة «الجديد» فتنطبق على أفلام مُنتجة في العام نفسه لتنظيم دورة جديدة، أو في الأعوام القليلة السابقة عليه: في الدورة الثامنة عشرة، التي تبدأ في السابعة والنصف من مساء اليوم بعرض الفيلم البولندي «الفائز» لفيسلاف سانيافسكي في صالتي «متروبوليس» في «أمبير صوفيل» (الأشرفية)، اللتين تستقبلان المهرجان لغاية الرابع من كانون الأول المقبل، هناك أفلام مُنتجة خلال العام الجاري، وأخرى مُنتجة في أعوام سابقة، بعضها عائدٌ إلى مطلع الألفية الثالثة هذه.

تساؤلات

سؤالا تواريخ الإنتاج وتقنيات العرض الجماهيري مستمرّان في إثارة نقاش خفر، عشية إطلاق كل دورة جديدة. غالبية المُشاهدين اعتادت التأقلم مع شروط العرض المنافية للطقوس السينمائية، أحياناً. أو هكذا بدا الأمر. فالأهمّ، ربما، كامنٌ في فعل المُشاهدة بحدّ ذاته. أي في التغاضي عن زمن الإنتاج، طالما أن أفلاماً أوروبية عديدة لا تُعرض محلياً، ولا يُعثر على نسخ «دي. في. دي منها بسهولة، في بلد بارع في قرصنة الأفلام ونسخها وبيعها من دون رقيب، باستثناء ذاك الرقيب المنقضّ على لقطات أو مشاهد أو مواضيع خاصّة بأفلام مختارة للعرض العام، ثقافياً أو تجارياً. الأهمّ، ربما، كامنٌ في رغبة المشاهدين هؤلاء باغتنام فرصة الاطّلاع على أنساق سينمائية مُقبلة من دول أوروبية متفرّقة، بهدف المتعة والمعرفة أولاً. وهذا ما اعتادت «بعثة الاتحاد الأوروبي في بيروت» صنعها، مطمئنة إلى أن شروط العرض وتواريخ الإنتاج لن تؤثّر على العلاقة المتينة، الناشئة منذ أعوام مديدة، بين المُشاهدين والمهرجان.

لا ينفي هذا كلّه الجهد المبذول من قِبل البعثة، وتحديداً من قِبل بُشرى شاهين، في تنظيم دورات سنوية، تليق بمكانة الاتحاد وصورته وأهدافه الثقافية والسينمائية، المُضافة إلى اشتغالات أخرى، في السياسة والاقتصاد والتنمية وغيرها. الجهد واضح: الحصول على بعض أفضل إنتاجات العام الحالي، وتطعيمه بأفلام أُنتجت في أعوام سابقة. في الدورة الثامنة عشرة، التي يُفترض بها أن تكون بداية النضج والشباب الأكثر حيوية وحماسة، هناك عدد من الأفلام التي ذاع صيتها إثر مشاركتها في مهرجانات دولية وعربية، بعضها منتم إلى الفئة الأولى، كبرلين و«كانّ» والبندقية. أفلام سافرت عبر المهرجانات، وباتت اليوم مستعدّة للقاء مُشاهدين جدد، في واحدة من المراحل المتنوّعة التي يمرّ بها كل فيلم جديد: مراحل الانتقال الجغرافي، المستند إلى حيّز ثقافي وفكريّ وجمالي مختلف، بين منطقة جغرافية وأخرى.

تُرى، هل لا يزال المُشاهدون المحليون متحمّسين لمتابعة وقائع الاحتفال ببعض نتاجات السينما الأوروبية؟ غالب الظنّ أن الإجابة لن تكون سلبية: المُشاهدون هؤلاء مدركون، سلفاً، أن أفلاماً أوروبية تستحقّ المُشاهدة، وليس فقط الاحتفال الاجتماعي بها. أي ممارسة فعل المُشاهدة السينمائية، لا الاكتفاء بسهرة ليلية عابرة. مع هذا، هناك الحفلة الموسيقية المزمع إقامتها الثامنة مساء الأحد المقبل، التي تُرافق عرض الفيلم الكلاسيكي «نوسفيراتو» (1922) للألماني فريدريتش فيلهيلم مورنو. هذا تقليد مُتّبع في مهرجانات سينمائية عدّة، مُقامة في بيروت. هذا نوع من احتفال يبدأ بالسينما وينتهي عندها، مروراً بالموسيقى واللقاء/ الحدث الاجتماعي، بالنسبة إلى البعض على الأقلّ.

«مهرجان السينما الأوروبية» بات راسخاً في الحياة الثقافية اللبنانية. هذه خلاصة أوردتها أنجيلينا آيخهورست، سفيرة الاتحاد الأوروبي في بيروت. في تقديمها «كاتالوغ» الدورة الثامنة عشرة، كتبت السفيرة أن المهرجان، الوفيّ لموعده، لا يزال جاذباً لعدد كبير من الـ«سينيفيليين». لم تتجاوز الحدث العربي الراهن، المعروف باسم «الربيع العربي»، مشيرةً إلى هذا الأخير موسومٌ بحراك شعبي واسع طالب بالكرامة والديمقراطية والحقوق الجوهرية في العالم العربي: «يُمكن للسينمائيين العرب أن يجدوا في هذه المطالبة بالديمقراطية اندفاعاً وحيوية لهم، تكون صدى لسؤال حرية الفنان في المجتمع». كتبت أيضاً أن «السينمائيين في لبنان لم ينتظروا الربيع هذا للتعبير عن آمالهم. استمرّوا في الإنتاج، غالباً بإمكانيات متواضعة وضمن شروط صعبة، (ومع هذا) كوفئت أعمالهم في المهرجانات الدولية». أضافت: «بهدف تشجيع المواهب الشابّة، يعرض المهرجان أفلاماً قصيرة أنجزها متخرّجو المدارس السمعية البصرية اللبنانية». أعربت عن ثقتها بأن المخرجين الشباب هؤلاء «سيصنعون السينما اللبنانية المستقبلية»، مستدركة بالقول إن هذا «تمنّ، أمل ورهان». لم تنسَ الإشارة إلى أن «الاتّحاد الأوروبي» مستمرّ في دعم السينما اللبنانية، «خصوصاً عبر برنامجه المعروف باسم «أوروميد السمعي البصري»، الهادف إلى تطوير التعاون السمعي البصري بين ضفّتي البحر الأبيض المتوسّط». كتبت أن البرنامج هذا مُنصبّ في (تقديم) «المساعدة في مجالات الإخراج والتوزيع وتنمية السينما المتوسّطية، ومنها السينما اللبنانية». أن البرنامج نفسه يتيح للمهنيين «المُشاركة في نشاطات التدريب على تطوير أفلامهم (مشاريع الأفلام) وتوزيعها وتنميتها». بعد هذا كلّه، كتبت آيخهورست أن الدورة الثامنة عشرة لـ«مهرجان السينما الأوروبية» تمنح المهتمّين والمشاهدين فرصة «التأمّل والنقد والضحك والبكاء»، بفضل برنامج «غنيّ بتنوّعه».

غنى وتنوّع

الغنى بالتنوّع: غالب الظنّ أن هذا عنوانٌ صالحٌ للدورة الجديدة هذه. أساساً، هذا عنوان صالحٌ للدورات السابقة أيضاً، لأن «مهرجان السينما الأوروبية» انبنى على التنوّع، باختياره مجموعة من الأفلام المختلفة شكلاً ومضموناً، فإذا به يُصبح حيّزاً مفتوحاً على أنماط واشتغالات جمّة، ارتفع عددها وتنوّعت مضامينها مع انتساب دول أوروبية جديدة إلى الاتّحاد، في الأعوام الماضية. الغنى: لأن المهرجان مُصرّ على تمثيل الدول الأوروبية كافة في دوراته السنوية، وإن لم يستطع الحصول على الأفضل والأهم، دائماً. التنوّع: رديف الغنى وجوهره، أقلّه بالنسبة إلى مهرجان بلغ سنّ الرشد، وبات عليه حماية سلوكه الثقافي السينمائيّ هذا، وتفعيل جوهره أكثر فأكثر، بالبحث عن عدد أكبر من النتاجات الأوروبية الجديدة مثلاً، وتوسيع الرقعة الجغرافية اللبنانية للعروض السينمائية (وهذا حاصلٌ في الدورة الثامنة عشرة، إذ تنتقل العروض إلى زحلة وجونية وصيدا وطرابلس)، لا الاكتفاء فقط بتاريخ وعادات ثابتة، والعمل على جعل العرض نفسه سينمائياً بامتياز، على الأقلّ. ذلك أن عرض أفلام أوروبية جزءٌ من السياسة الثقافية المعتَمَدة في الاتحاد، في بيروت وفي غيرها من المدن الموجود فيها الاتحاد. عرض أفلام أوروبية كاف، لوحده، للقول إن نشاطاً كهذا مفيد وصحّي وحيوي. إتاحة المجال أمام أفلام لبنانية متنوّعة للعرض أثناء الدورات السابقة شكّل إضافة نوعية، وإن غلب على آلية العرض استخدام تقنيات الـ«دي. في. دي.»، أو ما شابهها. منح جوائز مالية لأفلام طالبية لبنانية سابقاً، وتحويلها حالياً إلى حضور مهرجانات سينمائية معنية بالأفلام القصيرة، فرصة لمنافسة جدّية وهادئة بين الطلاّب، على الرغم من أن الحالة الطالبية اللبنانية في الشأن السينمائي والسمعي البصري (كما في المجالات الأكاديمية كلّها تقريباً) محتاجةٌ إلى تأهيل جذري، أكاديمياً وتثقيفياً وهيئات تعليمية وبرامج ونشاطات.

هذا كلّه صحيح. المهرجان الأوروبي مكتف بما أنجزه في الدورات السابقة. مكتف بقدرته على تأكيد حضوره في المشهد اللبناني. على تثبيت مكانته أيضاً. الدورة الثامنة عشرة مفتوحة على اختبار جديد: أفلام ولقاءات متنوّعة.

كلاكيت

قدر صباح

نديم جرجوره

الحياة الحافلة بشتّى أنواع التناقضات والامتدادات الطبيعية، بدت مفعمة بشغف كبير للعيش على الحافة. الحياة نفسها هذه اصطدمت مراراً ببشاعة الإشاعة وقذارتها. أخال أن أحداً من الفنانين اللبنانيين والعرب أُصيب بهذا التكرار المملّ للإشاعة أكثر منها: صباح. الفنانة التي فتحت قلبها وسيرتها أمام الجميع، وقالت ما اعتاد عربٌ كثيرون إخفاءه، خوفاً أو ارتجافاً من هيبة التربية التقليدية المتزمّتة والمخادعة. أخال أن صباح عاشت على الإشاعة هذه، أكثر من أي شيء آخر. وهذا، على الرغم من صحّته، مُسيء إليها، كإنسانة جميلة وساحرة، وكفنانة مبدعة. هذا، على الرغم من صحّته، شكّل الوجه الأقرب إلى الناس، ومعظمهم متيّم بها أو بفنّها، أو بهما معاً.

أكاد أقول إن صباح معرّضة للإشاعة مرّة واحدة كل يومين. هذا واقع اعتادته هي، كما اعتاده كثيرون، في الأعوام الفائتة. الإشاعة واحدة لا تتغيّر: موت صباح. كأن مطلقي الإشاعة مُصرّين على دفنها، هي المُصرّة بعناد يليق بها وبمكانتها على العيش. صراع إصرارين متناقضين مُكلف للطرفين، لكنه قادر على ضخّ مزيد من العزم والعناد لديها على مجابهة سوء الإشاعة. طبعاً، لا تحتاج صباح إلى إشاعة موتها كي تحيا بإصرار أكبر وعناد أجمل على مواجهة قذارة الدنيا. لصباح حيوية جعلتها أقوى وأثبت. لكنها صباح: المرأة القادرة على البوح بحميمياتها الخاصّة علناً، أخافت كثيرين ممن يتشدّقون بالطهر والوفاء والطيبة والأخلاق الحميدة، هم المنسحقون أمام الافتراء على الذات أولاً. وجدوا فيها ما أرادوه لأنفسهم، لكنهم عاجزون عن فعله أو الحصول عليه. مقتل صباح في الآخرين متمثّل بقدرتها على أن تكون صادقة مع نفسها إلى أبعد الحدود. مقتل الآخرين في صباح مزيد من الكذب والخداع. مزيد من بثّ الإشاعة نفسها.

لعلّها الغيرة أيضاً. الغيرة منها، لأنها تجاوزت موانع عديدة، في أزمنة لم يكن سهلاً على امرأة وفنانة أن تتجاوزها. لأنها تخطّت عوائق، واختارت أن تعيش وفق نزقها ومزاجها وانفعالها ومصداقيتها مع ذاتها. لأنها كسرت جدراناً بغيضة زنّرت يومياتها، وحاصرتها بطقوس باهتة وصارمة ومتخلّفة. لأنها ذهبت بعيداً في ممارسة حقّها الشرعي في أن تعيش الحياة كما يحلو لها. أساءت إلى البعض؟ ربما. قدر الفنان العبقري أن يكون صارماً ومؤذياً، أحياناً. قدره أن يكون ديكتاتوراً، كي ينجو إبداعه من سفاهة الواقع. مع هذا، بدا الجزء الإنساني الطيّب في صباح أقوى من أن يحتال عليه إبداعٌ أو صرامة إبداعية أو ديكتاتورية خلق. الجزء الإنساني الطيّب فيها أقوى من الإشاعة. أقوى من الحياة والموت معاً. أقوى من الخنوع أمام طغيان الافتراء. أقوى من كل شيء آخر.

قدر الفنان العبقري أن يكون قاسياً، لأن في القسوة حصناً لعبقريته. لكن صباح أدركت أن هناك حصناً آخر للعبقرية أيضاً: الإنسانيّ فيها، وإن بحسابات خاصّة بها.

السفير اللبنانية في

24/11/2011

 

عند حافة تسالونيكي الإغريقية

العاطفة تأتي متأخّرة

زياد الخزاعي (تسالونيكي) 

رجل خمسيني وأم شابة ورضيعة في شاحنة تخترق البُعد الشاسع في أميركا اللاتينية: ما الذي سيحدث؟ للوهلة الأولى، يبدو الظّن المريض مُنصَبّاً على أن الأول سيغتصب الثانية، ما يؤدّي إلى الدوران في فلك الإثم والانتقام واللعنات على عسف الحياة هذه. بيد أن المخرج الأرجنتيني بابلو جيورجيلي (مواليد العام 1967)، في باكورته «شجرة الأقيقيا» (السَنْط) المكُرَّمة بجدارة بمنحها جائزة «الكاميرا الذهبية» في الدورة الأخيرة (أيار 2011) لمهرجان «كانّ»، واحتُفِل بها في الدورة الأخيرة أيضاً (تشلاين الثاني 2011) لـ«مهرجان تسالونيكي الإغريقي» في خانة «آفاق مُشرَّعة»، قبل توجّهها إلى دبي في دولة الإمارات العربية المتّحدة بعد أيام قليلة، للمشاركة في مهرجانها السينمائي السنوي، إذاً المخرج جيورجيلي يصعق مُشَاهده بحكاية مليئة بالأسى الشخصي على عثرات الحياة، في أنشودة متقشِّفة تنعي الوحدة وبأسها، وقوّة الكائن البشري في اكتشاف مراسه، كي يعبر خطاياه ومكابداته.

ورطة

في محيط سائر، مُتغيّر الخلفيات، يُجالس روبن (جرمان دي سلفيا) أنانيته وعزوفه عن المشاركة. كائنٌ وحيد مرتهن لإيقاع عمل قاتل بروتينيته وحصريّة زاويته، والقائم على قيادة شاحنة ضخمة لنقل جذوع الأشجار من الغابات الاستوائية، وخضوعه إلى اشتراطاته في الصمت ونقص المبادأة. لن نتعرّف على شخصية هذا الرجل. فالكلام غير كاف لتحديد ملامح رجل، وسط ضجيج المناشير الكبيرة التي تخدش جلال الطبيعة، وتسرق غطاءها ورئتها. لن نتعرّف اليه مليّاً، إلاّ بوجود قدر ثان يسحبه نحو جوّانيته الأخلاقية: تلك هي الأم الشابة، التي «تورَّط» إلى حدٍ ما في ملاقاتها عند نصف طريق صدفته الشخصية. النصف الآخر، لقاء ناقص العواطف مع شقيقته، ليُقدّم لها هدية عيد ميلادها المُصادف بعد شهرين كاملين، والذي (اللقاء) يكشف أزمة عائلية مكبوتة، إذ أن الأخيرة هذه تناكفه بحجّة أن سرّه انكشف، وأن الأم الشابّة زوجة خفيّة له.

في البناء الدرامي للفيلم هذا، تكمن نقطة الانقلاب المتضخمّة في الرضيع، كونه المحرِّض المباشر على تغيير الرجل، وتهشيم مشاعره الجليدية، المتجلّية في المَشاهد الافتتاحية، حين يُتابع المُشاهد حسرته وتورّطه بالامتثال إلى طلب صديقه، المتمثّل بنقل المرأة الغريبة هذه من حافة «باراغواي» إلى «بيونيس أيريس». تتوضّح الشكوك به لحظة إخبارها أن عليها عبور الحدود وحيدة، وانتظاره عند الطرف الآخر. ذلك أن تخلّيه عنها أمر حتمي. إذ ما الذي يربطه بكائنين وقعا على ضميره من دون سابق إنذار؟ يقول لها في البدء: «لم يُخبرني (الوسيط) فيرناندو بوجود رضيع». بمعنى أن خيانة غير متوَقَّعة أوقعت به من أجل امتحان شفقته. يُمارس روبن لامبالاة مليئة بعنف مضمر ضد الكائنين الضعيفين. يستحمّ ويتناول غذاءه ويأخذ قسطاً من قيلولته، بينما تنتظر الأم خثينتا (هيبي دوراتي) ووليدتها بلوعة الورطة والجفاء غير المبرّر. حين تسأله إن كانت لديه عائلة، يردّ بنفي حاسم، من دون أن يمنعه هذا النفي الحاسم عن الاعتراف بأبوّته لصبيّ لم يره منذ ثمانية أعوام. أي أنه رجل بلا نوائب أو خطايا شخصية. وهذه الأخيرة تنعطف بثقل هائل على اعتراف الشابة لشرطيّ الحدود أن «لا والد للرضيعة».

فرادة اشتغال بابلو جيورجيلي، الذي خَطَف تعاطف مُشاهده بيُسر نادر، كامنة في أنه لا يتوفّر على عاطفية زائفة، لأنه مُرتهن إلى الكشف الثنائي عن لواجع بطليه. فعندما سعت خثينتا للاتّصال بوالدتها، عرض روبن رعاية الرضيعة، مفاجئاً باستعادته ألق أبوّة كادت تنطفئ في كيانه. في مشهد آخر، بكت البطلة بصمت على حظّها العاثر، فإذا به يسترقّ النظر إليها من دون أن يتدخل. فدمعته لن تتوانى عن الانسكاب سريعاً، لأن كل واحد منهما كاظم حسرات ومكابدات لن يكفي استعادة ماضيها لفهم خرابها. الباهر هنا، أن توليف العاطفة المتراكمة في كيان روبن، والإحساس الضمني لدى خثينتا تجاهه، أضفيا حدساً ملتبساً أن مَشَاعر ما تفجرّت بينهما، وأن شجاعة ناقصة منعت الإعلان عنها. بقي السؤال: هل أن قساة القلوب بلا دوافع للحب، حقّاً؟ في نهاية الرحلة، أوصل السائق «شحنته» البشرية، فوقع على مشهد صادم بحيويته، ظلّلته شجرة أقيقيا كبيرة في حديقة الدار المتواضعة، حيث هَجَم أهل الشابّة، بفرح غامر وودّ عائلي، على الحفيدة، وهو في أقصى عزلته. إنه رجل خسر معركته من خلال هروبه غير المبرّر من ناسه وعبوديته إلى عمل جاف غير إنسانيّ.

مآزق

على نسق هذا الخسران، سارت البطلة الشابة في «من دون» للأميركي مارك جاكسون (المسابقة الدولية) على خطى نظيرتها كارول (كاترين دونوف) في «النفور» (1965) للكبير رومان بولانسكي، في التضحية بكيانها لتهويمات قادتها إلى حافة ما يُسمى بـ«يقين تَدَبُّر» ورهاب من الآخرين. ولئن كان بطل «شجرة الأقيقيا» حبيس شاحنته، فإن جوسلين (أداء خاطف لجوسلين جينسن) حبيسة البيت الريفي المنعزل وسط جزيرة من دون روابط فيها، كهاتف نقّال أو شبكة «إنترنت». كُلِّفت الشابة برعاية رجل عجوز معوّق، لكن ما بدا عملاً سهلاً مرتّباً، تحوّل إلى علّة شخصية للشابة، التي تكشف حملها لمصاب غامض سحبها إلى مشادّات من نوع عصابي. فبعد «مُطاردة إغواء» (أو هكذا ظنّ المُشاهد) من شاب لجوج، وضع جاكسون الجميع في لعبة نفسية متأنّقة الصورة (لجيسيكا دويموك ودييغو غارسيا)، تابعوا فيها كيفية شحن جوسلين تهويماتها ضد الرجل المقعد، الذي تُفاجأ بجلوسه عند طاولة المطبخ آكلا ومحيِّياً إياها بكلمات رقيقة، قبل ظهوره على أرضية الغرفة سابحاً ببوله، أو مقعياً في مواجهة شاشة محطة تلفزيونية تغيّرت قنواتها بإرادة خفيّة. أو الأدهى في رؤية عضوه منتصباً، في إشارة درامية حاسمة إلى الهَتك الجنسيّ، الذي يعتمل في داخلها. ذكرتُ «في النفور»، من دون هدف لمقارنته بفيلم شبابيّ ذي دوافع مغايرة عن الفيلم الأثير هذا لبولانسكي، الذي فخّم في نفوره خيالاً جامحاً لانحطاط العوالم المتخيّلة لكارول، التي تؤمن أن هناك واجباً يُحتِّم عليها أن تكون عبدة جنسية لشيطان فحل لا فكاك من أعضائه الهائلة الحجم، المنبثقة من جدران الشقّة اللندنية المتحوّلة إلى جحيم ليلي، بينما تدفعها هذه الوساوس إلى جعل بشر الواقع الحقيقي من حولها شياطين مسفّهة، لأنهم ببساطة يعرضون عنها، وإن أقدموا على التحرّش بها. إن كارول وجوسلين تُجبَران على الشكّ بمحيطيهما، فأساس اللعبة كامنٌ في إباحية مضمرة تفشلان فيها من عبور كبتهما، أو على الأقل فكّ عقدها.

لكن، ما علّة هروب هذه الحسناء الخلوق، التي تنتهي وهي تمثّل دوراً سوقياً أمام شاشة كمبييوتر لا يعمل، وتصرخ بكلمات نابية؟ الجواب: إنها تداعيات علاقة سحاقية بينها وبين صديقتها الآسيوية الملامح. جوسلين حمّالة أسى كبير لرحيل «فتاتها». غرقها في الوسواس العصابي جعل محيطها بوتقة لنقصها العاطفي وآثامها. والأمر الوحيد الذي أسعفها لإدراك أن الموت لا رَادّ له، كَمَن في اللقاء اليتيم والغامض بوالدة الراحلة، التي أهدتها معطفاً مطرياً خاصّاً بابنتها المتوفاة. هنا، بَان نقص نصّ جاكسون، الذي تَعَجَّل فكّ عقدة بطلته «من دون» مبرّر، زاد عليها (العجالة) عودة ابنة العجوز المعوّق وعائلتها، التي تغلّ في إهانتها وتحميلها ذنوب «تغيير قنوات التلفزيون». كأن لا طامة أخرى سواها.

في «شجرة الأقيقيا»، محنة كائن يُجبر على تفويت الفرصة للظفر بعواطفه. بينما أصرّ جاكسون على جعل حياة بطلته اليافعة «من دون» قوّة، لإقناع نفسها أن مُصيبتها هيّنة، لأنها تحمل عشقاً خفيّاً هائل الحجم والمرارة، لا يتطلّب سوى الإيمان بأن الخارج دينامكيّ يستحقّ العيش، وهو ما حَدَث متأخّرا بسبعة وثمانين دقيقة من لوعة مَشَاهده.

السفير اللبنانية في

24/11/2011

 

ديغاج الشعب يريد:

السينما تكتب تاريخ الثورة التونسية

تونس – من نجاح المولهي 

محمد الزرن يصور احداث الثورة وتداعياتها ميدانيا، ويكرم المهمشين والشهداء في فيلم وثائقي جديد.

انهى المخرج التونسي محمد زرن مطلع الاسبوع الحالي تصوير فيلمه الوثائقي "ديغاج, الشعب يريد" حول يوميات الثورة التونسية التي اطاحت بنظام الرئيس زين العابدين بن علي قبل اكثر من عشرة اشهر، مشيرا الى ان ذلك يشكل "تحية الى المناطق المهمشة" في تونس.

وقال زرن الخميس "لقد واكبت مختلف احداث ثورة الكرامة والحرية وانقل اليوم بعدستيا آخر مشاهد الفيلم التي تعكس ارادة الشعب الذي تحدى الخوف حين قال ديغاج لبن علي".

واتخذ المخرج التونسي الثلاثاء من قصر باردو, او باي تونس سابقا حيث مقر مجلس النواب السابق (غرب العاصمة)، الفضاء المناسب لتصوير مشاهد الفيلم الاخيرة بمناسبة افتتاح اولى جلسات المجلس الوطني التأسيسي المكلف بكتابة صفحة جديدة من تاريخ البلاد.

وتنقلت كاميرا زرن داخل القصر وخارجه لتروي مختلف اجواء اعمال المجلس الوطني التأسيسي المنبثق عن انتخابات تاريخية جرت في 23 تشرين الاول/اكتوبر الماضي، ولتلتقط صور المتظاهرين الذين احتشدوا امام القصر للمطالبة بالحفاظ على الحريات والاهتمام بملف اسر شهداء وجرحى الثورة.

واوضح زرن ان "ديغاج الشعب يريد"، "مهدى الى اهالي المناطق المهمشة في البلاد الذين صنعوا الفيلم فكان كل واحد منهم فنانا في رسم لوحة تونس الجديدة".

وكان زرن شرع في تحضير الفيلم وهو رابع اعماله السينمائية الطويلة، في 14 كانون الثاني/يناير في خضم التظاهرات حيث تابع بالكاميرا غالبية المسيرات التي جابت شوارع العاصمة، كما سجل شهادات شباب من مختلف أنحاء البلاد من القصرين (شمال غرب) وقفصة (جنوب) وسيدي بوزيد (وسط غربي) مهد "ثورة الكرامة والحرية" التي انطلقت شرارتها مع اقدام الشاب محمد البوعزيزي في 17 كانون الاول/ديسمبر على احراق نفسه احتجاجا على اهانته، ومنعه من ايصال شكواه الى المسؤولين في المنطقة اثر مصادرة بضاعته التي كان يبيعها على عربته بحجة عدم امتلاك التراخيص اللازمة.

وسيدعم محمد الزرن عمله الوثائقي الذي يستمر ساعة وخمس واربعين دقيقة بشهادات لعائلات الشهداء لا سيما عائلة البوعزيزي وشهود عيان في عدة مناطق من البلاد، إلى جانب نقل صورة صادقة عن بعض الأحداث المأسوية والانفلات الأمني الذي ساد عقب تنحي الرئيس المخلوع عن السلطة.

كذلك التقط مشاهد لمئات المتظاهرين الذين اعتصموا لعدة ايام في ساحة الحكومة في القصبة وسط العاصمة قبل ان يتم اخلائها بالقوة.

ومن المتوقع ان يعرض الفيلم للمرة الاولى في 17 كانون الاول/ديسمبر امام مقر محافظة سيدي بوزيد حيث اقدم البوعزيزي على احراق نفسه, ثم في 14 كانون الثاني/يناير امام وزارة الداخلية التونسية, في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي, القلب النابض للعاصمة التونسية تضامنا مع الذكرى الاولى للثورة التونسية.

وتأتي هذه المبادرة لدعم "فنون الشارع" التي تعتبر جديدة في تونس.

ويقول محمد زرن (51 عاما) ان عمله التسجيلي الجديد "يشكل امتدادا لافلامه الروائية والوثائقية السابقة التي تمحورت حول نضال فئات اجتماعية من اجل حياة كريمة.

ففي فيلمه الروائي الطويل "الامير" يقدم المخرج التونسي قصة صراع بين الواقع والحلم من خلال مغامرة رومانسية غير متكافئة يتغلب في نهايتها الحلم على محاولات الخروج من يوميات صعبة وعنيفة داخل مجتمع افلست فيه القيم الاخلاقية.

وكان حكى في فيلمه "السيدة" الذي نال جائزة اول عمل في مهرجان ايام قرطاج السينمائية العام 1996 قصة حي "السيدة" في ضاحية العاصمة التونسية المأهول هو الاخر بخليط ممن نزحوا من الريف بحثا عن لقمة العيش وعن احلام المدينة.

ويتحدث الفيلم الطويل " زرزيس العيش هنا" عن مشاغل شرائح معينة من المجتمع التونسي.

وسبق لزرن الحاصل على شهادة الدراسات العليا في السينما من فرنسا ان قام باخراج ثلاثة افلام قصيرة هي "الفاصلة" سنة 1987 و"كسار الحصى" سنة 1989 و"يا نبيل" سنة 1993.

ومن المتوقع ان يشرع في تصوير عمل جديد حول محمد البوعزيزي اعتبارا من ايار/مايو 2012 وهو من انتاج رجل الاعمال التونسي طارق بن عمار.

وقد حصل الاربعاء على موافقة لجنة التشجيع على الانتاج السينمائي في تونس لدعم عمل سينمائي طويل بعنوان "ليليا".

ميدل إيست أنلاين في

25/11/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)