حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

فيلم "أسماء" وإشكالية الانتقال بين الواقع والخيال

أمير العمري

هناك إشكاليات عدة تتعلق بالفيلم المصري الجديد "أسماء" للمخرج عمرو سلامة، وهو فيلمه الروائي الطويل الثاني، أولها الإشكالية التي ترتبط بفكرة أن "الفيلم يستند إلى قصة حقيقية"، فمن المعروف في الدراما وفي السينما، أن الحدث الحقيقي ليس من الممكن أن يصلح بالضرورة لتقديم عمل سينمائي جيد يتميز بالإقناع. أي أننا لا يكفي أن نقول عن فيلم ما، أنه مأخوذ عن قصة حقيقية لكي نضمن أننا سنشاهد عملا صادقا ومقنعا وواقعيا، فالواقعية منهج للرؤية والعرض والتناول، وليست نسخا من الواقع، من الحياة، بل إعادة ترتيب لمجريات ما جرى على أرض الواقع.

وإذا اكتفى السينمائي بتقديم "القصة الحقيقية" كما وقعت، أو حافظ على كل عناصرها الأساسية، فقد لا يضمن أن يأتي فيلمه متوازنا أو مقنعا للجمهور، فمن القواعد المعروفة في الدراما عموما منذ أرسطو، أن ما قد يبدو مستحيل الحدوث في الواقع ولكن يمكن إقناع الآخرين بحدوثه، أفضل كثيرا مما يمكن حدوثه في الواقع لكنه قد يبدو مستحيلا أمام المشاهدين في حالة تجسيده، وهو ما يتمثل في القاعدة الهبية التي تقول إن (المستحيل الممكن خير من الممكن المستحيل).

والعبرة في كل الأحوال بقدرة السينمائي على صوغ موضوعه وتقديمه في سياق سينمائي عصري وجذاب ومتماسك، يتميز بالصدق والبساطة والإقناع.

الإشكالية الثانية تأتي من موضوع فيلم "أسماء" نفسه، الذي يعد بمقاييس المجتمع السائدة، "جريئا" و"مقتحما"، وربما أيضا من أفلام القضايا "المسكوت عنها"، أي التي يتم تفادي الحديث عنها لأسباب ترجع عادة إلى مفاهيم العيب، والحرام، والممنوع، والخاص جدا.. إلخ

فمن المعروف، أن المنطقة العربية – حسب الموسوعة العالمية على الانترنت- تعاني من "ثاني أعلى نسبة نمو في العالم من حيث حالات الإصابة بفيروس الإيدز". ومع ذلك فهناك تستر رسمي وإنكار جماعي ومجتمعي (أي من جانب المؤسسات الاجتماعية الرسمية) لوجود هذا المرض من الأصل، وغالبا ما يتم إرجاعه إلى بعض "الأجانب".

إذن هذا الفيلم الذي يتناول إحدى القضايا الاجتماعية "الكبرى" التي لاشك أنها تقلق الكثيرين دون أن يعبروا عن هذا القلق بشكل مباشر، قد يصبح أيضا، ضحية كونه من "أفلام القضايا الكبرى"، ليس على مستوى استقبال الجمهور له، فالعرض الأول له في مهرجان أبو ظبي وسط حشد كبير من المشاهدين "العاديين" وليس النخبويين، كان عرضا إيجابيا، فقد تجاوب الجمهور مع الفيلم كثيرا، بل وقاطعوه مرات عدة، بالتصفيق الحار إنفعالا بموضوعه وطريقة تقمص بطلته هند صبري للشخصية الرئيسية!

أما المقصود بامكانية أن يصبح فيلم القضايا الكبرى ضحية لنفسه، فهو أن يطغى الاهتمام بالموضوع وإبرازه، والاهتمام بتحقيق الصدمة المطلوبة للمتفرج، على حساب الاهتمام بالفيلم كفيلم، أي كبناء، وطريقة سرد، وأسلوب في الإخراج، وفضلا عن هذا كله، كـ"رؤية" فنية مبتكرة للحالة الإنسانية التي يعرضها.

فهل نجح فيلم "أسماء" في تجاوز قوة الموضوع إلى قوة التعبير والأسلوب بحيث يمكننا أن نراه كفيلم يعبر، ليس فقط عن قضية اجتماعية مهمة، بل عن سينما حديثة لها علاقة بالسينما التي تنتج في بلدان العالم المختلفة من قبل مخرجين- مؤلفين- أصحاب رؤى؟

سينما عتيقة

ينتمي فيلم "أسماء"، إلى السينما العتيقة، أي إلى المفاهيم القديمة التي كانت سائدة في صنع الأفلام في تراث السينما المصرية.

ما المقصود إذن بتلك "المفاهيم" السينمائية؟ ولماذا نعتبرها "عتيقة"؟

المقصود أن يعتمد الموضوع على المبالغات والمغالاة والشرح والإطالة والتعبير بالكلام وأحيانا أيضا، بشكل أقرب للخطب الرنانة التي توجهها بطلة الفيلم "هند صبري" إلى المشاهدين مباشرة، بحيث يمكن القول إن الفيلم، في مرحلة ما، لا يفصل بين بطلة القصة "أسماء" الفلاحة البسيطة، وبين هند صبري "النجمة ذات التأثير الجماهيري" التي نراها توجه للمتفرجين النصح بل وتدعوهم الى الخروج والحديث عن مشاكلهم مباشرة، دون خوف أو وجل، تماما كما نراها من خلال الإعلانات التليفزيونية التجارية، توجه النصائح للسيدات في المنازل للاهتمام بجمال بشرتهن في إطار الدعاية لمنتجات التجميل، الأمر الذي يدفع المشاهدين (الذين يحبون هند صبري الممثلة والإنسانة) إلى التصفيق والتهليل في دار العرض السينمائي، وهو نفس ما كان يحدث قديما عند مشاهدة أفلام حسن الإمام وبعض أفلام صلاح ابو سيف وبركات، التي تمتليء بالحكم والمواعظ الأخلاقية المباشرة التي يمكن أن يتماثل المشاهدون معها لأنها تلمس العاطفة.. دون العقل بطبيعة الحال، وهنا جوهر المشكلة!

والمشكلة أن العودة إلى السينما القديمة لن تفيد قضية السينما الجديدة، كما أن ما كان سائدا في طريقة الحكي في الخمسينيات من القرن الماضي، لم يعد يصلح اليوم لبناء سينما حديثة تعتمد على الإشارات واللحظات الفلسفية، وصور تمتليء بالشعر والخيال، لكنها عودة للمراهنة على المختزن في الذاكرة!

مشكلة أسماء

لا أريد أن أطيل في سرد جوانب القصة السينمائية التي يعرضها الفيلم، لكنها باختصار قصة "أسماء"، المرأة الريفية البسيطة التي تتزوج من شاب تحبه، وتحاول مساعدته عن طريق صنع السجاد اليدوي البسيط وبيعه في سوق البلدة، مما يسبب لها متاعب مع المنافسين لها من الرجال، فيحاول أحدهم اتلاف بضاعتها لكي يرغمها على ترك السوق مما يؤدي الى تدخل زوج أسماء الذي يضربه ضربا يفضي الى الموت، ويسجن الزوج بتهمة القتل الخطأ، ثم يخرج بعد سنوات قليلة من السجن ولكن بعد أن يكون قد أصبح مصابا بمرض الإيدز الذي ينتقل إليه داخل السجن، ويتحاشى الرجل معاشرة زوجته التي تلح عليه في معرفة السبب. وبعد أن يخبرها، تصر على ضرورة معاشرته لكي تنجب له طفلا بعد ان تعلم من الطبيب أن الطفل لن يحمل بالضرورة فيروس المرض القاتل. وتحمل اسماء ويموت الزوج، ويكون المرض قد انتقل إليها بالطبع، ولكنها تنجب طفلة، ثم تنتقل بعد وفاة زوجها الى المدينة مع والدها المسن الذي تخبره بالحقيقة بعد ذلك، وعندما تصاب بمرض في المرارة لا شفاء منه سوى باجراء عملية جراحية، يرفض الأطباء إجراء العملية بعد معرفتهم بحقيقة اصابتها بالإيدز، وبعد تردد طويل توافق أسماء على الظهور على شاشة التليفزيون في برنامج يقدمه مذيع جريء، وينتهي الفيلم بعد أن تكون الرسالة قد وصلت للجمهور (في المنازل وفي السينما) عن ضرورة مواجهة المشكلة بصراحة وجرأة، والتمسك بحقهم في العلاج، وضرورة أن يعترف المجتمع بمرضى الإيدز ويتعامل معهم باعتبارهم ضحايا وليسوا مذنبين.

فيلم "الرسالة"

من عيوب "فيلم الرسالة" كما سبق القول، أنه يمكن أن يستدرج المخرج- المؤلف، كما هو الأمر هنا، إلى الوقوع في مصيدة الوعظ الاجتماعي والأخلاقي المباشر، وهو ما يضعف أي دراما سينمائية ويجعلها تصبح بديلا للمقال الصحفي والحديث الإذاعي أو الخطبة الوعظية، أو في أفضل الأحوال، تتحول الى ميلودراما يقل فيها التأثير الواقعي وتتضاءل سبل الإقناع العقلي والمتعة الذهنية، مع إبراز الانفعالات المبالغ فيها بشدة، واللعب على العواطف الجياشة، وتضخيم الضغوط الاجتماعية الواقعة على الشخصية الرئيسية بحيث تصبح هذه الشخصية محاصرة بطريقة تفجر دموع المتلقين، وعندما تتجرأ تلك الشخصية على تحدي أوجاعها وما يقع عليها من ضغوط فإنها تصرخ بشكل مبالغ فيه، وتعبر عن الرفض من خلال الحوار الإنشائي البليغ، وحركات اليدين والوجه والعينين بطريقة مبالغ فيها كثيرا، وحينها، يتهدج الصوت، وتحتبس النبرات، وتلمع في العينين الدموع.

وتحاول الشخصية الرئيسية (البطلة، المقهورة، التي تنهض من غفوتها وتقرر مواجهة المجتمع بأزمتها) التأثير على المشاهدين من خلال توصيل كل تلك الطاقة من الانفعالات والمشاعر التي تستصرخ فيهم التجاوب العاطفي. وهنا، يصبح حل أزمة البطلة على الشاشة، بديلا لدى الجمهور عن الفعل، بل وعن التفكير السليم، لأنه لا مجال أمامهم لأي تفكير فيما البطلة أصبحت تفكر نيابة عنهم، وتحول دور الممثلة من مؤدية لـ"حالة" نفسية اجتماعية، إلى "بطلة" تنوب عن الجميع في التصدي لسلبيات مجتمع النفاق حتى لو ظلت تناشدهم النهوض وأخذ الأمر بأيديهم، فالإعجاب يظل عند الجمهور بالجانب النظري التمثيلي، أي بالفيلم كتجسيد لحالة فردية خاصة، وليس كنموذج لقطاع في المجتمع، خصوصا إذا كان الموضوع يقدم من خلال نفس "التوليفة" القديمة، وباستخدام نجمة سينمائية أو أكثر، ويعتمد على التبسيط لا على الثراء والعمق في البناء.

وهذا ما ينطبق كأفضل ما يكون، على الأسلوب المتبع سينمائيا في فيلم "أسماء"، وعلى أداء بطلته هند صبري.

وعندما نقول إنه فيلم قديم يستند الى نفس الهيكل العتيق للميلودراما المعروفة في الأفلام المصرية القديمة، فليس هذا من قبيل الهجاء اللفظي، بل بمعنى اختلاف اللغة والأسلوب والدلالات عن الفيلم الفني الحديث الذي لا ينشغل بتبسيط القضية بل بالبحث المضني داخل تعقيداتها، من خلال بناء أكثر عقلانية، وأقل صخبا وضجيجا واعتمادا على الحوارات الطويلة المرهقة، والمشاهد المسرحية التي تجعل الممثلين يخاطبون الجمهور، سواء من خلال شكل البرنامج التليفزيوني من داخل الفيلم، أو من خلال اختيار الزوايا ووضع الشخصية الرئيسية أمام الكاميرا.

محور الأحداث

في ميلودراما من هذا النوع تصبح الشخصية المأزومة هي المحور الذي تدور حوله الشخصيات الأخرى، التي توجد فقط لكي تخدم وجود الشخصية الرئيسية وتعكس أزمتها بطرق شتى.

هناك أولا محور العلاقة بين أسماء وزوجها. وهذه اختار المخرج- المؤلف عمرو سلامة أن يتابعها من خلال تقنية العودة في الزمن إلى الوراء، أو ما يعرف بـ"الفلاش باك" flash back ولكن هذا الانتقال في الزمن يأتي متقطعا على مسار الفيلم.

والمحور الثاني علاقة أسماء بابنتها التي لا تعرف منذ ولادتها سبب وفاة والدها، ولا سر أزمة أمها، إلا قرب النهاية بعد أن تكون العلاقة بين الاثنتين قد بلغت حد الاشتباك والاتهامات المتبادلة التي يتدخل فيها والد أسماء (الجد) فهو الوحيد الذي يتابع القصة من بدايتها، ويعلم الحقيقة.

وهناك محور العلاقة بين أسماء وزملائها المرضى الذين يجتمعون معا في برنامج تأهيلي نفسي، وينظرون إليها باعتبارها المنقذ لهم من أزمتهم الاجتماعية- النفسية بعد أن تتجرأ وتظهر على شاشة التليفزيون في البرنامج الذي يقدمه المذيع (ماجد الكدواني).

ولعل مما يقلل كثيرا من قوة الموضوع أن الفيلم رغم كونه فيلما من أفلام "القضايا الكبيرة الصادمة" لا يمكنه ايضا التصريح بالسبب الحقيقي المباشر لإصابة زوج أسماء في السجن بمرض الإيدز، فالحوار لا يتحدث سوى عما تعرض له من إهانات وسوء معاملة وربما أيضا تعذيب، فهل يؤدي "سوء المعاملة" الى الإصابة بالإيدز!

لكن ما نفهمه من بين السطور، هو أن الرجل تم الاعتداء عليه جنسيا داخل السجن. فهل كان الاعتداء من جانب المساجين أم السجانين؟ لا نعرف. واذا كنا نفهم طبيعة الاعتداء بصعوبة شديدة بسبب تقاعس الفيلم عن تصوير حقيقة ما حدث أو حتى التصريح به شفاهية، فنحن لا نستطيع أن نفهم أبدا في أي ظروف تم هذا الاعتداء. وربما لو كان الفيلم قد بدأ بتصوير موضوع الاعتداءات الجنسية أو العلاقات الشاذة جنسيا التي تنشأ بين السجناء من الطبقات الدنيا في الكثير من الأحيان داخل السجون المصرية لكان هذا يصلح أن يكون مدخلا قويا جيدا لأحداث الفيلم.

لكن ما نراه أن الفيلم يستغرق في نسج الكثير من المصادفات القدرية (احدى سمات الميلودراما الكلاسيكية أيضا) التي تنتهي بحلول توفيقية تشفي غليل المتفرج المشبع بفكرة "الفضيلة"، حينما يجعل ابنة أسماء ترى ابنتها مصادفة وهي تقف في منتصف طريق ما مع شاب يحتضنها بينما تحيط بهما مجموعة من الشباب، وعندما تعود الفتاة للبيت، تتعامل معها امها بخشونة شديدة وعنف، وفي تلك اللحظة يطرق الباب ويدخل الشاب نفسه لكي يتقدم لخطبة الفتاة، تماما كما سبق أن تقدم زوج أسماء نفسه لخطبتها من والدها بعد أن رآه والد أسماء (المحافظ أخلاقيا) وهو يغازلها (هذا المشهد مكرر حرفيا في الفيلم). ويمكنك أن تضع هنا ما تشاء من علامات التعجب والدهشة. فلم الإصرار على حل كل ما يظهر من مشاكل حلولا آلية توفيقية على الفور، بطريقة تقفز تماما فوق الواقع، هدفها التركيز على فكرة الاستقامة الأخلاقية التي ترضي الجمهور الذي يتشبث بفكرة "الفضيلة فوق الواقع"!

الاجتهاد الأكبر في طريقة السرد السينمائي إذن تركز أساسا، وفقط، في التداخل بين الزمنين، الماضي والمضارع، ولكن بإفراط أصبح في وقت لاحق، عبئا على الفيلم، بسبب آليته وهدفه الوحيد الذي يتمثل في تقديم الشروح والتفاصيل والتبريرات، مجزأة، اعتقادا من الكاتب بأنه هكذا يبقي على ذهن المتفرج يقظا.

وفيما عدا ذلك، فأسلوب الإخراج يعتمد على التحكم في الأداء التمثيلي، واستخراج أقصى ما تسمح به طاقة الممثلين، حيث تعلو الوتيرة الدرامية كثيرا، مع استخدام شخصية المذيع التليفزيوني (الكدواني) لاضفاء بعض اللمحات الكوميدية من خلال شخصيته الكاريكاتورية، واستخدامه للألفاظ الحادة في سياق تهكمي ساخر بالطبع.

ويستخدم المخرج الموسيقى في فيلمه لكي تلعب دورا مباشرا في تكثيف المشاعر وابرازها بقوة بما ينسجم مع الطابع العاطفي للفيلم.

إن الحل الذي يقدمه فيلم "أسماء" لموضوع مرضى الإيدز في المجتمع المصري قد يرضي جمهور السينما، لكننا نشك كثيرا في أنه يمكن أن يرضي مرضى الإيدز أنفسهم، أو أن يساهم في تجاوز الواقع المتردي للخدمة العلاجية، والسلوكيات المتدنية للأطباء في القطاع الصحي، لكن هذه قضية أخرى!  

الجزيرة الوثائقية في

14/11/2011

 

"طفل العراق" أنموذجا

الفيلم الوثائقي ابن من ؟ المخرج أم المونتير؟

أمـل الجمل 

لمن يُنسب الفيلم؟ لكاتب السيناريو، للمونتير، للمصور، أم للمخرج؟ سؤال قد لا يبدو وارداً للطرح من الأساس عند الحديث عن الأعمال السينمائية الروائية التي تُنسب بوضوح وحسم لمخرجيها. لكن ذلك التساؤل يبدو مؤرقاً لبعض العاملين في مجال النقد السينمائي على الأخص عندما يتعلق الأمر بالأفلام الوثائقية والتسجيلية؟ في تقديري الشخصي الأمر هنا أيضاً محسوم إذا تأملنا بروية أهمية وسطوع كل عناصر العمل الفني من سيناريو وتصوير وإخراج ومونتاج. وإن كان هذا لا ينفي أهمية تضافر هذه العناصر جميعاً وانصهارها في بوتقة واحدة.

التساؤل السابق المشكك في نسبة الفيلم الوثائقي للمخرج، والمؤكد على ضرورة إعادة النظر في دور المونتير أُثير مجدداً عقب عرض فيلم "طفل العراق" للمخرج الشاب "علاء محسن" والذي يحكي قصته ومشاعره الخاصة التي تتعلق بجذوره العربية العراقية وهويته الدانماركية.

هو شاب عمره الآن 21 سنة. أجبرته الحرب والقلاقل السياسية على الهرب وترك موطنه الأصلي "العراق" عندما كان في السادسة من عمره ليعيش في الدنمارك. أصبح الشاب يشعر في قرارة نفسه بأنه دانماركي خصوصاً أنه لا يتذكر أشياء واضحة عن سنوات طفولته. لكن اسمه وهيئته يقولان عكس ذلك. ظلت والدته تدفع به للذهاب إلى العراق لتربطه بجذوره لدرجة أنها تركت له تذكرة السفر بعدما غادرت لتضعه أمام الأمر الواقع. يضطر "علاء" إلى السفر ويقرر توثيق عودته إلى العراق بعد غيبته الطويلة. يعترف الشاب أن الفكرة لم تكن واضحة تماماً لإنجاز فيلم لكن الظروف والتجربة التي مر بها أثناء رحلته كانت وحدها فيلماً وثائقياً. بكاميرا غير عالية المستوى، وبتصوير مهتز مرتبك، وكادرات مشوشة أحياناً أخذ "علاء" يختبر مشاعره، ويستعيد ذكريات الطفولة عبر حكايات الآخرين المتمثلة في الجدة، والخالة وزوجها، وابن الخالة، وفي بعض حكايات الأم القادرة على إطلاق ضحكات صافية رقراقة.

في الفيلم تفاصيل يرصدها المخرج، وتساؤلات ساخرة يطرحها بين حين وآخر تكشف المعاناة التي يحياها أهل العراق وخصوصاً الشباب الذين لا يجدون عملاً مناسباً. في الفيلم حكي واضح الصدق في التعبير عن المشاعر الحائرة، ترتبط داخله علاقة حميمة بين الناس والكاميرا، بين مخرج الفيلم الذي هو بطله الرئيسي وبين ابن خالته الشاب المراهق بملامحه البريئة وحكيه الساخر الساذج أحياناً. هناك في "الديوانية" بأرض العراق وبينما يسعى الشاب الدانماركي "علاء محسن" لاكتشاف جذوره العراقية تموت والدته فجأة، فهل تموت معها صلته بالعراق؟

أثار الفيلم كثيراً من الجدل والاختلاف في الرأي منذ عرضه الأول في حفل إفتتاح مهرجان الخليج السينمائي الرابع المنعقد في الفترة من 14- 20 أبريل الماضي. البعض أُعجب به وامتدحه طويلاً مشيداً بلغته البسيطة، والبعض الآخر هاجمه بعنف - في كواليس المهرجان - مندداً بأسلوب وتكنيك استخدام الكاميرا المهتزة والكادرات المائلة المتحركة بعشوائية واعتبروا مخرجه الهاوي غير المحترف الذي لم يدرس أصول الفن السينمائي وقواعد الإخراج كارثة على الوسط السينمائي. وذلك رغم أن "علاء محسن" تخرّج حديثاً من كلية الأفلام الوثائقية والقصيرة في الدانمارك ويعني بقضايا اللاجئين والهوية والدنماركيين العراقيين، وقد أنهى في سنة 2009 فيلماً وثائقياً قصيراً عن شاب دانماركي يتحول إلى الديانة الإسلامية.

الحقيقية أن نتيجة النقاش حول "طفل العراق" - الذي لم يتوقف منذ يوم الإفتتاح وطوال أيام وليالي المهرجان كلما جاءت سيرة الفيلم - شهد إحتداماً بين وجهة نظر كاتبة هذه السطور وبين رأي الناقد عصام زكريا عندما نسب الفيلم إلى المونتير معتبراً أن كُثر من المخرجين هذه الأيام يقومون بتصوير أي مشاهد وأي لقطات ويذهبون بها إلى المونتير الذي يجلس لساعات طويلة فيبدع منها عملاً من المفترض أنه لا يُنسب للمخرج بقدر ما يُنسب للمونتير.

الرأي السابق الذي طرحه "عصام" في تقديري يتضمن جزءاً صحيحاً من بعض النواحي لكنه من ناحية أخرى بكل تأكيد لا ينطبق على فيلم "طفل العراق"، ليس هذا فحسب لكنه أيضاً يظلم الفيلم وصانعه ويتجني عليهما. شخصياً لا أنكر أهمية دور المونتير والمونتاج في العمل السينمائي والوثائقي. فإعادة ترتيب المشاهد أو تقصير بعضها وتطويل البعض الآخر، ليس فقط في السينما الوثائقية ولكن أيضاً في الروائية، قد يخلق حالة موجعة، حالة من الصدق الإنساني لا مثيل لها. وإن كان هذا لا ينفي إمكانية وجود عمل فني رائع بعيداً عن المونتاج فهيتشكوك مثلاً في فيلم "الحبل" حطم تلك النظرية التي كرسها "إيزنشتين" وعدد من المخرجين الروس بأن المونتاج هو أساس العمل الفني. كما أن المخرج الروسي الراحل البارز "أندريه تاركوفسكي" نظَّر لهذه الإشكالية الفنية مؤكداً على أن المونتاج ليس هو السمة المميزة للسينما، لأن المونتاج موجود تقريباً في كل شيء في الحياة

المونتاج في اعتقادي لا يستطيع أن يصنع شيئاً أمام لقطات ومشاهد لا تحتوي على الزمن النفسي الواقعي، المونتاج قطعاً سيقف عاجزاً عن فعل شيء أمام لقطات مشوشة لا يربط بينها خيط رفيع غير مرئي أحياناً. في فيلم "طفل العراق" صحيح أن الكاميرا المهتزة كانت مزعجة لي في بعض اللقطات خصوصاً في اللقطة التي كانت الكاميرا تستقر فيها على ساقي علاء لتصوره بينما هو جالس فوق الأرجوحة، مع ذلك كان الإحساس المتفجر لدي في تلك اللحظة أن المخرج كان يُجرب أن يعبر أو يرمز بتلك الإهتزازة والتأرجح عن حالته النفسية المتأزمة. كون أن استخدام الكاميرا كان مزعجاً أو غير موفق لن يكون محور النقاش إذا تأملنا وضوح الرؤية التي يمتلكها هذا الشاب البالغ الحادية والعشرين من العمر، فتعلم التكنيك وقواعد الإخراج يُمكن اكتسابه في فترة وجيزة ومع التجربة والخطأ، لكن الأصعب هو امتلاك الإحساس الفني العالي، هو امتلاك القدرة على التعبير عن مشاعر إنسانية شديدة الحساسية بهذا النقاء.

لذلك في يقيني أنه لو لم يكن هناك مخرجاً واعياً اسمه "علاء محسن" مفعم بالمشاعر والتساؤلات المحرجة، مخرجاً يمتلك الرهافة والحساسية والجرأة التي تمكنه من أن يبوح بمشاعره المتضاربة والمتناقضة، من أن يكشف أفكاره المضطربة بتلك القوة والوضوح والصدق لما نجح أي مونتير في توليف الفيلم بصورته الحالية وبتأثيره العاطفي المليء بالشجن وبلاغة المشاعر

الجزيرة الوثائقية في

14/11/2011

 

"زبد" لـ/ ريم علي

تسجيليٌ استُبعِدَ ذات يوم من "قرطاج"

يامن محمد  

عندما مُنع الفيلم التسجيلي "زبد" من الخوض في غمار مسابقة مهرجان "قرطاج" في تونس قبل عدة سنوات (2008)، تساءل الكثيرون منا ساخرين وبمرارة تصعّدت وتحولت في أذهاننا هذه المرة إلى شكل غريب ومضحك للغاية؛ من قال إن الوحدة العربية غير متحققة؟.. من قال إنها محض خيال.. ومن قال قبل ذلك إن فكرة القومية العربية كانت مجرد وهم في عقول رجالٍ ونساء ٍ ولّى زمنهم.. وزمنهن!!

ألا تتجلى تلك الوحدة - وإن تجزأت الشعوب- بلحمة "عضوية" شديدة البأس بين أنظمة ترامت أذرعها من المحيط إلى الخليج..ألا تشترك (أو هكذا كانت) جميعها بالحسّ الأمني "المرهف" عينه.. وكأنه منبثق من تاريخ وثقافة واحدة و"موحَّدة"!..

وإلا، فما هو تفسير أن تصاب كل تلك الدول بذات المصاب!!

فيلم "زبد" لمخرجته السورية "ريم علي" فتح الأبواب واسعةً على الكثير من التساؤلات، حتى التي خرجت عن إطاره في الظاهر، إنْ كان من حيث موضوع الفيلم والطريقة الفنية المتبعة في معالجته، أو من حيث نجاح محاولة السفير السوري في حينها، منع إدراج الفيلم ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة، كما أعلنت "ريم"... ومن ثم قرار لجنة التحكيم الشجاع، حجب الجائزة عن كل الأفلام المشاركة رداً على ذلك.

وكما هي العادة، كان من إحدى نتائج ذلك المنع أن تم تناول الفيلم على - مستوى الكتابة عنه- من زاوية الخبر الصحفي بما يتعلق بحادثة المنع، وتوضّعت أهمية مناقشته فنياً في الدرجة الثانية، وبهذا يكون قصدٌ من المنع قد تحقق أيضاً في تغييم الصورة وإبهامها، والحدّ من ذلك النشاط الخلاق الذي لا يبدأ مع بداية إنجاز الفيلم ولا ينتهي بتناوله كتابةً: نقداً وتحليلاً ومناقشةً بعد إنجازه.

ومع ذلك، تُبيِّنُ وتدلُّ وتساعدُ في التأكيد أو النفي؛ تلك الحادثة التالية على صناعة الفيلم، وتعين في الإضاءة على مكامن القوة الفنية وجدواها بعيداً عن المباشرة التي تسمى تجاربا "حديثة" أخرى لم نسمع عنها حادثة مشابهة كما جرى مع "زبد".. ومخرجته "ريم".

إذاً، أثار الفيلم حفيظة الرقيب، مع أنه لم يتطرق صراحة إلى الموضوع "الحساس" (الذي يهمه) حتى الدقيقة الخامسة عشر من دقائقه الاثنتين والأربعين، والمعلومات المقصودة إنْ هي إلا عبارات تَرِدُ على لسان "محمد" أخ بطلة الفيلم "سهام" وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة والمشكلة في قواه العقلية؛ حيث يسرد بعض تفاصيل اعتقال أخته فيما مضى، ويذكر السبب من وجهة نظره، السبب الصعب على أخته ذكره أو البوح به بسهولة، كما ظهر جلياً من خلال تعابير وجهها في عمق الكادر وهي تستمع إليه في نفس اللحظة مندهشةً: لأنها شيوعية.

ومن هذه الزاوية إنما يصبح "محمد" الراوي الصريح، بطلاً مضمراً للفيلم، قريناً من نوع خاص للبطلين "الصريحين" إسمهان وزوجها، بطلا الاعتقال والمعارضة باهظة الكلفة في مجتمعٍ قاسٍ لا يزال يصارع "ذاته" للخلاص من تلك القسوة، ومن مفاهيم اجتماعية تضيق الخناق على أصحابها، وتضعهم في ذروة من ذرى اللا توازن النفسي، ليس محمد الممثل الوحيد له.

محمد يسرد ويكشف ويعري على طول الفيلم - وخصوصاً في أول ربع ساعة منه- تاريخاً ليس رسمياً فقط ولا يخص القمع والاعتقال والعنف بأشكاله الرسمية المباشرة فحسب؛ لقد تركت "ريم" لنفسها حرية ملاحقة الحقيقة وتتبعها في كافة المستويات والتفاصيل وقد وقعت على صيدٍ ثمين يتمثل برواية محمد للأحداث، ليفصح عن تاريخ العائلة والأب القاسي، أبٌ أراد فيما مضى حرق البيت بما فيه والذي أشبع ابنه ضرباً كما الكثير من الشخصيات المضطهِدة لـ "محمد" التي ذكرها بالاسم والمنتمية لتلك البيئة وصولاً إلى أستاذه "العصفور" الذي طرده من المدرسة، واصفاً إياه بالعصبي و"القبضاي" والقوي؛ ولا يفوت "محمد" أن يذكر وقائع النهاية البائسة لوالده "الديكتاتور" و"الحفاضات".

كما تركت ريم لنفسها حرية التحليل وإظهار رؤيتها الخاصة لواقع الشخصيات ووقائعها، تمكنا  من الغوص أكثر فأكثر في دواخل تلك الشخصيات، من خلال التحكم الموزون إيقاعياً بالمونتاج والمكساج..، ومن خلال لقطات موحية لأشياءِ منزل إسمهان وزوجها وأولادها، مثل "الغسّالة" وانعكاس وجه إسمهان على زجاجها وسماعنا صوت دورانها دون أن نراها في لقطات أخرى.. بتجزئة الحكاية وتوزيعها على مدى ثلثي ساعة، بسماعنا لما يرويه "محمد" كصوتٍ داخلي في مشاهد يبدو فيها صامتاً مقطوعاً عن العالم الخارجي ليفاجئه صوتٌ ما أو حركة ما يعود بها إلى التفاعل مع الواقع من جديد..؛ بوضع عدة لقطات متفرقة لـ "محمد" باحثاً من بين المحطات، عن محطات أجنبية في جهاز الراديو متجاوزاً المحلية منها..

قبل أن نعلم في مقاطع متأخرة من الفيلم أن مشروعَ هجرةٍ إلى كندا تقررها أسرة إسمهان كحلٍ وحيد للتعامل مع مناخٍ ضيَّقَ على أهله حدَّ الاختناق.. هوَ "محمد" الضمير المستتر الذي قال بهيئته المضطربة، وكلامه المتلعثم الصعب الفهم، كلَّ شيء في النهاية وصولاً إلى "فضحٍ" عام أصاب الرقيب في مقتل..

محمد وكما ظهر في ختام الفيلم  يمشي وحيداً مبتعداً وصوت ضحكته الساخرة يقرعنا بمرافقة أغنية كخلفية لا تنتمي إليه.. هوَ الإنسان السوري الباقي في البلد "رغماً عنه" وقد فشل في إيجاد "المحطة الأجنبية" أخيراً.

ملاحظة:

إسمهان كانت تعمل بإندفاع حتى قرار الهجرة في مجال محو الأمية.

الجزيرة الوثائقية في

14/11/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)