حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

عودة «مهرجان بيروت الدولي للسينما» إلى «أمبير سوديكو»

الغـوص فـي ذاكـرة محطـمة

نديم جرجورة

مساء أمس الأربعاء، بدأ المهرجان. شكّل الافتتاح مدخلاً بديعاً لعالم سينمائي ممتدّ على مدى أسبوع كامل. عالم مشغول بحرفيات مختلفة، أو متناقضة. مشغول بهواجس وتحدّيات وأسئلة. هذا كلامٌ مُكرَّر. هذه حال السينما. هذه حال المهرجانات السينمائية أيضاً. بين افتتاح جرى مساء أمس بعرض رائعة تيرينس ماليك «شجرة الحياة»، وختام معقود على فيلم مثير للجدل، كمخرجه لارس فون ترير، «ميلانخوليا»، مساء الثالث عشر من تشرين الأول 2011، هناك كَمّ هائل من الأفلام، الموجّهة إلى أمزجة ورغبات. متابعو وقائع الدورة الجديدة هذه مدعوون إلى عيش مُتع، ومُشاهدة حكايات مرسومة بالكاميرا، وبأدواتها وأشيائها الحميمة. مدعوون أيضاً إلى اكتشاف الصادم، الذي وقّعه كبار طالعون من العالمين العربي (وإن كانوا قلّة، قياساً إلى الجغرافيا الواسعة وملايين أبنائها المقيمين فيها أو خارجها) والغربي.

عودة

عاد «مهرجان بيروت الدولي للسينما»، بدورته الحادية عشرة، إلى مكان أقام فيه ذات مرّة، داعياً المهتمّين بالفن السابع إلى متابعة نتاجات منضوية في إطاره الواسع. عاد إلى «أمبير سوديكو». الانتقال إلى «أمبير صوفيل» حتّمته ظروفٌ معيّنة. افتتاح «متروبوليس» فيها أتاح فرصاً. بات المكان حيّزاً لمهرجانات سينمائية محلية. لا يُمكن حسم المسألة: ما الذي أعاد «مهرجان بيروت الدولي للسينما» إلى «أمبير سوديكو»؟ الأهمّ، بالنسبة إلى الـ«سينيفيليين» المحترفين، كامنٌ في أن تستوفي الصالة، أي صالة، شرطها الفني. أبواب الصالات الصغيرة في «أمبير سوديكو» مفتوحة أمام حراك، يتمنّى كثيرون أن يبثّ حياة فيها، وفي محيطها الجغرافي. الأفلام المُعلَن عن مشاركتها في الدورة الجديدة هذه أثارت سجالات. الأهمّ كامنٌ في المُشاهدة. لن تكون الأفلام كلّها ذات سوية عالية. هذا أمر معروفٌ. التناقض في المستويات كافة قدرٌ. المهرجانات تلعب دوراً في اكتشاف التناقض: مُشاهدة عدد من الأفلام بشكل متتال، يُتيح للمهتمّ فرصة ممارسة لعبة من نوع آخر، بدلاً من الاكتفاء بالمُشاهدة. لعبة المقارنة، ومحاولة فرز «الغثّ من السمين» بالنسبة إليه كمُشاهد يُتقن فن المُشاهدة، وغواية المتع الممنوحة له من السينما.

إذا شكّل الافتتاح دعوة إلى اكتشاف صورة بديعة عن علاقة الصُورة السينمائية بوقائع الحياة وأسئلة الخلق والموت والإبداع والتكوين، فإن اليوم الأول من العروض العامّة حمل، من بين أفلام أخرى، أحد العناوين المثيرة للجدل داخل فرنسا: «فينوس السوداء» للفرنسي التونسيّ عبد اللطيف كشيش (الخامسة بعد ظهر اليوم، والخامسة بعد ظهر الأحد المقبل في التاسع من تشرين الأول الجاري): العودة إلى محطّة تاريخية قديمة (1810 ـ 1815)، محاولة درامية لسرد قصّة التفوّق العلمي على حساب فقراء العالم. المرأة الشابّة سارتجي بارتمان (الممثلة الكوبية يهيما تورّيس)، ابنة مدينة الـ«كاب» (أصبحت حالياً داخل حدود جنوب أفريقيا) المنتمية إلى إثنية «هوتَنتوت» (شعب جنوب أفريقي ذو بشرته ضاربة إلى الصفرة)، تحوّلت في باريس إلى جسد نسائي حيّ لاختبار عالِم الطبيعيات جورج كوفييه. العالِم خارج القواعد الأخلاقية. وصل الأمر به إلى حدّ عرض الأعضاء التناسلية للمرأة «العبدة» علناً، وهي لا تزال حيّة تُرزق.

في المقابل، هناك أفلام عربية عدّة بدت جزءاً من ثقافة جديدة، اخترقت الجمود الحاصل في كيفية التعاطي مع المجتمعات العربية وناسها، قبل بداية «الربيع العربي» نهاية العام الفائت. أفلام خاضت تجربة الاستكشاف، فنياً ودرامياً وجمالياً وتقنياً. غاصت في الغليان المبطّن والقاتل، المعتمل في المجتمعات هذه. أفلام بدت كأنها إعلانٌ واضح عن المآزق الجمّة التي ضربت البنيان الاجتماعي والإنساني والانفعالي، والتي أدّت (من بين أمور أخرى طبعاً) إلى إطلاق «الربيع العربي».

حفريات

هناك مثلاً «الخروج» للمصري هشام عيساوي (السابعة والنصف مساء 11/ 10، والتاسعة والنصف ليل 12/ 10): قصّة حبّ «ممنوع» بين مسلم وقبطية. الخلاص كامنٌ في الهجرة. البقاء يُعادل استحالة الاستمرار في علاقة مبنية على أسس مهتزّة. الأسس المهتزّة منعكسة في البناء الاجتماعي الرافض اختلاطاً كهذا. فيلم مشغول بمزاج سينمائي ساع للجمع بين مضمون حسّاس وشكل مبسّط لمعالجة هادئة. الاصطدام الديني عنوان أساسي في مجتمعات عربية صدّت أفكاراً تنويرية، ورفضت الاختلاط. البؤس اجتماعي. الشقاء نفسي. الضغوط محيطة بالناس جميعهم من كل حدب وصوب. انسداد أفق. أشياء مُضافة إلى لائحة الخراب المفضي إلى انفجار الشارع المصري. لا نبوءة في هذا. الغليان الحاصل في المجتمع المصري مادة أساسية لعدد من الأفلام المصرية. «الخروج» أحدها.

هناك أفلام غائصة في التاريخ الشخصي المفتوح على الجماعة، أو في الذاكرة المسحوقة تحت أقدام السفّاحين. أفلام نبشت بعض الماضي لرؤية مختلفة للراهن. أفلام أرشفت صُوَراً عن الخراب العظيم الذي صنعه ديكتاتوريون عربٌ، يواجه بعضهم «محاكمة الشعب» حالياً، بينما «نُحر» بعضهم الآخر، جسدياً أو معنوياً. أحد الأفلام هذه: «بيروت عالموس» للّبنانية زينة صفير (المجموعة الثانية من الأفلام الوثائقية والقصيرة: السابعة والنصف مساء 8/ 10، والسابعة والنصف مساء 9/ 10). السرد الحكائي لوالد المخرجة سردٌ لحكاية مجتمع وبلد. الأب الحلاّق مرآة تاريخ وجغرافيا. دَفْعُ الأب إلى مواجهة الكاميرا نوعٌ من تحريض الماضي على تقديم روايته الشفهية. الرواية الشفهية مستلّة من وقائع العيش اليومي. مستلّة من انفعال الراوي وتداخل الذاتيّ بالعام فيه. زينة صفير فتحت باب الذاكرة أمامها أولاً، قبل أن تدعو الآخرين إلى رحلتها. الأب الحلاّق عاصر سياسيين وعاملين في الحقل العام، منذ سنين طويلة. عرفهم. تحدّث إليهم فأخبروه أشياء وتفاصيل. رأى بعينيه التحوّلات الكثيرة التي عرفتها بيروت (كجزء من لبنان في المنطقة العربية المحيطة به تحديداً): في السياسة. في المجتمع. في التربية. في الثقافة العامّة لأمزجة وعلاقات. الماضي يُلحّ على المرء دائماً. يريد الخروج إلى العلن. يريد أن يكون العلن.

هذا ما يتابعه المهتمّون بالمسائل الفردية المفتوحة على الجماعة: «هذه صورتي وأنا ميتٌ» للهولندي الأردني محمود المساد (السابعة والنصف مساء 6/ 10، والخامسة بعد ظهر 10/ 10): اغتيال مناضل فلسطيني في سيارته في أثينا أمام عينيّ ابنه البالغ حينها أربعة أعوام. حدث هذا في إحدى محطّات الصراع الأمني/ الاستخباراتي بين المقاومين الفلسطينيين وإسرائيل. الابن الناجي من عملية الاغتيال عاد إلى اللحظات الأولى تلك. أراد التعرّف إلى والده. إلى الزمن السابق. إلى المسارات المفضية إلى هنا. أي إلى الشقاء الكبير هذا. التركيب البصري المعتمد في الفيلم الوثائقي هذا مندرجٌ في ثنائيات عدّة: الماضي والحاضر. الواقع والمتخيّل، أي الوثائقي والروائي، بمعنى ما. الفرد والجماعة. البيئة والعالم.

النبش في الراهن

إنه النبش في التاريخ المخفي، أو المختفي لألف سبب وسبب، الخاصّ بأفراد محدّدين، تمهيداً لإعادة صوغ المشهد التاريخي والاجتماعي والإنساني والآنيّ في وقت واحد. النبش في الماضي ميزة الاشتغال الوثائقي للمساد منذ بداياته السينمائية. الماضي يعني الانطلاق إلى الراهن لفهمه أو تصويره. لجعله متّكأ للغوص في تداعيات مرحلة، أو في أوهام حاضر. «هذه صورتي وأنا ميت» عاد إلى العام 1983، من خلال ذاكرة مثقوبة، وتفاصيل مغيّبة أو غائبة، ورغبة في تدوير الزوايا، وفهم المخفيّ. العودة إلى ذاك العام مصوَّرة بتقنية المزج المعروف بين الوثائقي والمتخيّل، بغية إكمال المشهد برمّته، قبل البدء بعملية التفكيك وإعادة البناء: تفكيك التفاصيل المعروفة، وبناء الحكاية وفقاً للمُكتَشف.

كرديان عراقي وسوري، وعراقي واحد. ثلاثة أفلام. الوثائقيّ متوغّل في ذاكرة محطّمة وحقائق منثورة في خفايا الزمن. أو مقيم في الراهن، بحثاً في مفردات العيش في ظلّ الخراب. الروائي مختلف قليلاً: «حيّ الفزّاعات» للكرديّ العراقي حسن علي محمود (الخامسة بعد ظهر يومي 7/ 10 و8/ 10): قصّة مستلّة من حكاية أسطورية لسرد وقائع يومية في قرية كردية. القراءة النقدية للروائي الطويل الأول لمخرجه قادرة على تحرير المادّة الدرامية من أي إسقاط إنساني أو سياسي، وإن بدا الفيلم تلميحاً خفراً لمعاني السلطة والقمع والإبادة. «حي الفزّاعات» قابل لنقاش لا علاقة له بالإسقاط السياسي. ذهب بالأسطورة إلى ما هو أبعد من الحكاية. هناك أيضاً قضية كردية أخرى مثيرة للاهتمام السينمائي والنقاش النقدي: بيع كرديات إلى مصر، والاتّجار بهنّ. فضيحة إنسانية وأخلاقية سردها الكردي السوري مانو خليل في فيلمه الوثائقي «الأنفال، شظايا من الحياة والموت» (المجموعة السادسة من الأفلام الوثائقية والقصيرة: الخامسة بعد ظهر 11/ 10). القصّة الخيالية في «حي الفزّاعات» أضاءت جوانب من الحياة البائسة للأكراد داخل منظومتهم الاجتماعية الخاصّة بهم، ومن علاقتهم بالحاكم القامع: زعيم قرية كردية محتاج إلى تضافر جهود أبنائها لمكافحة الغربان المنقضّة على أرضه الزراعية. هناك سطوته وغضبه وتسلّطه وقمعه. طالب أهالي القرية بتجنيد صغارهم لخدمته. موت أحدهم في انفجار لغم أرضي به بدّل معطيات عدّة. القصّة الواقعية في «الأنفال» جعلت المادة أشبه بمتخيّل غرائبيّ. أما العراقي الشاب، يحيى حسن العلاّق، فمختلف قليلاً: «كولا» (المجموعة السادسة من الأفلام الوثائقية والقصيرة: الخامسة بعد ظهر 11/ 10) وثائقيّ عن أحوال مجتمع وبيئة وناس. عن أحوال راهنة: جنان ابنة الأعوام العشرة تجد نفسها مسؤولة عن توفير القوت لعائلتها، بعد إصابة والدها بمرض أقعده عن العمل. تتنكّر في هيئة صبيّ لحماية نفسها من وحوش المدينة والأزقّة. تعمل في مكبّ نفايات. تجمع علباً بلاستيكية فارغة لبيعها. القهر والألم سمتان. الفيلم متواضع الإمكانيات والمخيّلة الوثائقية.

السفير اللبنانية في

06/10/2011

 

«أميرتي الصغيرة» لإيفا إيونسكو

شـهــادة مـخـرجــة

نديم جرجورة 

بعد يومين اثنين على انتهاء الاستعادة السينمائية الجميلة لأفلام الإسباني لوي بونويل، تبدأ بعد ظهر اليوم العروض التجارية لفيلم فرنسي مختلف وصادم. الصالة واحدة: «متروبوليس» في «أمبير صوفيل» (الأشرفية). الفيلم قاس: «أميرتي الصغيرة» (فرنسا، 2011، 105 د.) لإيفا إيونسكو. افتتح الفيلم النسخة اللبنانية الخامسة لـ«أسبوع النقد»، مساء التاسع والعشرين من حزيران 2011، في الصالة البيروتية نفسها.

تصفية حساب

إنها حكاية أم وابنة. حكاية إبداع من نوع آخر: الصورة الفوتوغرافية وقدرتها على إحداث صدمة. على افتعال صدام مع انغلاق آنيّ ورفض لحالة بدت غريبة. العلاقة بين أم وابنة ركيزة درامية. لكن الإبداع الفوتوغرافي الذاهب بالأم والابنة معاً إلى ما وراء الحدود، شكّل اللحظة الأقوى في صنع اقتباس سينمائي لحالة معيشة. لحالة اختبرتها المخرجة نفسها قبل أعوام، فإذا بالصورة السينمائية تتيح لها «تصفية حساب» قاسية، بهدف امتلاك سلام داخليّ.

سلام داخلي؟ لا يُمكن الجزم. السينما، وإن منحت العامل المُبدع فيها إمكانية الخروج إلى عالم أرحب وأوسع وأكثر حرية وتفلّتاً، لا تستطيع جعل الحكايات كلّها بالغة الروعة. لا تستطيع أن تكون «تصفية حساب» دائماً. «أميرتي الصغيرة» أجمل من حصره في دائرة ضيّقة كهذه. أجمل من مقاربته عبر التشابه بين الشخصيّ والإبداعيّ. حكاية أم وابنة وفوتوغرافيا. حكاية قلق وغليان داخلي ساع لتحطيم أفكار وأسس، وعامل على ابتكار لغة مختلفة في التعاطي مع الجسد والروح. هذا كلّه قادر على تبرير الذهاب بالابنة الصغيرة إلى ما هو أبعد من جسد وروح: استخدامهما في صنع الإبداع أقلق أناساً رأوا في تحويل الابنة إلى مادة إغرائية اغتصاباً أخلاقياً ومعنوياً للابنة، المتمرّدة بدورها على سلطة أم، لا على سلطة مُبدعة فقط. سلام داخلي؟ ربما. لكن الصدام الحاصل بين الأم والابنة هنا، نابعٌ من إثراء النزاع الذاتيّ، بدلاً من جعل السينما أداة تنفيس فقط. «أميرتي الصغيرة»: فيلم متميّز بنصّ سينمائي متماسك في سرده الحكاية. بأداء جميل نجح في نقل الارتباكات والهواجس من الشخصيتين الرئيستين إلى خارج الشاشة (إيزابيل أوبير وآناماريا فارتولومي). بسلاسة بصرية في تحطيم الحدّ الفاصل بين الرغبة والواقع.

ارتكزت الحبكة الدرامية لـ«أميرتي الصغيرة» على إشكاليات إنسانية وأخلاقية وإبداعية. الفيلم دعوة إلى استعادة حقبة زمنية فرنسية (نهاية السبعينيات المنصرمة)، وإلى تفكيك أسئلة أصابت عمق الحراك الاجتماعي والثقافي والإنساني. فيلم مليء بالتوتر والارتباك والالتباسات النفسية والروحية والجسدية، الملتَقَطة بعدسة كاميرا بدت كأنها لا تعرف الهدوء أو الاستكانة إلى تداعيات المآزق المتشابكة بعضها مع البعض الآخر في ذات الفرد، كما في علاقته بنفسه وبالآخرين.

ما وراء المسموح

هناك، ببساطة واختصار، متعة خفية (أم أنها واضحة؟) في مراقبة نمو العلاقة الغريبة بين أم وابنتها. الأم فنانة فوتوغرافية ذهبت بعدسة الكاميرا إلى ما وراء الحدود المسموح بها أخلاقياً، كي تعيد صوغ المشهد الجسدي بعينيها المفتوحتين على الشبق والغريزة الجنسية. على تحرير الطفولة من حضورها المُعقّد (أم أنه تحرير ذات منكسرة في آلام المتاهات القاتلة؟). هناك أيضاً ابنة المرأة الفنانة، الضائعة بين إقامة مع جدّتها، واشتغال مع أمّها، ونزاع مع ذاتها. لديها جسد يتفتّح. لديها روح تسعى للانعتاق من ضيق العيش، أو من جنون اللحظة. وجدت نفسها، وإن لزمن قصير، في عدسة الكاميرا الفوتوغرافية. وجدت شيئاً يُشبه حرية منقوصة، أو تمرّداً على حالة، قبل أن تتمرّد هي نفسها على الكاميرا، وعلى العالم المخبّأ فيها، وعلى الأم الفنانة وهوسها بتجاوز الممكن والمعقول والمسموح به، وعلى ذات محطَّمة وتائهة.

في المجلة الفرنسية السينمائية «دفاتر السينما» (حزيران 2011)، ذكر تييري ميرانجي أن النصّ السينمائي لـ«أميرتي الصغيرة» مستلّ من حكاية تُشبهها، عاشتــها إيفا إيونسكو صغيرة. قال إن المخرجة اختيرت، عندما كانت في الرابعة من عمرها فقط، كـ«موديل». والدتها إيرينا فعلت هذا. وضعتها أمام عدسة الكاميرا الفوتوغرافية «في أكثر الأوضاع إثارة ومجوناً». هذا حاضرٌ في الفيلم، مع الإشارة إلى أن الابنة السينمائية تكبر الفـتاة الحقيقية بستة أعوام، كما لو أن المخرجة إيونسـكو رغبت في تحرير الفيلم مسبقاً من «تهمة» كونه سيرة ذاتية محضة. أو كأن إيونسكو جعلت فيلمها الروائي الطويل الأول هذا شـهادة حيّة وقاسية عن والدتها وذاتها، وعن العالم الذي وجدت نفسها فيه أيضاً. غير أن الأهمّ كامنٌ في براعة المخرجة في صوغ الحكايات كلّـها، والعلاقات كلّها.

السفير اللبنانية في

06/10/2011

 

نيكولاس ريفن يعيد التوازن إلى أفلام هوليوود!

كتب: واشنطن – آن هورنداي  

عام 2009، عندما طلب راين غوسلينغ من نيكولاس ويندينغ ريفن إخراج «الجولة» (Drive)، فيلم تشويق مؤثّر عن سائق سيارة يساعد الناس على الهرب، كان المخرج الدنماركي عالقاً في إحدى أسوأ مراحل العمل في هوليوود: مرحلة تطوير الفيلم قبل بدء الإنتاج.

كتبت الـ{واشنطن بوست» أن ريفن كان يحاول إقناع هاريسون فورد بضرورة أن تموت شخصيّته في فيلم التشويق الذي كانا يعملان عليه والذي يتمحور حول عمل وكالة الاستخبارات المركزية. ما زاد الأمر سوءاً هو أن المخرج، الذي يبلغ 40 عاماً ويعيش في كوبنهاغن مع زوجته وابنتيه، كان يعاني حينها من حالة زكام حاد. وحين قابل غوسلينغ للمرة الأولى، كان قد أفرط في تناول الأدوية، فطلب من الممثل، بعد عشاء هادئ  أن يوصله إلى الفندق الذي كان ينزل فيه في سانتا مونيكا.

تذكّر ريفن تلك الحادثة فيما كان يتناول فنجان قهوة خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن وقال: «كان الأمر أشبه بموعد سيئ مع شخص مجهول. وفجأةً أُذيعت على الراديو أغنية «لا أستطيع محاربة هذا الشعور بعد الآن» لفرقة «سبيد واغن» (REO Speedwagon). أنا أحد أشدّ المعجبين بحقبة الثمانينيات. في تلك الليلة، وجدتُ نفسي مريضاً جداً وقد فقدتُ توازني. كنتُ مشتاقاً إلى زوجتي وابنتيّ. وما كان هاريسون فورد ليقبل بأن تموت شخصيّته في الفيلم. خلال بضعة أشهر، كنتُ سأفلس لا محالة. كان الوضع كارثياً من جميع النواحي. فبدأتُ أبكي».

تابع ريفن بأن فكرة خطرت على باله فجأةً: «صرختُ في وجه راين: «وجدتُها!»، وجدتُ موضوع فيلم «الجولة»! سيتناول قصة رجل يتجوّل في سيارته ليلاً وهو يصغي إلى موسيقى البوب لأنها تمنحه راحة عاطفية». فأجابه راين: «موافق!».

بالنسبة إلى غوسلينغ، كانت تلك اللحظة أشبه بلحظة إلهام مدهشة. بعد قراءة سيناريو «الجولة» المقتبس من رواية للكاتب جيمس ساليس، قال غوسلينغ: «كنتُ أتمنى أن يكون هذا الفيلم عن شاب يتجوّل بالسيارة ويصغي إلى الموسيقى من دون الحاجة إلى المجازفات الكبرى ومشاهد السرعة، بل الاستسلام لسحر التجوّل في السيارة بكل بساطة. وإذا بي أجد ريفن بجانبي وهو يبكي ويغنّي. فتساءلتُ: كيف يُعقَل أن يراودنا الحلم نفسه؟ لم نتمكّن من إجراء حديث طبيعي، ومع ذلك تبيّن أننا نحلم بالمشروع نفسه. الغريب في الموضوع هو أن هذا الفيلم ما كان ليولد لولا سماع أغنية فرقة «سبيد واغن» على الراديو. كنتُ لأوصله إلى الفندق وكان الأمر لينتهي عند ذلك الحدّ».

لا تصغي الشخصية التي يجسّدها غوسلينغ إلى موسيقى البوب تحديداً بل تفضّل موسيقى التكنو. يشار إلى أن «الجولة» أكسب ريفن جائزة أفضل مخرج في مهرجان «كان» السينمائي لهذه السنة. لا يُذكَر اسم السائق مطلقاً طوال مدة الفيلم (سُمّي بالسائق ببساطة عند ظهور أسماء المشاركين في نهاية العمل)، وهو ينضمّ إلى لائحة طويلة من الأبطال الوحيدين الذين لا يتكلّمون كثيراً ويتجوّلون في شوارع المدن وهم في حالة دائمة من الانعزال والصمت، وقد أدى هذه الأدوار، طوال سنوات، كلٌّ من روبرت دي نيرو، ستيف ماكوين، راين أونيل، ولي مارفن. في «الجولة»، تشهد حياة السائق المكتفي ذاتياً نقطة تحوّل جذرية عندما يقابل جارته الجديدة والجميلة أيرين (كيري موليغان).

ينحدر ريفن من عائلة فنّية مرموقة: فوالدته فيبيكي مصوِّرة مشهورة ووالده أندرز محرِّر يعمل مع المخرج لارس فون ترير. حين تطلّق والداه، انتقل للعيش مع والدته وزوجها في مانهاتن حيث تعمّق في معرفة الثقافة الشعبية الأميركية بين سن الثامنة والسابعة عشرة، مع أن والديه كانا يعتبران هذه الثقافة «فاشية». حين بلغ الرابعة عشرة، شاهد سلسلة «مذبحة منشار تكساس» (The Texas Chainsaw Massacre) واتخذ قراره: «أريد أن أخرج مثل هذه الأعمال»!

روك آند رول

بعد عودته إلى كوبنهاغن، التحق ريفن بمدرسة السينما الدنماركية لكن سرعان ما تركها لإخراج أول عمل له بعنوان «تاجر المخدرات» (Pusher)، فيلم المافيا والجريمة الذي حقق نجاحاً كبيراً. سرعان ما عُرف بالطفل الجامح في السينما الدنماركية، وطالما حاول البقاء على مستوى هذا اللقب. تعليقاً على هذا الموضوع، يقول ريفن: «كنتُ شاباً أغوص في عالم «الروك آند رول» والمخدرات وجميع مظاهر الفساد، وكنتُ شخصاً لامبالياً… لذا كنتُ أعدّ أفلاماً منحرفة وجامحة كانت لتدمّرني شخصياً».

عام 2003، أخرج ريفن فيلم «الخوف إكس» (Fear X) مع جون تورتورو، وكان العمل كارثياً وأدى في النهاية إلى تراكم ديون هائلة عليه: «كنتُ في أواخر العشرينات من عمري وأدين بمليون دولار. في ما يتعلّق بمسيرتي المهنية، كنتُ أحد المخرجين الأوروبيين الذين يبالغون في طموحاتهم قبل أن يصطدموا بقساوة الواقع. في تلك الفترة، وُلدت ابنتي الأولى وانقلبت حياتي رأساً على عقب. فقد أصبحتُ أكثر إدراكاً لعواقب أفعالي وتأثيرها في الناس من حولي».

بعد إخراج جزئين من فيلم «تاجر المخدرات» على أمل التخلّص من الديون، أخرج ريفن الفيلمين اللذين لفتا الانتباه إليه في هوليوود: «برونسون» (Bronson)، قصة حياة مؤثرة عرضها ببراعة تامة عن القاتل المتسلسل البريطاني مايكل بيترسون (المعروف أيضاً باسم تشارلي برونسون)، وقدّم فيه توم هاردي أداء تمثيلياً لامعاً؛ و{نهوض فالهالا» (Valhalla Rising)، حكاية من القرون الوسطى من بطولة مادس ميكلسن بدور محارب اسكندينافي أعور يميل إلى استعراض قوّته الفطرية المشابهة لقوة الآلهة القدامى.

يقول بوب بيرني- شركته «فيلم ديستريكت» (FilmDistrict) هي التي ستصدر «الجولة»- إن ريفن في هذه المرحلة من حياته المهنية يذكّره بالفترة التي أُنتج فيها «التذكار» (Memento)، في إشارة إلى الفيلم الشهير الذي أخرجه كريس نولان الذي عاد وأخرج أفلام «الرجل الوطواط» (Batman)، بالإضافة إلى فيلم «البداية» (Inception). يرى بيرني أن ريفن يسير في الاتجاه نفسه، ويتابع قائلاً: «أشعر بأنه سيعيد التوازن بين أفلام هوليوود والمشاريع الشخصية أو المدعومة من أوروبا. لكن عليه أن يدرك هذا الواقع: طالما لستَ كريس نولن، فأنت لست الكاتب الأبرز في هوليوود. إنها معلومة بالغة الأهمية، لكني أظن أنه يستطيع تجاوز هذا الأمر».

بالنسبة إلى ريفن، يشكّل «الجولة» خاتمة لسلسلة أفلام عن رجال يشهدون تحوّلات عميقة في حياتهم. في المرحلة المقبلة، سيعمل مع غوسلينغ في فيلم «وحده الله يسامح» (Only God Forgives)، نسخة جديدة عن فيلم «مسيرة لوغان» (Logan’s Run)، وهو من كتابته الخاصة. ثم سيتوقّف عن العمل مع الشبان لفترة. تعليقاً على هذا الموضوع، يقول ريفن: «لا أحبّذ العمل مع الشبّان حصراً. أحب النساء وأنوثتهنّ. حتى أنني أخبرتُ الممثلة كيري موليغان بأن الفيلم المقبل الذي سأخرجه بعد العمل مع راين سيكون عن النساء حتماً وأنها ستؤدي فيه الدور الرئيس. هكذا كان اتفاقنا».

الجريدة الكويتية في

06/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)