حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

فيلم لنيكولا ويندينغ ريفن

« دريف » السائق.. القتــلة.. العشيقة وزوجها

زياد عبدالله

تلك العلاقة التي ستنشأ بين المشاهد وفيلم Drive «دريف» المعروض حالياً في دور العرض المحلية، لها أن تكون ملتبسة بعض الشيء، متعرجة تفضي إلى تلك النهايات التي تصرخ بالمشاهد بشيء من المحاكمات المنطقية، وانقسام الأفلام إلى نهاية سعيدة وأخرى حزينة وما إلى هنالك من كليشهات لها أن تصحو مع التعامل مع هذا الفيلم بوصفه فيلم «أكشن» سرعان ما يصبح غارقاً بالدماء. هذا التقديم، واستخدام كلمة «دريف» بدل «قيادة» لئلا تقدونا تلك الكلمة إلى قيادات أخرى غير قيادة السيارات، له أن يكون متحالفاً مع مخرجه الدنماركي نيكولا ويندينغ ريفن، الذي نال عنه جائزة أفضل مخرج في الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي، بحيث تحضر بدايته ونحن نرى شخصية الفيلم الرئيسة التي لا اسم لها سوى «السائق» أو«الدرايفر» (رايان غوسليك) وهو يتحدث بالهاتف مع أحد ما ويقول له : إنه سينتظر لخمس دقائق فقط وبعد ذلك سيمضي، وهذا ما سنراه متجسداً، وقد وضع السائق ساعته على المقود، ومعه جهاز «لا سلكي» يتيح له سماع مكالمات وتعليمات الشرطة بخصوص العملية التي يقوم به. بالفعل ينتظر لخمس دقائق أمام مكان ما يقوم اثنان بسرقته، ويخرجان، ويمضي بهما قبل وصول الشرطة بثوانٍ، ومن ثم تتم مطاردة السيارة التي يجري التعرف إليها، ونحن نسمع ذلك من خلال التنصت على اتصالات الشرطة، وينجح السائق بمنتهى الهدوء والثقة في تضليل سيارات الشرطة ومن ثم الطائرة، من دون أن يتبادل كلمة واحدة مع من معه في المقعد الخلفي.

بداية مشجعة تدفع المشاهد لأن يقرر مواصلة المشاهدة على مبدأ الـ10 الدقائق الأولى التي عليه أن تمسك بتلابيبه، وتبقيه ملتصقاً بمقعده، ولتكون في «دريف» حاضرة من الدقيقة الأولى، وكل ما نشاهده في البداية يعدنا بفيلم «أكشن» مصنوع بحنكة بصرية عالية، ولنشاهد السائق بعد ذلك بزي شرطي، ولنعتقد لثوانٍ أنه شرطي في النهار وسارق في الليل، لكن ذلك غير صحيح، فهو لا شيء إلا سائق سيارات، وزيه هذا ليس إلا لدور يؤديه في فيلم، كونه يعمل «دوبلر»، يقوم بتولي القيادة بدلاً من أبطال الفيلم في المطاردات الخطيرة، ولنراه يقوم بتصوير مشهد يتمثل في قيادته سيارة شرطة لتنقلب به، كما أنه يعمل ميكانيكياً لدى شانون (برايان كرانستون)، ويسعى الأخير لخوض غمار سباقات السيارات من خلال السائق والحصول على تمويل لذلك من قبل بريني (البرت بروك) الذي سيكون «غانغستر»، وإن لم يقل لنا ذلك في البداية، كما الحال مع أخيه نينو (رون برلمان).

في ما تقدم أشياء عن شخصية الفيلم الرئيسة وشخصيات أخرى، لكن علينا أن نضيف إلى السائق صفات مثل: الصمت، قلة الكلام، واستخدام أي إيماءة أو حركة لها أن تفي بالغرض بدل الكلام، كما أننا لن نعرف أي شيء عن خلفية هذا السائق، ولا حياته السابقة، التي لن تكون على سبيل المثال طفولة مثالية وحياة مستقرة رغيدة افتراضاً، فهو سرعان ما سيتعرف إلى جارته ايرين (كاري ماليغان) وابنها، التي ـ أي ايرين ـ يكون زوجها في السجن، وهنا سنكون بصدد البناء لحبكة الفيلم الرئيسة، فزوج ايرين ستاندرد (أوسكار اسحاق) سرعان ما سيخرج من السجن، من دون أن تتحول علاقة السائق بايرين إلى حب جارف، فهو أي السائق يبقى مستمتعاً بعلاقته مع ايرين وابنها، كلاهما معاً، رحلات ونزهات وذلك الدفء الذي تتيحه عائلة، وله أن يقول في الجزء الأخير في الفيلم إن ذلك أجمل ما حدث له في حياته.

ستاندرد زوج ايرين سيخرج من السجن ويستحضر معه مشكلاته، إنه مدين لعصابة بمبلغ من المال، وعليه أن يقوم بعملية سطو لمصلحة تلك العصابة لئلا يتعرضوا لزوجته وابنه، وعلى هدى ذلك سيتورط السائق معه، لا لشيء إلا لإنقاذ ايرين وابنها، وهنا سيعود السائق إلى الدقائق الخمس، لكن ذلك لن ينجح، ستكون النتيجة كارثية، واعتباراً من فشل عملية السطو سيدخل الفيلم في نفق طويل من القتل والقتل المضاد، وسنكتشف الجانب الحقيقي من بريني ونينو ونحن نخوض في بحر متلاطم من الدماء.

المدهش في فيلم «دريف» هو سرده، وتلك اللقطات ومعها زوايا الكاميرا، وللمونتاج أن يتكلم ويأخذنا بإيقاعه، وليست الإضاءة وحدها ما يدفعني للتعامل معه، كما لو أن «فيلم نوار» Film Noer ربما شخصية السائق نفسها ومن ثم القسوة، والعلاقات الملتبسة، وصولاً إلى ما يأخذني أيضاً إلى تارنتينو لكن على شيء أقرب لـ«خزان الكلاب» Reservoir Dogs تحديداً مع الجزء الأخير من الفيلم والمضي خلف نهايات تراجيدية مفتوحة على مصراعيها أمام سلسلة من الميتات، أو القتل الذي سيطال كل من فتح أبواب جهنم وقد كانت موصدة لحين، حيث الصراع الدرامي لن يحل إلا بهكذا قتل يوقظ صمت السائق ويحوله مباشرة من الصمت إلى الفعل، فمن يفعل لا حاجة له إلى الكلام، وهو في صراعه مع كل الذين يقتلهم لا يدافع إلا عن الحياة الطبيعية التي كان يتوق أن يعيشها، حياة أم وابنها، وبعيداً عن حبه للأم ايرين، الحب الذي لم ينغمس به تماماً لا هو ولا هي، ولم يتجاوز الأمر بينهما تبادل القبل في مصعد سرعان ما ينقطع بإقدام السائق على قتل من برفقتهم في المصعد بمنتهى الوحشية.

نيكولا ويندينغ ريفن يعدنا بالكثير، وبالعودة إلى «برنسون» 2009 فيلمه السابق على «دريف» حيث التمركز حول شخصية برنسون والسجن ومسرحته سيكون «دريف» انتقالاً إلى سياقات أخرى، ففي «برنسون» تحضر الأسطورة كما لو أنه خارج من فيلم للإنجليزي بيتر غرونواي «الطباخ، اللص، زوجته وعشيقها»، وكل ما يطمح إليه برنسون هو الشهرة التي يصنعها وهو محكوم بالسجن لسبع سنوات، بينما السجانون يفعلون المستحيل لترويض عنفه وما من فائدة، وهو يخاطبنا كما يفعل بجمهور أمامه وهو على خشبة المسرح، بينما يكون علينا في «دريف» ان نمضي مع قيادة السيارات وبسرعات جنونية للإطباق على القتل الوقائي، بحيث يصبح الوقائي مجزرة أو نهاية تراجيدية إغريقية.

الإمارات اليوم في

22/09/2011

 

5 دراهـــم إضافية نريدها سينمائية

زياد عبدالله 

تذكرة السينما أصبحت 35 درهماً بدلاً من 30 درهماً، المبلغ الذي اعتدنا دفعه في ما مضى، وبالطبع فإنني هنا لن أخوض في أسباب ذلك أو دوافع أصحاب دور العرض ومبرراتهم وما إلى هنالك مما اتركه لأحد غيري، لكن سأمضي بعيداً عن الأسباب الاقتصادية إلى الفنية منها، من دون حسد أو «ضيقة عين» للأرباح المهولة التي تجنيها دور العرض كون ذلك هدفها الوحيد والأوحد، ومعها مبيعات الناتشوز والفوشار والكولا، وأشياء أخرى يدفع المشاهد ثمنها بما يتخطى سعر التذكرة، السعر القديم أو الجديد لا فرق، وكذلك الأمر بالنسبة للأفلام الثلاثية الأبعاد التي تبدأ بـ50 درهماً ومعها مقاعد «في آي بي» التي يضاف إليها 10 دراهم. ما أتناوله هنا يحمل صيغة التمني، أي أن تكون القيمة المضافة على السعر، قيمة مضافة على الجودة، بالمعنى الفني للكلمة، وبالتالي توسيع الخيارات أمام المشاهدين، وألا تكون منحصرة فقط في أحدث الانتاجات الهوليوودية والبوليوودية، وبعض الأفلام العربية الهابطة، كما لو أنها السينما، كل السينما، ولا شيء يحدث في أي مكان آخر من العالم، وأن تتسع دور العرض للفعل الثقافي وألا تقتصر فقط على دورها الترفيهي الآتي من دافع واحد يتمثل في تحقيق الأرباح فقط لا غير. كل ذلك نابع من التطلع لأن تلعب دور العرض دوراً ثقافياً، أن يكون لها موطئ قدم في عملية التثقيف السينمائي عبر تفعليها مساحة ولو صغيرة للسينما المغايرة، كأن تخصص أصغر قاعة لديها لهذه المهمة، وأن يكون في متناول المشاهد أن يقرر لا أن يجبر دائماً على مشاهدة نوع واحد من السينما، ولا شيء يتحرك فيه إلا الأدرينالين، كون الأغلبية العظمى من الأفلام لا تحمل شيئاً إلا الرعب والتشويق والإثارة، مهما كان الفيلم ومهما كانت سويته، لا بل إن دُور العرض مستعدة أن تعرض فيلماً مضى على إنتاجه سنتان إن استوفى تلك الشروط، وحين لا تجد ذلك فحينها فقط تقبل بأفلام غير هوليوودية إن كانت هذه الأخيرة حمّالة تشويق وإثارة فتعرضها بنسخ مدبلجة. أفكر في الخمسة دراهم الإضافية في هذا النحو، أن تكون إضافة مالية جديدة يمضي قسم منها في منحى ثقافي، ينحاز بعض الشيء للسينما في تجلياتها الفنية والإبداعية، ولا بأس أن تكون هذه الأفلام المغايرة لا تحقق أرباحاً خيالية، لا بأس أن تكون هذه الأفلام حاضرة خارج مهرجانات السينما في الدولة (دبي وأبوظبي والخليج) التي تحولت إلى الفرصة الوحيدة المتاحة للمشاهد المحلي أن يشاهد تلك الأفلام في صالة عرض، وما عدا ذلك فليس أمامه سوى السعي إلى تلك الأفلام خارج عتمة الصالة.

الترفيهي لا يتعارض مع الثقافي والعكس صحيح، والمساحة الحالية المتاحة أمامنا في دور العرض تقول لنا غير ذلك. وفي تتبع لمبدأ العرض والطلب، فلي أن أقول إن هذا طلب أيضاً لا يقابل بعرض، طلب تجب تلبيته على أساس أن السينما الرابحة قد تكون في مكان آخر، غير السينما المضمونة الربح.

الإمارات اليوم في

22/09/2011

 

منامات محمد ملص في«مذاق البلح»

سامر محمد اسماعيل 

«اليوم شفتك بالمنام في دهليز طويل، وكنتِ كامرأةٍ من الشام تقف وسط الدهليز حافية القدمين، وقد انفلت الزر العلوي في ثوبها، وبان شيء من صدرها الأبيض، وهي تنحني وتسفح الماء على الرخام المعروق»

ليس غريباً أن تحضر المنامات بكثافة في كتابه «مذاق البلح - صادر حديثاً عن دار رفوف للنشر بدمشق» فالسينمائي المشغول ببصرياته المتنوعة في إطلالاتها على الحياة السورية، ما زال ينبش في ذاكرة الأمكنة محوّلاً إياها إلى أزمنة فيلمية، وهوفي ذلك يقتفي شريط حياته السينمائي بكل ما أوتي من قوة وتركيز وجداني وعقلي، ففي مساحة «غرفته المضيئة» ما يزال محمد ملص يدلف من غرف المونتاج إلى حجرة تشغيل الأفلام، يتفقد حياته الأصلية، لكنه لا يجدها إلا على هيئة أفلام متداخلة، منها ما أُنجز، ومنها ما ينتظره، وما بدلتْ تبديلا، هكذا سيحلم الرجل وهو يمرر أرشيف مناماته على بكَرةِ العمر بأستاذه تالانكين مشرفاً على سنوات دراسته بمعهد موسكو العالي للسينما، ليتبدى له معلمه الروسي في صورة جده لأمه: «كان تالانكين في المنام عصبي النظرة، ويرتدي لباساً داخلياً، وكأنه الجد في فيلم أحلام المدينة، يحوص تالانكين بلباسه هذا، في قاعة تبدوكأنها زنزانة جماعية في سجن قلعة دمشق» هذا المشهد لن يكون أقل غرائبية من مشهدٍ آخر يرويه ملص باندهاشٍ كبير «في المنام شاهدتُ أمي، وقد تزوجت رجلاً يشبه كثيراً ذلك العامل الذي ينقل على عربته الصغيرة الأفلام من مستودع مؤسسة السينما إلى الصالات وبالعكس..»، بين حلمه الأول الذي دوّنه عن مشاركته كعضو لجنة تحكيم في مهرجان قرطاج السينمائي 1986، وحلمه الثاني في مفكرة برلين 1998 أثناء اشتغاله مع المخرج العراقي قيس الزبيدي على مونتاج فيلم «حلب مقامات المسرّة» عن شيخ الطرب الحلبي صبري مدلل؛ يسرد صاحب فيلم «فوق الرمل تحت الشمس» ما يشبه سيناريو أدبياً عن حياته، حيث لا يمكن التوقف كثيراً عند أسماء بعينها قبل النفاذ إلى مزاج أدبي خاص في لغة تقترب من الرواية البصرية، رواية تتبدى فيها تحولات السرد بين الواقعي والمتخيل والافتراضي، تتفتح هنا مشاهد العمر على سينما أخاذة ومؤثرة، ضمير المتكلم هنا ينزع نحو كتابة توليدية تحيل كل شيء إلى صورة، فيما تعمل حساسية هذا الأدب السينمائي على منتجة الذكريات دافعةً بها إلى شاشة الوعي بالأشياء والعالم كسلالة من صور لا تنتهي وفق تعدد الذات الروائية وتحولاتها.

يفتتح السينمائي السوري كتاب مناماته ببورتريه شيّق لصنع الله إبراهيم، يوم جمعتهما الغرفة 403 في معهد موسكو، والصداقة الكبيرة التي بدأت بينه وبين صاحب «تلك الرائحة» بعد رواية هذا الأخير لقصة اعتقاله عام 1959 كشيوعي مصري مناوئ للناصرية، تحضر في «مفكرة موسكو» أحداث كثيرة تعكس الحياة السوفياتية في عهد بريجنيف، لا سيما بعد اندلاع حرب أكتوبر عام 1973، فيما تتجاور الخطط الروائية لصاحب «نجمة أغسطس» مع سيناريوهات المخرج السوري، تتقاطع وفق مبدأ التزامن بين الصوت والصورة قسمات ذلك الدور الذي أعطاه ملص للروائي المصري في فيلم بناه من ذكريات السجن، وحكايات اعتقال المثقفين المصريين؛ خطوات أولى نحو سينما تقيس المسافة بين سرعتين؛ الصوت إلى الأذن والضوء إلى العين، مع قصاصات جرائد الأهرام والجمهورية التي عكف صنع الله على استخلاص مادته الروائية منها، تجارب عدة يخرج بها ملص مع صديق غرفة الدراسة، مشاويرهما تحت ثلج موسكو السبعينيات، فبينما يكتب صنع الله مفكرة عن سجنه صارخاً: «ياعالم أنا عايز امرأة» يفكر ملص في الأخبار الكاذبة عن انتصارات حزيران 1967 التي كانت الصحف المصرية تدسها إلى المثقفين داخل السجن: «في استعراض صنع الله للصور والنماذج والأفراد، أدركتُ أن هذه الحمى لدى النظام في القضاء على هؤلاء، استهدفت خيرة المثقفين والمبدعين الفعّالين في حياة المجتمع المصري، وجعلتني أتوهم أن كل المثقفين المصريين شيوعيون».

يشكل الحلم مادة لفسيفساء سردية في كتاب يفتح عدسة المخيلة على ذاكرة ملص المشتهاة، فمن سيرة الشاعر الأرمني «سيات نوفا» في «لون الرمان» لمخرجه برادجانوف، إلى روزا لوكسمبورغ، وآراء رولان بارت في الفوتوغرافيا يتبع صاحب «المنام» حيواته الأخرى، يسير على طريق فيليني مستيقظاً من نومه ليدوّن أحلامه، لكن السينمائي السوري يبرع في إنجاز اللقطات العامة، اللقطات المسرنمة لعالمه المتخيل، ففي حجرة تحميض الأحلام هذه يسترخي إلى مذاق مناماته، إلى تشظي اللقطة من جديد على هذا النحو جاعلاً من «العين عدسة ومن الفوتوغراف مناماً»، لما لا و«الأحلام هي الحقيقة الوحيدة» حيث يتشابك ملص على طريقة «جاروميل»بطل رواية «الحياة هي في مكان آخر» لميلان كونديرا، الحلم داخل الحلم، السينما داخل السينما، الصورة داخل الصورة، وهكذا إلى ما لا نهاية، ليصير من الصعب التوقف عند الصورة الأصلية، ربما هوعالم العجائب، غابة المرايا التي يسرح الكاتب بين دهاليز متاهاتها البصرية، ليتحول الواقعي إلى ما يشبه الأسطورة: «كان ميشيل سورا أشبه بحبات مطر على نافذة بيته الأبيض، يطل عبر زجاجها ليرى هل عزمنا على تحقيق فيلم ما، أم ما نزال نقلّب الأمور بعد، ليعرف أيضاً هل انتهت زوجته من احتذاء حدوة الحصان..بينما كانت رندة الشهال تطلق زمور سيارتها في الأسفل، وتنادي من وراء زجاجها أن نهبط لتأخذنا إلى أماكن التماس، «الليتموتيف» المتكرر لبيروت في النهار وفي الليل من عام 1982».

في «مذاق البلح» تبدورغبة ملص قوية لمنتجة المصائر والشخصيات التي مرت في حياته، فمن مفكرة إلى أخرى تتكشف لحظات سحرية، كواليس لجان تحكيم المهرجانات السينمائية، فمن خلال انفتاح النص على أزمنة متعددة يسرد لنا المؤلف في «مفكرة برلين» تفاصيل عن حياة عابقة بإطلالات سينما الطريق، سينما تطل منها عيونه من وراء نافذة قطار يحاذي الوجه الشرقي لسور برلين، إلى مهرجان لايبزيغ للأفلام الوثائقية عام 1986، تعاود كاميرا النفس استعادة طريقها بين ألمانيا شرقية وغربية: «الإشارات المرسومة على طرفي الطريق، تشعرك بهذا الانشطار بين الألمانيتين، فترى بعينك معنى التمزق، وقد بدا لي هذا التقسيم أشبه بديكور سينمائي لأداء مشهد (الأمة المذنبة)» لنصل بعدها إلى مقطع «سينمائيون في البيجامات» فنركب مع الكاتب في قطارٍ آخر، حيث يتراجع الزمن إلى رحلة أقلّته ذات مساء من باريس إلى مهرجان مونبيليه السينمائي، قطار ليلي لأسئلة يطرحها الرجل على نفسه، عن المرأة، قصص الحب والجسد، المصادر الشخصية والذاتية للإحساس بالشهوة، المرجعيات المرئية والحكائية لظهور الشهوة والإحساس بها، أسئلة عن نساءٍ يثرن الشهوة ويؤججنها عبر سنوات العمر وقطاراته المتتابعة، هي الذاكرة البعيدة لسينمائي يصوّر مناماته على إيقاع اهتزازات قطار ليلي: «تذكرتُ ركبة يترجرج على انطوائها لون لهيب الموقد، وحلمة ضاقت بانحباسها فانفلت الثدي من حمّالته، وساقاً بيضاء تصعد إلى السماء على سلمٍ خشبي».

لا يترك صاحب «باب المقام» حياةً خارج مناماته، حتى تلك التي تطبعها الذاكرة على هيئة سخرية لاذعة تبدو في الكتاب أكثر قرباً وفق الركون إلى ساعة الحلم، تقديمها من حيث كانت قد انتهت، محاولة لتفادي معنى «الحياة كنوع من الأدب الرديء» كما يقول ماركيز، لكن المنامات تتواصل مستغرقة في زمن الحكاية السينمائية، في «الرشز» العام للعيش السينمائي، تحويل الأشياء إلى رشز كما يقول المؤلف في مناجاة داخلية بينه وبين صديقه المخرج قيس الزبيدي، أو كما يطيب لبريخت أن يقول: «التفكير هو التغيير». من هنا يمكن ترجيع الزمن في يوميات البلح ومذاقاته المتعددة، إلى مذاق آخر من مذاقات الاستدعاء المرير، استحضار روح المسرحي السوري الراحل شريف شاكر، ففي بورتريه خاص لصديق الكاتب عنونه على النحو الآتي «لا يحدث للإنسان ما يستحقه بل ما يشبهه»، يتم الانتقال إلى عام 1968 ولكن هذه المرة على متن طائرة من دمشق إلى موسكو، يلتقي شاكر وملص للمرة الأولى كطالبين سوريين يغادران وطنهما في منحة للدراسة، ليهبطا على خشبة مسرح «تاجانكي» في عرض «ساعة الخروج» للمخرج الروسي الكبير لوبيموف، كانت ضحكة المسرحي الراحل مجلجلة تحت ثلوج موسكوعندما حمل البوح ملص على التفكير بأداء دور هاملت: «اسمعوا..حين اقرأ اليوم في مفكرة موسكو كلمة ريبرتوار، أراكَ تصعد أدراج المؤسسات الرسمية، وتقرع أبواب الإدارات..تهبط أدراجاً وأنت تردد على مسامع الجميع سعيك هذا لتأسيس ريبرتوار لمسرح سوري، فأحس أننا كلنا في هذا البلد نشبه ذاك الذي كان يوماً يسير في شوارع دمشق ويردد: يا عصفوري! يا عصفور!».

وكما يؤكد الكاتب على حاجة السينمائي إلى وحدة الأحاسيس في كامل مراحل تحقيق الفيلم، يعود ملص إلى لقطات ولوحات وومضات متنوعة بشخصياتها وأحداثها وأمكنتها ورواياتها، ليس أدب السيرة الذاتية، بل هي الرغبة في تحقيق وحدة الأحاسيس اتجاه المنجز البصري، الهاجس الدائم برفاق الدرب: «عمر أميرالاي الذي يطل من مفكرة العطالة يبدو هنا أكثر شباباً وفتوةً، جنباً إلى جنب مع ميشيل كيلو: «في ذاك النهار جاؤوا إلى بيت أبو الميش وأخذوه، وفي المنام كانت المساجد تشبه المتاحف المليــئة بالمرايا، وأنا تائه داخلها في عالم من الانعكاسات المتقابلة والغريبة».

إذاً هي الرغبة لدى محمد ملص في التوازن من جديد كما يقول بين الممكن والمراد، حتى لا يصل القلب إلى «الأربعمئة ضربة» كما في فيلم فرانسوا تروفوالأول، الحد الأقسى لاحتمال هذه العضلة اللاإرادية، ربما لهذا ينهي الكاتب مفكرة عطالته بمنامه التالي: «في الليل شاهدتُ نفسي وأناساً آخرين في المنام، كنا كأننا قطع من القماش المسقسق بالماء، ومنشوراً على سلالم ملتفة من الخشب، كانت تبدو وكأنها سلالم مئذنة ما، وكلنا نطل بأنظارنا إلى الأعلى بفرح منتظرين شيئاً ما أو أحداً ما، حين تناهى إلينا نداء من الأسفل، التفتنا إلى القاع، فشاهدنا ذاك العجوز الذي نحبه، وقد خرج الآن من السجن، فتصادت أنغام: سوريا يا حبيبتي، أعدتِ لي كرامتي! وملأت المنام».

(كاتب سوري)

السفير اللبنانية في

23/09/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)