عندما يصعد جنريك الفيلم ومعه أسماء الممثلين
وفريق العمل، لا يحتاج المرء الى أكثر من ثوانٍ ليدرك انه صُفع واغتُصب من
حيث لم
يدر. فما يأتي به دوني فيلنوف في هذا الشريط ليس مزحة ولا نزوة مخرج لم يعد
الواقع
الكندي يلهمه، فحمل كاميراه ذاهباً عند "المتخلفين" العرب، حيث
الذبح على الهوية،
والأديان المتصارعة، والعلاقات العائلية المكلومة. نحن حيال عمل أساسي ينظر
الينا
من قريب وبعيد في الحين نفسه، ومن الداخل والخارج في اللحظة ذاتها. أهمية
الفيلم
كامنة في هذه المسافة الافتراضية الملقاة على عاتق الكاميرا.
انها قصة مختلقة بيد
أن تفاصيلها تذكّر بتاريخ دموي انزلق فيه الشرق الأوسط ولا نزال نعاني منه.
في سبيل
الحديث عن حقبات متشعبة، مأساتها واحدة ومتشابهة ونقل هذا كله الى الشاشة،
ينحاز
النصّ الى الصيغة المثلى لتكريس فكرة التراجيديا التي ستجرف كل
شيء على طريقها.
انها "ماتريوشكا" الدمى الروسية لكن على نحو معكوس. أي ان الدمى تخرج من
قمقمها، من
الأصغر الى الأكبر. كل واقعة تكشف عن واقعة أخرى. كل لعنة داخلها لعنة
ثانية. كل
مأساة تصبح أقل ايلاماً في مواجهة المأساة المقبلة. والآتي دائماً أعظم
وصولاً الى
الانهيار الأخير.
نصّ المسرحي اللبناني وجدي معوّض هو الأصل الأدبي لهذا الفيلم
الذي عُرض في قسم "أيام البندقية"، ضمن واحد من أشهر
المهرجانات في العالم:
فينيسيا. انه الخامس للكندي دوني فيلنوف الذي سبق أن قدّم أعمالاً لها ما
لها من
قيمة، وهو لقي استحساناً كبيراً من النقاد والجمهور لدى الكشف عن تفاصيله
في
المهرجان الايطالي، حدّ ان كثيرين سألوا عن سبب عدم عرضه في
المسابقة الرسمية.
انها قصة شاب كندي وأخته (مكسيم غوديت، ميليسا ديزورمو بولان) يذهبان للبحث
عن
ماضي والدتهما التي ولدت وعاشت في الشرق الأوسط قبل ان تهاجر
الى كندا، وعرفت كل
أنواع القهر والتعذيب على خلفية حرب عبثية دائرة بين أطراف متخاصمين. انها
واحدة من
هذه القصص التي سمع عنها كل منّا، لكن السينما لم تجرؤ بعد على أفلمتها.
كل شيء
يبدأ في كندا حيث يشرح الكاتب العدل لهما الشرط الذي وضعته والدتهما لينتقل
الارث
اليهما ويتمكنا من دفنها وفق الأصول والأعراف الدينية، قبل
فترة من انتقالهما في
مغامرة ستأخذهما الى حافة الجحيم. ثم ينتقل الفيلم الى احدى القرى التي من
المفترض
ان تكون قرية لبنانية ذات غالبية مسيحية في حقبة ما قبل اندلاع الحرب
الأهلية
السيئة الذكر. شابان يقتلان فلسطينياً. والدة التوأمين
اليتيمين، نوال (لبنى
أزابال)، كانت حاملة منه. بيئتها المسيحية المتشددة ستُعاملها أقسى أنواع
التعامل
بسبب هذا الحمل غير المرغوب فيه.
هذا الحدث الهامشي ستكون له تداعيات فظيعة على
المنطقة التي تعيش غلياناً طائفياً وكراهية حادة بين من يعتبرون أنفسهم
أضداداً،
قبل أن تأتي الحرب الأهلية لتجرف كل شيء، الأخضر واليابس، مقحمة أياهم في
دمار شبه
كامل للكرامة الانسانية. ستكون نوال أولى ضحايا هذه الحرب الدائرة وذئابها.
الممثلة
المغربية البلجيكية لبنى أزابال تضطلع بدورها، وتعرف كيف تحرك
المشاعر وتنتقل من
حالة نفسية الى أخرى، عبر استخدام الكثير من الصمت في ادائها الجاف. وجهها
سترتسم
عليه قليلاً قليلاً، خريطة الشرق الأوسط ومعاناته. تستعين أزابال بتقنية
الاقتصاد
لإيصال رسالتها في فيلم اختزالي بامتياز. النتيجة: ساعتان وعشر
دقائق من "هزّ
الأبدان" ضمن شريط عميق انسانياً ألهب الحضور في عرض تاريخي في البندقية
(أيلول
الماضي) وسحق قلوب الكثيرين، ولا سيما أن النهاية صادمة والوصول اليها
يحتاج الى
المرور عبر جحيم الحرب الأهلية اللبنانية التي يفضل فيلنوف عدم تسميتها
وحصرها
تاريخياً في اطار "الحكاية الكونية اللماحة"، لا بل الذهاب بها
الى ما خلف
المسميات، لإضفاء بُعد كوني على الحوادث، وصولاً الى تجريد مستحب
للتراجيديا، لا
يعود الخلط في اللهجات معه شأناً مهماً. القرية، التي تبدأ فيها الحوادث،
شيء أشبه
بقرية "دوغفيل" للارس فون ترير. على رغم هذا، نعلم ضمنياً اننا
في لبنان اذ كل شيء
يشير الى ذلك على رغم عدم لفظ كلمة لبنان طوال الفيلم ولو لمرة واحدة. يرى
فيلنوف
ان السينما هي هذا المكان المثالي لتصوير الحروب والنزاعات التي لا فكاك
منها،
ولإظهار مدى حماقة الجماعات المتقوقعة والمتطرفة في تعاملها
بعضها مع البعض
الآخر.
الأصل الادبي بديع، على قدر عالٍ من الابتكار، وذو مغزى ورؤية يضعان
الفيلم في مرتبة الأعمال التي يصعب تقليدها من دون الوقوع في
فخّ الميلودراما
والبكائيات السطحية. هنا الدمعة قد تتدحرج على الخد، لكنها دمعة لا تأتي
فقط من
الحكاية التي تخطفنا الى قلبها، بل مما توحي به. يحوك مخرج "بوليتيكنيك"
قصة
متداخلة ومتشعبة، فيها استعادات زمنية كثيرة، انطلاقاً من فكرة "المعالجة
بالألم"،
مقارباً تيمات مثل الذاكرة الجمعية واليد النسائية في تكوين المجتمع، كان
له وقفات
معها في أفلامه السابقة. نوال شخصية رمزية سيطاردها المخرج من مكان الى آخر
ليصوّرها حيناً بحبّ وحيناً آخر بحنان وعطف. على رغم كل ما
ستتعرض له، لن تفقد
الأنسنة التي تضيء شمعة التسامح التي في داخلها. معاناتها هي معاناة سهى
بشارة
وجميلة بوحيرد، اللتين صمدتا في وجه المظالم والاستبداد ودفعتا أثماناً
باهظة جداً.
أما الثمن هنا فيصعب تخيله.
الحبكة القصصية ذات أهمية قصوى في "حرائق". فهي
نُسجت كي تتابع بشوق. رغبة فيلنوف في الأسلبة ومحو الأسلبة في
الوقت نفسه، لا
توازيها الا قدراته الصناعية في فرض نمط مشدود لا يضعف ولا يتهاوى ولو
للحظة. الحرب
حاضرة في أقل لقطة، لكن ذكراها أقوى لمن عاشها ولم يمت. هي حرب لا تزال
قائمة في
النفوس. يسأل معوّض: هذه الحرب ولدت مسوخاً على مرّ السنين، لا
بد ان المسوخ هؤلاء
بيننا، وهم أولادنا أو آباؤنا أو أزواجنا! بالتأكيد ستجد نوال مخرجاً للعنف
الذي
أكل لحمها، لكن آثار الجريمة المجتمعية ستظل معها الى الأبد، وليس فقط
معها، بل مع
ولديها أيضاً. وسيكون عليهم جميعاً العيش مع هذا الالم الذي لا يمكن حتى
الانتقام
منه لأن صانعه أقرب المقرّبين.
يعمل الفيلم بعكس منطق الانتقام السهل أو
الادانة. واذا كان صحيحاً انه يتبنى وجهة نظر المسيحيين ممن قاتلوا خلال
الحرب، فلا
يتبنى في المقابل أفعال المسيحيين ولا أقوالهم. الآخر بالنسبة الى معوض
مرآة نرى
فيها ذاتنا. نحن أمام فيلم مسالم لا يسقط في الخطاب السلمي
الساذج، بل كل ما يدعو
اليه هو أن نتشارك المسؤولية في ما حصل وقد يتكرر الى ما لا نهاية، اذا لم
نضع حداً
لدائرة الغضب الذي يولّد سلسلة مترابطة من أعمال العنف والضغينة. يتجاوز
الفيلم
مفهومي الحرب والسلم ليدنو الى بسيكولوجيا أكثر عمقاً، وهنا
فهم فيلنوف ما لم يفهمه
كثر من السينمائيين اللبنانيين: مسألة رابط الدم القادر على غفران ما لا
يغتفر.
يحكي فيلنوف قصته بهدوء مبدع. قصة قد توجد مثيلات لها في لبنان وبلدان
عربية
أخرى، لكن ثقافة الكتمان تحول دون خروجها الى الضوء. كونه غير
لبناني، هذا يسمح بأن
يأخذ مسافة من المادة المطروحة، من دون السقوط في عيب الاستشراق البليد.
يأخذنا
فيلنوف في رحلة الى بطن الاثم، لن تكتمل حلقتها الأخيرة الا عبر البوح
والعودة الى
الاصول والبحث عن الحقيقة المؤلمة. نخرج من الفيلم باقتناع
مفاده ان ثمة أشياء من
الأفضل الاّ نعرفها. وعلى رغم كل ما سنشاهده من فظاعات طوال التجربة
المؤلمة لنوال،
فسقطة الختام المأسوية هي التي ستحسم موقع الفيلم على خريطة السينما
التراجيدية.
كان من الممكن أن يقع فيلنوف في فخّ الكاريكاتور اللاإرداي، الا انه استطاع
الإمساك
بخيوط تلك السقطة، لأنه يحافظ على طول الخط بتلك الصرامة الاخراجية والصدق
الذي قلّ
نظيره في السينما التي ينجزها غربيون عن الشرق الاوسط.
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
مهرجان
الدورة الثالثة عشرة لمهرجان تسالونيك: بعيداً من وسائل
الإعلام المراوغة...
ديمتري أيبيديس يأمل من الوثائقي أن يجعل الـمُشاهد
"ناخباً أفضل"!
هوفيك حبشيان/
تسالونيك...
أسسّ ديمتري أيبيديس المهرجان قبل 12
عاماً، وهو لا يخفي اعتزازه به اليوم، لأن "الأمور تجري على ما يرام"، برغم
الأزمة الاقتصادية والتضييق المالي على كل ما يتعلق بالفنّ والثقافة في
اليونان.
بابتسامة خجولة ورقيقة يقدّم أجوبته عن أسئلة عشوائية أرشقه بها في مكتبه
الذي
يتشاركه مع موظفة أخرى. "نحن ناس بسطاء"، يقول لي، مستبقاً سؤالي عن أوضاع
المهرجان، وقاطعاً عليّ الطريق نحو مزيد من المفاجآت عن الظروف
اللوجستية للمهرجان.
فالداخل الى أروقة المقر القديم الذي يطلّ على ساحة أرسطوطاليس الصاخبة
والمحاذية
للشاطئ الجميل، يجد نفسه وسط زحمة من الوجوه تجهل ما اذا كانت هنا لتكتب
مقالاً، أو
لتقدم فيلماً أو انها من الطاقم الذي ينظّم الحدث. مساحات
ضيقة، غرف كسا الدهان
الأبيض الباهت جدرانها، ملصقات موزعة في كل الزوايا، ديكور وظيفي لا يتحمل
أي
غلامور؛ الواضح أننا في ادارة تأخذ السينما على محمل الجد!
تترجح هوية المهرجان
بين السائد والميل الى بلورة فكرة "عالم سفلي" تجد تعبيرها البصري في
الملصق:
مجموعة أعواد ثقاب على خلفية بيضاء. يقول
أيبيديس ممازحاً انه يريد اشعال النار. ثم
بنبرة أكثر جدية يعلن ان الهدف من أعواد الثقاب على الملصق
الاتيان بالشرارة والضوء
والديناميكية الى حياة الناس. قبل التأسيس، عمل أيبيديس في مجالات عدة،
أبرزها
تعليم مادة السينما في "منفاه" الكندي، حيث كان ينظّم أيضاً اسبوعاً
سينمائياً.
تولّيه قسم "آفاق جديدة" في مهرجان
تسالونيك الدولي الذي عُقدت دورته الـ51 السنة
الماضية، لثلاثة عشر عاماً، سمح له بالصعود تدريجاً الى طموحات
ذات شأن. من
المهرجان الأب، أخذ التمويل والدعم المعنوي ليحلّق بجناحيه في مغامرة
أوصلته الى
موعد سنوي مع السينما التسجيلية اصبح الثاني في أوروبا من حيث الأهمية بعد
مهرجان
أمستردام للفيلم الوثائقي. بدءاً من العام الفائت يترأس أيضاً
مهرجان تسالونيك
الدولي، الذي تُعقد دورته المقبلة في تشرين الثاني. تعيين أيبيديس خلفاً
لدسبينا
موزاكي على رأس المهرجان اليوناني الأبرز، جاء في ظروف عصيبة بعد أشهر
قليلة من
وقوع اليونان في الدوامة الاقتصادية التي لم تخرج منها الى
الآن. أدّت الأزمة
طبعاً، الى تقليص جزء من الموازنة التي بلغت سبعة ملايين أورو في السنوات
الماضية.
لكن أحلام أيبيديس ظلت محافظة على حجمها.
درس أيبيديس السينما في جامعة لندن
وحمل شهادة في الأدب من جامعة سان فرنسيسكو وايضاً في المسرح من الأكاديمية
الأميركية للتمثيل. له كذلك يد في اطلاق مهرجان مونتريال، وعمل لسنوات
كمبرمج في
تورونتو. له مساهمات في التعريف بالسينما الايرانية حول
العالم، وهو وجه معروف في
التلفزيون اليوناني حيث يقدم برنامجاً اسبوعياً يعنى بشؤون الفيلم
الوثائقي. وكان
مخططه "كما كثيرين"، أن ينجز الأفلام، لكنه لم يدخل مجال الاخراج كونه عاش
كمغترب
لسنوات طويلة في مونتريال. "هذه قصتي"، يقول، بعد أقل من خمس دقائق على
لقائنا في
ثالث أيام المهرجان، كأن ليس عنده الكثير ليقوله عن نفسه. بسرعة ختمنا
الحديث عنه
وانتقلنا الى دردشة عن المسألة التي تشغلنا هنا: الفيلم
الوثائفي.
كان مهرجان
تسالونيك للفيلم الوثائقي أصغر حجماً عندما عقدت دورته الأولى عام 1999.
يقول
أيبيديس انه كان يريد منه أن يشكل مصدراً موازياً للمعلومات.
فاليونان بالنسبة اليه
بلد محافظ وملتزم الأخبار الصادرة عن الصحف المحلية ومحطات التلفزة
الرسمية. وهو
يؤمن بأن الوسائل الاعلامية هذه تخضع لمنطق التلاعب والمراوغة لأنها تأتي
بمصادرها
من الوكالة الوطنية ووكالات الاعلام الأجنبية ذات الميول الأميركية. "أنا
لا أثق
بهؤلاء. وما نقدّمه نحن من أفلام في هذا المهرجان يتناقض مع ما يقدّمونه.
رؤيتهم
للعالم تتماشى مع السياسة، والسياسة نعلم ما هي عليه. كنت أجد
ان ما نحن في حاجة
اليه هو المعلومات الموازية لنعلم ما الذي يحصل فعلاً على هذه الأرض، وهذه
المعلومات يجب أن تأتي من أشخاص مهتمين بشؤون العالم وأحواله. نجد بعض
المخرجين
يذهبون للبحث عن الواقع ويعملون أحياناً لسنوات كي يقترب طرحهم
من الحقيقة المجردة.
الوثائقي هو تقمص للواقع. لا تمثيل فيه ولا نصّ. قد يكون هناك بعض التلاعب،
لكن
بالمقارنة مع الروائي فالتلاعب أقلّ. حيثما تضع الكاميرا، فهذا شيء ضد
الموضوعية.
الوثائقيات تتعامل مع تيمات ذات أهمية بالغة: حقوق الانسان والعنصرية،
الحروب،
المشكلة البيئية، الخ. هي تيمات لا تخطر على بال أحد من المشاهدين
العاديين. هناك
مثلاً شركات أميركية أقدمت على تعديل البذور المستخدم في انتاج
الطعام ونتج من ذلك
خلل غذائي مضر بالصحة ومناف لكل الاخلاقيات والتقاليد التي انتجت على
أساسها البذور
لسنوات طويلة. هذا صار اليوم في عهدة التاريخ، لأن الشركات الأميركية تصنع
بذوراً
ملوثة بطرق كيميائية. هذه أشياء تشير الى وجود نفوذ يستخدمه
البعض للايذاء. انها
بمنزلة جريمة. بعد خمسين أو مئة عام، لن نعد في حاجة الى حروب، سيتحكمون
بنوعية
الطعام. التلاعب بالغذاء سيحل مكان الحروب. في الهند، انتحر 30 ألف هندي
عبر ابتلاع
مبيضات، بسبب هذا التلاعب في الغذاء. لم يعودوا قادرين على
الاعتماد على الزراعة
للعيش...".
لم يعد الوثائقي مرادفاً لشيء مملّ يُعرَض في صالة يملأها
المتقاعدون. ولّى زمن كان المشاهد فيه يعتقد أن الوثائقي هو ما يمكن
مشاهدته على
محطة "ديسكافري". أيبيديس يجد هذا النوع السينمائي مسلياً يخاطب الشباب
والكبار في
آن واحد. تشكيلته التي يختارها بعناية ويحرص على ايلاء كلٍّ من الدال
والمدلول
الأهمية المطلوبة، تعبّر عن شخصيته الى حد بعيد. يقول وهو يعترف بأهميتها:
"البرنامج مهم جداً وهو الذي يعطي المهرجان هوية. اذهبُ الى الينبوع.
أحياناً تُرسل
اليّ الأفلام وأحياناً أنا الذي اذهب لاقتناصها في مهرجانات دولية ككانّ
وبرلين.
نتلقى عدداً كبيراً من الأفلام. هذه السنة
وصل الينا 1300 فيلم أجنبي و167 فيلماً
يونانياً. والانتاج اليوناني يزداد عاماً بعد عام، وهذا شيء
يسعدني كثيراً، لأن
العديد من المخرجين أصبحوا يقولون الآن بما انه صار لدينا مهرجان، فهيّا
ننجز
الأفلام الوثائقية".
مئات الأفلام من مئات الدول تُعرَض يومياً بدءاً من الساعة
الحادية عشرة حتى منتصف الليل (ليلتا الجمعة والسبت، المدينة
لا تنام!) في ست صالات
تستقطب أعداداً وفيرة من المشاهدين. المنظمون واضحون في مطالبهم: تعريف
الجمهور
اليوناني بما يدور حوله في العالم، ما دامت وسائل الإعلام لا تقدّم خدمة
حقيقية الى
الناس. هذه حجة هزيلة طبعاً. فالتلفزيون ليس مصدر المعلومات
الوحيد في العالم اليوم
في وجود الانترنت. في المقابل من قال انه يمكن الركون الى الوثائقي وتصديق
كل ما
يقوله ومنحه الثقة العمياء. لكن نحن في مهرجان، والمهرجانات، للأسف الشديد،
في حاجة
الى شعارات تقلص ما لا يقلص.
لكن لماذا يُعقد المهرجان في مدينة تسالونيك وليس
في أثينا، التي لا تزال في انتظار من يغذيها مهرجانياً؟ أيبيديس، الاثيني
الاصل
والاقامة، لا يبدو متحمساً لهذا الطرح. فهو قبل دقائق من بدء حديثنا، كان
يعبّر عن
سعادته بوجوده هنا في مدينة تلمس فيها الغبطة. "لست متأكداً من ان تنظيم
مهرجان في
العاصمة أمر بتلك الأهمية. انها مدينة شاسعة، فيها عقلية أخرى، مشكلات
أخرى. أفضّل
تسالونيك. نحن هنا في ملتقى. ننتمي الى منطقة البلقان. وثمة في هذه المدينة
ارتباط
بين ثقافات مختلفة. نحن على مرمى حجر من بلغاريا وصربيا. هذه
مدينة جميلة، في حين
اثينا مدينة قبيحة وقذرة، مدينة مرعبة. ألم تذهب الى هناك؟ اذهب وشاهد
بعينيك...".
هذه الروحية المنبثقة من تعدد الثقافات، لا تزال قائمة في المدينة اذا انها
"لا
تزال نموذجاً للتسامح"، على ما يؤكده لنا الكثير ممن التقيناهم
على مدار الأيام
العشرة في اطار المهرجان وخارجه. في دردشاتنا مع عابري السبيل، كانت عبارة
"ملتقى
ثقافات" هي التي تداولتها الألسنة أكثر من غيرها، في محاولة لنسج علاقة بين
المهرجان والمدينة. لكن أيبيديس غير متفائل بالنسبة الى
المستقبل: "الأرجح ان هذه
الروحية ستحتضر ذات يوم مع ما يحصل في عالمنا اليوم من صعود لموجات التعصب.
كيوناني
تفاجئني هذه المدينة. تنزل في الصباح الى الشارع فترى الناس كأنهم في عطلة
أو عيد.
هذا شيء لا يمكن ان تراه في مدن يونانية أخرى. خصوصاً أننا نمر في مرحلة
صعبة:
الناس يقفلون مصالحهم، والعمال يخسرون
وظائفهم، الديون تتراكم. لكن الناس لا
يأبهون، يخرجون فحسب. البحر جميل، المقاهي
ممتلئة تحت شمس آذار. الحياة جميلة".
بيد ان هناك سبباً آخر خلف اختيار مدينة تسالونيك لاقامة هذا المهرجان، وهو
انه
كان أسهل على الادارة أن تتفرع من مهرجان قائم: الفريق والبنى
التحتية كانت موجودة
في تسالونيك. "لم يبق عليّ للانطلاق الا ان نأخذ القليل من المال من حساب
مهرجان
باذخ كمهرجان تسالونيك. الآن اصبح لنا موازنة خاصة بنا، موازنة صغيرة، لكن
نتدبر
أمورنا. الأهم انه بات لنا حضور، ووزارة الثقافة اعترفت بنا
كمهرجان، وهناك ايرادات
جيدة ومشاركة جماهيرية ممتازة، وهذا أكبر دليل على ان الناس مهتمون بمواضيع
لا
يستطيع المرء ان يعثر عليها في الإعلام الرسمي. وهذا برهان على أن مهرجاناً
كهذا
حاجة وليس نزوة. الناس يريدون ان يعرفوا كيف هي الحياة على هذه
الأرض. نعيش في زمن
الاتصالات، ونعلم في ثوان ماذا يحصل في اليابان أو الأرجنتين. أؤمن بأن
الشباب
الذين يأتون الى هنا يصيرون مع الوقت متعصبين للوثائقي. لا شك في ان هذا
سيحولهم
مواطنين صالحين. الوثائقي نوع من تربية لهذا الجيل، شأنه شأن
المدرسة أو الجامعة.
هذا سيجعل منهم نوعاً أفضل من المنتخبين، كونهم باتوا على علم بما لا يعرفه
عامة
الناس، وزاد لديهم حس التعاطف مع الآخر".
هـ. ح.
مهرجان
ثمانية أفلام لفرنر هرتزوغ في بيروت
قاطن
الأحلام المستحيلة...
يحتفي "متروبوليس" منذ أول من أمس والى الخامس من نيسان،
بأحد أروع المخرجين الألمان الذين بدأوا العمل في ستينات القرن
الماضي وسبعيناته:
فرنر هرتزوغ. الحدث، "خلف الحدود" عبارة عن عروض استعادية لثمانية من أفلام
هرتزوغ،
أنجزها بين عامي 1970 و2005، يرافقها معرض صور فوتوغرافية. من الصعب الحديث
عن هذا
الرجل المغامر في الحياة وعلى الشاشة، لأن سيرته لم تنفصل
كثيراً عن إنتاجه، وإن لم
يكن هناك رابط مباشر بينهما. بيد أنه واحد من أكثر المخرجين الذين وضعوا
جنونهم في
نصوص فيلمية تحوّلت ظواهر، نشأت أحياناً من ظروف التصوير المضنية والمعقدة،
وأحياناً أخرى من الجرأة المتزايدة في الذهاب الى مجاهل
التاريخ والجغرافيا. صحيح
أنه ذو تأهيل أدبي، لكن الصورة خطفته الى حضنها منذ بلوغه العشرين من
العمر، عندما
أسس شركة انتاج انجز من خلالها فيلمه القصير الاول. في أواخر الستينات، كان
واحداً
من الذين بلوروا السينما الألمانية الرازحة تحت وطأة واحدة من
أهم الحركات
الجمالية: الانطباعية الألمانية. مع فاسبيندر وفاندرز وشروتر، دفع الى
الأمام
التيار الذي كان سيحمل ملامح "سينما ألمانية جديدة"، بضع سنوات بعد "الموجة
الفرنسية الجديدة" وثورة أيار 68.
علاقة الحبّ - الكراهية التي ربطته بممثله
المفضل كلاوس كينسكي باتت تاريخية. أهدى اليه فيلما وثائقيا عام 1999 سمّاه
"عدوّي
الحميم"، باح فيه بأشياء كثيرة عن هذه العلاقة. لكن يجب الاّ ننسى أن
كينسكي أكثر
مَن استطاع تجسيد الجنون الهرتزوغي. بداية مع "اغويري، غضب الله" (1972)
وصولاً الى "فيتسكارالدو"
(1982). قصة سفن وجبابرة هامشيين لهم أحلام رومنطيقية وأوبرالية
باكتشاف بقاع الأرض أو جعل السفن تتسلق الجبال. كل هؤلاء الهامشيين (برونو
أس
نموذجاً) الذين تزدحم بهم سينما هرتزوغ لم يتركوا سوى آثار
ملهمة حلّقت بسينماه الى
مساحات غامضة وخطرة شأنها شأن الطبيعة الآدمية التي ظلت واحداً من همومه
الأساسية.
هرتزوغ يعني الكثير لجيل السبعينات وايضاً لجيل التحريك والأبعاد
الثلاثة. انه الرجل الذي لا يزال اسطورة ألمانية حية. سماع
اسمه يكفي كي تجتاح
مخيلتك عاصفة من الصور: نوسفيراتو، اغويري، الرجل الذي التهمته الدببة في
"رجل
الغريزلي". عرف المخرج المولود في ميونيخ كيف يزعزع الخوف في القلوب والأرض
من تحت
الأقدام. هذا الخوف الذي هيمن على سينما ما بعد انفتاح الستينات على أفكار
جديدة.
هرتزوغ آخر الناجين من زمن كان الفيلم الألماني فيه لا يزال يؤمن
بالمستحيل. كيف
لنا أن ننسى المخرج الذي جعل سفينة تتسلق الجبال؟ هرتزوغ ابن
تلك المرحلة وابوها
ايضاً. بعد سقوط الجدار، استيقظت السينما الألمانية من نومها العميق.
فاكتشفت
تدريجاً أن من غير الممكن تغيير العالم. بدلاً من ابتكار الحدث، بدا
التعليق على
الحدث أكثر انسجاماً مع المرحلة الجديدة. هرتزوع، كناسك خارج مصالح الزمن
ومصالحاته، ظلّ يسكن احلام تلك السينما، وبدا غير قابل للتخلص
من هواجسه الأزلية.
لذلك، ظلّ خلاّقاً لا تقوى عليه التغييرات والمستجدات العابرة. أدارت
المانيا له
ظهرها، فرحل الى الولايات المتحدة حيث خلق نفسه من جديد وعاد
الينا أخيراً (برلين، 2011)
بغرابة مصوّرة بالـ3D، يؤكد فيها ان بدايات السينما تعود الى
اثنين وثلاثين
ألف عام ما قبل الميلاد.
(•)
للاطلاع على لائحة الأفلام ومواعيد
عرضها، ندعوكم الى زيارة موقع المهرجان
www.metropoliscinema.net
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
31/03/2011 |