الرصاصة تصيب وإن كانت طائشة، ربما تصيب أكثر، كونها قدرية، محتومة، وغير
متوقعة، ولعل المضي معها سيكون على امتداد حياة طائشة من شدة تعنتها
وصلافتها، وعلى شيء يجعل كل ما يبدو رصيناً ومتكاملاً مضطرباً وعلى صراع.
هذا ما يخبرنا به فيلم جورج هاشم «رصاصة طايشة»، ولعل الوصول إلى ما تقدم
يحتاج إلى تتبع سرد عائلي، منغمس تماماً في الخصال التي على كل فرد من
أفرادها أن يتحلى بها، والمسعى تقديم مجموعة من العلاقات الاجتماعية
المأزومة التي تمضي في خط تصاعدي وصولاً إلى النهاية التي لها أن تكون
شخصية وعائلية لكنها على اتصال مباشر مع بيروت ،1976 أو كما يقول لنا
الفيلم الحرب بدأت مع رصاصة طائشة أصابت أماً تجلس وحيدة على شرفتها
بانتظار ابنتها الهائمة على وجهها في الشوارع.
يتأسس فيلم هاشم على بنية ميلودرامية، ويبدأ مضطرباً في سرده، الذي سرعان
ما يستقيم ويتضح مع نهى «نادين لبكي» الشخصية الرئيسة في الفيلم، التي
سيكون زواجها نقطة ارتكاز الفيلم ، وكل ما نشهده من أحداث سيكون قبل ميعاد
عرسها من زوج لا تريده، زوج ملفق وفق اتفاق عائلي، له أن ينجيها من مصير
العنوسة، بينما هي عاشقة لرجل آخر، تلتقي به في ظروف خاصة وبعيداً عن أعين
الأهل الرافضين له جملة وتفصيلاً، وليكون هذا اللقاء أول اتصال مع ما يمكن
اعتباره خارج النطاق العائلي، فبينما نهى وعشيقها في غابة، سيقعان على
أفراد ميليشيات يقومون بتصفية رجل موضوع في كيس خيش بدم بارد، وهنا سيبدو
هذا العاشق منزوع الأسنان، مستسلماً لما يمليه عليه أفراد الميليشيات وكل
ما يفعله هو عدم إخبارهم بأن أحداً كان برفقته، وليكون استثمار ذلك لدى
لقاء نهى بالقتلة في بيت أهلها، كون المرأة التي تقدم على تصفية الرجل
السابق الذكر تكون على صلة بزوجها المستقبلي، بما يفتح الباب أمام منطق
القتلة وهم ينتقمون من الفلسطينيين الذين فعلوا الشيء نفسه، كما سنتابع ذلك
في حوار مطول تتعدد فيه الآراء.
الخوف، الكلمة المفتاح في الفيلم، العجز عن تغيير الوقائع، العائلة والحب
تحت رحمة ما يتخطهما، وليكون الاتصال الثاني مع الحرب الأهلية عبر الرصاصة
الطائشة التي تصل إلى هدفها الطائش والكلاب تعوي، بينما سيكون التشريح
للعلاقات الاجتماعية كما يراها جورج هاشم في تلك الفترة، حيث نهى ستكون تحت
رحمة التقاليد والعادات، ومن ثم الأخ بوصفه الوصي الذكوري عليها، في توسيع
مساحات الضغط والحصار على نهى وصولاً إلى النهاية المأساوية التي ستقودها
إلى مصير متفق عليه درامياً.
يستوقفنا في فيلم «رصاصة طايشة» الإيقاع أو «التمبو» البطيء لكن المشدود
والمتحفز، بما يجعل المليودرامية تحضيرية لما سيأتي كنهاية تقطف ثمار
التصعيد الذي يحتل الربع الأخير من الفيلم، فكل ما نشاهده على مدى الساعة
وربع الساعة، مدة الفيلم، سيكون موتوراً، ما من شيء إلا ويتوعدنا، على
الرغم من انحراف السرد نحو العائلي في تفاصيل شخصية ربما، تنفصل عن فضيلة
الفيلم الكبرى على صعيد السيناريو، المتمثلة في تقديم التاريخي بوصفه
موازياً للعائلي والشخصي، على اتصال وانفصال، بما يجعل في الأمر تناغماً
ومحاكاة بين ما يسود الشارع وما يسود البيت، على شيء يجعل من القيم
العائلية المشوهة نسخة من الطائفية والتعسف والذكورة، وفي انفصال في الوقت
نفسه عن المظاهر، عن ثوب العرس الذي كان للأخت الكبرى العانس التي تمارس
عُقَد عنوستها على الصغرى، وبما يضعنا في النهاية أمام قدرية لمنطق الفيلم
أن يتبناها، فهذا الثوب الذي لم تلبسه الأخت الكبرى سيكون بمثابة عنصر نحس،
كون الصغرى لن ترتديه أيضاً، وحين يقدم الأخ على ضرب الأخت الصغرى فإن
الرصاصة الطائشة ستكون بالمرصاد لمن يشكل صمام أمان العائلة ألا وهو الأم،
ومن ثم لا شيء إلا مشفى المجانين، والسفر، وما إلى هنالك من مصائر هي
بالنهاية على تناغم مع مصائر من عاشوا حرباً أهلية تتضح معالمها، وإملاءات
التفكك التي هي تطال الوطني والعائلي كونهما مكملين لبعضهما البعض.
فيلم «رصاصة طايشة» عن بشر على حافة الانفجار الذي سرعان ما يتحقق، انفجار
يأخذ بكل شيء، ويبدأ من العائلة ولا ينتهي بالوطن، والرهان كل الرهان على
المصير العائلي كملتقى لما سينفصل ويتشظى ويحتدم، والحب فيه مأخوذ بأزمته
قبل أي شيء آخر، كما يقول لا مكان للحب ومن البداية، والاجتماع العائلي
سرعان ما يتحول إلى انقسام وفرقة، والكلمة الفصل هي للقوة البدنية، لمنطق
العضلات، وحين تنتصر نهى وتعلن تمردها فإن ما ينتظرها كمصير لن يطالها هي
بل الأم وبالتالي الوطن، ومن ثم الصمت الذي سيطبق عليها على مدى سنوات
طويلة كما ستقول لنا نهاية الفيلم.
الإمارات اليوم في
30/01/2011
جديد المصري أحمد عبدالله
«ميكروفون».. لولا فسحة «الهيب هوب»
زياد عبدالله
الهوامش المعبر الأكيد لمعاينة المقبل، الهوامش تتسع تماماً لكل ما ينبئ
بما يجيء، وهناك أجيال كاملة تشكلت في ظله، ولعله، أي الهامش، واسع ومترامٍ
لدرجة يتفوق فيها على المتن، خصوصاً حين نتكلم عن فئات اجتماعية مغيبة
بأكملها، وشعب يزنره الفقر من كل جانب، وبالتالي فإن هذا التهميش الاقتصادي
سيكون مأهولاً تماماً بكل أنواع التهميش الأخرى، السياسية والاجتماعية
والثقافية، وهكذا سيكون لدينا موسيقى خاصة بالفقراء وعوالم معزولة تماماً
عن الأقلية الغنية والحاكمة.
في الفيلم الثاني للمخرج المصري أحمد عبدالله «ميكروفون» سيكون ما تقدم
الخلفية التي ينبني عليها ما سنشاهده فيه، لكن في اتباع للتهميش في اطاره
الثقافي، وفي تتبع أيضاً لما له أن يكون تشكيلات النخب الثقافية الجديدة في
مصر، طالما أن المؤسسات الثقافية الرسمية لن تعترف بحال من الأحوال بما
يفرزه الهامش، طالما أن هناك نوعاً آخر من النخب التي تؤمن بوقوف الزمن
وجموده، وعدم الانفتاح على الجديد، وتفضيل قتله في المهد على الاعتراف به
ومواكبة انتشاره وحضوره.
فبعد فيلم عبدالله «هليوبوليس» الذي قدم من خلاله معاينة سينمائية للواقع
المصري الراهن أفضت به إلى الحنين لما كان عليه، وهجاء ما صار إليه عبر
التنويع في الشخصيات والخيوط السردية، فإنه يمضي في جديده نحو ما له أن
يكون «موسيقى العوالم السفلية» وتحديداً فرق «الهيب هوب» و«الروك» المصرية
في مدينة الإسكندرية، بما يجعله على اشتباك مع فيلم الإيراني بهمن قبادي
«لا أحد يعرف عن القطط الفارسية»، الذي كان نبشاً في عوالم تلك الفرق في
طهران وهوامشها، الفرق التي تصطدم مع سلطة دينية تحرّم هذا النوع الموسيقى،
مع ايجاد قبادي من خلاله وفي سياق سرده الدرامي الذي ينتهي مأساوياً فرصة
للتوثيق للجانب الآخر من طهران، عبر مرافقة الأغاني الكثيرة التي يحملها
الفيلم، الأمر الذي سنعثر عليه في فيلم أحمد عبدالله لكن وفق الواقع
المصري، ولعل صدام النوع الموسيقي الذي يقدمه سيكون مصرياً على شيء من
اثبات الوجود، وفي تركيز على انفصاله عن الواقع الذي يريد تغييره بموسيقاه
ورؤيته المغايرة لما هو سائد ومستكين، وهنا يمضي تحرك الفيلم مع نخبة
شبابية منفتحة على الآخر، متصالحة مع ذاتها، تبني علاقاتها الاجتماعية من
دون قيود متوافرة في كل مكان حولهم، إنه فيلم عن فئات شبابية تبني عوالمها
بعيداً عن المشوهات والأخلاقيات السائدة، وبالتالي فإن صدامها سيكون في هذا
الإطار، وليس بعنف وقسوة ما نشهده في فيلم قبادي.
يستعين فيلم «ميكروفون» بشخصية خالد (خالد أبوالنجا) العائد من أميركا،
لتكون معبراً إلى اكتشافات متعلقة بحياة كاملة تحصل على غفلة منه، وشبان
يبنون عالماً خاصا وأدواتهم التعبيرية هي موسيقى «الهيب هوب» و«الروك»
ورسوم «الغرافيتي»، ولتكون الخطوط الدرامية التي تتشابك في الفيلم لا تتعدى
استعادات لحواراته مع حبيبته (منة شلبي) التي تهجر البلد لانعدام أي أفق
فيها، بينما تشكل الاكتشافات التي يقع عليها خالد فسحة أمل له سرعان ما
ينغمس بها، وتتشابك حياته مع حياة الشبان حوله وموسيقى فرق مثل «مسار
اجباري» و«واي كرو»، وآخرين.
يصل الفيلم إلى المسعى لإقامة حفلة في الشارع لهذه الفرق، لكن سرعان ما
يصطدم الأمر بعوائق كثيرة، سواء بالنسبة للمتدينين الذين لا يقبلون أن تقام
حفلة بالقرب من المكان الذي يخصصونه للصلاة، وصولاً إلى الشرطة التي تتدخل
وتمنعهم.
بنية فيلم «ميكروفون» ستكون على التقاء مع الكثير في «هليوبوليس»، الأمر
الذي لن يتبدى سريعاً ونحن ننتقل من أغنية إلى أخرى من أغاني تلك الفرق
الجميلة، لكن يبقى أحمد عبدالله واحداً من أبرز التجارب في ما صار يعرف
بالسينما المصرية المستقلة، ولعل ما تسعى أن تقدمه هذه السينما يبقى بمثابة
وعد بسينما جديدة تعيش مخاضاتها وتطلعاتها.
الإمارات اليوم في
30/01/2011
مرشح للفوز بجائزتين
"جميل"
فيلم إنساني نحو
الأوسكار
محمد رضا
فيلم المخرج المكسيكي البارز أليخاندرو غونزاليز إيناريتو “بيوتيفول” أو
“جميل” له حظان للفوز بالأوسكار هذا العام، فهو مرشّح على أنه أحد أفضل
خمسة أفلام أجنبية إلى جانب الفيلم الجزائري “خارج عن القانون” وأفلام من
الدنمارك واليونان وإسبانيا، وبطله خافييه باردم أحد المرشّحين لأوسكار
أفضل ممثل عن دوره في هذا الفيلم . وبترشيحه هذا يتبلور باردم منافساً أول
للممثل البريطاني كولِن فيرث عن دوره في “خطاب الملك”، وهو الممثل الذي
ترتفع أسهمه أكثر من سواه حتى الآن .
الفيلم بحد ذاته عمل إنساني ذو خامة عريضة من الاهتمامات . العنوان
الإنكليزي هو كلمةBeautiful مكتوبة خطأ عن قصد، وذلك لأن ابنة بطل الفيلم تسأله كيف يكتب كلمةBietiful
فيأتي جوابه على هذا الشكل .
وهذا الشكل يتّخذه المخرج البارع إيناريتو لوصف الرجل بطل الفيلم من ناحية،
ولوصف معاكس لما هي عليه حقيقة البيئة التي تقع الأحداث فيها . لا شيء
جميلاً في هذه الصورة بل العكس: الواقع قاتم وداكن ومؤلم . هذا باستثناء
جمال هذا الرجل الذي تحرّكه عواطفه الإنسانية وسط ظروف لا يستطيع معها سوى
تحمّل نتائجه ونتائج ما يفعله الآخرون .
الرحلة التي يأخذنا إليها إيناريتو وكاتبا السيناريو أرماندو بو ونيكولاس
جياكوبوني، منهكة من حيث مرورها على ما سبق أن غيّره من الشخصيات والطروحات
والمضامين الاجتماعية، لكن إيناريتو يمنح الفيلم كل ما يطلبه ذاك من ثراء
في الصورة (تصوير رودريغو برييتو) تكوينا واختيارات . كذلك فإن الموسيقا
(غوستاف سانتاولالا) التي يختارها لافتة والمونتاج الذي يقوم به دقيق
ومتآلف مع الغاية . لا يكترث لصنع فيلم مشوّق بل فيلم حقيقي، لكن حينما
يكون على المخرج ومونتيره ستيفن ميروني استخدام التوليف لعكس إيقاع كما
الحال في مشهد مطاردة البوليس للسنغاليين، فإن ذلك يتم عبر تنفيذ من باب
أوّل .
باردم عميق وخبير في الدخول تحت جلد الشخصيات التي يمثّلها . وهو هنا يفعل
الشيء نفسه . رجل محمول بهموم الدنيا وفوق ذلك بمشاكل عائلته وبقرب موته،
وما تقرأه على وجهه هو بالتحديد كل هذه الهموم وتآلفت بحيث إن البهجة
الوحيدة التي يطالها في الفيلم، هي تلك الليلة التي قضاها في المرقص مع
أخيه المدمن الذي كان تدخّل لإخراج أكسبال من السجن (حيث أودع بعد دفاعه عن
السنغالي)، ثم أخبره من دون أن ترمش عينه خجلاً بأنه سيقتطع الغرامة التي
دفعها من تركة والديهما.
يبدأ الفيلم برجل يرتدي خاتماً ويد أنثوية تمر على الخاتم في أصبعه . يخلع
الخاتم ويهديه إلى صاحبة الأصابع الرقيقة، هذا ما يتبعه حوار شبه هامس . في
نهاية الفيلم تُعاد اللقطة لكننا الآن نعرف من هو صاحب الخاتم (فعلياً وليس
من صوته فقط) ومن هي الأنثى التي تعجبها الهدية فتضعها في أصبعها .
أكسبال (باردم) هو إنسان مُصاب بالسرطان ولديه شهران على الأكثر ليعيشهما .
هو أيضاً رجل متزوّج ولديه ولدان، فتاة فوق العاشرة اسمها آنا (تقوم بها
هناء بوشايب ذات الوقع المؤثر بوجهها اللافت الحزين) وصبي دون العاشرة اسمه
ماتاو (غيلرمو استريللا) . زوجته مارامبرا (ماريسل ألفاريز) . وعلاقته معها
متوتّرة في أفضل الأحوال . إنها ترغب في أكثر مما يستطيع الإيفاء به وهي
ليست زوجة تعرف العناية بالأولاد وبحاجة لمن يرشدها (كما تعترف في النهاية)
. تحب أكسبال لكنها لا تعرف كيف تحبّه . دائماً هي في المحور ومن دون أن
تكون قادرة على التصرّف على هذا النحو .
على حسن مزايا أكسبال يعمل خارج القانون . لديه علاقة عمل مع سنغاليين
مهاجرين يتاجرون بالمخدّرات، وعلاقة أخرى مع رئيس مصنع نسيج صيني ومدير
أعماله الذي يستورد مهاجرين صينيين، بسبب رخص اليد العاملة . هؤلاء
المهاجرون لديهم قاعة تحت مستوى الأرض يعيشون فيها ومعهم أولادهم .
يتعرّضون لمعاملة خشنة ونهر مستمر ويمضون حياتهم في عمل متواصل من الصباح
الباكر حتى الليل من دون رعاية . أكسبال على الرغم من ذلك، هو رجل يحب
الإنصاف وينتفض غضباً حين يضرب البوليس بريئاً من السنغاليين (يقوم به
الشيخ نيداي)، وحين يكتشف سوء المعاملة التي يتعرّض لها الصينيون . وكل هذا
يحدث بينما يحاول سبر حياته -أو ما تبقّى منها- خافياً عن الجميع إصابته
وقصر عمره .
الاختلاف الرئيس بين هذا الفيلم وأفلام إيناريتو السابقة في الكتابة .
انفصاله المهني عن كاتبه السابق غيلرمو أرياغا غيّر من طريقة العمل: عوض
الأحداث المتوازية التي تألّف منها “21 غراماً” و”بابل”، لدينا صياغة
منتظمة في هذا العمل الذي يترك هم الانتقال من مواقع متباعدة، لكنه لا يترك
هم الحديث عن شجون العالم حتى من موقع أحداثه في برشلونة .
سينما باناهي تخطف الأضواء في
بيروت
جاء أسبوع الفيلم الإيراني الذي حط في مدينة بيروت وانتهى منتصف الأسبوع
المنصرم تذكيراً بأمور متعددة، وإلى حد بعيد متناقضة . فمن ناحية، جاءت
التظاهرة في وقت تعصف بلبنان رياح عاتية، فإذا بشأن فني روحي وحيوي يخطف
الذين أمّوا التظاهرة من واقع بائس ويمنحهم أملاً بحياة تستطيع أن تحلم
بحياة حتى ولو كانت داخل الخيال ذاته .
من ناحية أخرى، جاءت التظاهرة للتذكير بكيف أن السينما ممكنة رغم الصعوبات
الداخلية والخارجية التي عادة ما تؤثر سلباً في الإنتاج . صحيح أن السينما
اللبنانية تشهد ما معدّله فيلمان روائيان وآخران وثائقيان كل سنة، الا أن
هناك انغلاقاً لدى معظم المخرجين عن متابعة المشهد السينمائي العالمي
والكيفية التي تتيح لهم تشكيل ظاهرة واعية وذات مستوى فني مرموق- أكثر
فعلاً وتأثيراً مما هو حاصل من خلال أفلام تجمعها الهوية وتفرّقها الرغبة
في العمل الفردي بعيداً عن روح الجماعة وما تستطيع أن تشقّه من خط أكثر
نجاحاً وفاعلية مما هو الحال عليه الآن .
على صعيد ثالث، التظاهرة كانت بحد ذاتها فتح عين علي إنتاجات مخرج برع في
استخلاص الصعب من خلال موضوع بسيط . مخرج يواجه حالياً أزمة حياته بسبب
قرار السُلطة في إيران بحبسه ومنعه عن العمل لأمد بعيد .
أفلام باناهي المعروضة كانت من بين أفضل ما أنتجته السينما الإيرانية في
السنوات العشرين الأخيرة . إنه المخرج الذي قرر البقاء والصمود في وطنه
لأنه لا يريد أن يفر كسواه (عباس كياروستامي ومحسن مخملباف اللذان يعيشان
الآن في أوروبا) . وهو في الوقت نفسه، المخرج الذي يعمد الى سينما ذات أسس
فنية حقيقية وليس مجرّد كاميرا محمولة تسرد نصّاً طويلاً بدعوى الواقعية،
كما الحال أيضاً مع كياروستامي ومخملباف .
عرضت التظاهرة مثلاً “البالون الأبيض”، قصّة الفتاة الصغيرة التي أضاعت
نقودها حين أعطتها والدتها ما يكفي لشراء سمكة حمراء صغيرة . من خلال حكاية
بالغة البساطة، يكشف باناهي، سنة ،1995 عن أولى محاولاته رسم صورة لما يحدث
للأنثى الإيرانية من اضطهاد، فقبل أن تضيع النقود في البالوعة، يحاول أكثر
من طرف الاحتيال عليها وأخذ النقود منها . رمزياً، هذا فيلم حمل الصورة
التي أراد تقديمها بقالب جمالي، ولو أن الجماليات كانت آخر ما خطر لباناهي
إنجازه .
فيلم آخر له تم عرضه وبدا كما لو كان غير المتوقّع هو “ذهب قرمزي” .
الحكاية لها خيط يشبه البوليسي، لكن الفيلم بعيد جدّاً عن هذه الغاية . إنه
يستخدم خطّة للسطو على محل مجوهرات ليتحدّث عن اللصوص في مواجهة الوضع
الاجتماعي وليصوّر التناقض بين مستويين من الحياة الاقتصادية. هنا لابد من
أن يجد المشاهد نفسه عرضة لسؤال كيف يمكن لمخرج ما رسم كل هذه الملامح
الإنسانية من خلال عمل يعترف بأن السرقة هي خروج على القانون .
وفي النطاق الانتقادي ذاته، شاهد اللبنانيون الذين وجدوا أنه من الأهم
ممارسة فعل ثقافي على متابعة الوضع السياسي فيلم باناهي ما قبل الأخير
“ضربة جزاء” . هنا تتضح مجدّداً تلك القدرة على اختيار أفكار بالغة
الدلالات ومعالجتها بأسلوب بالغ البساطة من دون أن تخسر شيئاً من دلالاتها
ومن دون أن تبدو البساطة تبسيطاً او سذاجة . إنه -مرّة أخرى- عن المرأة
الإيرانية . وهذه المرّة عبر مجموعة من الفتيات اللواتي يصررن على دخول
ميدان رياضي يشهد مباراة بين الفريقين الإيراني والإماراتي . حال دخولهن
تسللاً يواجهن التجميع خلف الميدان بحيث لا يستطعن مشاهدة شيء لأن الخلط
بين النساء والرجال ممنوع، لكن لا شيء سيمنعهن من موقفهن الصلب حيال الرغبة
في ذلك القدر من الحرية او ذلك القدر من الموقف، فهن مع الفريق الإماراتي
ضد الغالبية الإيرانية (الرجالية) التي تؤيد الفريق الإيراني . وحين تنتهي
المباراة بفوز الفريق الإماراتي، فإن باناهي يستخدم الشعور بالنصر لدى
بطلات الفيلم لغرض الإيعاز بنصر آخر: الأمل في أن تتمتّع بثقة المجتمع في
أنها تستطيع أن تكون حرّة ومسؤولة .
أوراق ناقد
موقف مشهود
لم تقبل السينمائية التونسية مفيدة التلاتلي الاشتراك في وزارة لا يزال بعض
عناصرها من بين الذين كانوا موافقين ضمناً أو طواعية أو كرها، لا يهم، عن
ممارسات زين العابدين بن علي، فآثرت الانسحاب فوراً، واعتكفت في منزلها
بانتظار أن تتجاوب الحكومة الجديدة مع مطالب الشعب التونسي، فتتشكّل بعناصر
نظيفة وجديدة عوض تلك التي تريد الاستمرار في وظيفتها كما لو أن شيئاً
حولها لم يحدث .
المنصب الذي اختير للسينمائية المعروفة كان منصب وزير ثقافة . منصب ملائم
لشخص مناسب، فالسيدة التلاتلي خبرت السينما منذ عقود، وعملت مع عدد كبير من
المخرجين التونسيين وغير التونسيين قبل أن تقدم على تحقيق أول أفلامها
كمخرجة “صمت القصور” سنة 1994 .
حينها بهر الفيلم النقاد السينمائيين حول العالم بسبب فنّه وحكايته التي
تعاطت وخادمة تدفع عن نفسها الأذى في بيت العائلة التي تخدمها . مجلة
“تايم” اختارت الفيلم كواحد من أهم عشرة أفلام لذلك العام، ومثلها فعل أكثر
من ناقد . ليس تحبباً للسينما التونسية بل لقيمة الفيلم بالطبع .
الممثلة الشابة التي لم يسبق لها الظهور في أي فيلم من قبل هذا الفيلم كانت
هند صبري، وشقّت طريقها بنجاح بعد ذلك لتصبح واحدة من ألمع نجوم السينما
العربية، وهي كانت ذكية حين لم تتكل علي جمالها التونسي للتقرّب من السينما
الفرنسية، بل تعاملت بجدّية أكثر حين أصرّت على الإنتماء الى الفن العربي
في تونس كما في مصر .
موقف المخرجة مفيدة التلاتلي سيبقى مشهوداً في هذه الظروف الصعبة التي تمر
بها لا تونس وحدها، بل دول عربية عديدة كما السينما العربية بأسرها . موقف
سياسي نيّر ليس مدفوعاً بأيديولوجيا ولا بموقف حزبي، كونها لا تنتمي لا
لأيديولوجيا ولا لحزب، بل تأييداً حيّاً وصامتاً مع شعب وجد أن الوقت حان
للتغيير . نزل الى الشارع وغيّر .
بوشارب مرّتين
هناك انتصار آخر للذات قد يمر مرور الكرام ما لم يتوقّف المرء عنده ملاحظاً
.
المخرج الجزائري رشيد بوشارب في عداد المرشّحين الرسميين لقطف جائزة أوسكار
في مسابقة أفضل فيلم أجنبي . ليس للمرّة الأولى بل للثانية . إنه بذلك أحد
قلّة من المخرجين العرب الذين أنجزوا هذا القدر من إثارة الاحترام، والوحيد
الذي رُشح مرّتين من بينهم .
الحقيقة أن عدد المخرجين الذين نفذوا الى الترشيحات الرسمية أقل من قليل:
اثنان فقط حتى الآن: الفلسطيني هاني أبو أسعد عن فيلمه “الجنّة الآن” ورشيد
بوشارب مرّتين كما أشرنا، الأولى عن “أيام المجد” (أو “بلديون” كما هو
معروف أيضاً) والثاني عن فيلمه الجديد “خارج عن القانون” .
الفلسطيني إيليا سليمان كاد يدخل عن “يد إلهية” منتصف العقد المنتهي، لكن
أعضاء في الأكاديمية عارضوا كون فلسطين لم تكن بعد ذات وضع سياسي فعلي كما
بات حالها بعد ذلك . أيضاً المصرية الأصل إنجي واصف حققت فيلماً وثائقياً
بعنوان “زبالين” وصف إلى المرحلة ما قبل الترشيحات الرسمية قبل أن يخسر
الجولة الأخيرة .
بعضنا يقول إن الأوسكار ليس مهمّاً، وهذا القول ليس صحيحاً . لكن حتى وإن
لم يكن مهمّاً فهو الأعلى شأناً إلى أن نتعلّم نحن، السينمائيون العرب، أن
يكون لنا أوسكارنا الخاص .
م.ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
30/01/2011 |