تغدو الشخصيات التاريخية معبراً كاملاً لحياة جمعية، لمفاصل تاريخية لها أن
تطال جميع من كان في متناول تلك الشخصية، وعلى مساحة لها أن تتخطى خارطة
البلد الذي تنتمي إليه هذه الشخصية، إلى ما يؤثر في أحيان كثيرة في العالم
أجمع. ولعل أي مقاربة خارجية لن تتخلى عن صفة كونها لمراقب ثمة مسافة تفصل
بينه وبين من يقاربه، الأمر الذي يحمل خصوصيته، مثلما هو من كان ضحية تلك
الشخصية بشكل مباشر ودفع أثمان أخطائها الموصوفة بالتاريخية، وللتوضيح أكثر
فإن من يقارب ديكتاتوراً وقد عاش تحت سطوة تلك الديكتاتورية، سيستخدم أدوات
مغايرة عن تلك التي يستخدمها من يقرأ عنها أو يتلقى نتائج تلك الديكتاتورية
بطريقة غير مباشرة.
الحديث هنا سيكون عن صدام حسين، وكيف لفيلمين عراقيين أن يقاربا هذا الرجل
الذي كان، ولايزال، على مقدرة تاريخية استثنائية في امتداد وتواصل نتائج ما
ارتكبه في حق شعبه وشعوب أخرى، وصولاً إلى المصير التراجيدي الذي لم يتحقق
إلا على يد الغزاة.
بالانتقال إلى الفيلمين فإن التقديم السابق المتمثل بتقسيم المقاربات إلى
خارجية وداخلية، يسعى إلى أن الأهمية الأولى التي سنركز عليها هنا ستكون
متمثلة بأن كلا الفيلمين لمخرجين عراقيين، الأول بعنوان «المغني» لقاسم
حول، والثاني «الرحيل عن بغداد» لقتيبة الجنابي، وكلاهما يتحركان تحت جناح
الرئيس العراقي الأسبق، الأول بطريقة مباشرة وبتجسيد لشخصيته، بينما الثاني
فمعني بسرد قصة ومصير من كان المصور الشخصي للرئيس وهربه من بغداد إلى صقيع
أوروبا الذي لن يرأف به.
نبدأ مع فيلم قتيبة الجنابي «الرحيل عن بغداد» حيث المساحة متروكة تماماً
لامتزاج الوثائقي بالروائي، والمقاربة هنا ستكون على شيء من اجتراح فيلم
روائي مهما كلف الثمن، والذي سيكون ثمناً زهيداً، بمعنى أن الفيلم مصنوع
بميزانية منخفضة، والحلول بعيدا عن التبرير محكومة بهذه الحقيقة الفاقعة،
وعليه يُصنع في الفيلم تحالف في السرد بين الشخصية الرئيسة والصور
الأرشيفية لصدام حسين، طالما أن الفيلم هو عن قصة هرب المصور الشخصي
للرئيس، وبالتالي فإن الذاكرة التي تحملها الشخصية هي ذاكرة فوتوغرافية
وفيلمية، وبالتالي فإن ما تستعيده ستتم مؤازرته بصور حقيقية، ومقاطع من
أفلام فيديو جرى تصويرها لمناسبات خاصة للرئيس كأعياد ميلاد أحفاده وما إلى
هنالك، وليمسي الأمر تصاعدياً، بمعنى أن هذا الأرشيف سرعان ما ينتقل إلى
حفلات من نوع آخر، حفلات التعذيب ومن ثم القتل بطرق مبتكرة.
يبدأ الفيلم مع المصور صادق (صادق العطّار) وينتهي به، والفيلم في النهاية
متمحور حول عنوانه، ومن البداية فإن صادق سيكون في مكالمة هاتفية مع زوجته
في لندن، ومن خلال هذه المكالمة سنفهم بأنه ما عاد قادراً على مواصلة حياته
في بغداد، وعليه فإنه سيهرب منها، وهذا ما سيفعل، وليتحرك الفيلم وفق ثلاث
مفردات، متمثلة بالقطارات ومن ثم الرسائل، وصولاً إلى المدن، وعلى شيء
يجعلنا نقول مثلاً، إنه فيلم طريق، لكن بين المدن والعواصم، وفعل الرسائل
التي سيكتبها إلى ابنه الغائب، ليس إلا أداة استعادية لممارسات الرئيس
وأعوانه حيث يكون «الانسرت» وثائقياً، والمبرر الدرامي لذلك هو ذاكرة صادق
نفسه، الذاكرة المليئة بالمشاهدات والفظائع، التي ستحضر في الفيلم بينما
صادق في هرب متواصل والخوف يمضي جنباً إلى جنب معه، بما يجعل الخوف الرفيق
الوحيد لسفره، الخوف من أن يقتل، الخوف الذي سرعان ما يكون تمهيداً للنهاية
التي أراد قتيبة الجنابي أن تكون صادمة، سواء من خلال المصير الذي يلقاه
صادق، أو عبر المصير الذي نال من ابنه، حيث الرسائل التي يكتبها الأب إلى
ابنه ستكون بمثابة مذكرات، كونها رسائل لن تصل الابن، أو بمعنى آخر ما من
مرسل إليه، واكتشاف ذلك سيكون بمساحة كبيرة من المأساة التي عاشها ويعيشها
الأب، كونه سيكون كما سنكتشف في النهاية مصوراً لمقتل ابنه على يد رجال
النظام، لا بل إنه سيكون سبباً في وصول ابنه إلى ذاك المصير.
فيلم «الرحيل عن بغداد» وضمن البنية المتقشفة التي تمت صياغته به، سيكون
منجزاً على أفضل ما يمكن، ولعله قد يتبدى فيلماً وثائقياً، أضيفت إليه
عناصر روائية، لها أن تتناغم وسرده، محققاً ضمن تلك المعطيات وعاء درامياً
بسيطاً محاطاً بالوثائقي، بهدف الوصول إلى نهايته الصادمة.
بالانتقال إلى فيلم «المغني» فإن هذا الفيلم سيكون مدعاة للتوقف طويلاً، لا
لشيء إلا لئلا يكون هناك من هكذا فيلم نشاهده، أو منطق على هذا النحو تتم
من خلاله مقاربة تستدعي البحث عن توصيفات مبتكرة لها أن تكون مسرحية لا
سينمائية، ولئلا نقول إن الأمر لا يتعدى مزحة مصورة، وليكون الرهان كل
الرهان في الفيلم على تصوير ممارسات الرئيس وحاشيته مع من هم حاشيته أيضاً،
وعلى شيء يتكئ أولاً على فداحة ما كانوا يقومون به، الأمر الذي عليه
افتراضاً أن يدهشنا من دون السؤال عن الكيفية التي قدم بها ذلك، والمسح
التجسيدي والمباشر لما له أن يكون تفتيشاً ذاتياً مهيناً كان يخضع له كل من
سيحضر حفل عيد ميلاد الرئيس، وصولاً إلى الكاميرات المزروعة في كل مكان،
وصولاً إلى مجموعة كبيرة من «الميلودراميات» المجوفة.
يفتقر فيلم المغني إلى ألف باء الفيلم، لا بل إنه وعلى مستويات عدة صالح
لأن يكون مسرحية هزلية عن ديكتاتور قد تضحك أو لا تضحك، لا بل إن الأمر
ايضاً يستحضر مجموعة من الأغاني يصدح بها المغني العراقي الذي يكون الحدث
الوحيد الحاصل خارج أسوار قصر صدام حسين، ونحن نتعقب مسعاه للوصول في الوقت
المحدد إلى القصر للغناء لسيادة الرئيس، وكيف تتعطل سيارته ويحمله السكان
الذين يمر بهم، إلى أن يصل الحفل متأخراً، فيأمره الرئيس أن يغني هو وفرقته
الموسيقية ووجهه إلى الحائط.
يفترض الفيلم أن تقديم ذلك كيفما اتفق سيضعنا نحن المشاهدين المساكين أمام
شيء لا نعرفه، شيء خارق ربما من صلف الديكتاتور وجنونه، وإن كان الأمر لا
يتعدى الفواصل التمثيلية، وليكون السؤال عن الكيفية مؤجلاً إلى ما لانهاية،
لأن الإجابة الوحيدة ستكون: يا للكارثة إن كان هذا يسمى فيلماً!
الإمارات اليوم في
23/01/2011
المخطوفون روائياً.. المفقودون وثائقياً
زياد عبدالله
هل يمكن الحديث عن مخيلة أقل عطباً من الواقع؟ جملة ملتبسة بالتأكيد، لكن
عند تحليلها ستكون سينمائياً على النحو التالي: هل يمكن الحديث عن تفوق
السينما الوثائقية في العالم العربي على الروائية منها؟ للدقة! هل يشهد
الفيلم الوثائقي العربي تطوراً، بينما الروائي في تراجع؟
للمقارنة هنا أن نقدم شيئا من الحقائق، أولها يتمثل بأنه لا جديد على
المجال الروائي في انتاجات ،2010 ما من خروق استثنائية، بينما يمكن الحديث
عن غير ذلك على الصعيد الوثائقي، كمّاً ونوعاً، وفي ذلك ما يغري أيضاً
بتبني مقولة مثل إن الوقائع العربية التي تستدعي التوثيق من الكثافة والسعة
بما يجعل الكم الكبير من انتاجات السينما الوثائقية العربية مهما اتسعت
وتنامت أقل من الواقع، خصوصاً إن كان الأمر متعلقاً بمساحات تشمل مفاصل
تاريخية أو مجتمعات واشكاليات وإثنيات ومشاغل وهموم لا تنتهي، وعلى أصعدة
عدة سياسية واقتصادية واجتماعية، هذا الأمر يمتد ليطال الفيلم الروائي
العربي، بمعنى أنها في معظمها تتصدى لموضوع بعينه، سابق للسرد السينمائي،
الذي قد ينجح أو لا ينجح في تقديم رواية موازية للواقعي، ونقل الموضوعات
إلى مستويات تجعلها على اقتراب من المتخيل بوصفه معادلاً موضوعياً للواقعي.
ننتقل إلى أفلام تتحالف مع ما سبق ذكره، ونكتفي بفيلمين لبنانيين هنا، يأتي
فيلم بهيج حجيج «شتي يا دنيا» الفائز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان أبوظبي
السينمائي، وجائزة الإخراج في مهرجان وهران السينمائي ـ بما يسبقه تماماً
بمعنى أنه أولاً وأخيرا فيلم عن مخطوفي الحرب اللبنانية الأهلية، وعليه فإن
المقاربة التي تنطوي تحت هذا العنوان ستعدنا بسرد متمركز حول شخصية واحد من
أولئك المخطوفين الذي نجده يخرج من سجنه أو خطفه، إلى النور أو الحرية،
ولنمضي الفيلم كل الفيلم في تمطيط لمعانته مع عائلته التي عاشت لأكثر من 20
سنة من دونه، هذا الموضوع الذي سرد روائياً بميوعة ميلودرامية، سيقابله
فيلم وثائقي بعنوان «ملاكي» لمخرج لبناني هو خليل زعرور، بما يجعل هذا
الأخير وثيقة محملة بالكثير عن مخطوفي الحرب اللبنانية، لكن بوصفهم مفقودين
هنا، وانتظارات من هم في الحرية لهم، أي العائلة والأهل والأبناء، وليكون
فيلم زعرور الوثيقة الأهم عن المخطوفين والذين فقدوا ولم يعودوا موجودين،
مع حالة أنهم ليسوا بأحياء ولا أموات.
في فيلم زعرور مشهدية خاصة جداً، وتنويع في السرد، وهو ينتقل من حالة إلى
أخرى، وصولاً إلى استعادته في مرات عدة تجسيد ما يروى، أو أخذ مفردة من
الحديث المروي وتحويله إلى مفردة بصرياً، كما سنرى سيدة تروي قصة خطف زوجها
واختفائه، وهي جالسة في مساحة مغمورة بالثلج، بينما ورود حُمر مغروسة في
الثلج تحيط بها.
لا بل إن زعرور، عدا تقديمه ضحايا الخطف في أسلوب مؤثر، فإنه يستثمر تماماً
في أدوات سردية روائية، بما في ذلك اللقطات الطويلة وبناء مواقع التصوير،
على طريقة الصيني جيا زانغ.
في ما تقدم نموذج لما نقصده بتفوق الوثائقي على الروائي، وهناك أمثلة أخرى
نتركها لمناسبات أخرى، لها أن تلتقي ربما على قدرة الفيلم الروائي على
التلفيق ما لم يصنع بأدوات سينمائية محكمة، وقدرة الوثائقي على بناء عوالمه
حول موضوعه بجمالية خاصة، واستثماره الأدوات الروائية بأفضل مما يفعل
الفيلم الروائي.
الإمارات اليوم في
23/01/2011
موعد لم يتحقق مع عبوة مفخخة
نجم والي
وحده صديقنا السينمائي هادي ماهود سيجد في ما حدث تأييداً لما ذهب إليه،
وسيقول، ألا ترون لماذا لا أنزل إلى بغداد؟ وهذه ليست المرة الأولى التي
صرح فيه علانية عن خوفه من القدوم إلى بغداد، لدرجة أنه عندما عرف بأنني
وصلتها قبل أيام، اتصل بي يسألني إذا كان في نيتي زيارته في مدينته السماوة؟
لكن رغبته برؤيتي وبالحصول على رواية «الحرب في حي الطرب» التي يحلم منذ
صدورها بنسختها العربية عام 1993 (النسخة الألمانية صدرت عام 1989)،
بتحويلها إلى فيلم سينمائي جعلته يغادر مدينته الآمنة السماوة ويأتي إلى
بغداد. وهذه مغامرة تُحسب له، في مدينة أصبح التجول في شوارعها سباقاً بين
الحياة والموت. لو كان العراق بلداً طبيعياً مثل بقية البلدان لما جعلت
هادي يُخضع نفسه لهذا الامتحان. لكنه لم يكن وحده في طلبه ذلك. العديد من
الأصدقاء طلبوا مني زيارتهم حالما عرفوا بزيارتي الأخيرة إلى بغداد.
أصدقاء من مدن عراقية عديدة، من الناصرية والبصرة ومن بغداد خيبت ظنهم،
وربما ما زال بعضهم حانقاً عليّ، خصوصاً الأصدقاء في بغداد، الذين كانوا
قريبين مني، لكن عملياً التنقل في بغداد من حي إلى آخر، خصوصاً إذا كان
التنقل يعني العبور من الكرخ إلى الرصافة أو العكس، يفوق في الوقت التي
يستغرقه وقت الطيران من بغداد إلى أسطنبول. ناهيك عن الجهد الاستثنائي الذي
تستدعيه الرحلة، الصبر وضبط النفس، لأن الرحلة يمكن أن تدوم ثلاث أو أربع
ساعات. وفي النهاية عندما يصل المرء، يُسلم على مضيفيه، يشرب إستكان شاي،
قبل أن يودعهم مباشرة وهو يحسب طريق العودة 3 أو أربع ساعات أخرى، هذا إذا
وصل سالماً من دون أي أضرار جانبية على الأقل. ذاك أن المدينة لا تبخل
بتزويد المتجوّل فيها بكل ما هو مدعاة للقلق أو للخوف. ووحده مشهد
الاختناقات المرورية، سواء بسبب عدد السيارات التي فاق عددها عدد سكان
العاصمة، أو بسبب تزايد عدد نقاط التفتيش، خصوصاً في الأيام الأخيرة التي
كثرت فيها جرائم القتل بكاتم الصوت وفي وضح النهار، بعضها على الطريق
السريع الذي يطوق بغداد وبعضها الآخر في الأحياء السكنية، وحده المشهد هذا
يثير الرعب ويُسلم الجالس في السيارة إلى مصير مجهول.
الأصدقاء في بغداد تدربوا على هذا المشهد «الإرهابي» بامتياز يومياً. وهل
هناك مشهد يفوق برعبه وإرهابه مشهد الجلوس في سيارة في شوارع بغداد أو على
الطريق السريع، سيارة انحشرت وسط ذلك الزحام، حيث يتوقف السير، لا طريق إلى
الأمام أو إلى الوراء أو ما حول. من لديه موعد عليه أن ينساه، ومن يفكر
بالخروج من المأزق بترك سيارة السرفيس أو التاكسي والسير على الأقدام
سيكتشف عبث ذلك، لأن التجول في شوارع بغداد يثير الشبهة عند نقاط التفتيش،
(كما حصل لي أنا وهادي ماهود في طريق هروبنا من المفخخة في ذلك اليوم: «منو
أنتم؟ منين جايين؟ وين رايحين؟ شتتشغلون؟»، أمطرنا مسؤول الأمن المدني في
نقطة تفتيش في الكرادة، عيناه تلمعان كأنه ألقى القبض أخيراً على أخطر
إرهابيين!) لا مفر إذن من الجلوس في السيارة والتسليم إلى قدر مجهول. الخوف
يستحوذ على الوجوه، ماذا لو كانت السيارة التي تقف إلى اليمين أو إلى
اليسار، التي تقف إلى الخلف أو إلى الأمام، ماذا لو كانت السيارة هذه هي
السيارة المفخخة التي ستنفجر بعد لحظات؟ ماذا لو كان أحد الجالسين في سيارة
الكيا أو التاكسي يلبس حزاماً مفخخاً؟ كأننا أمام لعبة روليت روسية، حيث
تدور الطلقة الوحيدة المعبأة في المسدس المصوب إلى صدغ الرأس. لكن في
الروليت الروسية يتبارى ذكران، يدور كل منهما القرص ويوجه فوهة المسدس إلى
صدغ الرأس ويضغط على الزناد. وعندما تمر اللحظة عليه بسلام يدور قرص المسدس
مرة أخرى ويسلمه إلى غريمه الذي يقف أمامه. بكلمة واحدة لعبة الروليت
الروسية قدر أعمى يختاره إثنان «فحلان» يريان في التحدي طريقاً إلى الحياة.
ذلك بخلاف الروليت العراقي الذي لم يخترها أحد لنفسه.
المواطن العراقي، والبغدادي بالذات، يعرف أن خروجه للعمل وعودته للبيت
مغامرة غير معروفة المصير الذي يمكن أن تنتهي إليه. لكنه لم يختر التحدي
بحريته. إنه يسير لوحده بمواجهة مصيره، وهو عدوه «الغامض» المتخفي تحت
الأسماء العديدة تلك، مرة تحت اسم القاعدة، ومرة أخرى تحت اسم «دولة العراق
الإسلامية»، أو تحت اسم «بقايا البعث المقبور» أو تحت جنود «الطريقة
النقشبندية»، كل تلك التسميات التي اعتاد المواطن سماعها يومياً في الراديو
والتلفزيون، في المؤتمرات الصحافية لقيادة عمليات بغداد وفي تصريحات
المسؤولين، تشير إلى عدوه الذي يظل غامضاً بالنسبة له من غير المهم الاسم
الذي يُطلق عليه. هو الذي يختار له الزمان والمكان الذي تخرج الطلقة
باتجاهه، الموت في بغداد يمكن أن يحدث عند باب البيت أو في الشارع، في محطة
الباصات أو قبل الصعود إلى تاكسي، على الطريق السريع أو عند نقطة تفتيش،
قبل الدخول إلى مكان العمل أو بعد الخروج منه، في قطاع الكرخ من بغداد أو
في الرصافة. المواطن العراقي ينام ويصحو وفوهة المسدس مصوبة إلى صدغه، ففي
النهاية العدو «الغامض» هو الذي يختار له المكان والزمان، ليس ذلك وحسب، بل
هو عدوه «الغامض» هذا أيضاً الذي يختار الشكل الذي يموت فيه، سواء حدث ذلك
على شكل انفجار عبوة ناسفة أو طلقة تخرج من كاتم صوت، على شكل انفجار سيارة
مفخخة أو تهدّم بيت، لا يهم. المهم أن على المواطن الأعزل، هذا المسلح
بإصراره على البقاء على قيد الحياة وحسب، المواطن الذي لم يحصن نفسه في
منطقة خضراء كما يفعل سياسيو العراق «الأبطال» الذين صعبت الحواجز
الكونكرياتية العالية التي أقاموها حول بيوتهم حتى دخول الهواء إلى رئاتهم
(هذا ما يجعلهم يسعلون ويخنّون عند حديثهم)، أو يحمي نفسه عن طريق جيش من
«البدي غارد« كما يفعل العديد من نواب البرلمان من حملة شهادات دكتوراة سوق
مريدي وغيرها من الأسواق، على المواطن هذا الذي يخرج يومياً باحثاً عن قوت
له ولأطفاله القبول بقدره وبشكل الموت الذي هيأه العدو «الغامض».
ونحن، ماذا أعد لنا العدو «الغامض» في صباح ذلك الأربعاء قبل أسبوعين؟ كم
كان عددنا؟ خمسة؟ عشرة؟ سأحاول ذكر أسماء الذين أعرفهم، أولئك الذي جلسوا
معي إلى طاولة واحدة محتفين بعودة صديق لهم من خارج البلاد: هادي ماهود،
عزيز خيون، إقبال نعيم، عدي رشيد، حاتم.. هل نسيت أحدهم؟ ماذا عن الذين
التقيت بهم في الطريق إلى الكافتيريا وأولئك الذين صعدوا إلى مكاتب عملهم،
الممثلة آسيا كمال مثلاً وممثلات وممثلين آخرين؟ ماذا عن أولئك الذين لم
يبدأوا عملهم بعد: الدكتور شفيق المهدي مثلاً وآخرون؟ ماذا عن الذين اتفقوا
معي على المجيء بعد ساعة لكي نخرج بعدها بالسيارة بجولة عبر بغداد؟ زوجتي
السابقة التي كانت تصور في حينه مقابلة معها في تلفزيون الرشيد أو صديق
طفولتي العزيز القادم من العمارة مثلاً، ماجد نعيم؟ ماذا عن العاملين هناك
الذين كانوا موجودين ساعتها وكانوا بالعشرات، وماذا عن أولئك الذين سيأتون؟
كم عدد العاملين في المسرح الوطني عموماً، وكم عدد أولئك الذين سيكونون
متواجدين في نهار ذلك اليوم؟ هل عرف العدو «الغامض» عددهم وساعة مجيئهم؟ هل
هذا ما جعله يوقت العبوة الملصقة بالسيارة المفخخة التي أوقفها عند باب
المسرح الوطني إلى منتصف النهار؟ أنها طريقة العدو «الغامض» بالقتل دائماً
هي نفسها، أرقام الضحايا القليلة لا تعنيه، كلما كثر العدد كانت عمليته
ناجحة، في الساعة الثانية عشرة ظهراً سيكتظ المسرح الوطني بالعاملين فيه
وبضيوفهم. تُرى أين جلس العدو «الغامض» ساعتئذٍ ويده تلعب بالريموت؟
في ما يخصنا، لم تستغرق جلستنا أكثر من عشر دقائق، قبل أن نُخلي البناية
تماماً، من أين كان لنا أن نعرف أننا، ونحن نتفق على رؤية بعضنا بعضاً في
المسرح الوطني نهار ذلك اليوم، أننا كنا أصلاً على موعد مع سيارة مفخخة
اختارها عدونا «الغامض» الرابض خلف الكواليس!
المستقبل اللبنانية في
23/01/2011
«سياحة» خارج الابداع
قيس قاسم
أشياء كثيرة في فيلم «السائح» تثير الحيرة ويصعب تصديقها، منها
ترشيحه مع بطليه الرئيسين لجوائز «غولدن غلوب» للعام الجديد. فقد رشح
للتنافس على جائزة أفضل فيلم موسيقي أو كوميدي كما رشح بطله جوني ديب
لجائزة أحسن ممثل في الفئة نفسها والى جانبه أنجلينا جولي، التي رشحت
بدورها لجائزة أفضل ممثلة. وما يصدم أكثر، أن فلوريان هينكل فون دونرسمارك،
هو صاحب الفيلم الرائع «حياة الآخرين» الذي قدم صورة مذهلة لما تعرض له
السياسيون المعارضون للحزب الاشتراكي الألماني الموحد، الحاكم الوحيد في
«ألمانيا الديمقراطية»، كما سميت بعدما قسمت البلاد الى ألمانيتين شرقية
وغربية، إثر دحر الاتحاد السوفياتي النازية في الحرب العالمية الثانية.
فلوريان هذا عرى الطرق الجهنمية التي اتبعتها المخابرات الالمانية في
مراقبة ورصد حياة الناس، والتدخل في أدق شؤونهم الخاصة في محاولة مستمرة
لإخضاعهم لسياسة الجزء الاشتراكي من برلين. عمل فلوريان هينكل الأول حصل
على جائزة أوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالانكليزية في العام 2006، وبعدها
سمعنا أنه انتقل وعائلته للعمل في الولايات المتحدة، ولم نكن نتوقع ان يخرج
عمله الثاني من هناك في المستوى نفسه.
الأمر الثالث المحير يتعلق بالهوية الفنية لـ«السائح» نفسه. فالشريط لم
يأت بجديد على مستوى ابتكار المشهد أو الموضوع. معظم مشاهده مكررة عن أفلام
مغامرات عادية سبق أن شاهدنا مثلها كثيرا، تماما، كالحكاية التي تمحورت حول
مطاردة رجال عصابات خطرين مجرماً، مثلهم، أخذ منهم ما سرقوه من مال وعليهم
الآن استرداده وتصفيته جسديا، أينما وجد، وبدوره سيحاول المجرم الإفلات
منهم بكل ما استطاع من سبل. انها لعبة «القط والفأر» التقليدية ولكن بنمط
درامي بارد تصاعد قليلا مع صعود أليس كافتون وارد (انجلينا جولي) الى احدى
عربات القطار المتجه الى مدينة البندقية الإيطالية، وتعرفها أثناء الرحلة،
الى أستاذ الرياضيات الأميركي فرانك توبيلو (جوني ديب) الذي جاء يمضي
إجازته السنوية في أوروبا.
لم يخطر في بال الأستاذ الجامعي أنه، وفي هذه اللحظة، يتعرف على امرأة
خطيرة جدا، تخفي تحت جمالها الصارخ أسرار صديقها المطارد من قبل العصابات
الروسية وأجهزة الشرطة الانكليزية والإيطالية، وأن قبوله قضاء يومين معها
في أفخم فنادق المدينة الساحرة، سيجره الى متاعب لم يتوقعها. استغلال
السيدة الجميلة سذاجة الأستاذ المثقف، أو هكذا ظن المشاهد به في أول الأمر
أضفى غموضا على الحكاية وأثار الفضول، وحقيقة شخصية الأستاذ وتغيرها
المستمر كانا نقطة الجذب الأقوى للجمهور نحو الشاشة، والتي يبدو أن
«السائح» راهن عليها كثيرا، ووفق الى حد ما، لكنها ظلت عاملا وحيدا
ومحدودا، بسبب ضعف بناء الأبطال دراميا، وضعف تجسيدها، ذلك ان انجلينا جولي
التي كانت من المفترض أن تلعب دور سيدة ثرية، ذات أنوثة طاغية، بدت وكأنها
عارضة أزياء أكثر منها سيدة تنتمي الى عالم الأرستقراطيين الغربيين وجوني
ديب الذي كانت مهمته الإيحاء بكامل انتمائه الى عالم المعرفة والثقافة،
كونه أستاذا جامعيا، أطل بشخصية أخرى بعيدة عن هذا الإنتساب، وسذاجته، التي
كانت وظيفتها الدرامية تحريك العنصر الكوميدي، ولم نجدها فيه ولا في
الشريط. ومرة أخرى يتأكد لنا أن ثقل أسماء الممثلين لا تكفي لصناعة فيلم
جيد، فالحكاية مهما تكررت وصغر مضمونها، تستطيع أيدي السينمائيين المهرة
تحويلها الى ذهب، كما فعل أنتون كوربين في فيلمه «الأميركي»، على سبيل
المثال، حين حرك جورج كلوني بطريقة استطاع من خلالها صنع فيلم جديد من
حكاية بسيطة ومكررة في أفلام مغامرة كثيرة. لكن أكثر ما يقلق في «السائح»،
هو موقف مخرجه وتوجهه السينمائي، ذلك أن فلوريان هينكل فون دونرسمارك ليس
أول موهبة سينمائية تغويها أموال هوليوود، فتذهب اليها طمعا فيه وليس بالفن
بحد ذاته، والموجود بطبيعة الحال هناك أيضا. كل ما يتمناه المرء في هذه
الحالات أن يغلب الفن في داخلهم الاغواء الخطير للمال، وفي حالة «السائح»
ان يعود بعد سفرة عابرة، الى ضفة الفن، فالخيار في السينما كثيرا ما يكون
بين أغواء المال أو الانحياز الى السينما والفن الحقيقي الذي فيها.
رشيد والدراجي بين روتردام وغوتنبورغ
يعرض في الدورة الحالية لمهرجان روتردام السينمائي الدولي فيلم
عدي رشيد «كارنتينة». المهرجان يعد أحد الممولين الأساسيين للفيلم الذي عرض
مؤخرا في مهرجان وهران للسينما العربية وحاز على جائزة لجنة التحكيم
الخاصة. وفي وقت متقارب يعرض فيلم «ابن بابل» لمحمد الدراجي ضمن الدورة
الـ34 لمهرجان غوتنبورغ السينمائي الدولي ضمن عرض خاص لمجموعة من الأفلام
التي ساعد صندوقه في دعمها خلال العام الفائت. يذكر ان صندوق دعم مهرجان
غوتنبورغ السويدي ساعد في وقت سابق الدراجي ماليا في انجاز فيلمه الروائي
الأول «أحلام».
مارمادوك: بشر على ألسنة الحيوانات
ظرافة فيلم العائلة «مارمادوك» غطت على الكثير من عيوبه، ونسي
الصغار والكبار السؤال عما إذا كان الفيلم يناسب أعمارهم أم لا، وهنا عيبه
الأكبر لأن صناعه خصوصاً مخرجه توم دي، لم يحددوا سقفا عمريا لرواده، فضاعت
الحدود بين مشاهديه. هذه النوعية من الأفلام تستهوي الناس كثيرا لأنها تجمع
الحيوان والإنسان في ظروف متشابهة، وأحيانا كثيرة تسقط عالم البشر على قصص
الحيوانات وهذا ما وقع فيه مارامادوك الى درجة يسأل معها المرء نفسه فيها
عما إذا كان هذا الفيلم موجها حقا للأطفال أم أنه فيلم عادي، كوميدي،
حكايته ارتدت ثوب قصة للصغار مثل قصص «كليلة ودمنة»، ومعانيها التي يراد
ايصالها الى الكبار من البشر على لسان الحيوانات.
مع هذا كله، ينطوي الفيلم على مضمون انساني يفيد الصغار والكبار معاً.
فالقيم النبيلة تحتاج الى من يغرسها في النفوس، وهذا ما سعى اليه الكلب
الضخم «مارمادوك» الذي حاول أن يكون مفيدا لأصحابه ويغير من طريقة عيشه
عندما وفر قرار بيل وينسلو الانتقال مع عائلته الى لوس أنجلس للعمل هناك،
فرصة جديدة نادرة له، كان عليه استغلالها بالكامل. الأب قرر ترك ولاية
تكساس والذهاب الى لوس انجلس من دون مراعاة مشاعر أفراد عائلته، التي كانت
قد ألفت المكان الذي تعيش فيه، لكن بالنسبة الى مارمادوك، كان الأمر مختلفا
فهو في حاجة الى فرصة جديدة وقد حلت. في المكان الجديد عانى الجميع من
التغيير. فمارمادوك وجد نفسه وسط عصبة من الكلاب الغنية المتغطرسة،
والأولاد لم يألفوا المكان بعد. لكن ما قام به الكلب من عمل بطولي ومن مساع
كبيرة غير كل شيء نحو الأفضل، وهذا هو ما كان يأمله الجميع. «مارمادوك»
فيلم حيوي، الحيوانات فيه كانت تتكلم لغة البشر، وقد زاد هذا من روحه
المرحة وجعله مقبولا وغريبا في آن.
الأسبوعية العراقية في
23/01/2011 |