من فكرة جميلة يستقي طوم هوبر فيلماً يرتكز على الكلام وتكراره الى
درجة يشعر
المشاهد انه في مسرحية مصورة. لكن هذا الاحساس بالانغلاق في اطار حكاية
محدودة
الأطراف والطموحات، تعطله زمرة ممثلين (كولين فرث، جيفري راش، هيلينا
بونهام كارتر)
يحملون العمل على أكفهم بمساندة مخرج مكلّف
الاعتناء بجميع أشكال التواصل بين النص
المكتوب والمادة النهائية على الشاشة.
انها حكاية غريبة بعض الشيء، لكنها
حقيقية على ما يبدو، تدور تفاصيلها على والد الملكة اليزابيت
التي لا تزال تتربع
عرش بريطانيا العظمى. هذا الرجل سيضطر الى ان يحلّ مكان شقيقه ادوارد
السابع، ويحكم
البلاد والعباد بعد أن يصبح الملك جورج السادس. الهنة الوحيدة عنده هي انه
ضعيف
الشخصية ويشكو من قلة شجاعة ولا يعرف كيفية مخاطبة الجماهير.
لكن أحواله ستتغير
عندما يقرر الاستعانة بأستاذ للتدريب على اللغة ينتهج أساليب غير تقليدية.
الغني عن
التوكيد انه سيتخلص تدريجاً من كل ما يثقل كاهله، وما إن يعود الى حالته
الطبيعية
حتى يقنع الشعب البريطاني بإعلان الحرب على هتلر، في خطاب ممتاز.
هذا الفيلم
الذي افتتح الدورة السابعة من مهرجان دبي السينمائي، يمتلك كل مقوّمات
الفيلم
الاوسكاري الذي يمكنه حصد كمية كبيرة من التماثيل الهوليوودية الذهبية،
ونعني
بالمقوّمات، ديكورات متقنة الصنع لألكسندر ديبلا، تعيدنا الى
حقبة تاريخية ماضية،
الى اخراج رصين لا يقتصد في الامكانات، مروراً بتمثيل ممتاز ونص يشرّع أمام
الاخراج
رؤية ملهمة.
يرتكز الفيلم بأكمله على العلاج الذي يتابعه الملك للتخلص من
التأتأة التي يشكو منها، وايضاً على علاقة الصداقة التي تنمو بينه وبين
المشرف على
هذا العلاج. هناك الكثير من المواقف المضحكة تتأتى على نحو خاص
من روح المعالِج
الفكاهية (راش في دور مميز). بأسلوبه الكلاسيكي الذي يعجب انصار السينما
الأكاديمية، يختزل الفيلم الحياة الملوكية، يتملقها أحياناً ويظهر حماقتها
في أحيان
أخرى، لكنه في العموم يبقى لطيفاً مع شخصياته. طبعاً، لا يجوز حتى التفكير
بما كان
فعله مخرج غير انكليزي بموضوع مماثل.
هذا شريط بريطاني في اصغر تفاصيله
الدرامية والحكائية والجمالية. لكن ينعدم فيه حس النقد اللاذع
الموجود في الكثير من
الأفلام التي تناولت العرش الملكي. يوقّع هوبر، الآتي من التلفزيون والعائد
اليه
بعد هذا الفيلم، جسماً سينمائياً غريباً على رغم كلاسيكية شكله. هنا الخطاب
هو
الملك. وهذا الخطاب لا يُقرأ مواجهةً بل مواربة. ومن جملة ما
يقوله الفيلم ان
الخطاب هذا عندما يخرج من أفواه الملوك والرؤساء يكون قد قطع في ترتيبات
شكلانية
أكثر منها جوهرية. فالمسألة كلها تتعلق بالسؤال: كيف يلقي الملك (يلقبه
معالجه
بـ"برتي")، خطابه وليس ما يقوله، في لحظة تبدو فيها الحرب
العالمية الثانية أمراً
محتماً. في مشهد يختزل كل ما يريد الفيلم قوله، نرى اعضاء العائلة المالكة
يشاهدون
مواد ارشيفية يخطب فيها هتلر على طريقته الانفعالية المعروفة، فيسأل احدهم
الآخر:
ماذا يقول؟ فيردّ الثاني قائلاً: لا اعرف، لكنه يقوله بشكل جيد".
"ضـدّك"
إخــــراج لولا دوايـــون
"عــارض
ســــتـــوكــهـــولــم" فــرنــســيـاً
في فيلمها الروائي الطويل الثاني، تتطرق لولا دوايون، إبنة المخرج
الكبير جاك
دوايون، الى مادة روائية تكاد تكون نسوية في نظرتها الى شروط عيش المرأة في
المدن
الأوروبية الكبرى. دوايون مخرجة شابة، في الـ35 من العمر، وهي تنجز هنا
فيلماً
يتخطى اهتمامات جيلها، مسنودة بممثلة هي كريستين سكوت توماس
تخطت الخمسين من العمر.
لكن هذا التشابك بين جيلين من النساء يولد فيلماً طموحاً، وإن بقي في منتصف
الطريق
بين التجريب ومتطلبات السينما التجارية.
القصة في منتهى البساطة: طبيبة تعيش
حياة هادئة ورتيبة الى أن يخطفها ذات يوم شاب وسيم يعتبرها
المسؤولة عن خطأ طبي حصل
خلال عملية جراحية لزوجته. هذا الشاب مصمم على الانتقام من الطبيبة
الخمسينية، كي
ترتاح غريزته ويستعيد حياته الطبيعية، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
فالحكاية الأخلاقية سرعان ما تتحول علاقة غرامية بين الإثنين.
"ضدك" فيلم يقيم
للبُعد النفسي وزناً. لا يمكن استيعابه من دون الاطلاع على ما
يُعرف بـ "عارض
ستوكهولم"، الذي يقتصر على ميل الرهائن الذين شاركوا حياة سجّانيهم لفترة
ما، الى
تبنّي القليل من وجهات نظرهم أو أحياناً كلّها. انه سلوك تناقضي، تعيشه هنا
الطبيبة
بحلوه ومره، وهذا السلوك طرحه الى العلن للمرة الأولى المحلل
النفسي الأميركي أف
أوشبرغ العام 1978 واطلق عليه هذا الاسم وفق واقعة حصلت في مدينة ستوكهولم.
هذا
العارض يتبلور في الاتجاهين: أي ان الخاطف بدوره يمكن أن يتأثر بوجهة نظر
الرهينة،
وهذا ما سيحصل على كل حال في الفيلم. حمل العارض تسمية "ستوكهولم" بعدما
حاول يان
إريك أولسون، على اثر فراره من السجن، القيام بعملية سطو مصرفي في أحد
أحياء
العاصمة الأسوجية. لدى تدخّل قوى الأمن، عاد الى المصرف وجعل
أربعة موظّفين رهائن.
ثم توصّل الى الموافقة على تحرير رفيقه في الزنزانة كلارك أولوفسون الذي
انضمّ
اليه. وأدّت مفاوضات استمرّت ستة أيام الى تحرير الرهائن أخيراً. الغريب أن
هؤلاء
تدخلوا بين الخاطفين وقوى الأمن. في ما بعد، رفضوا أن يشهدوا
ضدّ الخاطف وساهموا في
الدفاع عنه ووصل التعاطف حدّ أن زاروه في السجن.
يحاول الفيلم، ليس من دون بعض
الارتباك، معالجة هذه الظاهرة النفسيّة المعقّدة، كونها مبنية
على التناقض وعلى نوع
من الصداقة الناشئة بين المعتدي والمعتدى عليه، وهي تذكّرنا بالعلاقة التي
تنشأ بين
شارلوت رامبلينغ ودرك بوغارد في "بواب الليل" (1974) للمخرجة الايطالية
ليليانا
كافاني. هذا العارض تفاعل متكامل في علاقة عاطفية قوية من النوع الذي يكون
بين
الأهل والولد، بين الأستاذ والتابع، بين محبي التلصص
والاستعرائيين وبين السادي
والمازوشي. كوكتيل من العقد يجتمع لتكوين الشخصية الأساسية التي يضطلع
بدورها سكوت
توماس ببراعة ما.
ما تصوّره دوايون، حالة تعلّق متبادلة حيث يحتاج الضحية الى
الجلاّد لكي يكون موجوداً، وفي المقابل، يحتاج الجلاّد الى الضحية للغرض
نفسه. ولكي
يظهر هذا العارض، من الضروري توافر 3 شروط: أولاً، على المعتدي أن يكون
قادراً على
بلورة ايديولوجية كافية لكي يتمكن من تبرير تصرفه في أعين ضحاياه. ثانياً،
ينبغي
ألا يكون هناك أي عداء إثني وأي عنصرية وأي شعور كره للمعتدي
تجاه الرهائن. ثالثاً،
يفترض ألا يكون الضحايا المحتملون على علم مسبق بوجود هذا العارض. هذا كله
متوافر
في الفيلم في طبيعة الحال، لكن النهاية ستخالف كل التوقعات...
معظم مشاهد الفيلم
التقطت في ظلام جميل يمنح الفيلم التشويق والغموض. للضرورة أحكام، والنصّ
أختار أن
يرفع مستوى الادرينالين في دم المشاهد، انطلاقاً من فكرة قديمة هي وضعه في
ظرف
مشابه للظرف الذي وضعت فيه الشخصيات. يقيم الفيلم في هذه
الغرفة، الغرفة التي تُسجن
فيها الطبيبة، على يد شاب مفجوع، يتبيّن انه لا يريد لها الشرّ، لكن شخصية
المرأة
الأوروبية، الحرةّ والمستقلة، الدائمة الخوف من الغريب، سرعان ما تضع حداً
لهذا
التعدي، وتنقلب على مشاعرها، لأن القانون في تلك البلدان أقوى
من كل شيء. طبعاً، لا
يمكن قراءة الفيلم من دون أبعاده السياسية، اذ يرتسم هنا، أمام أعيننا،
عالم كامل
وعلاقته مع الآخر بأسلوب لا يخلو من الاستعارة. الغرفة المظلمة كوكب،
الداخل اليه
مفقود والخارج مولود...
"مــحــطــم":
أهـــلاً بـالــصــمــود
"محطم"،
واحد من
أكثر الأفلام جرأة الذي عرض في برنامج مهرجان أبو ظبي السينمائي. كان ينبغي
لمخرجه
الكندي مايكل غرينسبان التسلح بالكثير من الشجاعة كي يخوض مغامرة غير
مضمونة
النتائج، كتلك التي خاضها في هذا الفيلم. انها التجربة
الروائية الطويلة الأولى
يتولاها غرينسبان، لكن حرفته عالية الجودة، ويتبدى هذا من خلال حركة
الكاميرا
وتشكيل الكادرات والتشويق الذي يولد من وحدة المكان والزمان.
حجة البداية حادث
عرضي: غابة "يُسجن" فيها رجل، ونحن معه، خلال ساعة ونصف الساعة، ولن يخرج
منها، الا
في الدقائق الأخيرة. بدايةً نراه وقد علقت رجله في حطام سيارة تعرضت لحادثة
سير،
ومات بقية الركاب، وبقي وحده صامداً بين الحياة والموت! من هو هذا الرجل؟
ماذا
يريد؟ لماذا تعرضت السيارة لمثل هذا الحادث المروع؟ كيف وصل
بنا السيناريو الى هذا
المكان المملوء بالحيوانات البرية والبعيدة عن كل اثر للانسان؟ هذا ما
سنعرفه
تباعاً، من خلال استعادات زمنية وأحلام وكوابيس متلاحقة، أحياناً ستزور
البطل
المضاد في وضح النهار، وأحياناً أخرى سيستحضرها بالقوة، وصولاً
الى ان نصبح متيقنين
من الحقيقة الكاملة، في نهاية الفيلم.
نحن أمام فيلم غريب حقاً، لا يخلو من
الرتابة والتكرار في بعض المشاهد الطويلة، كتلك التي تفتتح
الفيلم، حيث يحاول
ادريان برودي الخروج من داخل السيارة. لكن ما ينجح فيه المخرج هو جعل كل
مشهد
نقيضاً لما يليه. فالتأمل تليه حركة. واليأس يليه الأمل. هكذا يحرك النصّ
الحيوي
رتابة المكان الواحد ويجعله مسرحاً لشيء يتخطى حكاية الحادثة.
يضعنا الفيلم في
مواجهة تيمة عولجت في السينما مراراً وتكراراً: كيفية الصمود أمام عنف
الطبيعة.
بسبب تعرض ساقه للكسر جراء الحادثة، يتحول برودي رجلاً يزحف أرضاً،
شأنه شأن
الحيوان. يعيد الفيلم الانسان الى بدائيته. يحطمه من دون أي احساس بالندم
أو
الرحمة، ثم يتيح له ولادة ثانية. العنف يجر العنف، والطبيعة لا بد أن
تنتقم، هذا ما
يحاول الفيلم قوله بأقل قدر من الخطاب وبالكثير من الرموز التي حُشرت بين
"سطور"
الفيلم.
هواة المطاردات لن يرتاحوا الى هذا الجسد الغريب الذي قدّمه مدير
المهرجان بيتر سكارليت بالكثير من الحماسة، فالإيقاع بطيء، علماً ان طموح
المخرج
ليس النظر الى السينما "من فوق"، بل مجاراتها وتفعيل مواضيعها
الراكدة. فـ"محطم"
نسخة عصرية لسينما حاولت في سبعينات القرن الفائت، الغوص في أعماق الطبيعة،
ولفت
النظر الى حقائق كانت مهملة حتى ذلك الحين. طبعاً، جاءت النتائج متفاوتة.
لذلك، لا
بد من أن نتذكر فيلمين مهمين، لدى مشاهدة "محطم"، وهما "جيريميا
جونسون" للراحل
سيدني بولاك و"خلاص" لجون بورمان. طبعاً، لا يذهب المخرج الى
الحدّ الذي ذهب اليه
بورمان في كيفية معالجة موضوع العنف وعلاقته المتلازمة بالطبيعة، لكن ثمة
نظرة
واحدة بين الفيلمين لقسوة الانوجاد في الطبيعة والتهديد المستمر الذي
تمارسه هذه
الطبيعة على الناس. هذا بالاضافة الى ان الطبيعة، بشكلها
الأجمل والأعنف، شخصية في
ذاتها، وهي شخصية قوية تمنح هنا شرعية اضافية الى الفيلم، مضفية عليه
بُعداً
فلسفياً، وإن بدا هذا البُعد غامضاً ومبهماً ومفتعلاً في بعض الأحيان.
انها
تجربة متينة يجيء بها مخرج كندي، مستعيناً بالمبدأ المؤسس من السينما
الأميركية:
وضع شخصية عادية في ظرف استثنائي. يؤكد
الفيلم من جملة ما يؤكده أن أدريان برودي
هاو غير مشروط لأدوار الرجل المحطم، اليائس، الواقف على حافة
الهاوية، بحيث تنعدم
أمامه سبل العيش والخلاص. هذا يزيد من أهمية الممثل الذي برع في "عازف
البيانو"
لبولانسكي، ذلك أنه ينتزعه من التصنيف ويعطي حجماً انسانياً لعمله، علماً
ان أداءه
غير متوازن، ويمكن تفهم هذا الشيء، اذ لا أحد يتشارك التمثيل معه في لحظات
الوحدة
الطويلة التي يعيشها في الغابات.
القبلة في السينما
في الغرب، وفي العالم الأكثر تحضراً وانفتاحاً وتسامحاً، حرّروا
القبلة منذ زمن
بعيد. منذ العام التالي لولادة السينما، أمام أعين مشاهدين مذهولين حيال ما
يرونه،
تبادل ماي ايرفين وجون رايس، القبلة التي يُعتقد ويقال انها الأولى في
تاريخ
السينما. كان شعر ايرفين مرفوعاً على طريقة الشينيون، وكان
لباسها الكورسيه ذو
الأزرار مقفلاً حتى اعلى عنقها. أما رايس فكان نموذجاً عصرياً للرجل
الماتشو ذي
الشاربين العريضين. كان سبق لهما ان تشاركا تمثيل مسرحية كوميدية على خشبة
برودواي
اسمها "الأرملة جونز" حيث تلامست شفاههما للمرة الأولى. ثم
تكرر ذلك خلال الثواني
السبع والاربعين التي استغرقتها قبلتهما المصورة. كل اختراع بشري يحتاج الى
رائد.
هذان كانا رائدا القبلة على الشاشة.
في أوروبا التي كانت تتهيأ لدخول قرن جديد
ومن خلاله الى الحرب (رمز آخر لعدم التسامح)، راح الصراع على
هذه القبلة يحتدم. من
جانب، كان هناك المحافظون، ومن آخر انصار الأفكار المستحدثة التي ساهم
الأدب
والموسيقى والفنون الأخرى في الترويج لها لقرون وقرون. اذا كانت نسبة
الحرية في
البلدان تقاس بالنحو الذي يتعاملون فيه مع المرأة، فمنع القبلة
من أن تتجسد على
الشاشة يشير الى حجم التخلف الموجود في المجتمع. الى اليوم، لا يزال الحبيب
يقبّل
حبيبته على الجبين أو على احد الخدين في سينمات بلدان كثيرة. ثم يخرج عليك
السينمائي ويقول لك كيف يمكنك ان تصنع فيلماً ويعطيك الدروس
الكبيرة. القبلة بين
اثنين على الشاشة لم تعد شيئاً اليوم، لكن بعضهم يعتبرها اباحية وخروجاً
على تقاليد
المجتمع وأعرافه، وكأن التقاليد والأعراف تلك يجب أن تبقى ثابتة وأبدية.
القبلة
بورنوغرافيا بالنسبة الى بعضهم الذين يعتبرون ان ما يدور بين
حبيبين يجب ان يبقى
حبيس غرف النوم. عبثاً نردّ أن الكاميرا تتسلل أيضاً الى أماكن من المفترض
انها
ليست موجودة. ووظيفتها ليس دائماً أن تسترق النظر بل أن تحكي. لا حكاية
مصورة من
دون كاميرا. أشعر نفسي غبياً وأنا أقول هذا الكلام!
قطع الغرب، كما في مجالات
أخرى، أشواطاً كبيرة في هذا المجال. من منا لا يذكر "سينما
باراديزو" والمطران
الرقيب الذي يدقّ الجرس الذي يحمله في يده انذاراً، في كل مرة
كان اثنان يتبادلان
قبلة على الشاشة؟ عندما نرى هذا المشهد اليوم، لا بدّ ان نضحك. هنا نتحدث
عن
اربعينات القرن الفائت، عندما كانت كنيسة صقلية المتعصبة تمارس الغطرسة على
الناس.
السينما العربية في معظمها، بالاضافة الى المسلسلات، اكثر تعصباً من الرقيب
الصقلي،
في التعامل مع القبلة، ومع ذلك فهو يقبل زوجته عندما يعود الى المنزل.
النفاق
لا يصنع سينما. اخفاء الرأس في الرمال لا يصنع سينما. الانتقائية لا تصنع
سينما.
باتت القبلة اليوم من الأساسيات في الكثير
من الأفلام، سواء أكان وجودها مبرراً أم
لا، وسواء أكانت لخدمة سياق الحوادث أم لإثارة رغبات المشاهد
الدفينة وصولاً الى
حضّه على التماهي مع من يتبادلون هذه القبلات العادية أحياناً، والأسطورية
في
أحايين كثيرة. مع بلوغ السينما مرحلة متقدمة، باتت القبلة ومعها العديد من
الممنوعات التي كان ينظر اليها حرّاس الأخلاق الحميدة بأنها
تفسد المجتمع، من
مقدسات هذا الفنّ. لكن الطريق للوصول الى الحالة التي اصبح الغرب عليها
اليوم، لم
تسلم من العقبات والأخطار والشتائم والتهديدات والابتزاز. وأول من كان عرضة
للمنحى
الأخلاقي المنافق الذي تراجع اليوم الى حدّ كبير، هما الثنائي ايرفين/ رايس،
رائدا
القبلة على الشاشة.
كانت القبلة الدانماركية، في السنوات الأولى من القرن
الفائت، اكثر القبلات عرضة للاتهام بسبب طابعها الشهواني المتمادي. كانت
القبلات
الآتية من سينما تلك البلاد أطول من غيرها، وابطالها يهيجون
شريكاتهم بمجرد قبلة
على الشفتين المسحوقتين والمتورمتين، وذلك من كثرة الولع والهيجان والاثارة
عند
الاناث، ومن كثرة حماستهن لما ينتظرن من جنس بعد تلك القبلة. وكان بعض من
الصحافة
المتخلفة يدق ناقوس الخطر في كل مرة يرى فيها قبلات تخرج على
اطار "الحياء". في
العشرينات، كتب أحدهم يقول: "لقد تراجعت قيمة القبلة. في الامس القريب،
كانت نساؤنا
الواعيات يتذمرن من أن السينما جعلت الممثلات يقبلن فعلاً ولا يلجأن الى
تقنية
القبلة الزائفة. اليوم، باتت السينما تمنحهن دروساً في فنّ
التقبيل (...). وتالياً
عرفت القبلة انحطاطاً واضحاً وفقدت تأثيرها وكأنما صارت توازي كمشة يد
خجولة". لكن
كل هذه الهجمة ضد القبلة التي قادها محافظون، لم تستطع الحدّ من تطورها،
فباتت
القبلة المصوّرة الوسيلة الفضلى للتصدي للعقلية المحافظة التي
كانت تهيمن في بعض
المجتمعات. الممثلة بولا نيغري، في اواخر سنوات السينما الصامتة، صرحت بأن
القبلة
متعة ديموقراطية ينبغي أن تكون في تصرف الجميع. يمكنها أن تكون بتولة
وخجولة.
متعجرفة وعذبة. حارقة وشهوانية. يمكن روميو أن يغطي جسد حبيبته جولييت
بقبلات
سريعة، سريعة الى حدّ أنه يصعب النظر اليها.
لكن المعايير الأخلاقية تتطور
وتشهد تبديلاً وتحسناً. وهذا لحسن حظنا نحن السينيفيليين الذين
لا نستطيع أن
نستذكر، من ذاكرتنا المنكوبة المليئة بمشاهد الحروب والكراهية والضغينة
والجهل
والتعصب، بضع دزينات من الأفلام الاّ من خلال القبلات المتبادلة بين بطلين.
القبلة،
أعني بها تلك الصريحة والفموية حيث حديث حميمي بين لسانين (في
مرحلة أكثر تقدماً)،
هي واحدة من اسمى أنواع البوح والاعتراف والودّ. وهي، أولاً
وأخيراً، احدى خاصيات
الفن السابع. الفنّ التشكيلي أهملها كثيراً. لم تسترع القبلة انتباه اباطرة
الرسم
في أوروبا. أما القبلة في الموسيقى والأدب والشعر والنحت والفنون الأخرى،
فمتفاوتة
الحضور ولا تملك القدرة ذاتها والتأثير عينه، لدى المتلقي،
لأسباب لا حاجة الى
الغوص فيها، كونها واضحة وصريحة: الصورة المتحركة هي محرك العقول والشهوات
في زمن
الحداثة.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
16/12/2010
عن ضبط المصطلح
بين «السينما الفلسطينية».. و«سينما
القضية الفلسطينية»!..
بشار إبراهيم
من اللافت للنظر أن ثمَّة خلطاً في المفاهيم
والمصطلحات فيما يتعلَّق بموضوع «السينما الفلسطينية»، خاصة من
ناحية القدرة على
تمييزها عن «سينما القضية الفلسطينية»!.. ويزيد في الأمر غرابة أن هذا
الخلط يقع
فيه، فضلاً عن الفنانين السينمائيين أنفسهم، عدد من النقاد والمهتمين
والدارسين
والباحثين أيضاً..
ورغبة منا في التأكيد على ضرورة ضبط المصطلحات، وتحديدها،
لتوضيح ميدان البحث، وتحديده، ومنع الإلتباس فيه، نرى أنْ لا بدَّ، بدايةً،
من
العودة إلى التوقِّف أمام المصطلح، في محاولة حسم كل ما يمكن
أن يدور في الذهن، من
خلط، أو تداخل!..
يتفق المهتمون، عادة، في نسبة السينما إلى الجهة المنتجة،
بغضِّ النظر عن جنسية المخرج، أو الممثلين، أو كاتب القصة أو السيناريو..
وبغضِّ
النظر، كذلك، عن جنسية الفنيين والتقنيين العاملين في إنجاز
الشريط السينمائي.. بل
إن الأمور تعود أحياناً في انتساب السينما إلى الجهة الأكثر قسطاً في إنتاج
العمل
السينمائي، وتمويله، ويحصل هذا خاصة عندما تتشارك أكثر من جهة إنتاجية، من
أكثر من
جنسية، في ذلك؛ رغم أننا نلاحظ في بعض الأحيان القيام بنسبة العمل
السينمائي إلى
جهة المخرج، الذي يتمكّن، بطرائق مختلفة، من توفير تمويل ما،
من ماله الخاص، أو من
جهات أخرى، تختفي خلف اسم ما، أو تتوارى وراء شخص المخرج، ذاته، لأسباب
عدة، ليس
مجال مناقشتها الآن في هذا المقام.
وعلى هذا فإننا نقصد بمسمى «السينما
الفلسطينية»، تلك السينما التي أنتجتها جهات فلسطينية الجنسية أصلاً؛ وفي
هذه
الحالة فإن ما هو فلسطيني، كمنتِج سينمائي، سيتعدد بين كونه أحد فصائل
الثورة، أو
تنظيماتها، أو المنظمات، أو الهيئات، أو الاتحادات الشعبية الفلسطينية، أو
تشكيلات
مؤسساتية سينمائية فلسطينية، نشأت من خلالها.. وقد يكون المنتج
مخرجاً مشاركاً في
الإنتاج، بالتعاون مع جهات أخرى، ممن تتولّى توفير الإمكانيات المالية، أو
التقنية،
من معدات وأجهزة له، أو أن يتم ذلك عبر إنشاء شركات أو وحدات إنتاج
سينمائية
فلسطينية، فردية أو تشاركية، تعاقدية، يكون أحد أطرافها
فلسطيني الجنسية، أو
فلسطيني الأصل..
وبطبيعة الحال لن يختلف الأمر، بين أن يكون
الإنتاج السينمائي الفلسطيني، قد تمَّ هنا أو هناك، مكانياً،
بسبب حالة الشتات
الفلسطيني، أي سواء تمَّ إنتاج هذا الفيلم الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية
المحتلة (1948،
أو 1967)، أو أُنجز في أي قطر من أقطار الوطن العربي، أو في أي بلد أوروبي،
مثل: هولندا، أو بلجيكا، أو فرنسا، أو بريطانيا، أو إيطاليا.. أو في
الولايات
المتحدة الأمريكية، أو كندا، أو أستراليا.. أو غير ذلك من بلدان العالم،
سواء في
آسيا أو أفريقيا، أو دول المعسكر الاشتراكي (الذي كان).. إذ لا
يغير ذلك من حقيقة
الموضوع شيئاً، رغم دلالاته!..
فالفيلم ينتمي إلى «السينما الفلسطينية»، طالما
أن الجهة المنتجة، أو المشاركة بالإنتاج، هي فلسطينية الجنسية،
سواء أكانت هذه
الجهة مؤسساتية، شخصية، جماعية أو فردية.. وقد تضم «السينما الفلسطينية»،
ما هو
متعلّق بالقضية الفلسطينية، أو ما هو غير متعلّق بها، ولا يقاربها.. وهذا
يعني أن
انتساب السينما إلى نسب معين، لا يرتبط بمضامينها، أو خطابها، فقد يكون
خطاب هذه
السينما تقدمياً، جاداً، ومسؤولاً، وربما يكون عكس ذلك!.. أي
أنه في حال «السينما
الفلسطينية» قد يكون منها ما يخدم القضية الفلسطينية، أو لا يخدمها، إن لم
نقل قد
يكون ضاراً بها!.. إذ أن الانتماء القانوني، عبر الجنسية، إلى ما هو
فلسطيني، شيء،
والانتماء الواعي الجاد الملتزم، الذي يحمل هموم الوطن
والقضية، شيء آخر، وليس لهما
بالضرورة أن يكونا مترابطين ومتواشجين، وإن كنا نتمنى ذلك..
ونشير هنا، في مجال
تحديد مفهوم الفلسطينية، إلى شيوع فكرة أن «الفلسطينية» هي انتماءٌ نضالي،
وليست
فقط انتماءً قانونياً، عبر الجنسية، وجواز السفر، أو عبر الدم، وصلة
القرابة!.. ومع
احترامنا وتقديرنا لنُبل هذه الفكرة، أي فكرة أن «الفلسطينية
هي هوية نضالية»، ولكل
من تبنَّاها، وآمن بها، ومارسها في حياته، سلوكاً ومواقف!.. وهي فكرة وجدت
شيوعاً
خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، بالتوازي والترافق مع الصعود الكبير
للثورة
الفلسطينية.
ومع
انتماء الكثيرين من أشقاء عرب، وأصدقاء أجانب،
إلى فصائل الثورة الفلسطينية، والعمل في مؤسساتها، والاستشهاد
في مجرى نضالاتها!..
إلا أن تحديد حقل البحث، بمنهجية علمية (ربما تبدو باردة، وفجَّة، هنا)
يقتضي منا
أن نعيد الاعتبار للمفاهيم والمصطلحات، بغضِّ النظر عن مدى نبل فكرة
الانتماء/
الهوية، ومغزاها والقيمة الإنسانية العالية التي تتضمنها، ونجد أنفسنا،
لتحديد «السينما الفلسطينية»، على اضطرار لأن نميز
بين المفهومين، دون أي مواربة.. وأن
نتوقف عند مفهوم الفلسطينية القانونية والجنسية والأصل والدم، في هذا
التحديد، مع
كامل احترامنا وعلو تقديرنا للانتماء النضالي للهوية الفلسطينية، فكراً
وعملاً،
ولكل من يمارسه في واقعه الحياتي، فكراً وعملاً، ولكل من
يعتدُّ به.. وله السبق
والفضل!..
وعلى هذا، أيضاً، فإن «سينما القضية الفلسطينية» هي مفهوم آخر،
ومصطلح أوسع، وأكثر شمولاً، إذ هو يُعنى بالسينما وفق المضامين التي
تقدمها، فقط،
وبغضّ النظر عن جنسية المنتج!.. وحينذاك علينا أن ندرك أن
مُنجَز هذه السينما، وإن
كان يتضمن الإنتاجات السينمائية الفلسطينية، تحديداً المتعلقة بالقضية
الفلسطينية،
من أحد جوانبها، إلاّ أنه لا يتوقف عند حدود ذلك، بل يشمل كذلك كافة
الإنتاجات
السينمائية، غير الفلسطينية، ذات العلاقة المباشرة، أو العلاقة
غير المباشرة، أو
ذات الدلالات والاسقاطات، بصدد القضية الفلسطينية، وجوهر الصراع العربي
الصهيوني،
وذلك بغض النظر عن الجهة المنتجة..
فجوهر «سينما القضية الفلسطينية»، هو
تناولها، أو تطرُّقها للشأن الفلسطيني، منظوراً إليه من خلال
الصراع العربي
الصهيوني. وهذا يعني أن «سينما القضية الفلسطينية» هي تيار سينمائي، وليست
انتساباً
معيناً ذا خصوصية قانونية أو جنسية محددة، فهذا التيار ينضوي فيه كل من
يريد تناول
القضية الفلسطينية، أو أحد جوانبها، أو أي من منعكساتها وتداعياتها، وما
ينجم عنها،
وما يستشرف منها، أو لها..
وعلينا التأكيد هنا أن «سينما القضية الفلسطينية» هي
سينما مضادة للسينما الصهيونية، بطبيعة الحال، لأنها تدحض في بعض جوانبها،
إن لم
نقل جوهر خطابها، الأطروحات والمزاعم الصهيونية، كما أنها في
جوانب أخرى تؤكد على
الحقوق الفلسطينية المشروعة، بغضِّ النظر عن مدى اقترابها من حقيقة جوهر
الصراع
العربي الصهيوني، أو الاكتفاء بملامسة بعض الجوانب الإنسانية من معاناة
الشعب
الفلسطيني، سواء في وقوعه تحت الاحتلال الصهيوني، أو في تناثره
المفجع في بلاد
الشتات واللجوء والغربة، بسبب ما حلّ به جراء النكبة الكبرى عام 1948، ومن
ثم
النكسة الموجعة المفجعة عام 1967، إضافة إلى الاعتداءات الوحشية الهمجية
الصهيونية،
التي انصبت حمماً من نار وموت ودمار على الفلسطينيين العزَّل
في المخيمات، وشتى
أماكن اللجوء..
وشتى أماكن اللجوء..
كذلك
من ناحية اهتمام «سينما القضية الفلسطينية» بأحاديث من طراز حقِّ
الفلسطينيين في
الكفاح من أجل استعادة حقوقهم، والتمكُّن من عودتهم إلى وطنهم الذي طُردوا
منه،
وأحاديث من طراز البحث في الآثار والمنعكسات الناجمة عن هذا
الصراع على البلدان
العربية الأخرى، خاصة البلدان المجاورة لفلسطين، وفي المقدمة منها سورية
ولبنان
ومصر والأردن والعراق.. فضلاً عن ربط الكثير من الأحداث والتحولات، التي
شهدها
العالم العربي في القرن العشرين، بمجريات هذا الصراع..
ومن ناحية محاولة هذه
السينما؛ «سينما القضية الفلسطينية»، رؤية القضية الفلسطينية كجزء هام من
مفردات
لوحة الكفاح التحرري الثوري التقدمي العالمي، الذي شهده العالم في النصف
الثاني من
القرن العشرين، انطلاقاً من اعتبار الثورة الفلسطينية واحدة من أبرز
الثورات
المناضلة في سبيل قضية عادلة، والمتسلِّحة بإجماع العالم
الباحث عن الحرية
والعدالة.. وصولاً إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية ذات معطى إنساني
أخلاقي..
لابد من نصرتها والوقوف إلى جانبها.
ما بين نسقي «السينما الفلسطينية» و«سينما
القضية الفلسطينية»، ثمة نقاط تواصل وتفاصل، لا بدَّ من لحظها،
لإدراك المسافة ما
بين هذين النسقين من السينما، رغم أن موضوعهما واحد، تقريباً، أو متشابه في
غالب
الأحيان!.. ونحن إن كنا نمايز بينهما، فإنما ذلك يتمّ على أساس الجهة
المنتجة، أي
بين أن يكون هذا الفيلم مُنْتَجَاً بأموال فلسطينية، أو
بمشاركة أموال أو جهات
فلسطينية في إنتاجه، وبين أن يكون الفيلم مُنْتَجَاً بأموال وإمكانيات غير
فلسطينية، سواء أكانت هذه الجهات عربية شقيقة، أو أجنبية صديقة.. وحتى لو
كان
المخرج في هذه السينما فلسطينياً، فجنسية السينما، كما نرى، لا
تتحدد بالمخرج، بل
بالمنتج أولاً وتالياً..
الجزيرة الوثائقية في
16/12/2010
الوثائقي الجزائري من مرحلة النضال إلى تجسيد الهوية
د. حبيب بوخليفة – الجزائر
ولدت السينما الجزائرية في أحضان الثورة
التحريرية و تأسست على قواعد مدرسة الفلم التسجيلي الوثائقي.
بعد انطلاق حرب
التحرير في 1954 تحتم على التنظيم الثوري أن يوظف كل الوسائل لتحديث أساليب
المقاومة و مجابهة الدعاية الاستعمارية الفرنسية التي بدأت في منتصف القرن
التاسع
عشر على مستوى الأدب والفنون التشكيلية والصحافة والتي صنعت صورة سلبية
تعكس
الجزائري على أنه متخلف و محدود الذكاء و لابد من تمدينه. كتب
فيكتور هيغو" إنها
الحضارة التي تدوس الوحشية، انه شعب مستنير يلتقي بشعب في الليل ، نحن
إغريق العالم
علينا تنوير العالم" .. إن الصورة السلبية المفبركة تجسدت بقوة بعد ما
استطاع "الإخوة
لوميار" أن يخترعوا آلة التصوير في1895 وانجاز ثمانية أفلام في تجاربهم
الأولى على أرض الجزائر إلى غاية اندلاع الثورة أول نوفمبر
1954 . تحول الاستشراق
من الصورة الثابتة إلى الصورة المتحركة موجه ليس فقط للفرنسيين وإنما كذالك
للأوروبيين لتبرير الاستعمار. ولكن هذا لا يمنعنا من أن نعتبر هذه المرحلة
جزءا من
الرصيد التجريبي السينمائي الجزائري الكولونيالي ولا يجوز أن نمر عليها مر
الكرام،
لقد فتحت أبواب الاكتشاف المعرفي السينمائي للجزائريين.
يعتبر كل من الفيلم
التسجيلي الوثائقي"اللاجؤن" في 1956 لسيسيل دي كورجيس والذي كلف صاحبه سنتي
سجن
وفيلم "الجزائر تحترق" للفرنسي روني فواتيي في سنة 1957، البداية الأولى
للأرضية
السينمائية التسجيلية في الجزائر. ثم بعد ذلك خرج إلى العالم فيلم "كفاح
الجزائر"
الذي ساهم في تفسير القضية الجزائرية للرأي العام الفرنسي خصوصا في صفوف
التيار
التقدمي الاشتراكي إلى جانب مجموعة من المبتدئين السينمائيين مثل جمال
شدرلي ومحمد
الأخضر حمينه وأحمد راشدي.
لابد أن نفرق بين الأعمال التي أنتجتها خلية
الإنتاج السينمائي لخدمة الثورة التحريرية دعائيا والأعمال
التي قام بها بعض
الأجانب مثل بيار كليمون الذي حكم عليه بعشر سنوات سجن بعدما سجل ما جرى من
جرائم
قام بها الجيش الفرنسي في" ساقية سيدي يوسف" في 1958على الحدود الجزائرية
التونسية
واليوغسلافي لابيدوفيش الذي رافق التنظيم الثوري في أعقد مراحله بعد تأسيس
الحكومة
المؤقتة وسجل كل النشاطات السياسية والميدانية.. ثم فرانك
بيرتون الأمريكي الذي سجل
بشجاعة التقتيل المباشر للجزائريين بالمناطق النائية وغير موقف الأمريكيين
إلى جانب
الثورة الجزائرية. إن التنظيم الثوري أكد على ضرورة الصورة والصوت في
الكفاح المسلح
لتحرير الأرض من الاستعمار الغاشم والمستبد الذي اغتصب البلاد والعباد وفي
ظل هذه
الظروف المتشعبة أنشئت أول خلية سينمائية تسجل كل ما يدور في أرض المعركة
تحت
إشراف محمود قنز وريني فوتيي مباشرة بعد مؤتمر الصمام في
1956.
بعد ذلك أنجز
محمد الأخضر حمينه فيلما وثائقيا خياليا بعنوان "يسمينه" الذي لا يزال تحفة
تكشف عن
عظمة الثورة الجزائرية. ثم استطاع بيار شولي وزوجته كلودين مع جمال شدرلي
ومحمد
الأخضر حمينه أن ينجزوا فلما تسجيليا حمل اسم "جزائرنا" لتقدميه أمام جمعية
الأمم
المتحدة في 1960 تحت مسؤؤلية محمد اليزيد الذي كان يترأس قسم الإعلام في
الحكومة
المؤقتة والذي لعب دورا هاما في التعريف بالقضية الجزائرية.
أما الفلم السينمائي الخيالي الطويل فيعود إلى
فترة الاستقلال مع الفيلم التاريخي "معركة الجزائر" للمخرج
الايطالي التقدمي جيلو
منتيكورفو ثم "الليل يخاف من الشمس" لمصطفى بديع (1965) و"ريح لأوراس"
لمحمد الأخضر
حمينه في 1966 و"التحية يا ديدو" لمحمد زينات في سنة 1971 و"ريح الاوراس"
إلى جانب
"
وقائع سنين الجمر" الذي نال السعفة الذهبية في 1976 في مهرجان "كان"
الدولي و"سقف
وعائلة" لرابح الاعراجي في 1982 وغيرها من الأفلام التي عبرت بقوة عن
الشخصية
الثقافية الجزائرية النضالية وبناء المجتمع الجديد.
لم تعرف هذه الفترة الاهتمام
بالفلم الوثائقي إلى غاية بداية التسعينيات من القرن الماضي
عند رجوع البعثة الأولى
من المخرجين الاختصاصيين من روسيا(الإتحاد السوفييتي سابقا) و من بينها
المخرج عز
الدين مدور في أواخر الثمانينات من القرن العشرين والذي أخرج رائعة
"استعمار دون
إمبراطورية" تناول فيها موضوع المقاومة في المجتمعات التي تكافح من أجل
الاستقلال
ومنها المجتمع الجزائري كنموذج حي للثورة. وقد عمل مدور في
المؤسسة الوطنية
للتلفزيون الجزائري وأنجز عدة أعمال سينمائية تسجيلية تتناول واقع الحياة
الاجتماعية والثقافية وله أعمال فنية تدخل في خانة الفلم الخيالي المطول
مثل "كم
أحبك" و"الحروب الصليبية الجديدة" ، "أسطورة تيكلات" حيث يمزج الأسلوب
الوثائقي
للوقائع بالخيال وأخيرا "جبل باية" الذي جسد فيه قوة المرأة و شجاعتها
الأمازيغية
وطبيعتها المقاومة.
ظهرت كذلك بعض الأسماء التي أعطت نفسا جديدا للفلم
الوثائقي على غرار إبراهيم اتساقي في "أطفال الريح" و"حكاية لقاء" و مزيان
يعلا
والعربي لكحل في عمله الفني السينمائي الوثائقي "المقاومة بالجنوب الغربي"
و
بالقاسم حجاج الذي "تميز بفيلم "امرأة تاكسي" حيث نكتشف الواقع من خلال
الخيال.
ويمكن القول إن التجربة السينمائية في الجزائر تعيش عموما مرحلة
انتقالية حاسمة، لا يمكن فصلها عن التغيرات السياسية والاقتصادية الكبرى
التي طرأت
على البلاد. فقد استطاع تيار العولمة أن يجعل من هذه الصناعة أداة في تحديد
مفهوم
الحضارة وفرض آليات الممارسة تربطه بالوعاء الثقافي الأوروبي
وخصوصا بعد القطيعة
التي عاشها المجتمع الجزائري في أواخر الألفية الثانية من القرن الماضي
نتيجة العنف
الذي اكتسى كل المساحات العمومية وأدى إلى تهجير الكثير من الفنانين و
المبدعين
المثقفين نذكر على سبيل المثال مالك بن إسماعيل ومرزاق علواش و
غيرهم . إن النظم
السياسية لم تواكب بصفة جدية الفعل السينمائي في ظل مطرقة أحادية النظر
والتخلف
السياسي الفكري لدى الطبقة الحاكمة التي تخشى كشف التناقض بين الأقوال
والأفعال.
معلوم أن الفلم الوثائقي يتعامل مع واقع الأحداث والظواهر سواء كانت
من الماضي أو الحاضر، فهو يعكس حتما جزء من الحقيقة أو كل الحقيقة
بالارتباط النسبي
مع عدة عوامل ذاتية وخارجية. معظم الأعمال الفنية السمعية البصرية الناجحة
مؤخرا قد
تمت على مستوى الإنتاج المشترك مع البلدان الأوروبية، باعتبار أن التمويل
المالي
يشكل السكة التي تقود إلى فردوس الإبداع الفني السينمائي ثم
عامل حرية التعبير
الذي لا يقل أهمية في انجاز الصورة المتحركة وخير دليل على ذالك الفلم
الوثائقي "الصين
لا تزال بعيدة" . كما ظهرت في الآونة الأخيرة أسماء مخرجين و منتجين وأعمال
لا تقل مهنية عن مثيلتها في الضفة الشمالية رغم الصعوبات والحواجز التي تقف
في طريق
الانجاز. فنلاحظ دخول المرأة إلى ساحة معركة الإبداع مثل دراوي
صبرينة بفيلمها "قوللي"
أو فاطمة الزهراء زموم بعملها "الزهر" فقد تميز كلاهما بالأسلوب الخيالي في
تركيب الواقع.
لقد انتقل الفلم الوثائقي الجزائري من مرحلة الجمود
إلى مرحلة الحراك وتغير شكلا ومضمونا ولم يعد يستنسخ جملة الوقائع كما هي
وإنما
يوظف الخيال ومفردات فنية أخرى للتعبير عن هذا الواقع بجميع
تناقضاته. ويعتبر
المخرج العربي لكحل من المبدعين السينمائيين الذين ينطلقون من وعيهم
الثقافي
معتمدين على وسائلهم المادية والمعنوية الخاصة للحفاظ على استقلالهم. لقد
قام مؤخرا
بانجاز عمل يمكن أن يكون عبرة للجيل الجديد وهو " المقاومة بالجنوب
الغربي" رغم
بعض النقائص في التعامل التقني الإخراجي الدرامي وهو لا يبتعد كثيرا عن
العمل
السابق" تاريخ المناجم الجزائرية من 1830 1962 " حيث يتناول
المبدع موضوعا تاريخيا
اجتماعيا سياسيا. ويتمثل جهد المخرج في تجسيد الهوية الثقافية
الاجتماعية. فابتعد
عن المفهوم العام التقليدي للفيلم "الوثائقي" المنحصر عادة في إطار السلوك
النخبوي.
لقد كان موجها إلى الجمهور العام. ثم إن قدرة المخرج على بناء القصة
التاريخية
مكنته من التوظيف الموضوعي لسرد الأحداث مستعينا بأسلوب الفيلم
الخيالي المطول مما
أعطى للصورة بعد آخر.
الجزيرة الوثائقية في
16/12/2010 |