لا يصدق المرء أن نبيل
المالح بأعوامه الأربعة والسبعين (مواليد 1936)، وفي بلد قليل الإنتاج
السينمائي،
لا يزال يتحدث عن مشاريع سينمائية، مشاريع لا مجرد أحلام أو
أوهام، فالرجل أثناء
لقائنا به كان ينشغل أحياناً باتصالات للتنسيق لفيلم تسجيلي بحماس شاب يبدأ
مسيرته
للتو. لكن من يطلع على قائمة الأفلام التي أنجزها المالح، سيرى أن الرجل
أنجز أكثر
من 150 فيلماً، بين فيلم روائي طويل أو تجريبي أو وثائقي. لا
أحد بالطبع سيزعم أنه
شاهد تلك الأفلام، فمعظمها في الأساس غير متاح. لكن أحداً لن ينسى فيلمه
الجميل «كومبارس» (1993)، أو ربما «الفهد» (1972)
فيلمه الجماهيري المأخوذ عن رواية لحيدر
حيدر، ولعبت فيه إغراء دور البطولة. فما حكاية صاحب «رجال تحت
الشمس» (1970)،
و«السيد التقدمي» (1975) و«بقايا صور» (1980) وسواها مع السينما، ومع مؤسسة
السينما؟
·
صار الحديث عن خلافك مع مؤسسة
السينما أشبه بفلكلور سنوي، نسمع من
المؤسسة عن سبب للخلاف معك، ما حكاية هذا الخلاف؟
}
حسناً، لنحـاول أن نضـع كشف
حسـاب نـهـائياً، وأرجو أن يملك الآخـرون شـرف الشجـاعة والنـزاهـة في
تقـديـر
الأمـور. أعـترف بـأنـه كـان هنـالك خـلاف حـول تطبـيق بنـد واحـد من بنـود
عقدي مع
المؤسسة حـول حـقـوق مـدة عرض الأفـلام السـوريـة (ثلاث أو خمس
سنـوات) التي قمت
بتسويقها إلى إحدى القنـوات المشـفـرة. بالرغم من أن ذلك لم يشـكل أي مكسب
مـادي
لي، وخسرت في هـذا الخـلاف لأسباب مثـيرة للشـك، من بينها رشـوة المحكم
الذي
يمثلني، وهو مخرج زميل، بتحقيق فيلم مقابل التخلي عني.
ولكنـنـي ومنذ أكثـر من عـام
طبقـت حكم المحكمة وأنهيت الأمـر. وكـانت المؤسـسة متفرغـة لاستخدام كل
وسـائلهـا
لتشـويـه الوقـائع والصفـات إضـافـة إلى التشهيـر والكـذب والتلفيق، مـع
السـكوت
الفاضح على الدعـاوى القائـمـة، ومـا زالت، مع شـركـة أولاد عبد الحليم
خـدام.
لقد بـدأ العـداء منـذ بـدايـة عهـد هـذه الإدارة، بـنـاءً على تـوجيهـات
من
جهـات محـددة كـعـقـاب على مواقف فـكـريـة لي. وكـان ذلك أيـام
انـفـلات عبد الحليم
خـدام في التشهيـر وعـقـاب كل من لـه عـلاقـة بفكـرة المجتمع المدني.
ولنعـد إلى
السينمـا، فمـنـذ أربعيـن عـامـا بدأنـا وزمـلائي القلائل مسيرة وضـع
سـوريـا على
خـارطـة السينمـا العالميـة وحفرنـا الطريق بأظـافرنـا في أصعب مـراحل صنـع
سينمـا
وطنـيـة أصيلـة، وأعـمـالنـا ونجـاحنـا يشـهـد على ذلك ( بينمـا مديـر
المؤسسة
ينكرهـا وهو الذي كـان طـفـلا غـرّا وربمـا لا يزال) وهـو سـوري بالجنسية
ولكنـه
غـريب بالكـامل عن جنسية المكـان الذي يديـره، والدليل على ذلك
( بالرغم من غـرامـه
بلقب النـاقد الكبير) أن كل مـا كتبـه هـو ترجمـة لمقـالات نقـديـة من
صحافة أجنبية
ووضعها في كتب وبرامج تلفزيونيـة مع ادّعـائهـا لنفسـه، وأتحـداه أن يتمكـن
من أن
يجلس في أي مناظـرة فـكـريـة أو تحليليـة أو نـقـديـة
سينمـائيـة في أي وقت من
الأوقـات حـول أي فيلم من الأفـلام وخاصة السـوريـة، وجهـلـه فـاضح حتى في
مسيرة
الأفـلام السـوريـة المؤتـمـن على إدارة مصـيرهـا. فترهـاتـه التلفيقية
الحـافلـة
بالكذب والتزويـر الوضيع والتي نشـرهـا ضـدي كـانت كـردّ فـعـل على
احتجاجي، في
كتــاب مـوجّـه إلى السيد رئيس الجمهورية عبـر وزير الثقافـة
آنــذاك، على رفض
مؤسـسة السينمـا وتجـاهلها دعـوة فيلمي «الفهـد» إلى مهـرجـان بوزان حيث
تـم
اختـيـاره واحـداً من الأفـلام الخـالدة في تــاريخ القارة الآسيويـة.
وأعــاد نشـر
نفس المـادة السـامـة بعـد أن نشـرت مقـال «الثقافـة في المرأب»، والتي لم
أشـر
فيهـا إلى أي اسـم من المتورطين في فضيحـة شـراء سـيـارة النقل
الخارجي بما يزيـد
على مئة مليـون ليرة لتـوضع أخيـرا كخـردة في مـرأب «دار الأسـد للثقافة
والفنون».
يدهـشـنـي أن الأمـور سـارت بشكـل عجـائبي
ومعكوس، فعـوضـاً عن تشكيل لجنــة
للتـحقـيق في الأمـر، تـمّ التعتـيم على الأمـر وزيـادة جـرعـة الهجـوم
عليّ
وكأنـنـي أنـا سـارق عـمـولـة هـذه السيارة العجـيبـة، إضـافـة إلى
التشهيـر
والاتهـام لعدد من زمـلائي الذين يشـرّفـون صـورة السينمـا
السـوريـة. ولا أدري كيف
يمكـن أن يسـمح لمـثـل هـذا المخلوق أن يمسّ رمـوز الثقافـة بهـذه
الفجـاجـة وعـدم
المسؤوليـة، بينمـا نجـد أن مخرجـاً مصـريـاً مثل شـادي عبد السـلام، الذي
تـوفي عن
فيلم جميل واحـد وهو «المـوميـاء» قـد أطـلق اسـمـه على
الشـوارع، وسميت جـوائـز
المهرجـانـات باسـمـه. هل يجرؤ أحد في مصر بطولها وعرضها على التشهير باسم
مثل يوسف
شاهين الذي كانت له ألف قضية مع الدولة؟
المحصـلة تبـدو مضحكـة ومأسـاوية في
آن، وكـأنهـا مسلسل تلفزيـوني درامي سخيف، فالأفـراد الذين صـنـعـوا
السينمـا
السـوريـة واسـمهـا موضـوعـون في قـفص الاتـهـام، وفـرد جـعـل لجهلـه من
هـذه
السينما بإدارتـه في أدنـى مـراتبهـا، ويملك شـجاعـة الوقـاحـة
للتـباهي بتدمـيـر
هـذه السينمـا، وكبرهـان على كـلامـي أدعـوه بكـامل الجـديـة، وبعـد كـل
التباهـي
بالعروض السينمائيـة الأجنـبـية في مهرجـان دمشق الذي يديـره، إضـافـة إلى
أسـابـيع
الأفلام الفرنسية والإيرانـيـة والتركيـة وغيرها، أن يتـفضـل على المشـاهـد
السـوري (الذي مـوّل الأفـلام السـوريـة أصـلا)
بتـنـظـيم أسبوع للأفـلام السـوريـة التي
أنـتجــت في السنوات العشـر الأخيـرة بقـيـادتـه وإشـرافـه
العام على اعتـبـار إنـه
يضع لنفسـه صـفـة الإشـراف العام على عـنـاوين الأفلام التي أنتجتهـا
المؤسـسـة،
وهـذا أيضـا أمـر فريد عـالميـا، حتى سبيلبرغ لم يجـرؤ على وصف نفسـه بـه
ويكتفي
بصفـة منـتج، والمدهش أن المخرجين لدينا يقبلون بذلك. إنـنا
نـريد كمواطنـين سوريين
أن نـتعـرف على كل الأفـلام (وأعني كل الأفـلام) التي صـرف عليهـا أكثـر من
مليار
ليرة على مـدى السنـوات العشر الأخـيرة إضـافـة إلى الملايين المصـروفـة
على أجهـزة
ومعـدات وأجـور ومعاشـات وتعـويضـات سـفـر لعشـرات من الموظفين
الإداريين إلى
المهـرجـانـات السينمـائيـة العالميـة، ونـتمنـى أن نـرى قـوائم المستفيدين
من هذه
الإيفـادات والصـورة التي قـدمـوهـا إلى العالم عن منـتجـنـا الوطـنـي
هـذا. إنـنـي
أربـأ بـنـفسـي عن أن أدخل في الأمـور الشـخصـيـة الكـثـيـرة التي تمسّ
الآخـرين،
ولكنـني أتحـدث عن شـأن عـام رائحتـه قـد غدت تزكـم الأنــوف.
وأتـذكـر بهـذه
المناسبة خبـراً جـاء منـذ أيـام في إحدى الصحـف المحليـة، يقول إن إدارة
مـا في
مدينـة سـوريـة مـا طلبت من موظف لديهـا في لجنـة المشتريـات أن يـوقـع على
كشف
مـا، ورفض هـذا الموظف الشريف التوقيع لشكـه في مصداقيـة ذلك،
فـمـا كـان من
الإدارة كتكريـم لـه إلا أن نقـلتــه إلى محافظـة نـائيـة وخربت له بيـتـه.
هـل
الكلمـة الحـرّة مـدانـة في بـلادي وهـل التخـريب الأعـمى مقـبـول أو
يغـفـل؟ أشـك
في ذلك.
·
ما حاجتك لمؤسسة السينما؟
}
لم أكن بحاجة، ولكنها مؤسستي، وما
أفخر به أنني درست على حسابي ولا فضل لأحد علي، ولم أوفد مرة واحدة إلى
مهرجان، ولم
أكافأ ، ليس لي تقاعد ولا ضمان صحي.. وبالرغم من كذب إعلان مدير عام
المؤسسة عن
دعوته لي لصنع أفلام للمؤسسة، وهذا لم يحصل أبداً، ولديهم في
المؤسسة ثلاثة
سيناريوهات لي منذ سبع سنوات لم تقرأ، فأقول له الآن إنني لن أعمل مع
المؤسسة بأي
شكل من الأشكال ولست بحاجة إلى ذلك أبداً. ولن أمنح هذه الإدارة شرف
التعامل معي.
التمويل الخارجي
عملية الاستبعاد قلصت قناعة الآخرين بنا وخاصة المنتج
السوري. ولكن تأتينا العروض من الخارج، وأنا ضمن مشروعي لا أحب التعامل مع
التمويل
الخارجي وعندما صنعت فيلم «وليمة صيد»، وهو إنتاج بريطاني وسيخرج إلى
الجمهور على
أنه بريطاني ولكن هذا ليس ضمن مشروعي الثقافي السوري.
·
وهل يتعارض التمويل مع
مشروع ثقافي سوري؟
}
أفضل أن أتعامل مع مشكلة وموضوع وهمّ وتمويل سوري. إنها
مسؤولية وطنية سورية. أنا صاحب مشروع وأنا من بناته الأولين،
ولكن لست ضد أن يعمل
الاخرون بتمويل أجنبي. حتى الآن الأسماء المشهر بها هي الوحيدة المطلوبة في
الجامعات ومراكز الأبحاث والنوادي السينمائية حول العالم، والوحيدة
المعروفة في
السينما السورية.
وفيلم مثل الكومبارس هو ضمن المنهج المدرسي بكلية السينما
بجامعة ديوك في أميركا.
·
أين مشكلة التمويل؟ محمد ملص عمل
فيلم «الليل» وجزء
منه بتمويل فرنسي وبقي مع ذلك فيلماً سورياً؟
}
هذه حالة فردية. أفضل أن أعمل
فيلماً سورياً تماماً مع احترامي لكل المحاولات. لا أحب الاتكاء على شيء.
بعيداً عن القضية
·
عملت مجموعة كبيرة من الأفلام
التسجيلية إلى جانب
أعمالك الروائية، في أي سياق تضعها؟
}
لعلك تلاحظ أنه يبدو وكأن الفيلم الروائي
الطويل مفتاح السينمائيين السوريين. أتعجب من عدم اهتمامهم بالشأن العام
عبر الفيلم
الوثــائقي. الموقف هو واحد لا يتجزأ، أنا عندما لا أصنع فيلماً طويلاً
أصنع
أفلاماً تعنيني وتعني مجتمعي.
هناك شيء أعتبره من أهم منجزات حياتي، رغم ما
يقال إن منجزي هو بالأفلام الطويلة، ولكن من يعرف مسيرتي يرى أن اهتمامي
بالشأن
العام الإنساني والمجتمعي والسياسي أكبر، وأعتــبر نفسي من المجددين، ولي
بصمات
واضحة في تقديم ابتكارات بالشــكل والتعبير، وكان هذا متاحاً بالأفلام
القصيــرة
والتجــريبية لأنها تحتمل المغامرة.
أحب أن أرى الأشياء التي أحبها في سوريا،
ولكن لدي كم كبير من الأفلام عن الأشياء التي لا أحبها في سوريا، فأنا لست
مروجاً.
مع الأسف ليس هناك تأريخ للمنجز السينمائي
في سوريا وكذلك لا توثيق لشغلي. مهرجان
السينما على مدى تاريخه أصدر أكثر من 200 كتاب ولم ينتج كتاباً
واحداً تحليلياً
وحقيقياً بكتابة مسؤولة عن السينما السورية. صرنا نعرف ماذا يجري في
الكونغو لكننا
لا نعرف ماذا يجري في سوريا.
ما حصل في سوريا أن هناك فصلاً بين المشروع
الثقافي، الذي يحمله عدد من السينمائيين السوريين، وبين المشاريع الشخصية
المتناثرة، والتي لسوء الحظ لم تترك بصمة سينمائية أو ثقافية، وهذا يعود
بنا إلى ما
يسمى حرفة فن السلطة والإبداع. هذا هو الفرق.
·
لكن بعــض أفلامــك التسجيلــية
كــان ممولاً بأموال رسمية؟
}
لا أنكر أن مجموعة من الأفلام الإبداعية الجيدة
كانت منتجة بأموال رسمية، وهذا يعطي فخراً للجهة المنتجة. وكان من أجمل ما
أنجزت في
السنوات الخمس الأخيرة مجموعة من الأفلام الوثائقية لمصلحة «الهيئة السورية
لشؤون
الأسرة»، التي تناولتُ فيها المرأة، المجتمع، الهجرة، الطفل،
تزايد السكان، بأفلام
فيها مسؤولية وطنية وهامش إبداعي. عدد هذه الأفلام يتجاوز 17 فيلماً.
بالإضافة إلى
حوالى 50 سبوت عن مواضيع ساخنة وحقيقية. هذا يقودنا للتساؤل عما يشغل بال
السينمائيين؛ أنا أعرف أن شروط إنتاج فيلم روائي طويل في مؤسسة
السينما معقدة
ومشخصنة وتخضع لشرط إعجازي من التنازلات، خاصة لأن القرار فيها قد يعود إلى
شخص
واحد مشكوك في الأساس بمشروعية مشروعه ومشروعية وجوده على رأس المؤسسة،
وبالتالي
جاءت الأفلام على قياسه.
«الهيئة»
كان لديها مشروع واضح على المستويين المجتمعي
والثقافي، كما لديها الجرأة والشجاعة للدخول ومعالجة وفهم
القضايا المجتمعية من دون
تلفيق أو تزوير، وأنا وجدت هناك المساحة الإبداعية المسؤولة إلى حد بعيد
جداً، وهذا
ما ساعد على صنع مجموعة من الأفلام التي أفخر بها.
نحن نعيش في عالم مكشوف في
عالم الرقميات والإنترنت. وبصراحة، بعكس الكثير من المسؤولين، أنا لا أخجل
من
موقعنا وترتيبنا وتصنيفنا في تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم
المتحدة. لا
أخجل من أن لدينا فقراً وبطالة، ولكنني أخجل أن أكذب وأن أصبغ الحقائق
الحزينة
بألوان زاهية، أنا أفخر اليوم بأن السلطة لا تحاول أن تخدع
نفسها وتخدع الآخرين بل
إنها تحاول أن تجابه بشجاعة كل المعوقات التي تقف في وجه ارتقائنا. وهذا هو
دور
السينما، لا نستطيع أن نغير إلا بالمعرفة. والمؤسف أن دور مؤسسة السينما
كان سلبياً
في هذا الجانب، كان سلبياً في وعي أن أهم منتج لدينا هو
الثقافة، وهي إبداع وشجاعة
ورؤيا، ومن حسن الحظ أن هذه العناصر تحققت في الفنون الأخرى.
أفلام تسجيلية
·
من الواضح أنك لم تعان من رقابة
عندما صنعت أفلامك التسجيلية، في حين يعاني
آخرون؟
}
عليّ أن أعترف أن كثيراً من هذه الأفلام لم يعرض.
·
لماذا أردت أن
تنأى بالفيلم التسجيلي عن موضوع القضية الفلسطينية؟
}
ابتعدت عن موضوع القضية
الفلسطينية في الفيلم التسجيلي مع أنني أول من عالج القضية الفلسطينية في
«إكليل
الشوك» و«رجال تحت الشمس» و«نابالم»، لكننا لا نستطيع اللحاق بمستجدات
القضية
الفلسطينية في السينما، وواحدة من الأشياء التي جعلتني أبتعد
هو هذا الشرخ القاتل
داخل الفلسطينيين، فبعد أن كنا نتحدث عن النضال الوطني الفلسطيني أصبحنا
نتحدث عن
الصراع الفلسطيني الفلسطيني.أنا لا أفهم كيف يمكن الحديث عن فلسطين وأنا
أرى أمامي
في الحين نفسه أن المشروع الصهيوني يتحقق يوماً بعد يوم على يد العرب، ليس
بفضل
ذكاء الإسرائيليين بل بفضل غبائنا.
·
ماذا حذف من أفلامك؟
}
لا أنسى ما
تعرض له فيلم «الفهد»، الذي منع من التصوير قبل أسبوع واحد من الموعد
المحدد عام
1969، ولم نعد إليه إلا عام 1971. كذلك جاءت إدارة
للمؤسسة ومنعت فيلم «السيد
التقدمي» ولم يعرض إلا بعد ذهاب المدير، لأنه بشكل ما كان يشير
إلى شخصية فاسدة
معروفة. ثم قطع ربع ساعة من «بقايا صور»، وحرق فيلم «المدرسة» وهو ما يمكن
تسميته
بالوثائقي النقي، ولم أتدخل فيه بكلمة.
ما أتمناه الآن إطلاق الأفلام التي
أنتجتها لصالح «الهيئة السورية لشؤون الأسرة»، مثل «شهرزاد»، «ضوء معاكس»، «الكريستال
المقدس»، «ع الشام»، ومجموعة من أفلام العنف ضد المرأة.
تمنيات
·
ماذا تفعل لو كنت مديراً لمؤسسة
السينما؟
}
هذا ما لا أريده حتماً حتى
للعدو، ولكن لو حدث لفكرت بطريقة استراتيجية. أولاً أن أعيد المشاهدين إلى
الصالات،
وأعتقد أنني سأصرف على صالات سينمائية صغيرة في مختلف الأحياء، وأعيد الطقس
السينمائي للمجتمع بدلاً مما يصرف على مهرجان دمشق السينمائي،
الذي لا أنكر أهميته،
ولكن الصالات أهم، فهي باقية لنا. وبالمناسبة منذ أيام فقط افتتح مهرجان
للسينما في
موريتانيا وعرض فيه 60 فيلماً، من بينها 48 فيلماً موريتانياً.
ثانياً أتوقف عن
استجداء التمويل، وأقترح قانوناً يفرض على الشركات الخاصة والعامة أن تدفع
جزءاً من
ضرائبها كتمويل لصندوق ثقافي عام، الأمر الذي هو مفتاح نجاح
السينما الأوروبية
والأميركية.
ثالثا أفكر بشكل استراتيجي بجيل جديد من السينمائيين، فلقد استطاع
القطاع الخاص عبر الدراما أن يرتقي بأسماء شابة هامة، مثل
الليث حجو، سامر برقاوي،
المثنى صبح، وغيرهم.
رابعاً أحدد سقفاً قدره 15 مليون ليرة وأطلب من
السينمائيين التقدم بمشاريع في إطار هذه الميزانية، وبذلك يتم إنتاج أكبر
عدد ممكن
من الأفلام.
خامساً ألغي القوائم السوداء والحمراء والخضراء من منظومة العمل،
وأسعى لأن تبقى السينما بأفلامها الطويلة والقصيرة مساحة حرية
وشجاعة وابتكار في
الشكل والمضمون.
سابعاً العمل على تصدير الثقافة من سوريا، والتعامل معها
كصناعة استراتيجية، مثل السياحة.
ثامناً أن لا أكذب، حيث البعض يكذب جيئة
وذهاباً.
·
باعتبارك أشرت إلى أسماء
تلفزيونية، ألا تجد أن هناك جيلاً من
السينمائيين الشباب يمكن أن يشار إليه؟
}
هناك أسماء مثل سامر برقاوي، وألفوز
طنجور، ونضال حسن.. وأسماء أخرى لا أتذكرها الآن، وهناك بالتأكيد مواهب
خفية لم تتح
لها الفرصة ولا الحرية. أكبر جريمة يمكن أن نرتكبها حيال المبدعين الشجعان
هي أن
نقولبهم. صناع المشاريع الكبرى يتعاملون مع أصحاب الأفكار
الكبرى وهذا ما لا يحصل
غالباً.
أفلام منفصلة
·
ماذا تحب من الأفلام السورية؟
}
سؤال محرج
جداً. لأنني قد أحب أشياء فيها، ولا يعني ذلك بالضرورة أن أحبها بكاملها.
أما
الفيلم الذي أشعر بأنه ظلم فعلاً فهو فيلم «اليازرلي» لقيس الزبيدي، يعجبني
كفيلم
بكامله، أما البقية فأحب منها أجزاء ومشاهد. مثلاً مقاطع من
«رسائل شفهية»، ومن «أحلام
المدينة» ومن «نجوم النهار».
قصص كافكا
·
سبق أن أعلنت موت السينما
في سوريا؟ فهل المؤسسة وحدها المسؤولة؟
}
لا، ولكن طالما أنها المرجعية فأي أحد
لديه فيلم سيذهب إليها. لو كان لدينا صندوق وطني للسينما خارج عن الرقابات
التقليدية والجماليات الرسمية يملك الحرية والشجاعة لاختلفت الأمور بشكل
جذري.
المحزن في القضية كلها أنني عندما أنظر 40 سنة من العمل أكتشف أن السينما
هي
الفن الوحيد الذي وصل إلى ما وصلت إليه اليوم بينما ارتقت كل
الفنون الأخرى بشكل
تصاعدي مدهش سواء في الدراما، الموسيقى والفن التشكيلي، وهذا مؤشر إلى أن
هناك خطأ
ما، وهو موزع على طرفين؛ إذا كانت هناك عشر سنوات من الفشل فلا يمكن أن
نحملها
للأفراد، فكل السينمائيين حالمون يحاولون أفضل ما لديهم،
يتبعون ويبحثون ولكن قد
تختلف النتائج تبعاً للموهبة والطموح والرؤية. إذاً هنالك خطأ في المنظومة.
لماذا
نجحت الدراما التلفزيونية السورية، وكذلك الموسيقيون، التشكيليون؟ لأنهم
بالكامل
يعملون بدون عملية الوصاية، كل فنان يعمل بشكل فردي، والمحصلة منتج ثقافي
ارتقى
بصورة سوريا وصنع نوعاً من التنافس الخلاق والمجزي.
·
أنجزت هذا الكم من
الأفلام في الوقت الذي لم يعمل أكثر المخرجين السوريين نشاطاً سوى بضعة
أفلام؟
}
أنا نشيط ولا أتوقف عن العمل، وعندما لا أجد جهة منتجة أخرج بالكاميرا
لوحدي
بيدي وأصور أفلاماً. أعرف كيف أصنعها ولا أعرف كيف أسوقها، ولا أن أسوق
نفسي.
لكنني في النهاية لا أريد إطلاقاً شخصنة الأمور، فأنا أتحدث عن حالة وطنية
عامة. ما أزعجني وجرحني فعلياً هو أنه عندما كان البعض يشهرون
لم يقف المثقفون ولا
الصحافة، ولم ينبر أحد لنقد أو كشف هذه الحالة العوجاء والمشوهة، في ما عدا
قلة ممن
نشروا خارج الوطن.
أشعر بأن الجميع قد باعنا وباع نفسه. فجأة اكتشفت، بالإضافة
إلى إحساسي بالخيانة من الوسط الثقافي الذي لم يتخذ موقفاً
شريفاً وقبِل كلام محمد
الأحمد وتركه على غاربه، أكتشف أن لا أحد لي في البلد. اكتشفت أنني أعزل،
ليس ورائي
لا مسؤول ولا ضابط ولا مثقف، وكنت أعتقد أن تاريخي يمنحني الحصانة. ولكني
في محيط
يشبه قصص كافكا فيه الكثير من اللامعقول والنتن.
أحزنني أكثر أنني أشعر أنني في
مرحلة من تاريخ سوريا فيها محاولة لتصحيح الأخطاء المتراكمة وصنع دولة
عصرية، وأنا
أريد أن أكون جزءاً من هذا الارتقاء ولكن حكم علي بالشلل، وهم مدينون لي
بعشر سنوات
لا أعرف كيف أستعيدها.
)دمشق(
السفير اللبنانية في
03/12/2010
«الأرض»
لدوفجنكو: الفيلم الذي حير
الرقابات الستالينية
ابراهيم العريس
في كل مرة يجرى إحصاء أو استفسار بين أهل السينما أو نقادها أو هواتها في
شكل
عام، حول العشرة أو العشرين فيلماً التي يفضّلونها من بين ألوف
الأفلام التي حقّقت
طوال القرن العشرين وما بعده، يطرح اسم الفيلم السوفياتي «الأرض» بصفته،
واحداً من
أجمل الأفلام في تاريخ الفن السابع. وتعبير «من أجمل الأفلام» يأتي هنا في
موضعه
تماماً، لأن الفيلم كان منذ عرضه الأول، ولا يزال، يعتبر
سيمفونية جمال خالصة. حتى
بعيداً من موضوعه والظروف التي أحاطت بولادته. وفي جميع الأحوال ينظر الى
«الأرض»
عادة على انه واحد من الأفلام الثلاثة التي
جعلت للسينما السوفياتية مكانتها، في
شكل مبكر، الى جانب «الدارعة بوتمكين» لأيزنشتاين و «الأم»
لبودوفكين. ولكن، لئن
كانت قيمة هذين الفيلمين الأخيرين، نبعت أولاً من موضوعيهما، ثم من
تجديدهما التقني
في فن السينما، فإن قيمة «الأرض» الأساسية انما نبعت من ذلك القسط المطلق
من الجمال
الذي حمله. الجمال بالمعنى الخالص للكلمة، وكان شيئاً جديداً
على سينما تحاول في
ذلك الحين المبكر ان تتلمس طريقها محاولة العثور على مقوّماتها ومبرراتها
الفنية،
في مقابل من كان يعتبرها لعبة تقنية خالصة.
>
بالنسبة إلى دوفجنكو، مخرج «الأرض» كان لا بد من ايصال فن السينما الى حال
يعتبر معها صنواً للموسيقى والشعر والفن التشكيلي، تلك الفنون الأولية
الخالصة.
والحقيقة انه نجح في ذلك، بل نجح الى درجة اعتبرته معها السلطات الستالينية
في ذلك
الحين، رجعياً، مثالياً، يركز على الشكل من دون اهتمام جدي بالموضوع،
ويحاول أن
يبتعد، أسلوبياً على الأقل، من سياسة الدولة وفنونها
الاشتراكية. غير أن هذا لم يكن
صحيحاً، بالمطلق، إذ إن السلطات، على رغم موقفها المتشنج من الفيلم، اضطرت
إلى أن
تسمح بعرضه، بعد أن عرض 32 مرة أمام منظمات رقابية تابعة للحزب والدولة.
صحيح ان
معظم تلك المنظمات لم يستسغ الفيلم كثيراً، وأخذ على مؤلفه
اسلوبه، لكنه لم يجد
حافزاً لمنعه طالما ان الفيلم في موضوعه كان يقف الى جانب التقدم، ضد
الرجعية. ومنذ
ذلك الحين اعتبر الفيلم كلاسيكياً في هذا المعنى، وراح ينظر الى موضوعه
باعتباره
موضوعاً معاصراً. ولكن هل كان غير هذا ممكناً بالنسبة الى فيلم
يتحدث بإيجابية عن
تكون اول الكولخوزات في اوكرانيا، وعن مقاومة الإقطاعيين الكولاك ذلك
التكوّنَ
الاشتراكي الذي كان هدفه إخراج الفلاحين من بؤسهم التاريخي؟
>
كان ذلك هو، بالطبع، موضوع «الأرض» لكن الأهم من هذا، كان قدرة دوفجنكو على
مزج هذا الموضوع الجديد، والذي كان أقرب الى الدعاوى السياسية في ذلك
الحين، مع ما
أطلق عليه المؤرخ جورج سادول اسم «الموضوعات الخالدة»: خصوبة
الأرض، تجددها الدائم،
الحب، الموت، الصراع من اجل البقاء وحتمية التقدم. والحقيقة ان ذلك المزج
الذي
تبدّى لدى دوفجنكو في هذا الفيلم خلاقاً، كان هو الذي جعل لـ «الأرض» سمته
الأساسية: سمة القصيدة الشاعرية بالمعنى العميق للكلمة.
>
حقّق دوفجنكو «الأرض» في عام 1930، اي بعد عام واحد من تحقيق ايزنشتاين
فيلمه «الخط العام» الذي تناول بدوره المسألة الفلاحية وقضية
الصراع بين القديم
والجديد، ولكن في اسلوب اكثر رسمية وأقل جمالاً. ومن هنا يبدو «الأرض»
وكأنه الرد
الجمالي على «الخط العام»، حتى وإن لم يكن ذلك الأمر قد جال في بال دوفجنكو
او كان
من نواياه. وتتمحور حكاية الفيلم عن الحياة في كولخوز أقيم حديثاً، بعد
انتصار
الثورة الروسية وفي مزرعة كانت مملوكة لإقطاعي (كولاك) ظالم
وبارد الاحاسيس. الفلاح
العجوز الذي كان يتولى ادارة تلك التعاونية يموت منذ بداية الفيلم وهو منكب
على
عمله، فيجد فاسيلي، حفيده، نفسه وقد تسلّم، من دون استعداد، مسؤولية
الكولخوز، وسط
إيمان الفلاحين به وثقتهم بأنه سيسير بالأمور الى الأمام. وعلى الفور ينكبّ
فاسيلي
على العمل بادئاً بتجربة جرار زراعي وصل الى المزرعة حديثاً، ثم ينخرط في
زراعة
التربة وتقليبها باذلاً كل جهده وعرقه في سبيل ذلك. وفي لحظة
ما يتوجه بحرارة
ورفاقه مزيلين كل الحواجز التي تفصل الأراضي بعضها عن بعض بما في ذلك أرض
يملكها «كولاك» غير راضٍ عما يحدث. وهنا، وسط
احتفال يقيمه الفلاحون يرقصون فيه ويمرحون،
وفيما يكون فاسيلي منهمكاً في الرقص والمرح مع حبيبته الصغيرة،
يقدم ابن الكولاك
الشاب على قتل فاسيلي. وخلال دفن هذا الأخير وفقاً للطقوس الدينية العريقة،
تبدأ
سلسلة من المشاهد الرائعة التي تتضمن احتفالات وأناشيد طقوسية وإحساساً
بالامتزاج
التام بين الطبيعة والإنسان، عبر صلوات صاخبة توحي بالشكر لله وللطبيعة ومن
المؤكد
أن تلك المشاهد الساحرة والعابقة بالنزعة الروحية لم تأتِ أبداً على مزاج
اللجان
الرقابية الكثيرة التي تفحصت الفيلم، غير أن تلك اللجان لم يكن
في وسعها الإمعان في
رفض المشاهد فتغاضت عنها ولو على مضض. مهما يكن من أمر وإذ نعود هنا الى
مجرى
الأحداث في الفيلم نجد كيف انه، وفي وسط ذلك كله، يبدو الندم على القاتل
الشاب
ويعترف بفعلته ممرغاً رأسه بالتراب، فيما تهطل الأمطار على
الجميع. ويبدو واضحاً ان
الموت والندم كانا ضروريين لكي تولد الحياة الجديدة وتتواصل.
>
إثر عرض الفيلم في عام 1930، وبعد تلكؤ السلطات في منحه إذن العرض، تحدث
دوفجنكو عن فيلمه محدداً غايته منه وأسلوبه على هذا النحو: «رغبت في ان
اصور، عبر
هذا الفيلم، الحال في قرية أوكرانية في عام 1929، اي في الوقت
الذي راحت تتوالى فيه
تلك التغيّرات الاقتصادية والاجتماعية العميقة، وفي شكل اكثر تحديداً، تلك
المتغيرات التي طرأت على ذهنيات الناس. اما المبادئ التي اتبعتها فكانت:
المواضيع
لا تهمني في حد ذاتها، لقد اخترتها فقط لكي تعبّر أفضل تعبير
عن الاشكال الاجتماعية
الاساسية، اشتغلت على مواد نمطية مطبقاً مناهج تركيبية، ما جعل أبطالي
ممثلين
لطبقاتهم وكذلك أتت تصرفاتهم معبرة عن ذلك الانتماء: مادة فيلمي تمركزت الى
الحد
الأقصى حول لحظة الحدث ذاتها، لكني لم اقف لا مبالياً تجاه تلك
المادة بل عبّرت
عنها من منظور العواطف التي اسبغت عليها حياة وفصاحة. لقد شعرت ان عليّ ان
اعبر عن
اقصى درجات الحب وأقصى درجات الكراهية والا فإن العمل سيكون دوغمائياً
وجافاً.
وكذلك فإنني لم اخف استخدام ممثلين من الشارع معظمهم قام بدوره الحقيقي في
الحياة».
>
لقد جعل هذا كله من الفيلم، عملاً كبيراً لم يفت النقاد والمؤرخين ان
يضاهوه بأناشيد فرجيل وكتابة هسيود عن «الأيام والأعمال».
وعبّر الباحث جورج آلتمان
عن هذا كله بقوله: «إن الموضوعات الجوهرية مثل الولادة والموت، وتناسق
الفصول
والامتزاج بالطبيعة، يعبر عنها «الارض» بطريقة تجعلها تبدو جديدة على
الدوام متجددة
الى الأبد». ومن ناحية أخرى يعرف متابعو تاريخ السينما في العالم ان فيلم
«الأرض»
لدوفجنكو صار منذ عروضه الأولى وتعرّف العالم إليه، المعيار الأساس الذي به
تقاس
اهمية هذا النوع من الأفلام. وما ذكر كثر من النقاد والمؤرخين أفلاماً مثل
«الأرض»
ليوسف شاهين وبعض اعمال الايطالي اورمانو
اولمي سوى دليل على هذا، حين يقارنون بين
هذه الأفلام وعمل دوفجنكو الكبير هذا.
>
ولد الكسندر دوفجنكو عام 1894 في اوكرانيا، ومات في موسكو عام 1956. وهذا
الذي سيعتبر دائماً اكبر شاعر في تاريخ الفن السينمائي، بدأ
حياته رساماً وكاتباً.
وفي الثلاثين تخلى عن كل شيء ليصبح سينمائياً. وهو بعد بدايات صعبة وغير
مقنعة حقق
فيلماً لفت الانظار هو «زفينيغورا»، ومن بعده حقق تحفتيه «الأرض» ثم
«الترسانة».
وهو بعد ذلك حقق الكثير من الأفلام، التي بدت متفاوتة الجودة والقيمة، ومن
أبرزها «آيروغراد» (1935) و «شتشورز» (1939)
وخصوصاً «قصيدة البحر» الذي توفي من دون أن
ينجزه فأكملته زوجته يوليا سولنتسيفا.
alariss@alhayat.com
الحياة اللندنية في
03/12/2010 |