كان من الممكن أن يكون فيلم «زهايمر» الذي كتبه «نادر صلاح الدين»
وأخرجه «عمرو عرفة» عملاً كوميدياً بسيطاً يناقش علاقة الآباء بالأبناء
لولا مشكلات
حقيقية ومزعجة سواء في السيناريو أو في الإخراج انتهت بنا إلي فيلم «مترهل
الإيقاع»
ينطلق من فكرة إنسانية شديدة الثراء إلي مواقف مفتعلة، ثم ينتهي إلي موعظة
أكثر
افتعالاً، بالتأكيد أنت أمام فيلم أفضل من فيلم «بوبوس» العمل الأسبق
«لعادل إمام»
ولكن لا مقارنة تقريباً بين تماسك فيلم مثل «عريس من جهة أمنية» يمزج بذكاء
بين
المشاعر الإنسانية والكوميديا، وبين «زهايمر» الحائر بين مأساة مرض يضرب
الذاكرة في
مقتل، ومأساة عقوق الأبناء للآباء لأسباب مادية، وهي الفكرة التي استهلكتها
السينما
المصرية في ميلودرامات عتيقة ومتكررة.
قدم «عادل إمام» خلال مسيرته الفنية
عشرات الأفلام أنضجها في رأيي مرحلتان: المرحلة الأولي تشمل أفلاماً مثل
«الحريف»
و«الأفوكاتو» والأفلام التي تعاون فيها مع
«وحيد حامد» وخاصة أعمال مثل «الغول»
و«اللعب مع الكبار» و«الإرهاب والكباب» و«المنسي » و«النوم في العسل»
بالإضافة
لأفلام مع آخرين مثل «الإرهابي» و«حتي لا يطير الدخان» ما يجمع بين هذه
الأعمال
التي قدمت في فترة زمنية طويلة هو أنها جميعاً قدمت الهم
الاجتماعي أو السياسي
بصورة أقرب للنضج، ومن خلال بطل شعبي ربما.. باستثناء فيلم «الإرهابي» الذي
ابتعد
فيه «عادل إمام» جذرياً عن سمات البطل الشعبي، ورغم تفاوت المستوي الفني
لهذه
الأفلام، إلا أنها أتاحت بشكل أو بآخر للمشخصاتي «عادل إمام»
أن يتحرر من مطالب
ولزوميات نجوميته عموماً، ومكانته كنجم كوميديا خصوصاً، أما المرحلة
الثانية
الناضجة فقد بدأت في رأيي بفيلم «أمير الظلام» الذي مد لنجم السبعينيات
والثمانينيات والتسعينيات جسوراً مع جيل الألفية الثالثة، كانت
أفلام هذه المرحلة
مختلفة ومع أكثر من مخرج، وإن استأثر، «يوسف معاطي» بأكبر عدد من
السيناريوهات،
ولكن ظل العامل المشترك بين كل الأفلام - بما فيها «زهايمر» أنها تقدم مأزق
رجل
تجاوز سن الشباب، في «أمير الظلام» كنا أمام مأزق رجل كفيف
يريد أن يثبت للجميع أن
«النور
مكانه في القلوب»، وفي «التجربة الدنماركية» كان المأزق أزمة أب مع أولاده
رغم تشوش المعالجة، وفي «عريس من جهة أمنية» كان المأزق عدم رغبة الأب في
أن تفارقه
ابنته الوحيدة، وفي «السفارة في العمارة» كان المأزق سياسياً
واجتماعياً لرجل يعثر
علي نفسه بعد أن كان في غيبوبة عن العالم، وفي «عمارة يعقوبيان» كان المأزق
في
شخصية أصبحت فجأة خارج الزمن، وفي «مرجان أحمد مرجان» كان المأزق في حكاية
رجل
يحاول أن يشتري كل شيء حتي الحب والعلم (رغم تشوش المعالجة
أيضاً) وفي «حسن ومرقص»
كان المأزق في الهروب المتواصل من التطرف الديني، وحتي في فيلم «بوبوس»
الأضعف في
السلسلة كان المأزق في حكاية رجل أعمال متعثر يعمل في مجتمع أكثر تعثراً.
في «زهايمر» امتداد لهذه القيمة (رجل عجوز في مأزق) لإتاحة الفرصة لكي يقدم
«عادل
إمام» نماذج مختلفة ولكن ظلت المشكلة أن الشخصية التي سيقدمها لا يمكن أن
تعمل في الفراغ، ولذلك ستجد أن الأداء «الأفضل» لعادل إمام في أفلام هذه
المرحلة
كلها سيرتبط أساساً بتماسك العمل بأكمله كما شاهدنا في «عمارة
يعقوبيان» و«حسن
ومرقص» و«عريس من جهة أمنية» و«السفارة في العمارة» وإلي حد ما «أمير
الظلام»، أما «زهايمر» فإن مشكلات السيناريو فيه لا يمكن
أبداً التغاضي عنها، وقد أثرت كثيراً
علي محاولات «عادل إمام» لتقديم نموذج إنساني جديد، كانت
المشكلة الأولي - في رأيي
-
في الانقلاب الدرامي الذي يحدث في الربع الأول من الفيلم، الحقيقة أنه لم
يكن
انقلاباً درامياً في نفس الفيلم، ولكنه انقلاب «فيلمي نقلنا إلي «مود» آخر،
وأحدث
تشوشاً حقيقياً في فهم معاناة بطلنا «محمود شعيب».
في المشاهد الأولي،
نتوهم أننا أمام معالجة لمأساة رجل أصيب «بالزهايمر» ولكنه لا يريد أن يصدق
ذلك،
يستيقظ في الصباح فلا يتعرف علي ممرضته «مني» (نيللي كريم)،
التي تقول إنها تتابع
تمريضه منذ عامين، والتي تفسر ما يعانيه من عدم معرفته لخدم المنزل بأنه
نتيجة لعدم
تعاطيه الدواء ، يستنكر الرجل أنه لا يتذكر ما حدث في الفترة السابقة،
ويتعمق
إحساسه بأنه مصاب «بالزهايمر» عندما يزور محاميه القديم (سعيد
صالح)، ويجده نزيلاً
في دار للمسنين بعد إصابته - بالصدفة - بالزهايمر بل إن صديقه الآخر (أحمد
راتب)
يشرح له ولنا أعراض «مرض الزهايمر، ويبدو
«محمود شعيب» متمرداً علي محاولات ولديه
«سامح»
(فتحي عبد الوهاب» وكريم (أحمد رزق) لإعطائه الدواء حريصاً علي صحته.
فجأة يحدث الانقلاب باكتشاف أن بطلنا ليس مريضاً «الزهايمر» ولكنه ضحية
مؤامرة الولدين اللذين اتفقا مع جميع الخدم لإيهامه بذلك، وأن
الحكاية كلها ترتبط
بقضية للحجر علي الأب، والحصول علي ملايينه تعويضًا عن حصول الأبناء علي
قرض ضخم،
وعدم مقدرتهم علي تسديده، في رأيي أن هذا التحول الجدير بفيلم بوليسي نقلنا
إلي عمل
آخر تمامًا رغم أن الأبطال كما هم، لم ينتبه «نادر صلاح الدين» إلي أن
تعاطف
المتفرج مع الأب بسبب عقوق وتآمر أبنائه يختلف تمامًا عن تعاطف
المتفرج معه لأن
ذاكرته تتلاشي يومًا بعد يوم، في الحالة الأولي كان الأب أقرب إلي إنسان
ينظر
للعالم بعيون طفل، ويحاول أن يتذكَّر الأشياء أو يعيد اكتشافها من جديد،
وفي الحالة
الثانية فوجئنا أننا أمام رجل ذكي يدير لعبة مضادة ضد الأبناء لتعليمهم
الأدب، وهذا
هو موضوع الفيلم الأساسي، ثم تعقدت المشكلة أكثر لأن معالجة هذا الجزء
الافتتاحي
غلب عليها الطابع الكابوسي المؤثر الذي يصل إلي ذروته عندما يزور «محمود
شعيب»
صديقه الذي يتبول علي نفسه في دار المسنين، ولكن بقية الفيلم ستحاول أن
تكون
كوميدية بتحويل مقلب الأبناء ضد الأب إلي مقلب للأب ضد الأبناء، وهكذا حدث
انفصال
حقيقي بين طابعين مُختلفين للمعالجة، ورغم أن هذا الأمر
واضح تمامًا إلاَّ أننا كنا
نسمع نفس الموسيقي سواء في أزمة «محمود شعيب» في مرضه المزعوم، أو في صدمته
بتآمر
أولاده.
أما أسوأ ما حدث نتيجة هذا الخلط، فهو أن الجمهور بدا كما لو أنه
هو ضحية المقلب وليس شاهدًا عليه، فقد اكتشفنا أن أفضل مشاهد
الفيلم علي الإطلاق،
وهي مشاهد مخاوف «شعيب» من تلاشي الذاكرة لا قيمة لها لأنها مجرد «مقلب» من
الأولاد، ولذلك أشك كثيرًا في أن تحتفظ بتعاطفك مع الرجل الذي قرر هو أيضًا
أن يلعب
مع أولاده!
أصبح الفيلم بعد هذا الانقلاب وكأنه يبدأ من نقطة الصفر، بل وجد
«نادر
صلاح الدين» نفسه مضطرًا لاصْطناع بناء جديد شديد الافتعال ولا يمكن
تصديقه،
فالأب المضحوك عليه لن يطرد مستخدميه، بل سيتعاطف مع ظروفهم المعيشية التي
جعلتهم
يستغفلونه لمدة ستة أشهر (!!) وسيعطيهم أموالاً أكثر لكي
يساعدوه في حربه المضادة
لتعليم أولاده الأدب، كل ذلك لكي نبدأ الحكاية الأصلية وحتي في هذه الحكاية
ستجد
ثغرات بالجملة ليس أقلها أن الولدين لم يشكا للحظة واحدة أن الأب يتلاعب
بهم رغم
علمهم أصلاً إنه ليس مريضًا، وليس أغربها أن الحكاية ستصل إلي
حد ادعاء الأب أنه
يتاجر في المخدرات لكي يتورط الولدان في نقل الشحنة من «بيروت» إلي
القاهرة، ثم
يتضح بعد ذلك أن أكياس الهيروين مجرد أكياس من الدقيق (؟!)، وليس أعجبها أن
الصديق
الخائن «أحمد راتب» سيختفي نهائيا من الأحداث، ولن تعرف أبدًا
ماذا فعل مع الأب،
وليس أكثرها «فبركة» أن الأب سيسامح أولاده في النهاية، بل وسيمنحهم
أموالاً بعد أن
سدد لهم القرض وكأنه يمنحهم الفرصة لمؤامرة جديدة عليه، بل إنك ستندهش
أصلاً: لماذا
سيعطيهم الأموال مرة أخري مع أننا نعرف أنه أعطاهم الملايين ولكنهم قاموا
بتبديدها
من قبل؟!
ومن المشكلات الواضحة جدًا أن تصرفات الأب مع أبنائه بعد اكتشاف
حقيقتهم جعلته في الواقع أقرب إلي المجانين وليس مثل مرضي
الزهايمر، وبالتالي بدت
الفرصة أكبر في الحجر عليه، ورغم ذلك لم يثمر ذلك إلا عن عدد عن قليل جدًا
من
المواقف المرحة - أو التي يراد لها أن تكون كذلك - أبرزها مشهد قيام الأب
بالإشراف
علي استحمام ولديه ورغم أن «عمرو عرفة» - مخرج الفيلم لديه تجارب جيدة في
صناعة
أعمال كوميدية مثل «السفارة في العمارة» و«جعلتني مجرماً» إلا
أنه اختار هنا
إيقاعاً متثائباً لفيلم «زهايمر» اعتقدت في البداية أنه يريد إشعارنا بثقل
الزمن
علي رجل يفقد ذاكرته ولكن شيئاً لم يتغير في الإيقاع عندما اكتشفنا أن
حكاية
الزهايمر أكذوبة، لم يتدفق الإيقاع تعبيراً عن هذه اللعبة
الكارتونية للأب مع
الأبناء ورغم أن كاميرا عمرو عرفة ذكية في التقاط التفاصيل كما شاهدنا في
أفريكانو
والشبح فإنها تبدو هنا كما لو أنها تصور مسلسلا تليفزيونياً حيث تتكدس
الشخصيات في
الصالونات ويتبادل المخرج القطع بينها، ورغم خبرة المونتير
معتز الكاتب إلا أن
مشاهد بأكملها لم تحدث الأثر الكوميدي المطلوب وأتحدث تحديداً عن مشهد
إعادة شعيب
إلي سريره عن طريق رجل عملاق ومشهد السقوط المتتالي لـ«أحمد رزق» بلكمات
والده حتي
عندما ذهبنا إلي مناطق مفتوحة لصيد البط أو إلي بيروت كانت
المشاهد سريعة وسياحية
أكثر منها درامية ومرتبطة بالمشهد، وأظن أن مدير التصوير محسن أحمد كان
حائراً في
تحديد ما إذا كان أمام دراما ثقيلة عن رجل تتآكل ذاكرته أم مجرد فيلم مقالب
بين أب
وأولاده وبدا لي أيضا أنها نفس مشكلة موسيقي عمر خيرت التي
ملأت شريط الصوت
واستخدمت مرتين للتعبير عن مأساتين مختلفتين تماماً في الأثر والنتيجة و لم
يفلت من
هذه المعمعة إلا ديكورات صلاح مرعي التي كشفت عن ثراء الأب الفاحش في مقابل
خواء
حياته ومأزقه مع أولاده.
مازالت موهبة عادل إمام تصطدم بمشكلات سيناريو هو
مسئول عنه لأنه من اختياره ستجد أفضل مشاهده في المرحلة التي يجسد فيها
ببراعة
مخاوفه من إصابته بالزهايمر وقد هزني من الأعماق عندما نزلت دموعه وهو
يشاهد صديق
عمره «سعيد صالح» وقد تبول علي نفسه كالطفل الصغير هذا المشهد المشترك بين
عادل
وسعيد هو أهم وأفضل مشاهد الفيلم علي الإطلاق في هذه المقدمة
الأولي يحول عادل إمام
نظراته إلي نظرات طفل صغير مندهش يفتح عينيه لأول مرة علي الحياة، في بقية
أجزاء
الفيلم يصبح الأداء باهتاً وسطحياً وحتما لن تتذكر الكثير من المقالب
الساذجة في
حين سيرسخ في ذهنك قراءة شعيب للقرآن مستعيداً دعاء أيوب بعد
أن مسه المرض، الحقيقة
أنه لا نيللي كريم ولا فتحي عبدالوهاب ولا أحمد رزق ولا رانيا يوسف ولا
أحمد راتب
ولا لطفي لبيب ولا محمد الصاوي ولا اللبناني الكبير رفيق علي أحمد في دوره
الهزيل
تركوا بصمة أو صنعوا شيئاً لافتاً ومميزاً، شعرت أحيانا أنه
أداء يذكرك شكلاً
ومضموناً بالمسلسلات التليفزيونية المتواضعة، ولكن يبقي سعيد صالح الرائع
بمفرده في
مشهد وحيد فريد يثبت أنه لا السينما ولا المسرح استخرجا من هذا المشخصاتي
القدير كل
إمكانياته.. في لحظة يمكن أن ينقلك من الضحك إلي البكاء وأظن
أن مشهده الوحيد يرشحه
للمنافسة علي لقب أفضل ممثل في دور مساعد رغم غرابة الباروكة التي ظهر بها!
روز اليوسف اليومية في
30/11/2010
كما قال الشاعر2
بشار إبراهيم
إذا كان المخرج نصري حجاج قد صدَّر فيلمه الوثائقي
«ظل
الغياب»، بجملة متقطفة مما قاله الشاعر محمود درويش: «ليدين من حجر وزعتر»،
فإن
القدر وضعه مباشرة أمام رحيل هذا الشاعر، المفاجئ والمباغت، ليجد نفسه أمام
انتقالة
غير بعيدة المدى، وإنما انعطافة ذكية، من مهمة التجوال في
العالم بحثاً عن قبور
الفلسطينيين الذين رحلوا دون أن يتمكنوا من العودة إلى أوطانهم.. إلى
التجوال في
العالم بحثاً عن صوت الشاعر محمود درويش، يتردد على ألسنة نخبة مختارة من
أدباء
العالم؛ مشرقه ومغربه.
لم يكن نصري حجاج قد نفض يديه، بعد، من وثائقيه «ظل
الغياب». لا وضعه في الدرج، ولا على الرفّ، عندما ووجه، على المستوى
الشخصي، كما
على المستوى العام، بغياب الشاعر محمود درويش. كان «ظل الغياب» ما يزال
حاضراً،
وطازجاً، كما هو اليوم، وفي الغد. وكان ثمة أفكارا تتوالد من
تلك الملحمة البصرية
التي نسجها، مفاجئاً الجميع بالموضوعة، وطريقة البناء، وسعة التجوال، وعمق
الإطلاع،
على الرغم من مرور نيف وأربعين سنة على ولادة السينما الفلسطينية، على أيدي
الثورة
الفلسطينية، وما انتبه أحد إلى سفر الغياب الفلسطيني على هذا
النحو.
يغيب الشاعر
محمود درويش، وما كان لغيابه أن يكون أقل ضجيجاً من حضوره، إذ أنه الشاعر
الذي
«أضحى،
منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين، «ظاهرة شعرية» ملفتة، تكاد تختزل في
ذاتها، عند الكثيرين من الفلسطينيين والعرب، ربما، وفي العالم أيضاً،
التجربة
الشعرية الفلسطينية، في عمومها!.. «ظاهرة» يصعب تغافلها، أو
نكرانها، وإن كان ليس
من الصعب قراءتها، وتفكيكها، سواء على المستوى الفني الجمالي الشعري، أو
على مستوى
مضامين الخطاب الفكري، وانعكاساته السياسية، ذات المعطى الوطني التاريخي،
في هذه
الحالة»، كما قلتُ ذات وقت، وأكرره هنا.
والمشاهدة المتأنية لفيلم «كما قال
الشاعر»، وعبر دقائقه المنسوجة بمهارة (مدته 58 دقيقة)، تبين لنا بوضوح
المنهج الذي
اختاره المخرج نصري حجاج في التعامل مع غياب الشاعر محمود درويش، وحرصه على
المرور
بحذر بين أصابع كل ما يمكن للمرء أن يتوقعه، أو ربما سيشاهده
فيما بعد، من طرق
مألوفة تتغنى بالشاعر، وتستعين بمقتطفات من حوارات ولقاءات سابقة معه، أو
تعتمد على
الاستعانة بلقطات أرشيفية، سواء من مناسبات ما، أو أمسيات شعرية، لن تكون
قليلة في
حالة الشاعر محمود درويش، الذي اشتهر، فيما اشتهر به، أنه كان شاعراً
غنائياً،
صدّاحاً على المنابر، متقناً صنعة الإلقاء.
الاختلاف الذي يسعى إليه المخرج نصري حجاج،
والذي تجلى من قبل في «ظل الغياب»، سوف يستكمله هنا، في «كما قال الشاعر»،
حتى وإن
كان في النهاية يتعامل مع غياب فرد، طافت الآفاق شهرته، ونقلت اللغات
قصائده. من
هنا سنراه وهو يتنقل بين العديد من الأمكنة والبلدان، محاذراً
التوقف في أيّ لحظة،
من لحظات الفيلم، للتعامل التقليدي مع سيرة الشاعر الذي غاب، سواء
باستعادات
أرشيفية، أو استضافات متاحة للكثيرين ممن عايشوا الشاعر الراحل، وصادقوه،
وزاملوه..
أو حتى اختلفوا معه.
لن يتنكّب المخرج، وفيلمه، مهمة تقديم الشاعر، أو التعريف
به، أو حتى الخوض في مغامرة كشف الجديد والمثير، مما لا يُعرف
عنه. إنه ينطلق من
بدهية، يفترضها، ويؤمن بها، خلاصتها أن الشاعر محمود درويش، إنما هو شاعر
معروف
تمام المعرفة. مقروء تمام القراءة. بل ويحفظ قصائده الصغار قبل الكبار.
وغنى أشعاره
مغنون.
هذه الانطلاقة، التي قد تثير شيئاً من التساؤلات، تتبدى أكثر إشكالية،
عندما ننتبه إلى حقيقة أن المخرج، وفيلمه الوثائقي، لم يأبها
معاً للقيام بأي حالة
حوار، أو نقاش، أو جدال، حول/ أو مع الشاعر، الذي بدا كلّي الحضور، لا
يأتيه
الباطل، ولا يطاله الزلل، أو الفشل (حتى في زيجاته)، أو التقلّب في
مواقفه!.. إنه،
كما يبدو في الفيلم، صورة منقاة من كلِّ ما فينا نحن البشر؛ شاعر يحلق في
الآفاق،
يُجلس الفيلم كبار أدباء العالم، كما التلامذة، يتلون أشياء من
قصائده، ومقاطع من
أشعاره، ويتولهون تيهاً وإعجاباً بها!.. ويتخلى الفيلم،
بطواعية تامة عن تقديم أي
معلومة عنه، أو مناقشة أي قضية بصدده، خاصة وهو الشاعر الكبير
إبداعاً، كما هو
الكبير إشكاليةً!..
يدرك المخرج نصري حجاج، ربما، أنه في فيلمه هذا أمام حالة
احتفاء!.. لا أمام حالة معرفية، ولا استقصائية.. والمعرفة أو الاستقصاء هي
مهمة
أساسية من مهمات الفيلم الوثائقي. الفيلم، كما يبدو لأكثر من مشاهدة، لا
يعدو أن
يكون حالة فيها الكثير من البهاء، والرخاء، دونما أي تساؤل،
لئيم، من طراز: لماذا
تحضر كل هذه الأمكنة الفاخرة التي مرَّ بها الشاعر، دون أن يحضر مخيم واحد،
فقط؟..
ولماذا يمكن للشاعر أن تكون له غرفة أثيرة
في فندق «ماديسون» في باريس، ولا توجد
لديه أيّ غرفة أثيرة في مخيم عين الحلوة، كما للمخرج نفسه، أو
في مخيم دنون، كما لي
شخصياً؟..
حالة من الترفّع عن الواقع، تمتد على مدى
الفيلم، وتستطيل.. وحتى ظهورات المخيم، أو أطفاله، أو تلاميذه، بدت أشدَّ
ترفعاً عن
الواقع.. هل ترانا ننتبه إلى أن الفتيات اللواتي وقفن في باحة مدرسة
«مخيماتية»،
يتلين مقطعاً شهيراً، وبارعاً، للشاعر الراحل، وجدن أنفسهن،
دون دراية منهن، يقلن
إن مما يستحق الحياة «كتابات أسخيليوس»؟!.. «إسخيليوس».. نعم!..
يترفّع الفيلم
عن الواقع، ويحلق في فضاءاته، والمخرج يتقصد هذا!.. لعله اعتقد أنه لايمكن
صناعة
فيلم عن شاعر كبير، بحجم محمود درويش.. دون أن يكون الفيلم
نفسه شاعرياً!.. هل
ترانا الآن في موقف من يناقش المخرج، بلاحتمية هذه المعادلة، وخطلها؟..
وأنه إذا
كان الموضوع عن شاعر مقاومة، أو شاعر قضية، أو شاعر شعب، أو شاعر أمة.. فإن
من
الممكن للفيلم أن يأتي نثرياً، واقعياً، يغوص في عمق الواقع؛
واقع المقاومة، واقع
القضية، واقع الشعب، واقع الأمة؟!..
هنا، في وثائقي «كما قال الشاعر»، لا تغيب
هذه المفردات كلها، معاً، فقط!.. بل يغيب الشاعر نفسه، ليبقى صوته. وصوته
هنا، هو
صوت الأنا. لا صوت الكل. ليس صوت نحن. ولا صوت هم. إنه صوته هو. وصوته هو،
ربما كان
العامل الأساس في بناء الفيلم، على هذا النحو. وإلا كيف نفسر
تجوال الفيلم، واقتفاء
أثر الشاعر ذاته، من قرية ولد فيها، إلى قرية عاش فيها شيئاً من فتوته. ومن
غرفة في
مدينة، إلى غرفة فندق، وحتى غرفة المشفى. ومن منبر إلى مدرج إلى قاعة؟!..
وكيف
ترانا نبرر المشاهد التمثيلية الارستقراطية الطراز؟!..
يخيم صوت الشاعر محمود
درويش على الفيلم كله. إن لم يكن بصوته الفيزيائي، فعبر صوته المُستعار،
بألسنة
عديد من الشعراء والشاعرات، الكبار والمشهورين منهم، والشباب
والمغمورين منهم. وهذا
الخيار، ذاته، جعل الفيلم يأتينا ببنية مفتوحة، يمكن أن تضيف إليها، وتحذف
منها، ما
تشاء من شعراء وشاعرات. بل إن هذا النسق سوف يثير السؤال الغبي: لماذا
اختار المخرج
هذه المجموعة من الشعراء والشاعرات، ولم يختر غيرهم؟.. لماذا
أضاف فلان، أو
فلانة؟.. ولماذا تجاهل فلان، أو فلانة؟..
وهل كان بالضرورة أن نرى على الشاشة
قراءً من طائفة الأصدقاء والمريدين للشاعر، حتماً؟.. أما كان بالإمكان
الإتيان ببعض
ممن اختلفوا مع الشاعر، وانتقدوه، أو حتى ظاهروه؟.. ونحن نعلم أن من اختلف
مع
الشاعر محمود درويش، في حياته، إنما كان ذاك الخلاف معه لأسباب
وطنية، ومعطيات
سياسية، وقضايا فكرية، ومواقف عملية.. وليس لأسباب فنية شعرية!.. وألا
ننتبه، هنا،
إلى أنه حتى الشاعر الإسرائيلي الذي حضر، إنما جاء بصفته صديقاً للشاعر،
وليس بصفته
عدواً؟!..
كتبتُ
ذات مرة، تقديماً لكتاب غاية في الحصافة، والأهمية للباحث أحمد أشقر، فقلتُ
إن
الشاعر محمود درويش، في تحولاته الفكرية، التي انعكست واضحة في
أشعاره، قام بنزع
صفة «العدو» عن الإسرائيلي، واستبدلها بصفة «الغريب».. ومن عجائب المصادفات
أن
يُسبق الفيلم حضور الشاعر الإسرائيلي بمقطع عن «العدو»، ويُعقبها بمقطع عن
«الغريب»!..
هل هي مصادفة محضة؟!.. ربما!.. ولكنها ذات دلالة عجيبة، في كل
حال!..
يقتفي المخرج نصري حجاج أثر غياب الشاعر محمود درويش، ويلاحق آثاره أينما
تنارث في أصقاع المعمورة.. وهي في غالبيتها آثار فاخرة، لن
يحلم بتفاصيلها لاجئ
مأفون بعثرات المخيم، ولا مغبون بذل اللجوء، والتشرد.. وينصاع الفيلم لصوت
الشاعر،
كما قال الشاعر ذاته، وعن ذاته، منتخباً تلك المقاطع التي توغل في الابتعاد
عن
العام، لتغوص عميقاً في الشخصي؛ الخاص والذات، تحديداً،
ورؤيتها. فليس في وثائقي
«كما
قال الشاعر»، شيئاً مما قاله الشاعر ذات وقت مضى، عندما كان شاعر الثورة،
من
طراز: «سجل أنا عربي».. أو عندما كان شاعر المقاومة: «فعلام لا تغضب؟»..
ولا حتى
عندما كان غاضباً، مرة، وقال: «آن أن تنصرفوا».. الفيلم يدور،
بكليته، حول آخر ما
انتهى إليه الشاعر: «لاعب النرد»، وما يشبهها من قصائده متقنة.. متقنة
نعم!.. ولكن
تعلو فيها البلاغة اللغوية، والمبالغة الفلسفية، إلى درجة انقطاعها عن
الواقع.
يتلهى بها المتفيقهون، المتثاقفون، ومحبو سكّر الكلام!..
لن تلهينا هذه
التساؤلات عن الانتباه إلى البراعة الفنية التي أظهرها المخرج نصري حجاج في
فيلمه
هذا، وضمن خياراته التي أرادها، والتي يحق لنا أن نختلف معها.
سواءً انتهجها
مأخوذاً بفجيعة الرحيل المفاجئ، أو ضجيجه العالي، أو لموقف شخصي خاص!.. أو
بحثاً عن
أسلوب مغاير، للتعامل بصرياً مع شاعر أمكن له أن يكون «ظاهرة شعرية»،
استثنائية، لن
ينكر مهارتها الشعرية، وبلاغتها الإبداعية، صديق أو عدو!..
والمغايرة البصرية،
والسمعية، استطاع المخرج نصري حجاج توفيرها، بداية من الاستعانة بمديرة
تصوير بارعة
(جوسلين
إبي جبرائيل)، وبالموسيقية المدهشة (هبة القواس)، التي قدمت للفيلم
افتتاحية موسيقية صارخة.. مدهشة.. تتكئ على نص درويشي.. إنه نص موسيقي
ارتجالي
أبدعته، وأمامها ثلاث صفحات، من قصيدة مكتوبة بخط اليد. في هذا
المشهد تتبدى براعة
المخرج نصري حجاج، حيث نرى اشتعال الموسيقى، فيما الكاميرا تستعرض الكلمات
والسطور.
هذا المشهد الافتتاحي، كما مشهد الختام الأسطوري، لنهوض الحصان من تحت
الرمال، كما مشهد الأبكم، تؤكد بقوة براعة المخرج نصري حجاج
المدهشة، وقدرته على
صناعة فيلم وثائقي متميز.. لا يقلل من ذلك، أبداً، ملاحظاتنا الجوهرية على
ما
بينهما؛ بين مشهد الافتتاح والختام. بل تجعلنا ننتظر بشوق قادمه الوثائقي،
الذي
يُعدُّ له، ويتهيأ.
الجزيرة الوثائقية في
30/11/2010 |