تثير المهرجانات الخليجية اليوم نقاشات حامية، جانب منها
يبقى حبيس ردهات الفنادق الفخمة وجانب آخر يتسلل الى العلن
بأوجه مختلفة، لكن
غالباً ما يخرج النقاش من اطاره النقدي والعقلاني والمنطقي لتقتحمه
الإعتبارات
السياسية والمصالح الجغرافية والأنماط الشعبوية في الصحافة التي تخاطب
الغرائز
البدائية لدى القارئ العربي الغارق في اهتماماته اليومية
الصغيرة والكبيرة والعاجز
عن تكوين رأي نقدي بعيداً من الأفكار المعلبة. الكلام عن السينما في هذه
الكتابات
السريعة قليلة، في ظلّ ايلاء الأهمية لما يدور حول السينما، من جوائز تُسند
لمن لا
يستحق، الى قضية التطبيع مع اسرائيل مروراً بالحديث عن الأموال
المهدورة وصولاً الى
نوعية المازة اللبنانية التي تُقدَّم الى الضيوف. هناك مسائل أخرى قد يخجل
المرء من
التطرق اليها، لكن ذوبان الأسئلة الحقيقية (حول ماهية هذه المهرجانات)
بقِدر الكلام
الذي يراوح بين مسح الجوخ والتجني الرخيص، يجعلنا نعتقد انه آن
الآوان لإعادة النظر
في التجربة الخليجية، بما لها وعليها.
هذه المهرجانات التي صار عددها اليوم
ثلاثة (دبي وأبو ظبي والدوحة، مع اختلاف أهميتها وطول تجربتها ومسارها)
بيّنت مدى
اهتراء المهرجانات الثلاثة "التاريخية" التي كانت حتى زمن ليس ببعيد تخطف
الاهتمام،
وهي القاهرة وقرطاج ودمشق، والتي لا شك انها لا تزال الى الآن توظف "أمجاد
الماضي"
لفرض حضورها في المشهد السينمائي. فجأة، باتت لدينا اذاً تظاهرات سينمائية
في بلدان
نفطية ثرية لم يكن الانتاج السينمائي فيها مطلوباً أو مرغوباً.
كانت البداية مع
مهرجان دبيّ (هنا لا نتكلم عن المهرجانات المحلية الصغيرة التي سبقته
تاريخياً)،
وعلى أثره لم تتأخر مدينة أبو ظبي في الانضمام الى السباق المهرجاني، خشية
أن تكون
الحلقة الأضعف في هذا المجال، فخلقت مهرجانها السنوي الذي انتقل من يد سيدة
إماراتية لا تفقه في السينما الى يد الأميركي الجهبذ بيتر
سكارليت، المدير السابق
لمهرجان سان فرنسيسكو، ولا يزال عمره اربع سنوات فقط. أما المولود الأحدث
عهداً فهو
مهرجان الدوحة "ترايبيكا"، الذي اكتفى باستيراد نشاط معلّب لا علاقة له
بعاصمة
تلفزيون "الجزيرة" والأفكار الذي يبثها الى جمهور من "المناضلين" يريدون
تحرير
فلسطين "غيابياً".
هذه المهرجانات الثلاثة كانت كافية لاعادة التذكير في ضرورة
إعادة هيكلة كل من قرطاج والقاهرة ودمشق واعادة النظر في دورها، في ظلّ
التطورات
التي طاولت صناعة المهرجانات اليوم بعد مرور عقد كامل على بداية الألفية
الثالثة.
وخصوصاً ان هذه المهرجانات (مهرجان مراكش
بإدارته الفرنسية يغرد خارج السرب...)
التي تحمل اسماء عواصم عريقة، تنطق، شئنا أم أبينا، بلسان أنظمة بدأ يظهر
مدى
بُعدها عن الناس وعن الثقافة والسينما.
منذ البداية الأولى لهذه المهرجانات،
السؤال الذي راح يشغل المهتمين بالسينما، وخصوصاً أولئك الذين تربوا وعاشوا
في
بلدان تعني فيها السينما شيئاً ما، مثل مصر والمغرب العربي ولبنان وسوريا
وفلسطين،
هو الآتي: كيف نتعامل مع مهرجانات تُعقد في بلدان لا سينما
فيها، وهي بلدان مجاورة
لدول حرمت الصالات وأقفلت الطريق على السينمائيين؟ لم يكن هذا السؤال
الوحيد الذي
طُرح، فثمة تساؤلات أخرى لحقت به، من نوع: هل نستطيع شراء الثقافة والفنّ
بالمال؟
وهل يمكن أن تصبح الامارات أو الدوحة العاصمة الحديثة والطارئة
لمهرجانات حيث لا
جمهور مهتماً ولا تراث مشاهدة عريقاً، كما في بلدان أوروبية عدة حيث
السينما تجرجر
خلفها سنوات من الخلق والابداع؟ اذاً، ولدت هذه المهرجانات مع خطيئة أصلية:
عدم
امتلاكها سينما، وهي مسألة لا ينبغي التقليل من شأنها
والاستخفاف بها.
هذه
الأسئلة، وغيرها الكثير، بقيت معلقة في اذهان الناس وشكلت الى حدّ كبير
عائقاً أمام
دخول هذه المهرجانات مرحلة أعلى من الصدقية واثبات الذات،
بعيداً من كل فكر مسبق.
الطموحات ظلّت أسيرة مكان، شكّل نموّه السريع "عقدة" عند الكثيرين، وهو نمو
قد يكون
طبيعياً في مضمار الهندسة المعمارية، لكن يتحول مادة أخذ ورد عندما يشمل
الثقافة
والفنّ.
بفضل الأموال التي أنفقت لتأسيس هذه المهرجانات ومن خلال الخبرات التي
جيء بها من الخارج ومن بلدان عربية مجاورة، استطاعت دبي،
ولاحقاً أبو ظبي، اظهار
طبيعة طموحاتهما: مهرجان بمقاييس عالمية وبأفلام صفّ أول واسماء لا تأتي
الى
المنطقة الا بالاغراء المادي وتنظيم جيد وضيافة "خمس نجوم". تحت شعار
الإهتمام
بالثقافة والاتيان بفنّ سابع "نظيف وهادف"، كان لا بدّ أن يكتسي هذا الطموح
طابعاً
سياسياً ولا سيما ان المهرجانات تلك حددت هدفها، وهو مخاطبة الاقليات
والجاليات، مع
اهداف أخرى منها وضع الامارات على خريطة السينما، اذا لم يكن صناعة، فعلى
الاقل
عرضاً.
مع احتدام المنافسة بين شقيقتين، هما دبيّ وابو ظبي، ثم مهرجان الدوحة،
راحت الأشياء تتبلور في اتجاه جديد. بدأت تظهر ضرورة اقتناص
الأفلام العربية. من
المعروف ان الأفلام العربية التي تستحق ان تُعرض في المهرجانات قليلة جداً.
من هنا
جاءت الحاجة الى انشاء صناديق تدعم مشاريع من المنطقة، مباشرة أو مواربة،
وهذا
النمط من التمويل المهرجاني باهظ الثمن بالنسبة الى المخرج،
ذلك أنه مصير فيلمه
يصبح مرتبطاً بالمهرجان الذي يموله، ولا وجود له خارجه. هذه المعركة في
اصطياد
المواهب العربية كان لا بد ان تقع نظراً الى انعدام الكمّ الكافي من
الأفلام
المتوزعة على عدد لا بأس به من المهرجانات العربية، لكن في هذه
المعركة ايضاً، وجدت
مهرجانات الخليج الحلّ، عبر رفع قيمة الجوائز، وهي تصل في أبو ظبي، الى مئة
ألف
دولار للفيلم الواحد، والى مليون دولار لمجموع قيمة الجوائز.
انشاء صندوق دعم
لتمويل مشاريع سينمائية ثم الاتيان بها الى المسابقة الرسمية، لم يلمّعا
صورة
المهرجانات. بل جعلتها تبدو كأنها تريد شراء "ذمم" السينمائيين
بحفنة من المال،
وهذا اتهام يستحق النقاش على أي حال، غير انه لا يُمكن إلقاء اللوم على
السينمائيين، وخصوصاً عندما تُقفل أمامهم سبل الانتاج من داخل بلدانهم. هذه
التقنية
التي ابتكرتها مهرجانات الخليج الثلاثة، جعلت جوّ التوتر قائماً، وإن بهدوء
نسبي
وضمني، بينها وبين مهرجانات الجيل الأول، التي لم يعد في
امكانها مخاطبة الأفلام
على قدم المساواة، نظراً الى عدم توافر الموازنة المطلوبة لديها لتقليد
النموذج
الخليجي ورفع سقف الاغراءات.
طبعاً، قد نكتشف ان هذا التمويل هو في النهاية ربح
مهم للسينما العربية، لكن هذا يمنع المهرجان من ان يبقى حراً أمام خياراته،
ذلك انه "مجبر"
على تبني أعمال ليست في الضرورة ذات جودة كافية، بعد أن يكون قد تورط في
انتاجها. هناك أيضاً مسألة فنية أخرى تتعلق بجوهر السينما، وليس بما يدور
من حولها،
وهي العلاقة التي تربط الممول بالمستفيد. فماذا لو أصبحت السينما العربية،
تحت سطوة
التمويل الخليجي، تغازل من دون وعي نمط التفكير الخليجي
المحافظ الذي تغيب عنه
مواضيع تتعلق بالجنس والسياسة والدين، أي المثلث الذي يدور حوله معظم
السينما؟
أياً يكن، لا تزال التجربة جديدة، وتكوين رأي نهائي فيها يتطلب بعض
الانتظار،
تفادياً للوقوع في أفكار مفبركة نتيجة وجودنا أمام صفحة بيضاء
لا نعرف ماذا نكتب
عليها، علماً ان اقدام بعض هذه المهرجانات قد رسخت في رمال متحركة. في هذه
المرحلة
من عمرها، تحتاج هذه المهرجانات الى نقد حقيقي يشخّص المشكلات (وهي كثيرة
طبعاً)
ويثني على ما هو ايجابي (وهو موجود، لا شك!)، وغني عن التوكيد أن المديح
المجاني
والفارغ (يبدو أن بعض الصحافيين المشاركين في مهرجان أبو ظبي قارنوه
بكانّ)، يضر
بالمهرجان أكثر مما يضرّ به الهجوم والكتابات التحريضية.
الإمارات العربية المتحدة...
أبو ظبي نموذجاً: أبعد من البساط الأحمر
كانت الدورة
الأخيرة من مهرجان أبو ظبي السينمائي (14 ــ 23 تشرين الأول) مناسبة
لمشاهدات
جديدة، سينمائية وتنظيمية وثقافية، تفيد في تكوين المشهد العام
للحال التي آلت
اليها صناعة المهرجانات في الخليج. ويمكن القول، انه بعد عشرة أيام من
المتابعة
والرصد لنشاطات المهرجان وهي كثيرة ومتنوعة، نكتشف ان الأمور ليست بالسوء
الذي كنا
نعتقده.
التقويم مسألة وجهة نظر أكثر من أي شي آخر. والناقد يمكن أن يركّب اذن
الجرّة حيثما يريد، اذ لا حقيقة مطلقة بل نسبية. هناك في
مهرجان ابو ظبي القليل من
كل شيء للجميع. من يريد التنزه في أروقة "قصر الامارات"، حيث المقر الرسمي
للمهرجان، فلديه متسع من الوقت ليفعل ذلك، ومن يريد تغطية الندوات
والمؤتمرات
الصحافية فلا شيء يمنعه، وكذلك الأمر لمن يريد انشاء علاقات
عامة في السهرات
الليلية، أو اقتناص فرصة ما لغرض ما. أما من يريد أن يركز على مشاهدة
الأفلام
ومقابلة المخرجين، فلا عائق يمنعه من ذلك. باختصار، من يريد بهرجة البساط
الأحمر
والكوكتيلات، فهذا هو مكانه المثالي، ومن أراد سينما ونقاشات
بين الزملاء حتى طلوع
الضوء فهو أيضاً لم يخطئ في العنوان.
تألف فريق عمل المهرجان الذي تقدمه هيئة
أبو ظبي للثقافة والتراث، من عرب وأجانب يعملون بعضهم مع بعض بنوع من
تناغم، خلافاً
لما يحصل في مراكش. على الأقل هذا ما شعرت به، عندما كنت أطلب مقابلة
شخصيات
سينمائية. بعد تبوؤ بيتر سكارليت منصب الرئاسة، تغير اسم
المهرجان من "الشرق الأوسط
السينمائي" الى "أبو ظبي". هذا جعل المهرجان يضرب عصفورين بحجر واحد: تحديد
علاقته
مع المكان، وارتباطه به، وتوسيع البقعة الجغرافية لنشاطه السينمائي، اذ
لماذا
اختيار منطقة واحدة عندما تكون أبواب الدنيا مشرعة أمامنا؟ ناهيك
بالاعتبارات
السياسية الأخرى التي ربما جعلت ادارة المهرجان تدرك فجأة انها في غنى عنها.
هناك مسابقات عدة في المهرجان. قد نتفق مع الاسماء المطروحة للجان التحكيم
لكل
من هذه المسابقات أو نختلف معها، لكن الأهم أن نرفع الظلم
المتمثل في تقويم
المهرجان، وأي مهرجان آخر، انطلاقاً من خيارات هذه اللجان. فاذا كانت
الأفلام
الفائزة تتلاءم وتطلعاتنا وفهمنا للسينما، فإن المهرجان يكون جيداً، أما في
حال
حصول العكس، فنعتبر المهرجان فاشلاً. هذا سلوك لا يقدّم ولا يؤخر. في كل
سنة، بعد
اعلان لائحة الجوائز في كانّ، تتعالى الأصوات، إما المهنئة وإما المحتجة
على خيارات
لجنة التحكيم، لكن لا أحد يضع على المحكّ البرنامج الذى شكّله
المدير الفني بعد
أشهر من البحث والمتابعة. كل جائزة، هي في خاتمة الأمر رأي مجموعة من
الأشخاص في
فيلم، لا أكثر ولا أقل. قد يتوافق ذوقهم وخيارهم مع الرأي العام أو لا.
رؤية
قليلة هي المهرجانات تغيّر
المعادلات وتصنع أسماء كبيرة. قد يحصل هذا في كانّ وبرلين والبندقية. لكن،
لنكن
واقعيين، لا نستطيع أن نتكلم عن رؤية للسينما عندما نأتي على ذكر مهرجان
أبو ظبي.
الكلام عن رؤية لا يزال مبكراً. مثلما لا يمكن الكلام عن دور معين لهذا
المهرجان في
توجيه الذوق الى مكان ما بدلاً من مكان آخر، أو للالتفات الى بزوغ تيار
سينمائي
جديد، لسبب بسيط هو أن المهرجان، على رغم كل الامكانات المالية
التي يملكها، لا
يستطيع الاتيان بأي فيلم يريده، خلافاً للمهرجانات الثلاثة الاولى في
العالم. نسمع
كلاماً كبيراً عن برمجة وخيارات، لكن كل ما في الأمر أن مهرجان أبو ظبي،
شأنه شأن
غيره من المهرجانات القادرة، يأتي بما تيسر، أي بما يمكن
الاتيان به، في المرحلة
الزمنية الممتدة ما بعد مهرجان البندقية وقبل انعقاد مهرجان برلين.
كل مهرجان
هو أولاً وأخيراً خيارات سينمائية. على النقد أن يتطرق الى هذه الخيارات،
وكذلك الى
التنظيم، اذا كان هذا التنظيم يعرقل امكان مشاهدة الأعمال
المعروضة. للأسف، نرى ان
بعض النقاد يتحولون نقاد مطابخ أو نقاد مصاعد كهربائية أو نقاد سيارات
النقل، فيخيب
ظنهم في المهرجان اذا لم يحبوا نوعية الطعام ويغضبون من الافلام اذا حصل
عطل ما في
مصعد الفندق ويصبون غضبهم في صفحة الجريدة اذا تأخرت السيارة
في الوصول لنقلهم الى
المطار. لا أخفي أني خلال مشاركتي في بعض من هذه المهرجانات سمعت مطولات من
التذمر
من أمور لا علاقة لها بالمهرجان، لكنها كانت أساسية في صوغ رأي الناقد في
المهرجان!
اذا اعتبرنا ان "كل مهرجان هو خيارات سينمائية" فعلينا تالياً القبول
بأن خيار فيلم "سكرتيرييت" للإفتتاح لم يأت من فكرة لامعة،
وذلك لسببين على الأقل:
أولاً، فيلم الافتتاح في مهرجانات تريد اعلان موقف من السينما غالباً ما
يحدد
روحيتها ويرسم خطها التحريري، وهذا الفيلم المتواضع لم يختر الا لأن
الإدارة حصلت
على عرضه الشرق أوسطي الأول، قبل اسبوع من بدء عرضه في الولايات المتحدة.
ثانياً،
لأن هناك أفلاماً أخرى كانت ربما أكثر تلاؤماً مع مهرجان
يتأرجح في مكان ما بين
السينما الجماهيرية العريضة وسينما المؤلف. بدا الافتتاح فضفاضاً على هذا
الفيلم،
وخصوصاً ان بطله جون مالكوفيتش (رئيس لجنة تحكيم دورة مراكش المقبلة) اعتذر
وبعث
برسالة مصورة، لذا كان ممكناً التساؤل ونحن نرمي نظرة خاطفة
على البرنامج، لماذا لم
يؤت بفيلم مثل "بوتيش"، فهذا شريط على قدر عال من الغرابة، وهو في الوقت
نفسه
جماهيري ونموذج لسينما غنية بمدلولاتها الفنية، وعلى الاقل كان يمكن الحصول
على
جيرار دوبارديو، نجماً للافتتاح. لكن عند المهرجان مصالح،
يجهلها من هو خارجه. هذا
الخلل لم يكن فقط وقفاً على الافتتاح، بل شمل ايضاً الختام، وتحديداً حفل
توزيع
الجوائز، الذي بدت فيه الأشياء أقل تماسكاً مما كنا نتوقعه في مهرجان
تجاوزت تكلفته
اثني عشر مليون دولار.
مئة ألف دولار
في المقابل، كانت
الخيارات الأخرى على قدر معين من الجرأة. لنقلها بصراحة: هذه المرة الأولى
تمرّ في
مهرجان إماراتي أفلام تتضمن مشاهد عري من دون حذف، كما كانت
الحال مع "ضدي"
للفرنسية لولا دوايون أو تحفة المخرج الروسي ألكسي فيدورتشينكو "أرواح
صامتة"، الذي
نال جائزة أفضل فيلم روائي طويل (مئة ألف دولار). هذه خطوة مميزة نأمل أن
تستمر.
"حرائق" لدوني فيلنوف و"الحفرة" لوانغ بينغ، مفاجأتا الدورة الأخيرة من
البندقية،
وأعمال أخرى على قدر من الرصانة كـ"بوتيش" لفرنسوا أوزون و"لا تتخلّ عني"
لمارك
رومانيك، بالاضافة الى الوثائقيين "حنين الى الضوء" لباتريسيو غوزمان
و"وطن" لجورج
سلاوزر، هذا كله جعل المهرجان، حتى لو لم تكن الصالات ممتلئة، مكاناً تحلو
فيه
مشاهدة أفلام تأتيك من أصقاع الأرض كافة، وإن لم يكن أيٌّ منها من اكتشاف
أبو ظبي.
شيء آخر يرفع جبين المهرجان، يتمثل في الاتيان بهذا الكمّ من الأسماء
المهمة: جيرار
دوبارديو، أوما ثورمان، كلايف أوين، جوليان مور، أدريان برادي، وآخرون. أما
استعادة
بعض كلاسيكيات السينما المرممة كـ"متروبوليس" لفريتس لانغ أو "اليازرلي"
لقيس
الزبيدي، فمشروع يعزز الروح السينيفيلية في بلد يحتاج ايضاً
للنظر الى الخلف بين
الفينة والفينة.
بعد اربع دورات متتالية، بدا المهرجان في حاجة الى اعادة ترتيب
التبويب والتصنيفات (كلمة "عروض السينما العالمية" لا معنى
لها، اذ أن كل سينما هي
عالمية) وجداول العروض (التي غالباً ما تتضارب وتبدأ في وقت متأخر). وكيف
يجوز
تخصيص جائزة قدرها مئة ألف دولار لفيلم عربي (نالها هذه المرة بهيج حجيج عن
فيلمه
"شتي يا دني") وليست هناك عملياً الا ثلاثة أعمال مرشحة؟ ولا نرى كذلك
الجدوى من
عرض أعمال غير مكتملة ("في أحضان أمي" لمحمد الدراجي)، ولم نفهم الرسالة من
ارغام
الصحافيين على الذهاب الى شباك التذاكر للحصول على بطاقات. في المقابل، منح
جوائز
لأفلام نالت دعماً من صندوق "سند" التابع للمهرجان، يفتح باب
النقد واسعاً، وهو شيء
لا يوجد علاج له في المدى المنظور، لأن الرهان، كما قلنا آنفاً، لا يزال
كبيراً على
الأعمال التي يرعاها المهرجان مادياً، في ظلّ عدم توافر البديل.
لا يمكن أن
نقارن بين مهرجانات تجري في الـ"مولات" تحت التبريد الصناعي ومهرجانات
أوروبية
اعتدنا تغطيتها. كزدورة صغيرة مساء على الـ"كروازيت" في كانّ بعد فيلم
الساعة
العاشرة، تمنح المرء التغذية الروحية والفكرية ليستعيد نشاطه مجدداً في
الصباح
التالي. في ابو ظبي، الأشياء البسيطة والحقيقية التي نلمسها
يومياً، استُبدلت
بموائد فاخرة وحفلات موسيقية. ربما لأن هذه طبيعة البلاد. في موازاة ذلك،
سعى
المهرجان الى انشاء نوع من تقارب بين السينمائيين والصحافيين والضيوف
جميعهم عبر تخصيص مكان للقاءات اليومية في "قصر الامارات" وفي "الخيمة". في
هذين المكانين كانت
تبدأ النقاشات اليومية لتنتقل منهما الى أماكن السهر ولاحقاً الى غرف
الفنادق. لكن
تلك حكاية أخرى قد نرويها يوماً.
(يُتبع
جزء ثانٍ: الدوحة)
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
"عيادة
الدكتور كاليغاري" في "متروبوليس" هذا الأحد
سينما
مرعبة وخالدة!
يكاد لا يمر اسبوع واحد من دون أن يُعقد في صالة
"متروبوليس" (أمبير - صوفيل) مهرجان أو استعادة أو حدث سينمائي،
وأحياناً تتجاوز
هذه النشاطات التي تجري في هذا المجمع الحيوي، القدرة على الاستيعاب، ولكن
هذا شيء
يعيد الأمل الى المدينة، التي باتت مزنرة بالجهل والتعصب، وملوثة بنيران
الحقد
والسياسة العاجزة عن تغيير حياة الانسان الى الأفضل. اذاً، بعد
مهرجانين صغيرين
جريا أخيراً، تقدم "متروبوليس" بالتعاون مع معهد غوتيه، هذا الأحد الساعة
20:30،
ولحفل واحد فقط، ما بات يُعرف بالـ"سينيه كونسير"، وهو عبارة عن عرض أحد
كنوز
السينما الصامتة، "عيادة الدكتور كاليغاري" ترافقه موسيقى الكترونية من
تأليف فرقة "مونما"
اللبنانية (جواد نوفل ووجدي اليان). النسخة المعروضة هنا بالـ35 ملم، مرممة
حديثاً. هذا الفيلم الذي أخرجه روبير فيين عام 1919، ويتضمن ستة فصول
وفلاشباك
وختاماً، هو واحد من أوائل الأعمال تعاملت مع الجريمة واستعانت
بالشر المطلق لرسم
الخطوط العريضة لشخصية البطل المضاد. مشاهد الحقد والضغينة والمطاردة في
أجواء
حالكة شهدت لبزوغ التيار السينمائي الأول في تاريخ السينما: التعبيرية
الألمانية،
التي ولّدها ضعف الامكانات والركود الذي اصاب السينما
الألمانية في مرحلة ما بعد
الحرب العالمية الأولى. هذا التيار ألهم لاحقاً كبار السينمائيين بدءاً من
سنوات
الأربعين (لانغ وكرتيس). انها السينما بكل عبقريتها وجمالها الزائف البعيد
عن همّ
الواقعية الحديثة. مرعبة وخالدة! فرنر كراوس في دور كاليغاري
المجنون، يقدم أداء لا
يمكن تقليده اليوم من شدة لجوئه الى النمط التعبيري. شريط أساسي في تاريخ
السينما
ينبغي مشاهدته واعادة مشاهدته.
جيل كلايبور (1944 ـــ 2010)
رحلت قبل بضعة أيام بعد
اصابتها بسرطان الدم، الممثلة الأميركية جيل كلايبور (1944) التي نالت عام
1978
جائزة أفضل أداء نسائي في مهرجان كانّ عن دورها في "أمرأة حرة"
لبول مازورسكي. بدأت
كلايبور مسارها في ادارة براين دو بالما ("حفل العرس"، 1969)،
الى جانب مبتدئ آخر
اسمه روبرت دو نيرو. اقتصرت أدوارها على المرأة العصرية
والمتشبثة، قبل أن تنتقل
الى احضان السينما الأوروبية، وتحديداً عند برتوللوتشي الذي أسند اليها
دوراً صعباً
في "القمر". في الثمانينات، تعاونت كلايبور مع الروسي اندره كونتشالوفسكي
والكسندر
أركادي ولعبت دوراً في الفيلم الوحيد الذي أنجزه الممثل بن غازارا، وطار
صيتها الى
حدّ ما بعد مشاركتها في "هانا كا" لكوستا غافراس. هذه الممثلة
التي ترشحت مرتين
للأوسكار، كانت لجأت الى المسلسلات التلفزيونية في المرحلة الأخيرة من
حياتها وبعض
الأدوار الصغيرة في أفلام عديمة الأهمية.
خارج الكادر
شرطة النقد
يتردد الصحافي عادةً قبل
الكتابة عن زميل له. في المسألة إحراج ما واعلان موقف، يعتقد انه قد يندم
عليه ما
إن تتغير العلاقة بينهما والمصلحة المشتركة. عبر السنين، تكرست
عادة غير مفهومة هي
أن تتكلم الصحف عن كل شيء الا بعضها عن البعض الآخر. تناول زميل، سلباً أو
ايجاباً،
مُدرج في هذا الاطار. في الصحافة العريقة، هذا موضوع غير مستحب. هل ينبغي
انهاء هذا
التقليد؟ لا أعرف. كل ما أعرفه ان الاسفاف في مجال النقد على
الانترنت بلغ حداً لا
يُحتمل، والتحرك بات ملحّاً. صارت الشتيمة السهلة هي الحلّ لكل الخلافات في
ظلّ
تمكن أيٍّ كان من الاستيلاء على اي مساحة بيضاء افتراضية وجعلها "بيتاً من
زجاج"
له.
حملتني الى هذا الموضوع، اليوم بالذات، الحملات المتكررة التي يشنّها البعض
وتخرج على الاطر الأخلاقية. مرة أخرى، ليت السينما موضوع خلاف
بين الأطراف
المتخاصمين. هناك أحقاد متراكمة، شخصية في معظم الأحيان، ومتنكرة في رداء
مهني. كنت
الى حدّ كبير مع فضح سرقات بعض المحسوبين على النقاد في العالم العربي،
وكشف
الانحطاط العام الذي وصلت اليه الكتابة السينمائية في زمن
الانترنت. في البداية،
كنت كسواي، مع كل مبادرة للكشف عن اللصوص واعلان هوياتهم أمام الرأي العام.
لكني لم
ار أي ضرورة لشن حملة مضخمة على بعض رموز هذا الانحطاط وتحويلهم ضحايا. تم
الترويج
لنكرات اصبحوا مشاهير شبكة عنكبوتية لم يعد ممكناً التحكم بها.
ما يُنشر ضدهم هنا
وهناك، يجعل المرء يتعاطف معهم أحياناً، وهذه هي حال أحد اللصوص، يسرق من
زملاء له
ويوقّع المقال باسمه، اذ تحوّل بين ليلة وضحاها، من رجل مسكين (بحسب شهادات
الأصدقاء) الى صاحب عزيمة لا يكترث بما يقال عنه، بعد
التعبئة ضده التي خرجت عن
اطارها المقنع وجعلته "الضحية المثالية".
من الادانة الرعناء لزوار النقد
الموسميين، جرى الانتقال الى أحد النقاد، من الذين ساهموا في اشاعة شغف
السينما عند
عدد من القراء حول العالم. لم يكن المونتاج سلساً وعادلاً. أن يُكتب مع أي
شخص أو
ضده، فهذا حقّ لا تنازل عنه. لكن أن يتولى صحافي، في "بلوغ" سينمائي، إهانة
المثليين، واحتقار الشباب المتحمسين للكتابة السينمائية، ونعتهم بعمال
المراحيض،
وهجاء المنفتحين على ثقافات أخرى باعتبارهم "منتعلي القبعات"، وتحويل ناقد
زميل
مادةً لفوازير، فهذا كلام يدين قائله قبل أن يدين غيره. هناك ما هو أكثر:
من غير
المنطقي على الاطلاق تقويم كاتب من آخر مقال كتبه. هل يُمكن
القول من هو هيتشكوك
انطلاقاً من فيلمه الأخير، "مؤامرة عائلة"؟
لا حاجة للقول ان هذه الحملة موجهة
ضد ابراهيم العريس. وهي بدأت ضده غداة نشرنا مقابلة معه تطرق فيها، ونزولاً
عند
رغبتنا، الى بعض المواضيع الحامية. نحن لا نريد أن ندافع عنه في هذه
السطور. خصوصاً
ان المعني الأول بالموضوع ينتهج خيار التجاهل. لكن ما يصيبه اليوم سيصيب
غداً،
أصحاب الباع الطويل في النقد والثقافة والفلسفة والفكر. طبعاً، لم يرد
العريس الى
الآن على أي من هذه المقالات التي تتهمه بالكتابة عن أفلام لم
يشاهدها. هو يقول
مستهزئاً: أنا لا أردّ الاّ على ماركس!
هذه الحملة، وقبلها حملات أخرى من النوع
نفسه، تتغاضى عن واحد من مبادئ الصحافة، وتعيد النقاش الى قضية غير محسومة:
هل
يستطيع زميل أن يتحول حكماً وبوليساً لزميل آخر؟ الكاتب يصيب أو يخطئ، كما
هي حال
الجميع. أياً يكن، ليست هكذا تدار المعارك السينمائية! إلغاء
الآخر وشخصنة الصراع
على هذا النحو وتسييسه، لا يفعلان الا انزالنا الى قعر البؤس الذي يحاصرنا
جميعاً.
واذا لم يكن هذا المقال في سبيل الدفاع عن
أحد، فهو في المقابل ليس موجهاً ضد أحد.
لا يُراد منه الا شيء واحد: العودة الى إحدى أهم ركائز النقد السليم، أي
مناقشة
الأفكار لا الأشخاص. كلنا عابرون لكن الأفكار باقية. ولا داعي لأن نلغي هذا
القليل
الباقي، على الأقل لأن ليس ثمة بديل منه، حتى اشعار آخر...
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
11/11/2010 |