فيلمان عربيان لا
يمتّات بصلة إلى النتاج المصري التجاري البحت، المسيطر على المشهد التوزيعي
اللبناني. وإذا احتلّ الفيلم اللبناني، غالباً، مكانة لا بأس بها في سياسة
التوزيع
المحلي، تليق إلى حدّ ما بالجهد المبذول في صناعته، على الرغم
من عدم بلوغه المكانة
الأعلى المطلوبة له، بشتّى أصنافه وأنماطه وأساليب اشتغاله؛ فإن الأفلام
العربية
غير المصرية، أو المصرية غير التجارية، لا تعثر على صالة محلية لعرضها،
إلاّ
نادراً. ولئن بدا الفيلم اللبناني أقدر، حالياً، على اختراق
بعض العوائق الحائلة
دون عرضه التجاري الطبيعي، مع أنه يجول ويصول في مهرجانات عربية وأجنبية
متفرّقة؛
فإن الفيلم العربي هذا لا يزال عاجزاً عن بلوغ مكانة لبنانية حقيقية جدير
بها.
والجدارة هذه موزّعة على أسباب عدّة: أولاً، حقّه في أن يتواصل مع جمهور
لبناني
مهتمّ بالنتاج السينمائي العام. ثانياً، ضرورة المشاركة في إعلاء شأن
الثقافة
السينمائية في بلد يعاني اضطرابات جمّة في شؤون العيش والإبداع
معاً، في حين أن
استيراد أفلام عربية غير مصرية عادية أو غربية غير هوليوودية تستعرض
التشويق
والحركة، أمرٌ أساسي يُفترض بالمعنيين بمسألة التوزيع ان يولوه اهتماماً
أكبر.
ثالثاً، إذا ارتفعت حواجز عدّة بين الدول العربية، في السياسة والاقتصاد
والتعاون
والسعي إلى وحدة جغرافية وثقافية وحضارية، فإن الشأنين الثقافي والفني
مطالبان
بتخطّي هذه الحواجز، بل بكسرها إن أمكن، لأنهما الأرقى (أو
هكذا يُفترض بهما أن
يكونا عليه)، والأجمل والأقدر على تقريب الناس بعضهم إلى البعض الآخر.
تواصل
مبتور
هذا كلام مُكرّر. الأفلام المغاربية كلّها لا تعثر على صالة لبنانية
واحدة لعرض إبداعاتها، أو بعضها على الأقلّ. الأفلام السورية والفلسطينية،
الأقرب
جغرافياً إلى لبنان، تعاني الأمرّين في هذا المجال، وهي لا
تحضر بيروتياً إلاّ بفضل
مهرجانات سينمائية قليلة العدد. والعكس صحيح: كم فيلم لبناني أو سوري أو
فلسطيني
مثلاً يُعرض في صالات الدول المغاربية؟ وماذا عن النتاج البصري الخليجي
وشبكة
توزيعه خارج منطقته الجغرافية؟ أسئلة التوزيع السينمائي العربي
لا تزال مفتوحة على
أسئلة أخرى لا تنتهي. والخطط المطلوبة لتوزيع سليم غائبة. فالأهمّ، بالنسبة
إلى
الموزّع العربي، كامنٌ في العثور على أفلام يعتقد أنها الأربح مادياً له.
أما
الأفلام الأخرى، فلتبق أسيرة مهرجان من هنا، وتظاهرة سينمائية
من هناك، واحتفال ما
من هنالك.
ليس عرض الفيلم اللبناني «كل يوم عيد»، الروائي الطويل الأول لديما
الحرّ، أول فيلم لبناني يجد طريقه إلى الصالات التجارية. موزّعون لبنانيون
عديدون
يُتيحون مجالاً، وإن كان صغير الحجم، أمام أفلام كهذه لعرضها
في صالة أو صالتين،
ونادراً ما يرتفع العدد إلى ثلاث صالات. ومع هذا، يجد الفيلم اللبناني نفسه
محاصراً
بأيام عرض قليلة نسبياً (يحتاج الفيلم اللبناني إلى وقت أطول من غيره
للانتشار
الإعلامي، أو للانتشار على طريقة «من الفم إلى الأذن»، الأقدر
على تحريض الناس على
المُشاهدة، أو العكس)، قبل أن يُسحَب، سريعاً في بعض الأحيان، من الصالات.
فبعد أن
مُنح «كل يوم عيد» للحرّ ثلاث صالات منذ بداية عرضه التجاري الخميس الفائت
(«متروبوليس/ أمبير صوفيل» و«إسباس» و«أمبير سوديكو»)، جاذباً 630
مُشاهداً فقط في
الأيام الستة الأولى، بات يُعرض بدءاً من اليوم الخميس في صالة واحدة هي
«أمبير
سوديكو». أما المفاجأة السارّة فكامنةٌ في اختيار الفيلم العراقي «ابن
بابل» لمحمد
الدرّاجي لعرضه في صالة لبنانية واحدة هي «أمبير سوديكو»، في
خطوة مشكورة، لكونها
الأولى منذ زمن بعيد جداً. علماً بأنه ما من أحد قادر على التنبؤ بمدى
استجابة
المشاهدين اللبنانيين لفيلم عربي غير مصري، وعراقي تحديدا، معروض في صالة
تجارية
محلية، في مقابل انجذابهم الواضح إلى المهرجانات السينمائية
المُقامة في بيروت،
خصوصاً مهرجاني «الفيلم اللبناني» و«أيام بيروت السينمائية». وهذا الأخير
مفتوح على
تجارب واختبارات عربية مغايرة للسائد التجاري المعروف.
من ناحية أخرى، بدا
الفيلمان متقاربين، في مستويات عدّة: أولاً، هناك الإيقاع الهادئ للسرد
الحكائي،
الذي غلّف غلياناً ذاتياً حادّاً، مردّه بؤس الحالة وشقاء النفس البشرية في
مواجهتها القلقة غضباً معتملاً في قلب المجتمع الإنساني.
ثانياً، هناك البحث عن
مفقود مجهول الإقامة، أو ضائع وسط الانهيارات السياسية والاجتماعية
والثقافية،
بالإضافة إلى انهيار ما تبقّى من قيم أخلاقية وأعراف إنسانية قيّمة.
ثالثاً، هناك
رحلة تقوم بها ثلاث نساء (كل يوم عيد) بحثاً عن أحبّة مفقودين
في مجاهل الصحراء
الممتدة بعيداً حولهنّ، وهناك رحلة تقوم بها الجدّة وحفيدها (ابن بابل) من
شمال
العراق إلى جنوبه مروراً بالعاصمة بغداد، بحثاً عن ابن/ أب فُقِد منذ سنين
طويلة
أثناء الأعمال الدموية والعنيفة التي ارتكبها صدام حسين في
«جمهورية الخوف» هذه.
رابعاً، طغيان الصمت على غالبية المشاهد، وارتفاع منسوب القلق الذاتي في
لقطات عدّة
مشغولة بحرفية لافتة للانتباه، خصوصاً بالنسبة إلى الاختبار المعتمد في
«ابن بابل».
ملاحظات
غير أن «كل يوم عيد»، بصفته الفيلم الروائي الطويل الأول لديما
الحرّ، معرّض لأخطاء تقنية ودرامية أثارت بعض الزملاء، فكانت قراءاتهم
النقدية
الخاصّة به حادّة للغاية. طبعاً، لا ينطلق دفاعي عنه من كونه
فيلماً لبنانياً.
السينما خارج التصنيفات الجغرافية الضيّقة. ومع أني من الذين لا يتردّدون
في
الكتابة النقدية الحادّة غالباً، إلاّ أن «كل يوم عيد» لا
يستحقّ هجوماً عنيفاً،
وإن بُرِّر الهجوم العنيف بكون التقدّم الثقافي والتقني والفني بلغ حدّاً
لا يجوز
معه لأي عامل في حقل السينما أن يشتغل بعيداً عنه أو خارجاً عليه. الأهمّ
من هذا
كلّه أن «كل يوم عيد»، الذي رافق ثلاث نساء (هيام عباس ومنال
خضر وريا حيدر) في
رحلتهنّ المزدوجة نحو رجالهنّ وفي دواخلهنّ الذاتية، بدا خطوة أولى لديما
الحرّ على
طريق اكتساب الاحتراف الأفعل في صناعة أفلام لاحقة، تتحرّر من وطأة «العمل
الأول»،
علماً بأن لديها تلك الطاقة والخامة، اللتين تمنحانها القوّة
العقلية والفكرية
والتخييلية على ابتكار الأجمل والأفضل، لاحقاً، أو هذا ما يُفترض بها أن
تفعله.
لا ينطبق هذا على «ابن بابل». ذاك أن مخرج «أحلام»، فيلمه الروائي
الطويل
الأول، بدا في جديده هذا أعمق وعياً في استنباط المأزق الإنساني لأكراد
العراق،
وأقدر مخيلة على إعادة رسم الملامح العنيفة لذاكرة مشبعة بالقتل والدم
والفَقْد
والخيبات، من دون إسقاط النصّ أو الشكل السينمائي في فخّ
البكائيات. فالرحلة
الطويلة للجدّة وحفيدها مليئة بالتلصّص الإيجابي على أحوال بلد منكوب بسقوط
النظام
الصدامي بفضل الاحتلال الأميركي. لكن «ابن بابل» لا يميل إلى السياسي
المباشر، ولا
يرغب في شتم مرحلة والهجوم على مرحلة لاحقة بها، أو تمجيد أي
من المراحل التاريخية
والسياسية. ومع أن الإشارات السياسية مبطّنة، كما يحدث عادة في الغالبية
الساحقة من
الأفلام المتحرّرة من صفة السياسة، إلاّ أن «ابن بابل» حافظ على بُعد
إنساني بحت،
من خلال العلاقة القائمة بين الجدّة (شهزاد حسين) وحفيدها أحمد
(ياسر طليب)،
السائرين على أقدامهما غالباً، كأنهما لا يبغيان سوى التطهّر من ذاكرة
مجبولة
بالقهر، ومن راهن مثقل بالجراح.
كلاكيت
عن امرأة ليست أم
الله
نديم جرجورة
منذ معرفتي قصّتها قبل
ربع قرن، لم تُفارق نايفة نجّار مخيلتي أبداً. عندما بدأت رحلة الشقاء
لأهالي
المفقودين والمخطوفين، بحثاً عن أقارب وأحبّة لفظتهم الحرب الأهلية القذرة،
اتّسعت
الصورة في مخيّلتي، وباتت أرسخ حضوراً في ذهني. لا يعني هذا
أني تناسيت الآخرين، أو
ان قصصهم أقلّ فجيعة أو أكثر قهراً. غير أن لنايفة نجّار في ذاكرتي موقعاً
خاصّاً
بها، ومكانة مستقلّة لها. لعلها الحكاية بحدّ ذاتها. لعلها الطريقة التي
تعاملت بها
الأم مع وحيدها علي المفقود. لعلها تلك النظرة الأمومية، التي قرأتها في
رسائل
منشورة في «السفير» عنه وله وللخاطفين. أو ربما تلك الطريقة
التي أنهت بها حياتها،
في لحظة صدام مع واقع بائس، ومنطق جائر، وحرب أدارها أمراؤها بالجنون
والقتل
والرذيلة.
هناك مشهد بديع للغاية في فيلم «آلام المسيح» لمل غيبسون، متمثّل
بدرب الجلجلة، حيث سار يسوع حاملاً صليبه وجراحه وآلام الدنيا كلّها على
منكبيه وفي
قلبه وروحه معاً. فيه، سقط أرضاً في واحدة من تلك السقطات
الرهيبة التي صنعت مجده
الإنساني ابناً للّه. في تلك السقطة، انصبّت الكاميرا على وجه أمه العذراء
وهي تنظر
إليه بعينين مليئتين دمعاً وقهراً وحبّاً طالعاً من أعماق الفؤاد، كأنها
تقول له
بأصدق الصمت وأجمله: «لا تخف يا حبيبي، أنا هنا معك». عندما
أدركتُ أن الصديق بهيج
حجيج جعل نايفة نجّار إحدى شخصيات فيلمه الجديد «شتّي يا دني»، عاودتني تلك
اللقطة
السينمائية، في لحظة استعادة الصورة المتخيّلة للمرأة التي انتظرت عودة
وحيدها من
المجهول تسعة أشهر فقط، قبل أن تُقدم على أجرأ فعل، وأقوى
قرار، وأجمل نهاية:
الانتحار. شعرتُ بأن نايفة نجّار، في تسعة أشهر متتالية، كانت تنظر في وجه
علي
قائلةًَ له في أسره: «لا تخف يا حبيبي، أنا معك»، بكل العطف الأمومي النادر
الوجود
في زمن الخراب العظيم. لكن نايفة نجّار ليست والدة ابن الله،
وإن بدت شبيهة بها
أماً مفجوعة ومتوترة وساعية إلى حماية ابنها من شظف العيش على التخوم
القاسية
والواهية للحدّ الفاصل بين حياة وموت. وعلي ليس المسيح، وإن اقترب منه
بالألم
والقلق والخوف من مجهول أو من موت أو من ضياع.
رسائل نايفة نجّار إلى ابنها
وصديقه وخاطفيهما ظلّت صرخة في برية احتلها مجانين الله على
الأرض، وعاثوا فيها
خراباً ومذلّة. لكن المرأة اختارت الأشهر التسعة، تلك المدّة التي حملت
أثناءها
جنينها في بطنها قبل إنجابه إلى الدنيا، كي تساوم القدر، وتضع حدّاً لنزف
لا يزال
نابضاً في وجدان قلّة وضمائر أصحابها. وإذا انتصرت الحرب على
البلد وناسه، فإن
السلم المنقوص والهشّ امتدادٌ لهذا الانتصار الوحشي، ما دامت نايفة نجّار
وأشباهها
مقيمين في قهر الحكاية وعبثيتها.
[[[
عذراً نايفة. الكلمات لا تشفي،
غالباً. لكنها تقول بوحاً متواضعاً.
السفير اللبنانية في
07/10/2010
«13
سفّاكاً» لميكي
و«مسلك ميك المختصر» لريخهاردت:
كفّارات الدم والأرض
زياد
الخزاعي
المسافة التي تقطعها
المجموعة البشرية البيضاء في فيافي أوريغون الأميركية، في جديد المخرجة
الموهوبة
كيلي ريخهاردت «مسلك ميك المختصر»، هي نفسها مسافة الدم الفاضح للمؤامرات
والوطنيات
في فيلم المخرج الياباني المشاكس تاكاشي ميكي في «13 سفاكاً»،
التي تدفع مُشاهدها
أمام كفارتيّ دم وبقعتي أرض. يمثّل العنصران «شرعية وأحقية» لإقرار سلطة
وافدة لدى
الأول، واجبها أن تسرق الحق وتبيد العرق الأصلي وتؤسّس كوزموبوليتانية،
تحميها
عنصريتها وتسندها أمجاد أوروبيتها وانتشار دعوتها الدينية التي
بررت الحق التاريخي،
في وقت تشكلاّن لدى الملحمة اليابانية عنصر الولاء وواجبه، المتمثّل بإقصاء
عدو
يعمل من أجل قيام كينونة ديكتاتورية متعصّبة لدمويتها ومطلقها الحاكمي.
احتفاء
تبجيلي
إن سعي المجموعة اليابانية إلى فرض قيمة الجماعة الحامية للسلطة
الأوليغارشية، على طريقة المعلم أكيرا كوروساوا في «الساموراي السبعة»
(1954)، الذي
جمع سفّاكيه الجائعين لحماية البؤرة الاقتصادية البكر (القرية)
ضد المرتزقة وقاطعي
الطرق المهووسين بلعب الكرّ، يستمر درامياً في «13 سفّاكاً»، ويصل إلى حدود
تفسير
معاني الذود الشخصي الذي يقوم به، ضمن احتفائية تبجيلية، البطل شينزامون
شيمادا
(الممثل
كوجي ياكوشا، الذي عُرف عالمياً بفضل «بابل» للمكسيكي أليخاندرو غونزاليس
إيناريتو و«مذكّرات فتاة الغيشا» للأميركي روب مارشال) أمام جحافل اللورد
ناريتوسوكو، المتعطّش إلى الاغتصاب السياسي والآدمي، واستهداف
ضحاياه كمرام لسهام
متعته، من أجل صون بطريركية سلالة شوغوان. هنا، يتحوّل الواجب الذي أنيطت
مهامه إلى
شيمادا وعصبته، إلى عقاب يجب أن يكتمل عقد تكليفه، ليس بالإبادة الجسدية
وحسب، بل
عبر سقوط القيمة التاريخية للمُعاند السياسي، وإزاحته من
الصورة العشائرية ليابان
1844
وحقبة يابان الساموراي البائدة.
في العمل الجديد لصاحب الافلام الثمانين،
الذي اقتبسه من عمل عريق أُنجز في العام 1963 وأخرجه إيتشي
كودو، رحلتان متداخلتان.
فعند بداية تعهد شيمادا، تقوم فرقته، التي خطب في أزلامها: «لقد عهدتم لي
بحيواتكم،
وسأجعلها تحت تصرفي»، باختراق غابة كثيفة لسلك طريق مختصرة توصلهم إلى
الحدود التي
يزمع «الوحش الآدمي» عبورها نحو قلعة محصّنة، قبل أن يُشيّدوا
في الطرف الآخر قرية
اصطناعية تمويهية، حيث يقع مصاب الدم ومعركته الحاسمة. إن تلك الطريق
المختصرة هي
ما تقوم عليه حجة فيلم ريخهاردت ووعد الرجل المغامر ستيفن ميك، في تأمين
عبور آمن
لزمرة بيضاء، خلال توجّهها نحو الغرب الأميركي، موطن الرفاهية
الأزلية للمستعمرين
الأوائل. ولئن حفل عمل ميكي بذكورية عارمة، فإن صاحبة «ويندي ولوسي» (2008)
انتصرت
إلى أنثوية جماعية، جعلت من بطلاتها الزوجات والأمهات والبنات ربّات القرار
الحاسم،
الذي يعجز عنه أزواجهن وأولادهن، أو على الأقل يتردّدون في
مقاربته. إن تكليف ميك،
وهي شخصية حقيقية، بالرحلة الأولى لن يوصل الزُّمرة إلى برّ أمان معلوم،
ناهيك
بفشله في تلقّف الإشارات الأولية من الأرض الجرداء، كي تُنهي عذابات
الجيلان بلا
هدى، وسط برّية موحشة نائية وقبرية المعالم. وبقدر لوثة الشكوك
التي تصيب الرجال،
تكون البطلات صاحبات مبادرات تطيل من أمد حيواتهم المتناقصة، باعتبارهنّ
الحصانة
العائلية التي تتعزّز فجأة أثناء المقطع الثاني من أوديسيتهن، مع ظهور
الهندي
الاحمر، الذي يعتبرنه ملاذهنّ وخلاص عائلاتهنّ من التَيْهان.
يلقي ميك (بروس
غرينوود) القبض على ابن الأرض (رود رونديو) كتورية عن استعمارية مبطّنة،
تتحوّل إلى
امتحان في المحيط وآثاره وكشوفاته وأدلّته، التي تُبيّن أن ميك أخطأ في فحص
اختياراته، وفشل في الاسترشاد الصحيح. أي أن الوافد لن تسعفه
بندقيته ولا عناده في
استعباد الآخر وسرقة تربته، وأن مصيره هو الإذعان لقول الهندي والسير على
هدي غمغمة
كلامه وإشاراته، على الرغم من الكَمّ المتزايد من الظِّنَّة الأوروبية به.
هذه
الظِّنَّة، التي تستفحل عادة في كيانات الأغراب، تُرسَم في نصّ
الكاتب جون رايموند
باعتبارها قدراً أسود، جاهدت هوليوود سابقاً في تسليعه كنموذج لشجاعة
المستعمرين
الأُول، الذين وجدوا فيها التبرير اللازم لجرائم إباداتهم.
أزلية السلالة
في الفيلم الياباني، يكون الدمُ التعميدَ اللازم للحفاظ على أزلية
السلالة
الحاكمة. بينما يكون الماءُ العنصرَ المطلق لديمومة حياة الامبرياليين
الأوروبيين
الجدد في «مسلك ميك المختصر». في نص ميكي، نرى أن المواجهة التي تطلّبت
ثلاثة عشر
مقاتلا (آخرهم القروي السمج كوياتا، الذي يُقارب شخصية كيكوشيو التي جسّدها
توشيرو
ميفوني في ساموراي كوروساوا) في مقابل عشرات الجنود، غير
متكافئة العناصر في العدّة
والقوة، تماماً مثل الهندي الأحمر الوحيد، الذي يواجه عدداً من الفوهات
الموجّهة
نحو جسده الأعزل، الأمر الذي تَطلّب من الإناث، وعلى رأسهن إميلي (ميتشل
ويليامز)،
الانحياز نحوه ومنع تصفيته التي يصرّ عليها ميك المُحرج من
فشله، أملاً في أن
يقودهم إلى منابع الماء وأنهاره. يلتف القائد الياباني شيمادا على
اللاتكافؤ بتعميم
الحيلة كمبدأ تفوّق عسكري، إذ وعد رئيسه بقوله: «سأحقّق أمنيتك بعظمة».
هنا، نشاهد
الرحلة الأصعب للطرفين: عصابة اللورد ناريتوسوكو وهي تناضل من أجل الاختراق
الفاشل.
وساموراي شيمادا وهم يلعبون بأقدار الجنود الذين يتلبّسهم الجنون من الموت
السهل،
الذي يحيط بهم على مساحة الأمتار القليلة للقرية الخيالية وديكوراتها
الممسرحة.
يصور ميكي المعارك في صيغتها التقليدية كردع، ما يحوّلها إلى تهكّم
سينمائي باهر
للسلطات المتناحرة. كما أضافت اليها سوداوية لون المحيط (تصوير نوبياسو
كيتا) جرعات
مزاجية لكآبة الموت الحاصد للجميع، ما عدا شيمادا الساعي إلى وعده الشخصي،
باقراً
بسيفه جسد اللورد الشاب الذي يتساءل بدهشة: «هل هذا هو الأجل؟». إن سادية
ميكي
ودموية إخراجه هذه المشاهد تتساير مع بصمته العنفية التي تزخر
بها أفلام،
كـ«الاختبار»(1999) حول الشابة الغامضة أسامي، التي تحيل حياة المتقاعد
شيهاغورا
إلى عذاب حي، قبل أن تمارس عليه سادية لا مثيل بقسوتها؛
و«القاتل إيشي»(2001)، الذي
يتحوّل فيه الشاب الوسيم إلى غول دموي يلتهم الزناة والمجرمين.
تكمن قوة
ريخهاردت في حصار مشهدياتها ضمن فضاء أعزل، وهي أمينة دائماً على هذه
العزلات. ففي
«فرحة العمر» (2006)، تجعل من سفر صديقين
إلى غابات جبلية تطهيراً لكليهما، وفي
«ويندي
ولوسي»، تتهم البطلة الشابة بسرقة لم ترتكبها، فتضيع مالها القليل وكلبتها،
قبل أن تكتشف وجودها في ملجأ لتتخلّى عنها إيذاناً بعزلة طويلة قادمة. إن
البطولة
معقودة على المَفازَة العارية بقسوتها وشدّتها وهلاكها، وما
البشر الذين يتجاسرون
على وطء أرضها سوى مجانين يسعون إلى ميتاتهم الرخيصة. من هنا، نفهم جدّة
هذا العمل
ومغايرته الدرامية، ذلك أنه لا يُطبل للعزم الفردي الذي حوّل الأميركي
ماريون
موريسون المشهور بلقبه المشّع جون واين في الكثير من النصوص
السينمائية فاسدة
النية، إلى صنديد يشقّ غبار الفيافي صاداً هجمات الوحوش («قلعة الأباتشي»
في 1948
و«الآمو» في 1960)، أو ذائداً عن قطعان البقر («رعاة البقر»، 1972)، أو
مطارداً
الأشرار («ريو برافو» في 1959 و«الحدود المتمردة» في 1934).
إننا نواجه استحقاقاً
حياتياً شديد الواقعية لثلّة مغامرين، آلوا على أنفسهم أن يكونوا «فاتحين»
لأرض
ادّعوا أنها بكر، فوجدوا أنها لا تختلف بقسوتها عن بشرها. وتشير نهاية فيلم
المخرجة
ريخهاردت إلى أن هؤلاء العاديين يواجهون محنهم بمفردهم، ونصّها
غير معني بمآلاتها،
فالتاريخ يذكر أنهم وصولوا إلى مستعمرة تدعى دالاسن بعد أن فقدوا أمواتاً
كثراً،
فيما أسّسوا لما عُرف باسم «قافلة أوريغون»، التي تُعدّ إحدى أهم علامات
الاستعمار
المعاصر.
)لندن)
السفير اللبنانية في
07/10/2010 |