ككل صناعة سينمائية قائمة ونشطة، تجد السينما الصينية نفسها بين مهام
تحقيق
الفيلم الذي يُجمع عليه الجمهور وموافقة السُلطات، وبين الفيلم الذي لا
يراه أحد،
باستثناء الفئة التي بلغ بها الوله قدراً كبيراً فأدمنته. هذا الفيلم هو
ذاك الذي
ترصده السُلطات عبر أجهزتها الرقابية لكي تتدخل إذا ما وجدت
أنه لا يتلاءم مع
السياسة الصينية في الداخل او في الخارج. ليس أن الفيلم السائد يخرج من
الاستديو
مباشرة الى صالات العرض، لكن المستقل والمختلف هو ما يقلق كل رقيب لأن
صاحبه اختار
أن ينأى بنفسه عن ذلك السائد تلقائياً وكلّياً. إنه لن يصوّر
الناس سعداء، ولن
يصوّر المجتمع يزدهر، لن يقدم الفيلم المضحك او المبكي او الذي يرقص طرباً
ولا
علاقة له بتلك القصص العاطفية التي تشغل القلوب. ما يُريده هو الحديث عن
مشاغله او
مشاغل مجتمعه وكلاهما، في العديد من الحالات، واحد.
المخرج المستقل يبتعد عن
الدارج ويدخل في صميم ذاته. يصوّر الأمور كما هي. إن كانت
كالحة فهي كذلك على
الشاشة، وإن كانت مبهجة، فهي كذلك على الشاشة. بما أنه ينطلق من مفهوم
مختلف للحياة
ولماهية السينما وما يجول في عالميهما، فإن المبهج لا يُثيره لأنه لا
يشاركه
البهجة. فالسعادة الغامرة هي شأن خارجي لوضع لا يدعو، غالباً،
الى السعادة مطلقاً.
هناك أحزان لا تراها السينما الأخرى الا إذا أرادت توظيفها لصالح منهج
ميلودرامي او
تراجيدي وغالباً ما ستختلف عن أسبابه وستمنحه نهاية سعيدة تطمئن الناس أن
الأمور
بخير او ستكون كذلك.
هذا ليس حكراً على السينما الصينية، بل هو، كما ذكرت، موجود
في كل صناعة سينمائية على الأرض. حرّة التناول، كما السينما الهندية
والأميركية، او
تخرج من كنف الرقيب، كما المصرية او الصينية او الإيرانية. في كلا
الحالتين، فإن
السائد (الذي هو أكثر عدداً) يعكس جوانب يريدها أن تصل الى
المشاهدين وطريقه الى
ذلك جعلهم يعايشون ما يحلمون به او استغلال واقعهم لإثارة عاطفتهم حياله من
قبل أن
يتركهم على أمل بحياة أفضل في السنة القادمة او التي بعدها.
المختلف، فوق ما
ذكرت من جوانب اختلافه، هو الذي تنشده المهرجانات لأنها تدرك أن الجهد
لتمرير
رسالات غير تلك السائدة، لابد أن يمر بفلتر ذاتي من ناحية، وأن يرضخ لحالة
إبداع
تتجاهل أبجديّات السينما التقليدية. هذه اللغة هي أساسية
جدّاً. في فيلم تقليدي،
فإن اللقطة التي تصوّر ركوب شخص لحافلة او عبّارة لن تستمر الا لبضع ثوان
(الا إذا
كانت مصحوبة برقصة تقوم بها حسناء تبرز فجأة على ظهر ذلك المركب، حينها
ترتاح
الدنيا بانتظار انتهاء الوصلة)، أما في الفيلم الخاص فالمشهد
موظّف لقراءة البشر في
الحافلة او في العبّارة. وفي الفيلم الرائع لكيجيا زانغ "حياة ساكنة" هي
فرصة لرصد
التحوّلات التي تقع على ضفاف نهر يانغتزي. القرى الآيلة للاختفاء. المباني
الشاهقة
التي ترتفع فوق انقاض الحياة التي ترعرع المخرج عليها،
والمتحوّلات الاجتماعية
المرتبطة بتلك الاقتصادية التي تمر بها الصين.
المهرجانات التي لا زالت تبحث عن
مثل هذه الأعمال لتقديمها هي التي قدّمت اليابانيين أكيرا
كوروساوا ويازوجيرو أوزو
الى الجمهور العالمي، كذلك الهنديين مرينال سن وساتياجت راي، والمصريين
صلاح أبوسيف
ويوسف شاهين والسوريين محمد ملص وأسامة محمد والإيرانيين محمد مخملباف
وعبّاس
كياروستامي وسواهم في شتّى بقاع العالم منتخبة إياهم من بين
المواهب التي تريد
تكوين سباحة ضد التيار وهي لم تحقق فقط ما تريد، بل تحوّلت الى علامات
تاريخية
بارزة ودائمة ما دامت الدنيا.
لكن قبل الحديث عن نماذج سينمائية بعينها لابد من القول أيضاً أن ليس
كل ما لمع
بشدّة قبل جيل او جيلين حافظ على لمعانه وجدارته. في السينما الصينية خرج
الجيل
الخامس من بطن عملية رفض لسينما الستينات والسبعينات التي كانت فيها
السينما
الصينية بأسرها أقرب الى عملية طبع مناشير حكومية تدعو للتكاتف
حول الدولة
وسياساتها من دون نقاش. الحكم للشعب لكن عليه أن ينصاع أوّلاً لمن يتولى
إدارته. او
كما الزوج الذي سئل عما إذا كان حرّاً فقال: "اتخذ كل القرارات بعد موافقة
زوجتي".
جيل الثمانينات والتسعينات اختلف من حيث أراد أن ينقض الاتفاق القائم
بين السُلطة والخائفين منها وانبرى لهذه الغاية عدد من السينمائيين الجدد
الذين تم
تسميتهم بالجيل الخامس. من هؤلاء تيان زوانغزوانغ وتشن كايغي
وزانغ ييمو وزانغ
جونزاو. وإذ فعل ذلك تعرّض الى ما تعرّض إليه من ترهيب وترغيب ومنع سفر او
منع عمل
وفي بعض الحالات أدخل السجن.
الثمانينات ليست بالبعيدة زماناً عنّا، لذلك
الأفلام الأولى لهؤلاء المخرجين كانت أقرب الى انفجار ثقافي
عند سد مقام أدّى الى
انهياره واندفاع ماء الحياة بسببه. هل لنا أن ننسى مثلاً "الأرض الصفراء"
لتشن
كايغي او "جو دو" لزانغ ييمو؟ وكيف لا ننظر الى فيلم تيان زوانغزوانغ
"طائرة الورق
الزرقاء" على أساس أنه من أفضل ما انتجته السينما الصينية في تاريخها الى
اليوم ليس
فقط على صعيد الخطاب الذهني والسياسي الذي يحويه، بل على صعيد اللغة
التعبيرية التي
حملها أساساً؟.
لو أن هذا الجيل استمر في منهجه لاعتلى شأناً أرفع مما وصل إليه
الآن. لكن في حين أن زوانغزوانغ دفع عشر سنوات من حياته ثمناً لفيلمه ذاك،
قرر تشن
كايغي وزانغ ييمو (وهما الاسمان الأكبر حجماً على مستوى إعلامي دولي)
الانحراف عن
الخط والتوقّف عن السباحة.
بذلك، وعوض "جو دو" و"الإستعراض الكبير" و"ملك الأطفال" التي عاينت
أوضاعاً
اجتماعية ولو بزخرفة فنية زائدة في بعض الأحيان، رأيناهما
ينتقلان، ربما ابتعاداً
عن وجع رأس الرقابة، إلى أفلام الأكشن والمغامرة والأسطورة.
تشن كايغي أنجز،
فيما أنجزه "الوعد" (2005) وزانغ ييمو حقق "بطل" و"منزل الخناجر الطائرة"
من بين
أخرى. الأحداث تركت الصين اليوم، بل الصين ما بعد الثورة بأسرها وغمرت
التاريخ
البعيد لأيام اللوردات والممالك التي تعاقبت تنهل من التراث البعيد وتصيغ
على
الشاشة أعمالاً من المؤثرات الخاصّة والألوان البرّاقة
والتصاميم التي "يبحلق" فيها
المشاهد معتبراً أنها برهان على أهمية الفيلم او جودته.
التباعد عن أطروحات
الأمس القريب بلغ بكايغي الى إنجاز "تأسيس الجمهورية" قبل عامين بمناسبة
الاحتفاء
المذكور، وبالثاني الى اقتباس فيلم نوار أميركي حديث عنوانه "دم بسيط"
للأخوين
كووّن (أول أفلامهما وورد سنة 1984) لفيلم ساذج بعنوان "قصّة نودل بسيطة" A Simple Noodle Story
(والنودل هي شعيرية صينية معروفة) تقع
أحداثها بعيداً عن كل
مدينة وعن كل شأن اجتماعي.
لا ينفع أن نبحث عن مبررات للتنازل، ولا أن نسحب من
الأفلام خيطاً هنا وخيطاً هناك لكي نتوهّم أنها إنما تتحدّث عن وقائع
وهموماً آنية.
إذا ما فعلنا ذلك، لم لا نقوم حينها
بمعاودة رد الاعتبار لفيلم مثل "أبي فوق
الشجرة" لحسين كمال على أساس أنه طرح جاد لمشكلة عاطفية (ما
هي؟) او لفيلم "اسماعيل
يس في الجيش الحربي" على أساس أنه "نقد" للعلاقة بين المجنّد وآمره وربما
للمؤسسة
العسكرية كلها؟.
إنه من المؤسف أن يكون الجيل الخامس آل الى ما آل إليه وأشتغل
على رقابته الذاتية بحيث كوّن لنفسه صرحاً على حساب ماضيه من ناحية ومواكبة
الاختيارات التجارية والجماهيرية من ناحية أخرى. وهو، بفضل
حالة فساد في المهرجانات
الكبيرة، لا يزال يستطيع الانتقال من بيجينغ الى كان او برلين او فنيسيا او
تورنتو
او سواها بمجرّد تأمين نسخة للمهرجان غالباً ما سيتم انتخابها للعرض في
الدورة
المقبلة بناءاً علي أسم صاحبها.
لكن هذا تحديداً ما ساعد على فتح المجال أمام
أسماء جديدة تماماً لا زالت غير قابلة للتنازلات. جيل بأدوات
تعبيرية مختلفة
وتكوينات أخّاذة في بساطتها ومنوال سردها المختار، حتى حين تتعثّر في
المحصلة
الأخيرة في بعض الأحيان....
الجزيرة الوثائقية في
04/10/2010
في"جبال الصوان" أبو بيرم ينظمُ قصائد من الحجارة
صلاح سرميني ـ باريس
حكمت عدرا "أبو بيرم"، معماريٌّ، ونحاتٌ
بالفطرة، دأب منذ سنواتٍ عديدة على جمع الأحجار، والصخور من المنطقة
المُحيطة
بقريته "حمام القراحلة"، وهو يرى في قراءته الفنية لما تُمثله
من أشكالٍ، ورموزٍ،
بأنّ الطبيعة هي الفنان الأول.
ومن أجل شغفه هذا، هجرَ عائلته، ومحيطه القريب،
والذين لم يروا في عمله هذا سوى ضرباً من الجنون.
يحاول الفيلم رصد علاقته
بحجارته، محيطه، حكاية جدل الإنسان مع الطبيعة، وشغف الفنان
الذي يقوده في المُحصلة
إلى العزلة.
نضال حسن
منذ بعض السنوات فقط، بدأت المهرجانات الأوروبية
تستقبلُ بين ضيوفها أشخاصاً يمارسون مهنةً جديدة، يُسمونها "الباحثون عن
المواهب
السينمائية"، وهي رسمياً مهمةٌ غائبةٌ عربياً، ويتولاها بصيغةٍ أعمّ،
وأشمل، نقاد
السينما، المُدراء الفنيّون للمهرجانات، والمُبرمجون، وتفوحُ طبيعتها عندما
يتباهى
أحدهم باكتشافه المخرج الفلانيّ، مع أنّ هذا الأمر سوف يحدث عاجلاً، أم
آجلاً،
وبدون وصايةٍ من أحد، لأنّ الموهبة الحقيقية لا تخفي نفسها.
في المُقابل، تُجاهد
مواهب أخرى فترةً أطول كي تحظى على الاعتراف، والتكريس، ويشهدُ تاريخ
السينما
العربية على حالاتٍ عديدة، أكثرها دلالةً : "المومياء" لشادي عبد السلام،
و"باب
الحديد" ليوسف شاهين، كما يتحتمُّ علينا بأن نتذكر دائماً "حكاية الأصل،
والصورة في
قصة نجيب محفوظ المُسمّاة صورة"، و"ثورة المكان" لمخرجهما "د.مدكور ثابت"، "التلاقي"
لصبحي شفيق، و"اللجاة" لرياض شيّا، وسوف تطول القائمة حتى الوصول إلى "بشرة
مالحة" لمُخرجه السوريّ "نضال حسن" قبل أن يطويه النسيان.
فيلمٌ لم يحظى
على الاستحقاق المُناسب، لأنه سبق بسنواتٍ أذواقا سائدة وقفت حائرةً أمام
بنائه
السينمائيّ المُلتبس بين التسجيليّ، والروائيّ، وقتذاك، في عام 2003، كان/
وما يزال
مفهوم "السينما الشعرية" غامضاً، يستسيغه الكثيرون عند "بارادجانوف"،
و"تاركوفسكي"،.. ويرتبكون منه مع "بشرة مالحة"، لمُخرجٍ حديث
التخرج من أحد معاهد
السينما في أرمينيا.
منذ ذلك الحين، لم أشاهد عملاً آخر لـ "نضال حسن"
غير "جبال الصوان"، فيلمٌ تسجيليّ لن يُربك النفوس القلقة في تصنيفه، ولم
يتوانَ
المخرج بدوره عن تأكيد تسجيليته في أكثر من لقطة، وإن كان
بعضها يخفي جانباً
تمثيلياً مُضمراً تُدركه العين المُدرّبة، وهي ليست انتقاصاً من رؤيةٍ
إخراجية
تستمدُّ مشروعيّتها من العلامات الأولى في تاريخ السينما التسجيلية : نانوك
الشمال،
قصة لويزيانا(روبيرت فلاهرتي)، رجل الكاميرا(دزيغا فيرتوف)،
برلين مدينة مفتوحة (والتر
روتمان)،... وحتى بورتريهات (آلان كافاليّيه) عن سيداتٍ يعملن مهناً في
طريقها إلى الاختفاء.
يُحددُّ هذا المزج بين الشخصيّ، والعام الفوارق الجوهرية
بين أفلام المُؤلف، والتحقيقات التلفزيونية المُصوّرة (بدون الانتقاص من
قيمتها)،
وبين كاميرا تُسجل الواقع آلياً (مع التأكيد بأنّ الصورة
الفيلميّة ليست مُحايدة
أبداً)، وأخرى تغوصُ في عناصره الخفية، تكتشفها، تكشفها، تفككها، وتعيد
بناءها من
جديد.
وهذه السياقات بالضبط، هي التي جعلت سينمائياً شاعراً كحال "نضال حسن"
يُوجه عدسة الكاميرا نحو شخصيةٍ إنسانية نادرة لا تقلّ عنه شعريةً، وبدون
الفيلم،
سوف تبقى بعيدة المنال بصرياً، كما ذاك المكان الذي يعيش فيه، ويُلهمه فنه
الفطريّ.
في الآن ذاته، يتخطى "أبو بيرم" علاقته المادية مع الواقع، يكتشفُ،
ويكشفُ عن جمالٍ كامنٍ في أحجارٍ نحتتها الطبيعة، يلتقطها، يجمعها،
ويُرتبها في
فضاءٍ شعريٍّ خاصّ به، حميميّ بما يكفي، ويتمنى بأن يقدمها يوماً للآخرين
من خلال
معرضٍ (من الأفضل أن يكون في الطبيعة نفسها).
وهي نفس الخطوات التي يُطوّرها
"الباحثون عن المواهب" في اكتشاف أعمالٍ سينمائية، وتسليط الأضواء
عليها.
قصائد من
الحجارة....
منذ البداية، يتخيّرُ البناء السينمائيّ لفيلم
"جبال الصوّان" لقطاتٍ ثابتة، عامّة، وبمدةٍ زمنية طويلة نسبياً،
أجدني، في
المُحصلة، ميّالاً إليها أكثر من حركة كاميرا محمولة سوف تفرضُ نفسها
لاحقاً.
الوقت شتاءً، السماء تمطرُ مواويلها، والطبيعة تعزفُ موسيقاها، ولكن،
حالما تتخلى الصورة عن أجواءٍ تأملية بدأ المُتفرج الأكثر تذوقاً يستعدُّ
لها، حتى
ينساقُ أحد عناصر شريط الصوت إلى الطريقة المُباشرة في توصيل
المُحتوى، ويلجأ إلى
تعليق الشخصية الرئيسية نفسها، وأولئك الذين يحومون حولها.
وسوف ننتظر قليلاً كي
ندرك خصوصية "أبي بيرم"، وشغفه بصياغة قصائد من الحجارة المنحوتة تلقائياً،
وسحر
المكان الذي يعيش فيه.
ولن يستغرق الفيلم طويلاً حتى تتخلص الكاميرا
من حاملها، ويبدأ المُصور/المُخرج يُحرّكها بيديه باحثاً عن
مساحةٍ أكبر من حريةٍ
بصرية، وإيقاع مونتاجيّ أكثر سيولةً، هذا التحوّل من الثبات إلى الحركة
يعكس ـ
رُبما ـ رغبةً ضمنيةً بالفكاك من الدهشة الأولى بأبي بيرم، والمكان، لصالح
المُشاركة، والاقتراب منه، وأحجاره المنحوتة.
في مثل هذه الأفلام، أميل أكثر إلى
اللقطات الثابتة (كاميرا موضوعة على حامل)، وإن تجاوزتُ هذا
التفضيل، سوف أتشبثُ
كثيراً بجماليات الصمت السينمائيّ(وهو يختلفُ عن السينما الصامتة)، آملاً
الاستمتاع
بصورةٍ تُعبّر عن نفسها، قبل أن ينتهكَ التعليق شعريتها.
حيث أجدُ تلك اللقطات
الكبيرة، والمُتوسطة للأحجار الجاثمة في شرفة منزل "أبي بيرم" أكثر بلاغةً
من أيّ
شرحٍ، وتفسير.
وأتوقع من "نضال حسن" بأنه شاهد يوماً أعمال الأرمينيّ "أرتافازد
بيليشيان"، ومواطنه "سيرغي بارادجانوف"، والجيورجيّ "ميخائيل كوباخيدزة"،
والروسيّ "أندريه
تاركوفسكي"،...
منذ اللقطات الأولى للفيلم، يضعنا المُخرج في حالةٍ من
التساؤل، مُستعيناً بصبيّ فضوليّ يلقي سؤالاً مكرراً:
ـ شو عم تصوروا، شو عم
تصوروا ؟
ومن ثمّ يبتعدُ، ويختفي في ثنايا الصورة، والطبيعة المُمتدّة.
وفي
لقطةٍ أخرى، تتساءلُ والدة "أبو بيرم" الساكنة مثل الأحجار المُوزّعة حولها:
ـ
أين "أبو بيرم" ؟
هو في غرفةٍ تغمرهُ العتمة إلاّ من إضاءةٍ شتائية قاتمة تعبر
زجاج النافذة، يبوحُ، وفي لحظةٍ ما يقول :
ـ وشو كمان ؟
خطةٌ إخراجيةٌ
مقصودة، أو مُرتجلة، تنتشلُ المتفرج من حالة الاستغراق، ولكنها تنزعُ عن
الصورة
شعريتها الخالصة، وتأملاتها الجمالية، وتحوّل البناء السرديّ إلى حضورٍ
عائليّ،
وحواراتٍ تلقائية تقودها اللحظة الراهنة أثناء التصوير.
ـ ابني رجاءً لا
تصور.
هكذا تقولها الأمّ بعفوية الزاهدين، وبتحايلٍ لا مثيل له، تختطفُ
الكاميرا
شظايا مُتناثرة من صورها، ويحتفي بها المونتاج لاحقاً كي تحظى على مكانٍ
لها بين
لقطتيّن، وأتخيلُ بأنها كانت سعيدةً عندما شاهدت نفسها، وضحكت بخجلٍ حتى
كشفت عن
فمٍ ضاعت أسنانه في السنين الماضية من عمرها.
بعد مشاهدة الفيلم في مهرجان دبيّ السينمائي
2009، وأخرى منزلية مُتمهلة، تخيلتُ الفيلم وقد تقلص
فيه التعليق إلى حدّه الأدنى،
واستُبدل بمواويل محلية (كما في بعض اللقطات)، تتبارى مع
موسيقى ذات جذور تراثية،
وأُضيف إلى شريط الصوت، أو الصورة القليل من الأبيات الشعرية، أو النثرية
من كتابة
المخرج، أو إحدى الشخصيات التي استعان بها للحكيّ عن "أبي بيرم"، ومُشاركته
الصورة،
والفيلم.
كيف يصبح الفيلم في هذه الحالة المُتخيّلة، أو المُفترضة ؟
لقد
اقتنعَ المُتفرج حتى الشبع بشغف "أبي بيرم"، وتعرّف على أعماله الجاهزة
الصُنع، فهل
كان الانتقال إلى أصدقائه ضرورياً، وحكاياتٍ أخرى تؤكد ما تأكد سابقاً.
لا
يكتفي السيناريو ـ قبل التصوير، أو بعده ـ بهؤلاء فحسب، ولكنه يستعينُ
بـ"هيثم" ابن
أحدهم، فنانٌ فطريٌّ يجمعُ الحصى، يتدّخل في أشكالها، ويُحوّلها إلى
منحوتاتٍ صغيرة
في مُقاربةٍ إبداعية مختلفة عن "اللقى" التي يعثرُ عليها "أبو بيرم".
"هيثم"
تستهويه الكاميرا(الخاصّة به، أو تلك التي استعارها من المخرج)، وعندما
نشاهده
يصوّر الطرف المُقابل (أيّ المخرج "نضال حسن")، نشعرُ برغبةٍ الاثنيّن في
تبادل
الأدوار بينهما.
هذا التداخل الوجدانيّ بين الشخصيات (حتى وإن لم تكن قراءتي
صحيحة) يحوّل الصورة إلى مرآةٍ تعكسُ حالةً من التماهي بين المخرج، وإحدى
شخصياته.
في المشاهد الداخلية من الفيلم، أثارتني تلك الإضاءة القاتمة التي
تغمرُ "أبي
بيرم"، وجاءني الجواب لاحقاً عن طريق الشاب "هيثم"، شخصيةٌ تُغلفها بعض
السوداوية،
والقليل من الكآبة طبعت صورةً تميلُ إلى العتمة.
تقنياً، كان من السهل بأن
يُصوّر "نضال حسن" شخصياته في مكانٍ خارجيّ، أو يفتح الأبواب،
والنوافذ، وحتى
يستخدم لمساتٍ من إضاءةٍ اصطناعية مُضافة، ولكنه لم يفعل، وأظنّ بأنه تعمّد
صورةً
قاسية، بلا رتوش، تعكس دواخل شخصياتٍ تأثرت حتى الصلابة بحصى، وحجارة،
وأحداث
حياتية.
ولكن، هل كان من الضروريّ بأن يبتعد الفيلم عن منحاه الجماليّ، ويقترب
قليلاً من الحياة العائلية "الهشة" لأبي بيرم، ويزجنا في خلافاتٍ مع أبنائه
الذين
نفهم بأنهم ابتعدوا عنه بسبب هوسه بالحجارة، ومع ذلك، إذا تغاضينا عن تلك
المشاهد،
يجسدُ هذا الخلاف فوضى المفاهيم التقليدية حول الشغف الفنيّ،
حيث، من المُفترض، بأن
يقف الجيل القديم ضدّ اختيارات الأبناء، وليس العكس، كما حال "أبي بيرم"
(ولا دخلَ
للمُخرج، أو الفيلم بهذا الأمر الواقع)، وعلاقته المُتوترة مع أبنائه التي
أجبرته
على العيش وحيداً في صومعته الزاخرة بأحجارٍ تتقاسم معه وحدته،
وعذاباته الداخلية
التي فسرّت تلك الملامح القاتمة للشخصية، والفيلم بشكلٍ عام، ولكن، من حسن
حظ "أبي
بيرم"، هناك بعض الأصدقاء المُعجبين به كفنانٍ، وإنسان، يمنحونه قليلاً، أو
كثيراً
من البهجة.
ولكن، هل هي الصدفة وحدها التي قادت "نضال حسن" إلى تصوير الأبناء في
مشهدٍ/لقطةٍ وحيدة جالسين الواحد بجانب الآخر أمام نافذةٍ، وبسبب مواجهة
الكاميرا
لإضاءةٍ قوية قادمة من الخارج، تحولوا إلى أشكالٍ شبحية تغمرهم العتمة بكلّ
معانيها
المادية، والإنسانية.
وفي الوقت الذي يغني الأصدقاء، يحتسون ماء
الحياة، ينظمون الأشعار، ويضحكون، يقف "هيثم" إبن أحدهم
بعيداً، يستندُ على حاجز
الشرفة، مفارقةُ غريبة أيضاً، تأكدت لي من جديدٍ بعد قراءة المُلخص الذي
كتبه "نضال
حسن" بنفسه عن "شغف الفنان الذي يقوده في المُحصلة إلى العزلة"، وهذا يعني،
بأنّ
الفكرة وصلت إلى المُتفرج كما شاءَ لها المُخرج بأن تصل.
وكنتُ أتمنى بأن يكون
ذلك المشهد، بكلّ ما يطفحُ من بهجةٍ، وحزن، نهايةً مُحتملة، أجدها مناسبةً
أكثر من
أيّ لقطةٍ تعاطفيّة لاحقة، وقف فيها "أبو بيرم"، يتحدثُ مباشرةً إلى
الكاميرا/المُتفرج، يُعلن عن رغبته بإقامة معرضٍ، وحاجته إلى
المُساندة، وكأنّ "نضال
حسن" قد أنجز الفيلم لهذا الغرض بالذات، وهو ليس بحاجةٍ إلى تلك اللقطة،
لأنّ
الرسالة وصلت بدونها، وأتوقعُ عدداً كبيراً من الذين شاهدوا الفيلم،
امتلكهم شوق
التعرّف عليه، وزيارته في ذلك المكان الأخاذ، للابتعاد قليلاً
عن مدنٍ مُثقلة بهموم
أهلها.
لقد تخيّر "أبو بيرم" العيش مع أحجارٍ تمتلكُ روحاً داخلية تُغنيه عن
بشرٍ تصلبت أرواحهم، وتحوّلت إلى
جبالٍ من الصوّان.
هوامش:
- جبال
الصوّان، تسجيليّ، 46 دقيقة، إنتاج
عام 2009.
- نضال
حسن، مواليد طرطوس 1973، إجازة في الإخراج السينمائيّ من جامعة
السينما في أرمينيا عام 2002
في عام 2003 أنجز فيلماً روائياً طويلاً بعنوان
"البشرة المالحة" من إنتاجٍ مشترك بين سوريا، وأرمينيا، وحصل على جوائز
في أرمينيا،
اليونان، وكندا، وشارك في مهرجاناتٍ دولية، وعربية عديدة.
أنجز مع المُؤسسة
العامة للسينما في دمشق فيلميّن روائيين قصيرين "الفرح"، و"حكاية كل يوم".
يُنجز
حالياً فيلماً روائياً طويلاً بعنوان "صلاة الغائب" من إنتاج المُؤسسة
العامة
للسينما، وشركة موسفيلم الروسية.
حصل سيناريو "صلاة الغائب" على تتويجٍ خاصّ من
لجنة تحكيم ورشة المشاريع لأيام قرطاج السينمائية في تونس عام 2008.
نشر مجموعة
من المقالات النقدية في جريدة الفنون الكويتية، ومجلة الحياة السينمائية في
سوريا.
صدر له ترجمة كتابين من سلسلة الفن السابع، وزارة الثقافة.
(السيرة
الذاتية من كتابة "نضال حسن").
الجزيرة الوثائقية في
04/10/2010 |