لقطة أوليفييه أساياس السينمائية مفتوحة على العالم،
شاسعة الرؤية ومصحوبة بالكبرياء. مؤمنة لكن ملحدة أيضاً. فيلمه هنا عن
إيليتش
راميريز سانتشيز الملقب بـ"كارلوس"، متمرد على آلية الانتاج
وتقاليد الحرفة
والصنعة. من هذا التمرد على الأطر السائدة يستقي مخرج "الأقدار العاطفية"
سينما
كبيرة تواكب عشرين سنة من الجيوسياسة، طارحاً تيمة غير محسومة بعد، ولم تنل
حصتها
من النقاش الجدي: كيف يصبح المُشاهد "الحليف الصامت" للشخصية
غير المرغوب فيها، أي
ما يعرف بـ"البرسونا نون غراتا"؟ في أي لحظة يتعاطف معها ومتى
يسحب دعمه عنها؟ انها
تأملات تتجاوز حدود الشخصية الجدلية التي يهتم الشريط بسيرتها، وتقفز
بالمُشاهد الى
هموم تبدأ مع الدعوة الى الفصل بين فيلم تلفزيوني وفيلم يموّله التلفزيون،
لتنتهي
عند مسألة اعادة احياء التفاصيل خدمة لـ"حقيقة روائية".
من سيرة كارلوس
الارهابي (ادغار راميريز)، الذي استعمل الترهيب
والخوف من أجل حفنة عناوين نضالية،
يخرج المرء باستنتاجات تتخطى منطقي الصحّ والخطأ، الخير والشرّ، الادانة
والسماح.
لا يعمل أساياس وفق هذا النهج الاتهامي او
التبريئي. سينماه أكبر من أن يبتلعها
التسييس وأصغر من أن تحمل مؤامرة خسيسة. أساياس يصوّر سيرة
كارلوس كتراجيديا
اغريقية. كل العناصر التي تتيح له الانتقال من العمل التوثيقي الى الروائي،
حاضرة
هنا، في سيرة الثائر الفنزويلي، حدّ انه لا حاجة لاختراع أي جديد، اذ يكفي
الغوص في
أعماق تجربته الثرية: التمرد على الواقع؛ العيش، حيناً، على تخوم الخوف وفي
الخفاء،
وحيناً آخر عبر السقوط في التهميش والخيانة والسجن، وصولاً الى اليوم الذي
سينقلب
فيه الطموح على صاحبه. انه ضحية التحولات والتاريخ الذي يأكله
لحماً ويرميه عظاماً،
ما إن يسقط الستار الحديد ولا يعود العالم في حاجة الى وسيط بين المعسكرين.
في فيلم
توثيقي ومعلوماتي واخباري بامتياز، تطلب من أساياس وفريقه (ستيفان سميث
ودان فرانك)
بحثاً دقيقاً لإنعاش ذاكرة عقدين من الزمن،
فتجد أن الشيء الوحيد الذي يدعو الى
تخييل رومنطيقي هو كارلوس.
في بؤرة أساياس الضحلة، لا نرى ثائراً أو ارهابياً،
إنما تمثالاً اغريقياً، مصدراً للاغراء والنفور، لدى كل من السياسيين
وفتيات يمارسن
أقدم مهنة في العالم. كارلوس كما يصوره أساياس، نوع من جو
داسان. محارب أنيق
للرأسمالية، لا يهمل مظهره الخارجي ويتبع حمية عند الحاجة خشية أن يصبح
سحره على
المحكّ. يبدأ حياته مناضلاً في جيش اليسار المتطرف و"ينهيها" وهو يعلّم تي
جاي
لورنس في مدرسة سودانية. بين المرحلتين، يجسد بورتريهاً لجيل
كامل من المناضلين
كانوا في البداية يعيشون "لـ" مبادئهم ثم صاروا يعيشون "من خلال" مبادئهم.
من هذين
المنطقين في توظيف المبدأ، يولد فيلم أساياس البديع.
بمشهد واحد يتحول كارلوس
قاتلاً. وبآخر يتحول مرتزقاً في خدمة الأنظمة الشمولية
والمخابرات. ولا يلزم أكثر
من لقطة بانورامية، كي نذهب الى بودابست بعد أن نكون في بيروت. بهذه السرعة
تمشي
الأمور في الفيلم. بالوتيرة عينها تتوالى الحوادث والتواريخ متجاوزةً
أحياناً
القدرة على استيعاب هذا الكمّ من المعلومات. من غير المستغرب
أن يتضمن المشهد الذي
ينتقل فيه كارلوس من مناضل الى ارهابي، حالة خيانة ممن كان يثق بهم كارلوس
(ميشال
مكربل/ فادي أبي سمرا)، لأن الفيلم يعج بهؤلاء. لكن ليس هؤلاء الذين يخيفون
كارلوس.
لا يتأتى تسارع خفقان قلبه في ختام هذا المشهد الاساسي جراء خوف من آخر ما.
اذ ليس
ثمة ما يخيف كارلوس، بحسب نظرة أساياس، أكثر من أن يعجز عن ممارسة الإغراء
على
الآخرين. هذا الخوف يؤكده لجوءه الى عمليات التجميل لكي يبقى
شاباً. المتهم خلف
القضبان هنا، في هذا الفيلم، هي الكاريزما المقترنة بالنجومية التي تعود
بالويلات
على صاحبها، وليس الرجل الذي خلفها. أساياس ذكي كفاية ليتعامل مع الأفكار
قبل
التعامل مع الأشخاص.
يتخد نصّ "كارلوس" من مطارات العواصم الأوروبية ومحطات
القطار جزءاً من ديكور برّاق، للتهريب والدسّ والمؤامرة. في زمن كانت الطرق
سالكة
وآمنة أمام الارهاب المتنقل في حقيبة من نقطة ساخنة الى أخرى،
وأكثرها سخونة: الشرق
الأوسط. نحن في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته. الروك والشعر الطويل
وأجواء الفسق
وإرث تشي غيفارا النضالي تأييداً للشعوب المظلومة. التدخين لم يكن ممنوعاً
بعد في
الأماكن العامة، والسياسة تناقش في لهيب الأفكار المتسللة من
أواخر الستينات للحرب
الباردة. فلسطين واليسار والمارد الروسي والجيش الأحمر الياباني: سَلطة
سوداء من
القضايا المتشابكة والمتداخلة. ما دامت كأس الويسكي والماركسية تجتمعان تحت
سقف
واحد، فلتعش الثورة! العالم غابة وسيساهم كارلوس في جعله غابة
مفتوحة بلا حدود.
انها سنوات الجمر، لكن هذا الجمر لا يحرق فقط حيث يقع!...
هذا متن ضروري لفهم ما
يجري، لكن الفيلم سيحرص على طرده ليقتفي أثر كارلوس في نصّ سينمائي هو
أولاً
وأخيراً سيرته وسيرة عالم من خلاله. عبر عيني إيليتش نتابع خصوصية حقبة
بأكملها.
هاتان العينان هما اللتان ستقوداننا. فقبضة كارلوس الحديد لا تقلل من
سحر ابتسامته.
ذكاء أساياس انه سيصور العين والمخرز بالعطف نفسه. الفيلم هو قصة هذه
الابتسامة
أيضاً، على ما يؤكد المخرج. في حين كثرٌ من الأفلام تتبنى وجهة
نظر الساسة أو
الشرطة في قصّ سيرة ارهابي أو قاتل بالتسلسل، يعتمد نصّ أساياس على مقتطفات
الصحف
والشهادات لإعطاء الارهابي حقّ الكلمة، في مبادرة لتوسيع بقعة الخطاب حول
الارهاب
ودمقرطته. الرواية الرسمية مقابل رواية شخص لا يعتبره أساياس في أي لحظة من
اللحظات
مسخاً جارحاً، فيحاول قدر المستطاع اقتحام المناطق الغامضة في سيرته
والاضاءة على
أمكنته الأخرى بحسّ تفاعلي بالغ الدقة.
كارلوس ليس ضحية في فيلم أساياس. واذا
كان لا بد أن يكون ضحية لمنظومة ما، فهو ليس ضحية سينما انما
ضحية شعار. مهما يكن،
فالنصّ لا يراهن على كاريزماتيته ليكون. لعل المشهد الذي يخرج فيه عن طوره،
أمام
الشرطيين المجريين، يدخلنا في المنطقة الرمادية من شخصيته، أي في مخّ شخصية
ملّت
انتظار المجد. هذا المجد هو الكلمة التي تخرج من فمه في بداية
الفيلم، في ما يمكن
اعتباره زلة لسان تفضح ما سيبحث عنه طوال حياته.
في درب العنف سيجد كارلوس كلاً
من خلاصه وهلاكه. طوال عشرين سنة، سيكون له ما يلزمه من وقت،
لكي ينتقل من رجل فكر
الى فكرة رجل، معارضاً حيناً ومتجاوباً أحياناً ومستلقياً في معظم الأحيان
على
الرياح التي ستهبّ من الجوانب كافة وعلى الأمواج المتلاطمة في وجه
ايديولوجيات
اليسار. طوال الساعات الخمس التي تستغرقها رحلته مع المشاهد،
سيكون لنا متسع من
الوقت لكي نراقب شكوكه المزمنة وتنازلاته ووقوعه الى القعر. لا يصوّره
أساياس كبطل
يخرج من جبّ الأرض ليلتهم السماء، وإنما يريه في عريه الآدمي من دون ورقة
تين.
يرافقه في حميميته وهو يتباهى برجولته وينظر الى قضيبه غير المنتصب في
مرآة. اللافت
هنا ميل
أساياس الى ربط الفحولة بالنضال. فكارلوس يأخذ في هذا الفيلم صوتاً وصورة،
لكن له أيضاً حضور جسماني يصعب حصره في اطار نمطية "البلاي بوي". انه نقيض
جيمس
بوند ونقيض هوليوود التي ما كان من الممكن أن تنجز فيلماً مماثلاً، لضيق
نظر
أعمالها، وفق ما يقوله المخرج في حديثنا معه. في هذا السياق،
من اللافت أن كارلوس
لن يخسر "قضيته" الا عندما تصاب رجولته في الصميم (يصاب بمرض في الخصيتين
في
السودان).
بهذا الفيلم يغدو أساياس أمير الواقعية الحديث. يشقلب كثيراً من
المعطيات كنا نسلّم بها. لكنها ليس واقعية على نسق بول غرينغراس: هزّ
الكاميرا
والحصول على ارتجاجات وتوتر عال، لا يهمانه. هذا المخرج الذي
يُعتبر آخر العنقود في
سلسلة السينمائيين الذين ولدوا بين صفحات "دفاتر السينما"، يهوى الروك،
وسينماه
مشبعة بها. هذه الروك تخاطب عنده غي دوبور وتستلهم من الباحث الفرنسي
نظريته عن
عالم الاستعراض. أساياس ينتشل كارلوس من الصحافة الصفراء التي رافقت مسيرته
الى
رحابة شاشة بالسينما سكوب. يسأل كيف يمكن اعادة الانسانية الى
ثائر تعاملت معه
الاعلام باعتباره ايقونة في عملية خطف رهائن الأوبيك في فيينا. في هذه
الزاوية
تحديداً ينبغي البحث عن الفيلم...
من دون أي لجوء الى الزيف (لا صورة منقحة، ولا
مؤثرات بصرية، ولا مبالغات في اخراج مشاهد الأكشن)، وعبر تعاطٍ
مع الشخصيات يقف
دائماً على حدود الكاريكاتور، تتعقب كاميرا المخرج من مدينة الى أخرى، في
شيء أشبه
بالزابينغ، لقطات تقتصد في الاستعراضية، حاصرةً الحدث في حده الادنى، شأنها
شأن
التمثيل الممحو خلف عفوية يصنعها الممثلون بأنفسهم، ملتقطة
اللحظة بين اختزالين
مونتاجيين بديعين. مقابل المشاهد المتوترة والحيوية، هناك لقطات طويلة غير
مقطعة
تمنح الزمن حقه في الإنوجاد. يعرف أساياس جيداً كيف يلعب لعبته بين مدّ
وجزر،
ويقدّم عملاً تأليفياً خالصاً. خلافاً لـ"ميرال" لجوليان
شنايبل، لدى أساياس قدرة
على الاقناع - على ما في مهمة الاقناع من صعوبة - حتى عندما يستخدم صوراً
ليس هو
صاحبها، أي صور الأرشيف. لكن هنا أيضاً يمنح تلك الصور حياة جديدة، وفرصة
أخرى لأن
تكون، داعماً بها الجزء المتخيل من روايته، بذكاء وحنكة
بالغين. ما يهمّ أساياس هو
الانتقال المباشر بين ما هو متناهٍ في الصغر وما هو متناهٍ في الكبر،
والعكس،
مستوحياً بنية فيلمه من تجربة كارلوس نفسه: مسبّع كارات لن يجد في ختام
جولته
الأممية سقفاً يؤويه!
يزداد الفيلم عذوبة كلما اقترب من نهايته. الألوان تنضج
وتصبح أكثر شهامة، والاضاءة التي اعتدناها متغيرة ومتجانسة طوال مدة الفيلم
وفق
روحية كل حقبة، تأخذ هنا شكلها النهائي، الأقرب الى ما نعرفه
ونلمسه في راهننا. في
غضون ذلك، يكون كارلوس قد تحول حطام سفينة. انحطاطه هو أيضاً انحطاط عصر
(وخيبة
مخرج كان مراهقاً في أيار 68) يسلّمه الى جنود الرأسمالية مقابل حفنة من
الدولارات.
تسليم وتسلّم، هذا هو منطق العصر الخائن
الذي عرف كيف يُخرج الثورة عن طورها.
هـ. ح.
"كلّ
يوم عيد" والنقد
تنطلق اليوم في الصالات المحلية
باكورة المخرجة اللبنانية ديما الحرّ: "كل يوم عيد". في تاريخ
20 أيلول الماضي نُشر
في هذه الصفحة مقال عن هذا العمل اعتبره قراء وأصدقاء ومهتمون
بالشأن السينمائي
متحاملاً او قاسياً، ازاء فيلم ـــ أنقل حرفياً ــ "لبناني" و"خطوة أولى في
الاخراج". نكتب هذه الكلمة ليس تصحيحاً لموقف تكوّن عندنا نتيجة ملاحظات
كانت واضحة
وضوحاً عالياً لحظة مشاهدتنا الفيلم، انما للدعوة الى التأكيد أن النقد،
مهما يكن
سلبياً، ليس هدفه القول للمشاهد المحتمل "لا تذهب للمشاهدة". بعضهم يفهم
النقد
السلبي على هذا النحو، خصوصاً اذا طال نتاجاً وطنياً. ثمة فرق بين "دليل
ميشلان"
للمطاعم والنقد السينمائي. النصيحة تحطم صدقية الكاتب. حتى اندره بازان لم
يكن
يعتبر نفسه معلماً تنويرياً يوزع النصائح للمشاهدين يميناً ويساراً. عدم
إمطار
القارئ بمفردات تنتمي الى منطقَي التشجيع أو الحدّ من شهيته،
أليس كفيلاً فسح
المجال امام الرأي والرأي المعاكس لخوض عملية تفكير جماعية؟ هذا يعني ان
على
المتلقي ألا يجيّر عينيه الى الناقد، وعلى الأخير أن يترك للمُشاهد هامش
الأمل
والغموض الذي يجعله راغباً ومتشوقاً ومتلهفاً للذهاب الى
الفيلم، مهما بلغ النقد
فيه عداء وتطرفاً وعنفاً. مهمة صعبة لكلا الطرفين، لكن غير مستحيلة في زمن
الأسود
والأبيض.
حوار
أوليڤييه أساياس لـ"النهار": لسنا أمام مسخ بل شخصية
اقترن اسم أساياس (1955) بمهرجان كانّ حيث عرض أفلامه؛ وبالممثلة
الصينية
ماغي تشونغ التي صارت زوجته؛ وبأندره تيشينيه الذي شاركه في كتابة
سيناريوات عدة.
تخرج من مدرسة "دفاتر السينما"، قبل ان
يذهب الى سينما يتعذر تصنيفها. حتى عندما
مرّ خلف الكاميرا ظلّ يكتب بكاميراه، ويتبنى الخيال العام
لإعادة انتاجه. متعدد
الوجه والاهتمام (فنّ تشكيلي، نقد، كتابة، موسيقى روك) وخبير في انغمار
برغمان
وشؤون السينما الآسيوية، التي كان من الأوائل في التعريف بها في اوروبا.
فيلمه رقم
13،
"كارلوس"،
في نسخته الطويله (331 دقيقة) عُرض في ختام "أيام بيروت السينمائية"،
ويجول حالياً في عدد كبير من المهرجانات في انحاء العالم. كان لـ"النهار"،
مساء
الأحد الماضي، اتصال هاتفي مع أساياس استغرق لنحو 45 دقيقة، تحدث خلالها،
وبشغف
لافت، عن عمل لا يعتبره "سياسياً" بقدر ما يعتبره "عن السياسة".
·
ما الآلية
التي اعتمدتها لعملية التوثيق وجمع المعلومات؟
-
ستيفن سميث المتخصص في الصحافة
الاستقصائية كان مطلعاً على ظروف توقيف كارلوس في السودان. فهو
جاء بالمعلومات من
مصادره الخاصة مستنداً الى عناصر مستقاة من سير ومراجع. قدّم اليَّ هذا كله
كمادة
أولية، مادة لا شكّ في صدقيتها، وانطلاقاً من هذا ألّفتُ السيناريو منتقياً
العناصر
التي كانت تهمّني. عندما تجمعت عندي فصول كنت اراها جديرة بأن
تُنقل الى الشاشة،
طلبتُ منه أن يعمّق البحث في اطار تلك الفصول. من جانبي، طالعتُ معظم ما
نُشر عن
كارلوس من سير، وهي ليست كثيرة على كل حال: هناك سيرة رديئة بالفرنسية،
وأخرى
لدافيد يالوب سيئة لأنها تتضمن معلومات تقريبية، وهناك سيرة
ثالثة لصحافي انكليزي،
وهي أفضل ما تمكنا من الحصول عليه، وأكثر تلك السير جدية. لكن حتى في هذه
الرواية،
هناك أشياء غير واضحة ومغالطات، لا سيما انه منذ تاريخ صدور تلك السيرة،
ثمة الكثير
من المعلومات الخفية وجدت طريقها الى العلن، عبر سير مقرّبين من كارلوس.
كنت أمضي
وقتي في المقارنة بين رواية وأخرى، ودائماً أجد اختلافات في ما
يتعلق بالتفاصيل
المسرودة. علماً ان هناك بديهيات كانت محلولة لأن قصاصات الصحف التي تعود
الى تلك
الفترة كانت تؤكد مدى صحتها. كلما كنت أواجه شيئاً يفوق قدرتي على الفهم،
كنت أعود
الى ستيفن وأطلب منه شرحاً اضافياً. بعض التفاصيل كانت تتطلب
منه شهراً أو اثنين من
البحث للتأكد من صحتها. على كل حال، أنا لست مؤرخاً ولا صحافياً...
·
كل ما كنت
تفعله اذاً، مقارنة المعلومات في ما بينها والتعامل معها كقاضي
تحقيق...
-
بالضبط. كان المبدأ أن نكون جديين الى أبعد حدّ ممكن.
·
هل التقيت مقرّبين من
كارلوس بهدف أخذ شهاداتهم، مثلاً؟
-
أولاً، لا يوجد مقرّبون كثر من كارلوس ممن
هم مستعدون لقول شهادتهم. استعنّا بالسيرة الذاتية لهانس - يواكيم كلاين،
وهو
اطلعنا كثيراً عن شخصية كارلوس في تلك الحقبة، كذلك أخبرنا عن
آلية تنظيم عملية
فيينا. هانس يعيش في باريس وكان مستشارنا في بعض المشاهد. أما شخص مثل
ليديا، صديقة
كارلوس حين كان يعيش في لندن، وهي كتبت نصوص ذكريات عن تلك المرحلة من
حياتها،
فرفضت أن تتكلم معنا. لم نذكرها في الفيلم لأسباب قانونية.
التقيت أيضاً أنيس نقاش،
لنحو ساعة من الزمن، في ظروف طريفة بعض الشيء، اذ لم يقل شيئاً كان يمكن
توظيفه في
الفيلم. طرحتُ عليه بضعة أسئلة، اذ كانت عندي نقاط تاريخية اريد توضيحها،
لكن
أجوبته كانت ملفلفة. كان لطيفاً لكنه لم يعطنا أي معلومات
مفيدة.
·
كارلوس ليس
شخصية هوليوودية في فيلمك. بمعنى ان لا مراهنة على سحره في
عملية الايقاع
بالمُشاهد. انه اسطورة تعرّيها شيئاً فشيئاً. على رغم ذلك، فشخصيته تمارس
اغراء على
المشاهد لا يمكن نكرانها. هل كانت لك نية في طرح تساؤلات جدية حول علاقة
المتلقي
بهذا النوع من الشخصيات التي كثيراً ما تُطرح بسطحية وعجلة؟
-
استندت الى
محورين: الاول يتمثل في واقع أن كارلوس كان (وربما لا يزال الى اليوم)
شخصية
كاريزماتية، وفق جميع الشهادات التي اطلعت عليها. هذا جزء من هويته
وتكوينه، وهو
كان يعرف كيف يوظفها. الثاني يتجسد في عمل الممثل ادغار
راميريز الذي سكن كارلوس
طوال عام، وكان لديه تالياً رغبة في جعله انسانياً، وهذا ابسط تقدير،
وأيضاً التحيز
لصالحه. لسنا أمام مسخ بل شخصية نريد ان نحكي مصيرها. ولم يكن هذا هدف
راميريز فقط
بل هدفي أنا أيضاً. كان ولا يزال يبدو لي أن الدقة في متابعة
نشاط كارلوس طوال
عقدين، تتيح للمشاهد ان يكوّن فكرته الخاصة عن كارلوس، وصولاً الى أن يؤسس
علاقته
الخاصة به. اما أنا فقد بقيت على مسافة من هذا كله.
·
في زمن يشهد تصعيداً غير
مسبوق للارهاب، كيف جُبه قرار أن تمنح إرهابياً، نافذة على الكلام، خصوصاً
ان
الحوادث برمتها من وجهة نظره، وليست من وجهة نظر شرطي أو
صحافي؟
-
هذا ما فرضته
على المنتجين الذين كانوا يبدون حذرين في البداية. كانوا يخافون التورط في
فيلم عن
الارهاب من وجهة نظر ارهابي! هناك قرار اليوم يتمثل في اعتبار الارهاب
نوعاً من
شيطنة تعزل فاعله عن الانسانية. ما كان يهمني هو شخصية كارلوس،
الذي لا يقتصر دوره
على الارهاب فقط، بل يندرج نشاطه في اطار النضال السياسي. تورّط كارلوس في
التفاصيل
التاريخية لحقبته، حدّ انه خير من جسّد تلك الحقبة. معه، كان عندي شعور
بأنني أعيد
عبور حقبة كاملة، وأدركت ان قدره هو قدر جيل برمته. لذا، كنت
منتبهاً الى ان نظرته
على الحوادث أهم من نظرة غيره عليها. لم أكن أريد مقاربة كلاسيكية على نسق
"شرطي
يطارد كارلوس" لعدم الرغبة في تقديم خطاب اضافي عن الصراع الأزلي بين الخير
والشر.
ما كان يهمني هو النظر في قضية بات عمرها
اليوم 25 أو 30 سنة، وهذا ما يتيح لنا
قراءة متحررة من الكليشيهات وطرح الأسئلة الهادئة حول ماهية
القضية وكيف يمكن أن
تلازم هذه القضية جيلاً كاملاً هو جيلنا.
·
سمعت أيضاً أنك اكتشفت مسار
كارلوس
وأنت تحضر الفيلم. هذا يذكّرني بتقنية بعض مخرجي الأفلام الوثائقية.
-
لم أقارب
الفيلم يوماً مع فكرة دقيقة عما سيكونه. تركته ينمو وحده، لذا أخذ هذا
الشكل غير
المألوف. عندما بدأت العمل، لم أكن أكثر من مجرد شخص يقرأ الصحف في الحقبة
التي كان
فيها كارولس ناشطاً. كانت معلوماتي تقريبية. ما كنت اسعى اليه في الفيلم هو
معرفة
الى اي مدى تستطيع حقبة كاملة أن تجد تجسيداً لها في عيني رجل،
وهي حقبتي أنا. اذاً
يمكن القول إنني جزء من هذه الحكاية، لكني تعاملت معها بقدر من الحميمية لم
أكن
أتوقع أنني قادر عليها في البداية.
·
في نهاية الأمر، هذا بورتريه
لعقدين من
الزمن...
-
انه بالأحرى بورتريه لليسار الغربي، بمعنى انه في مرحلة من
المراحل
كان دارجاً القول ان لا بديل من النشاط الارهابي، لا سيما في ثلاثة بلدان
هي فرنسا
وألمانيا وايطاليا. ولكن سرعان ما تم الإدراك ان هذا كله يأخذنا الى مجهول،
وجرى
الانتباه أن العالم يتغير وأن الكتلة السوفياتية تنهار، شأنها
شأن جدار برلين. مع
بداية تحول التاريخ، بدأ هامش كارلوس يزداد ضيقاً، الى أن صار "لا شيء"،
مرمياً في
مجاهل افريقيا ومعزولاً عن سياسات زمنه.
·
مشهد العري القصير هو الفرق
الأساسي
بين فيلمك وما كان يُمكن أن يُنجز عن كارلوس في هوليوود...
- (ضحك). لا أعتقد أن
هوليوود في امكانها أن تنجز فيلماً مماثلاً عن هذه الحقبة وعن
قضية الارهاب مع هذه
الحرية. لا أستطيع تصور ذلك.
·
في النهاية، أسأل نفسي ما اذا
كانت قصة كارلوس
تراجيديا اغريقية...
-
بالنسبة اليَّ، هناك في تجربته شيء مثير للشفقة. خصوصاً
عندما نرى كيف يبتلع التاريخ "أبطاله". كارلوس وجد نفسه في عمر مبكر في
براثن
التاريخ والخطاب السياسي المرتبط بتلك المرحلة. في النهاية ينقضّ عليه هذا
التاريخ
نهشاً وسخرية. في هذه النقطة تحديداً، أرى ما يتجاوز كارلوس
وشخصه. ارى أن جيل
اليسار في السبعينات التزم قيم المثالية قبل أن تتخذ هذه المثالية منطقاً
جديداً هو
البراغماتية، سواء في ارساء أسس المعركة أو التفكير في الاستراتيجيا. ثم،
مع تبدل
الأحوال، صار لدينا الشكل النهائي للبراغماتية، قبل أن تصبح
البراغماتية نفسها ضحية
القسوة التي استعان بها العالم للتحول. اليوم، باتت الاقتناعات السياسية
تبدو بائسة
وغير مجدية لأننا نعيش في مجتمع مكلوم يتأكله العنف. كارلوس ليس في آخر
الفيلم الا
خاسراً جراء تحول اهتمام العالم من مكان الى آخر.
·
هل ينبع تشابك اللغات
والأمكنة من رغبتك في احترام خصوصية الآخر وصورته أم هو من مستلزمات
الصدقية؟
-
كان يهمني الآخر بالطبع. عندما نتعامل مع الشرق الاوسط، فإن
الفخّ يكمن في أن
تتداخل الأشياء بطريقة عشوائية كما الحال في بعض الأفلام الأميركية الرديئة
وغير
الرديئة أيضاً.
·
ادارة مهرجان كانّ امتنعت عن
ادراج الفيلم في المسابقة
الرسمية واكتفت بعرضه خارجها. ماذا حصل؟
-
المدير الفني للمهرجان تييري فريمو
اختاره للمسابقة. لكن مجلس ادارة المهرجان لم يصوّت لصالح هذا
القرار. مجلس الادارة
هذا مكوّن من مندوبي التنظيمات النقابية التابعة للسينما الفرنسية. اعتبر
هؤلاء ان
مساهمة محطة تلفزيونية بالنسبة الكبرى من انتاج هذا الفيلم، لا تخوله أخذ
مكان فيلم
آخر في المسابقة، انتج بظروف تقليدية. ترتيبات نقابية
وبيروقراطية جعلت فريمو يجد
للفيلم مكاناً آخر للعرض. لا اخفي عليك أنني حزنت، لأنني أعتقد انه كان في
امكاننا
نيل جائزة ما، لا سيما لأدغار راميريز. لكن لا همّ، هذ كله لم يعد مهماً.
·
ما
رأيك في الذين اعترضوا على رؤيتك لكارلوس من دون أن يشاهدوا
الفيلم؟ علماً ان هؤلاء
قلة قليلة... [توضيح من المحرر: كانوا ثلاثة أمام صالة "صوفيل" ليل السبت
الماضي،
ولدى عرضه لم يشاهدوا من الفيلم الاّ جزءاً بسيطاً].
-
وصلتني اصداء، نُقلت
اليَّ من هذا وذاك، لذا لا أستطيع أن اتخذ موقفاً فعلياً.
اتمنى الاّ أُزجّ في نقاش
سياسي خارج عما يقوله الفيلم، لسبب بسيط أن هذا النقاش ليس نقاشي ولا نقاش
الفيلم.
نقلنا بدقة قصة كارلوس من وجهة نظر روائية.
سمحنا لأنفسنا بالتصرف بمادة توثيقية
بهدف التحليق فيها الى شيء أكثر عالمية. لم اطمح يوماً الى
انجاز فيلم وثائقي عن
كارلوس: هناك ممثلون وديكورات وحوارات متخيلة. وسأكون أول المصفقين حين ارى
ان
أحدهم صنع فيلماً تفوّق فيه على فيلمنا من حيث التزام الدقة. لا نملك، بعد،
كل
المعطيات لإنجاز شيء أكثر دقة، في انتظار أن تخرج الى العلن
معطيات جديدة تتيح ذلك.
كلما أخذنا الفيلم الى حقل ألغام سياسي، ضيّقنا من آفاقه. لست مؤرخاً ولا
صحافياً
ولا سياسياً، لذا لا اعتبر ان لي مكاناً وسط هذا السجال.
·
هناك تهمة جاهزة
اعتدنا عليها في لبنان. فما إن يخطر على بال احدهم ان رؤية الآخر للشيء لا
تتماشى
مع رؤيته هو عنه، حتى يقول ان ثمة أيادي صهيونية خلف المشروع،
ما رأيك؟
- (ضحك).
لا أعرف من هم الصهاينة في هذه الحكاية! لست أنا على كل حال.موقفي واضح لا
لبس فيه،
لكني أؤكده على سبيل التوضيح: اتمنى ألاّ أكون أدرجت في الفيلم ما يجعل
الناس
يعتقدون انني مناهض للعرب أو ما شابه ذلك. أي سوء نية من جانب
بعضهم، يجب أن يتبدد
بعد هذه المقابلة. لا أعرف حتى كيف أردّ على تهمة مماثلة
(...).
سمعت ان هناك
اعتراضاً على صورة عاصم الجندي. أولاً الشخصية مجسدة على نحو ايجابي جداً
بممثل
أحبه كثيراً هو كارلوس شاهين. أجده رائعاً وانسانياً. في ما يتعلق بسلوك
ابنته،
أصبت بصدمة: ألّفتُ نصاً انطلاقاً من مقالات الصحافة، واعتقد،
على حدّ علمي، أن أي
قضية لم تُرفَع بتهمة التشهير أو تشويه السمعة، ضدّ الذين نشروا هذه
المقالات. بيد
أن المنتج تلقّى في احدى مراحل التصوير، اتصالاً من محامي ابنة الجندي بحجة
اننا
نسيء الى ذكرى والدها، فجرى اتفاق، على رغم رفضي لذلك الاتفاق،
يقضي بتخفيف حدة
الأسباب المتسلسلة التي أدت الى محاولة اغتيال الجندي، وهذا كله بهدف إسعاد
السيدة
الجندي. غيّرنا بحسب التعهد المبرم بيننا، ولم يأتنا أي اعتراض خلال عرض
الفيلم في
كانّ، اذ لم يكن هناك ما يسمح بالاعتراض.
كل ما صوّرناه في الفيلم في شأن
الجندي مكتوب أسود على أبيض، كما ترويه ماغدالينا كوب، وهي
شاهدة من الدرجة الأولى.
أما محاولة الاغتيال فحرصنا على الا تبين انها جاءت على يد أتباع كارلوس.
لا اعرف
ما هو الشيء غير الدقيق في الفيلم. فالمحاولة حصلت وكارلوس أقرّ بها. هذا
نقاش
هستيري مرتبط بشخصية دارينا الجندي. وهذه قضية لا شأن لي فيها.
أنا لا مع ولا ضد،
ولا اعرف لماذا اتعمد الاساءة الى رجل احترمه على كل حال. كان ليسعدني جداً
أن أحضر
الى بيروت للاحتفاء بإطلاق هذا الفيلم الذي انجزته مع لبنانيين، بعضهم
باتوا اصدقاء
لي، لكن جدالاً احمق حال دون ذلك.
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
النهار الللبنانية في
30/09/2010 |