انتظرناه في «مهرجان البندقيّة» الذي انتهى أول أمس، كما فعلنا في «كان»
الربيع الماضي، لكنّ صاحب «أيّام الجنّة» تخلّف هذه المرّة أيضاً عن
الموعد... في عمله الجديد، يحكي المخرج الأميركي الغامض، الآشوري الأصل،
بأسلوبه التأملي المعهود، رحلة بحث عن الجذور، قد لا تكون غريبة عن سيرته
الذاتيّة...
لا يزال السينمائي الأميركي الأكثر عزلةً تيرينس ماليك (1943) يتلاعب
بأعصاب معجبيه منذ أربع سنوات، حين أعلن بدء مشروعه الجديد «شجرة الحياة».
كان يُفترض عرض
The Tree of Life في «مهرجان كان» الأخير، و«البندقية» و«تورنتو» و«نيويورك» هذا
العام، لكنّ الآمال خابت كلّها، إذ إنّ ماليك غير جاهز لعرض فيلمه كما نقل
عنه. لكن الجديد هذه المرة جاء في إعلان شركة «فوكس سيرتشلايت» أنّها
ستوزّع الفيلم في بداية عام 2011، وفي تاريخ تعلنه لاحقاً...
ليس الانتظار إذاً بجديد مع تيرينس ماليك، الذي أخرج أربعة أفلام روائية
طويلة فقط خلال مسيرة عمرها 37 عاماً. أي إنّه تفوّق على ستانلي كيوبريك في
التمهّل والبطء في إنجاز مشاريعه! بعد
Badlands (أراض جرداء) سنة 1973، و«أيام الجنة» (1978)، سافر ماليك، ابن
المهاجر الآشوري والأم الأميركيّة، إلى فرنسا واختفى عن الساحة السينمائية
20 عاماً، عاد بعدها بفيلم «الخط الأحمر الرفيع» (1998). وبعد سبع سنوات،
قدّم «العالم الجديد». وفيلمه الجديد المرتقب سيكون حدثاً عالمياً نظراً
إلى صورته التأملية العميقة.
بدأ ماليك بلفت الأنظار بعد عرض أول أعماله الطويلة «بادلاندز». في ذلك
الفيلم، تتبّع قصة شريكين (مارتن شين وسيسي سبايسك) وجرائمهما في الغرب
الأميركي في الخمسينيات من القرن المنصرم. وبيّن الشريط اهتمامه بالبعد
الجمالي للصورة واستخدامه أسلوب السرد من خلال صوت خارجي لازمه في أفلامه
اللاحقة.
صور سحرية وأسئلة عن العالم ومعنى الوجود
في «أيام الجنة» (1978)، نرى قصة حب تراجيدية تدور أحداثها في تكساس بين
حقول القمح في العقد الأول من القرن العشرين. أما «الخيط الأحمر الرفيع»
(1998) المبني على رواية الأميركي جيمس جونز، فسرد فيه قصة وهمية على خلفية
«معركة غوادالكانال» خلال الحرب العالمية الثانية، وتناول الحرب ودمار
الإنسان بمعناهما الوجودي والفلسفي. ترشّح الشريط لسبع جوائز أوسكار، لكنّه
لم ينل أي واحدة، بل اكتسح فيلم ستيفن سبيلبيرغ الأقل جودة «إنقاذ الجندي
رايان» سيرك الأوسكار، منتزعاً خمس جوائز. لكنّ شريط ماليك فاز بجائزة
«الدب الذهبي» في «مهرجان برلين» عام 1999، ووصفه مارتن سكورسيزي بأنّه
«فيلمه الثاني المفضّل لحقبة التسعينيات»، وصُنّف الشريط بأنّه أفضل فيلم
حربي معاصر. ثم قدّم ماليك «العالم الجديد» (2005) بأسلوبه الشعري التأملي
المعتاد، وبتصوير سينمائي ساحر، عن قصة المستكشف الإنكليزي جون سميث
وبوكاهونتاس في القرن السابع عشر قبل استعمار أميركا الشمالية.
وإذا كانت الصورة التأملية تطبع أسلوب ماليك السينمائي، فربّما كان الأمر
على صلة بتكوين هذا الفنّان الذي أحبّ الفلسفة منذ الصغر... ثم درس الفلسفة
في جامعة «هارفرد» ودرّسها ونشر ترجمته لمقالة لمارتن هايديغر «جوهر
المنطق».
ما يجمع بين أعماله هو الصورة السحرية، وتلك الأسئلة الوجودية التي يطرحها
عن العالم والمعنى. في تعليقه على
Badlands، قال ماليك إنه حاول إظهار فترة الخمسينيات في حدّها الأدنى...
«فالنوستالجيا شعور قوي، تستطيع إغراق أي شيء. أردت أن يخرج الفيلم كقصة
سحرية خارج الزمن، كجزيرة الكنز. أردت أن يخفّف هذا من حدة العنف مع إبقاء
جودته الحلمية.» هذا التعليق يظهر واضحاً في «الخط الأحمر الرفيع»، إذ لم
يكترث لإظهار العنف بطريقة مباشرة مبالغ فيها، بل ذهب عميقاً لدراسة الحالة
الإنسانية من خلال الصراع عموماً، وخراب الإنسان وخراب العالم على يد
الإنسان، وسط الطبيعة الجميلة المعبّرة عن كل الأسئلة الوجودية الدفينة.
في عمله المرتقب «شجرة الحياة»، تبدو المحاولة السردية السينمائية طموحة
للغاية. فحسب المعلومات المتوافرة، فإنّ الفيلم يحكي قصّة عائلة قد تكون
مستمدة من طفولة ماليك نفسه، تنتقل بين أجيال وفترات زمنية مختلفة... بحثاً
عن الأصول. ذلك السؤال ربّما كان يسكن السينمائي المنحدر من عائلة جذورها
ضاربة عميقاً في تاريخ الشرق القديم. فأبوه آشوري مهاجر من إيران إلى
الولايات المتحدة حيث تزوّج من أمّه الأميركيّة.
ووفق ما جاء في بيان «فوكس سيرتشلايت»، الفيلم دراما عائلية في الخمسينيات،
تحكي رحلة الابن الأكبر جاك (شون بين)، من براءة الطفولة إلى سنوات الرشد.
وفي خضم محاولته لترميم علاقته المعقدة مع أبيه (براد بيت)، يجد نفسه
ضائعاً في عالم حديث باحثاً عن أجوبة لمعنى الحياة، ومتسائلاً عن الإيمان.
يتنقل الفيلم بين أزمنة عدة، منذ بداية الخلق، ويحتوي حتى على ديناصورات.
من خلال ذلك التجوال في الزمان، يتناول المخرج مفاهيم فلسفية عن نشأة
الحياة، من خلال التجربة الإنسانية في الحب والموت والخسارة والمعنى. ويجري
الحديث عن شريط وثائقي مرافق للفيلم، عن تشكّل الكرة الأرضية ونشوء
الإنسان.
«شجرة الحياة» مشروع ضخم بالتأكيد، بدءاً ببطلَي الفيلم براد بيت وشون بين.
التصوير السينمائي بقيادة المكسيكي الشهير إيمانويل لوبيزكي الذي عمل مع
ماليك أيضاً في «العالم الجديد»، ويشرف على المؤثرات الخاصة دوغلاس ترامبل
أحد المساهمين الرئيسيين في اختراع تقنية الـIMAX، وكان قد عمل مع كيوبريك في تحفته «أوديسا الفضاء». حتى الموسيقى
ألّفها الفرنسي الشهير اليكساندر ديبلا. أسماء مهمّة كهذه تثير لعاب عشّاق
ماليك الذين يأملون ألّا يكون انتظارهم طويلاً.
الأخبار اللبنانية في
13/09/2010
أفلام المقاومة «على جدار» الفصل العنصري
رام الله ــ يوسف الشايب
يجوب «أفاتار» بزرقته الشهيرة شمالاً وجنوباً في «مخيم عايدة للاجئين
الفلسطينيين»، قرب بيت لحم، وبالتحديد على جدار الفصل العنصري الذي تحوّل
إلى شاشة عرض كبيرة. عرض فيلم جايمس كاميرون الشهير جاء ضمن مهرجان السينما
الخارجية «أفلام ع الجدار» في موسمه الخامس. الحضور الفلسطيني اقتصر على
أعمال أنتجت في السنوات الماضية، فيما طغت على البرنامج أفلام عربية
وأجنبية ذات مضامين سياسية تتقاطع مع المأساة الفلسطينية، وسياسات الاحتلال
العنصري وجرائمه. إضافةً إلى «عمر المختار» للراحل مصطفى العقاد (1981)،
و«مملكة السماء» لريدلي سكوت (٢٠٠٥)، تخلّل المهرجان عرض لأعمال فلسطينية
قديمة منها ما يعود إلى ثمانينيات القرن وتسعينياته. ومن بين الأفلام
الفلسطينية، عُرض «من يوم ما رحت» لمحمد بكري (2006) الذي يصفه بكري بأنّه
«يحكي عن كل الذي عانيته أنا منذ انطلاق الانتفاضة الثانية حتى يومنا هذا».
مهرجان غير نخبوي يضع الثقافة في مواجهة الاحتلال
عن تظاهرة «أفلام ع الجدار»، قال بكري: «المقاومة الحقيقية هي التي تعكس
إنسانيتنا، وترفض الاختباء خلف عباءة الضعف. من الصعب الخروج في فلسطين
بسينما تبتعد عن رود الفعل، وخصوصاً أنّ كل حياتنا باتت «رد فعل»، وهذا ما
تعبر عنه هذه التظاهرة». ومن بين الأفلام الفلسطينية عُرض «حيفا» لرشيد
مشهراوي، و«القدس في يوم آخر» و«الجنة الآن» لهاني أبو أسعد، و«يد إلهية»
لإيليا سليمان، و«ملح هذا البحر» لآن ماري جاسر.
عبد الفتاح أبو سرور، المدير العام لـ«مركز الرواد الثقافي» الجهة المنظمة
للتظاهرة، قال: «المهرجان بدأ في عام 2005، أي منذ بداية إنشاء الجدار في
محيط مخيّم عايدة قرب بيت لحم. وكانت الفكرة أنّ هذا الجدار القبيح غير
قانوني، وسيبقى قبيحاً وغير قانوني. ولإبراز قبحه، كان لا بد من جمالية ما
وجدناها في السينما. نحن نرى أن الصورة السينمائية فعل موقت، ونأمل أن يكون
الجدار بشاعة موقتة. نحن نقاوم الجدار البشع بجماليات سينمائية».
وأضاف أنّ المهرجان بدأ في عام 2005 بتقديم أفلام صامتة، ثم اعتمد في كل
عام على ثيمة معينة. «في 2008، ركزنا على السينما الفلسطينية، كأفلام آن
ماري جاسر، ومحمد بكري، وأحمد حبش... وعام 2009 الذي شهد احتفالية القدس
عاصمة الثقافة العربية، تمحورت الأفلام حول القدس وقضيتها، فيما ركزنا هذا
العام على السينما العالمية عبر أفلام تتحدث عن المقاومة والتحرر».
من ميزات المهرجان أنّه ليس نخبوياً. جمهور العروض تنوّع بين أطفال وشباب
وكبار، فلسطينيين وأجانب. بل إن بعض الأسر داخل المخيم كانت تتابع العروض
من شرفات منازلها، وخصوصاً أنّ لا دار سينما في بيت لحم.... فإذا بالجدار
الإسمنتي البشع يتحوّل إلى شاشة عرض عملاقة تفضح جرائم الاحتلال وعنصريته.
الأخبار اللبنانية في
13/09/2010
فادي قبطي: هذه هي «إسرائيل»!
تجربة سينمائيّة مستقلّة في فلسطين ٤٨
عكا ــ رشا حلوة
إنّها قصّة «سماء» التي أرادت أن تصبح راقصة. فيلم رابع للسينمائي الشاب،
يتناول حالة الحصار الثقافي التي يعيشها المبدعون وشعبهم تحت الاحتلال
أنهى السينمائي الفلسطيني الشاب فادي قبطي أخيراً شريطه الجديد «سماء» (24
دقيقة). ابن مدينة الناصرة ينجز هنا عملاً روائياً قصيراً مبنياً على نحو
جزئي على قصة حقيقية. «سماء» هو العمل الرابع والأطول في رصيد قبطي بعد
«هند» (2004)، و«اغتراب» (2007) ، و«الحديقة» (2008). وستبدأ عروضه
التجارية مطلع تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، وسيجول المدن الفلسطينية
المختلفة، انطلاقاً من حيفا، إلى الناصرة، فعكّا، والقدس، ورام الله وبيت
لحم.
سماء، فتاة فلسطينية في العشرين، تنتمي إلى «الأقلية الفلسطينية» في
الأراضي المحتلة عام 1948. وُلدت سماء في قرية جليلية، ومنذ صغرها خصصت
حياتها اليومية والمدرسية للرقص. وبعد إنهاء المرحلة الثانوية، قرّرت دراسة
الرقص أكاديمياً واحترافه مهنةً. إلا أنها اكتشفت لدى بدئها دراستها
الجامعية، واقع العدائية الثقافية والفنّية في المؤسسات الأكاديمية
الإسرائيلية تجاه العرب. واقع أدَّى إلى عزوفها عن دراسة الرقص. معظم
الممثلين في العمل من غير المحترفين، يؤدون هنا شخصياتهم الحقيقية، في حوار
شبه مرتجل. الفيلم من بطولة سماء واكيم، ورابعة مرقس روبي، وسليم واكيم،
ونرمين خوري، ومجدلة خوري. وقد تولّى التصوير رياض شماس (حيفا) فيما وضع
الموسيقى إبراهيم زهر (الناصرة).
تمويل ذاتي، وممثلون هواة في أدوارهم الحقيقية
«العمل مبني جزئياً على قصة حقيقية مليئة بالتخبط بين الرغبة في تعلم الرقص
واحترافه، وبين تجربة الرفض للهوية الثقافية للفلسطيني في الداخل، من
الأكاديميات الإسرائيلية»، يخبرنا فادي قبطي. «هذا الرفض موجود في كثير من
المجالات الأكاديمية، لكنّه يبرز في المجالات الإبداعية ويؤدي بطالب العلم
إلى مفترق طرق: إما التغرّب عن ثقافته أو العزوف عن الاحتراف».
اختار المخرج حيفا لتكون المدينة الحاضنة لمعظم مواقع التصوير المركزية في
الفيلم. تتنقل العدسة بين مواقع المدينة المختلفة، مسلّطة الضوء على
أحيائها الفلسطينية: وادي النسناس ووادي الصليب. يبرز الشريط حيّ وادي
الصليب المهجّر، مشيراً إلى الفقدان الذي ألمّ، ولا يزال، بالمجتمع
الفلسطيني في الداخل، وخصوصاً لدى جيل الشباب الذي يعيش حالات من التخبط في
المجالات الحياتية المختلفة، في ظلّ صعوبة تحقيق ذاته بسبب الظروف
السياسية، والاجتماعية، والفنية، والاقتصادية القاسية. عوامل تجتمع كلّها
في قصة سماء الإنسانة والراقصة في الشريط.
أنتجت الفيلم على نحو مستقل، وبتمويل ذاتي، مجموعة من الشباب الفلسطيني،
إضافةً إلى المخرج. «عملت على أنواع عدة من الأفلام، وبعد الإفادة من تجارب
السينما العالمية، وصلت إلى نتيجة مفادها أنّ الإنتاج جزء لا يتجزأ من
عمليّة الإخراج»، يقول قبطي. «هناك فرق شاسع بين تعاطي الممثلين مع طاقم
تصوير يتكون من ثلاثة أو أربعة أشخاص، وتعاطيهم مع طاقم من ثلاثين شخصاً...
كذلك، فإنّ هناك فرقاً كبيراً بين إبداع الطاقم في الفيلم المستقل، وإبداعه
في شريط تتحكم بمجرياته جهات التمويل. لهذا، رسا خيارنا على التمويل
المستقل لإنجاز هذا العمل، نظراً إلى نوعيته ومضمونه والجماليات المتّبعة
فيه».
ويختم قبطي: «الصعوبة الأساسية التي يعانيها المخرج الفلسطيني في الداخل هي
غياب صناعة سينمائية مستدامة قادرة على مخاطبة الجمهور المحلي. صناعة
السينما تحتاج إلى كثير من الحرفيات الفنية، وتطويرها يحتاج إلى تراكمات في
التجربة. لذلك، هنالك حاجة إلى ساحة عمل تتيح لمختلف المهنيين تطوير
مهاراتهم، وتتيح للسينمائيين التواصل مع الجمهور الذي تتحدّث عنه أفلامهم».
الأخبار اللبنانية في
13/09/2010
كلود شابرول: وداعاً الأيام الجميلة
يزن الأشقر
بعد وفاة إيريك رومير مطلع هذا العام، ها هو كلود شابرول (1930) يغادرنا
أمس عن ثمانين عاماً، تاركاً وراءه إرثاً حافلاً بالإنجازات السينمائية.
شابرول أحد رواد الموجة الجديدة في فرنسا، قبل أن يستقلّ بأسلوبه ويذهب إلى
سينماه الخاصة... ويحقق أفلاماً تجاريّة.
تميّز بكثرة إنتاجه، ترك وراءه أكثر من سبعين فيلماً، تميّزت بنقدها اللاذع
لحياة البورجوازية الفرنسية. ولد المخرج الراحل في باريس، نشأ في قرية
ساردان في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية. ولعه بالفن السابع دفعه إلى
تأسيس نادٍ للسينما في حظيرة. هناك، كان يعرض أفلاماً يختارها مع أحد
أصدقائه. وكما هي الحال مع معظم أفراد عائلته، توجه شابرول إلى باريس
لدراسة الصيدلة. لكنّ لقاءه بجان لوك غودار، وإيريك رومير، وفرنسوا تروفو،
وجاك ريفيت، على صفحات مجلة «دفاتر السينما» الفرنسية، غيّر حياته. المجلّة
الملهمة التي كانت أهم صوت سينمائي في فرنسا ما بعد الحرب، والمنجم الأول
لما عرف لاحقاً بسينما المؤلف.
وتماماً كزملائه، انتقل شابرول من النقد إلى الإخراج. في عام 1958، أنجز
باكورته الروائية «سيرج الجميل» تلاه «أولاد العمّ» (1959) الذي نال عنه
«الدب الذهبي» في برلين. وامتد إنتاجه في ما يعرف بمرحلته التجريبية الأولى
إلى عام 1963، إلى حين انتقاله إلى ما يعرف بمرحلته الذهبية التي برز فيها
تأثره الواضح بهيتشكوك، وبفريتز لانغ. هذا التأثّر منح تقنياته السينمائية
أبعاداً أخرى، من خلال اهتمامه بسيكولوجيا القتل أو بتقنيات السرد وعلاقتها
المتشابكة بالصورة. وآخر أفلامه هو
Bellamy مع جيرار دوبراديو الذي حققه عام 2009.
إنتاجه الخصب أبعده قليلاً عن دائرة زملائه من أمثال غودار وتروفو، وجرّ
عليه وابلاً من الانتقادات في مرحلة لاحقة من حياته المهنية. بعدما فشلت
أفلامه الأولى في تحقيق أرباح مادية، اتجه إلى إخراج أفلام ذات طابع تجاري
جلبت له عداوة النقاد. لكنّ الجودة بقيت تطبع الأسلوب الشابرولي، وتمثّل
إحدى علاماته الفارقة، وإن فقدت سينماه بعض بريقها في الثمانينيات
والتسعينيات.
برحيل شابرول، لم يبقَ من رواد الموجة الجديدة إلا غودار وريفيت. الراحل
الذي قال: «جلبت الفيلم إلى العالم كالزهرة»، يرحل عن هذا العالم مخلِّفاً
وراءه إرثاً كبيراً وتاريخاً سينمائياً مليئاً بالجدل.
يزن...
الأخبار اللبنانية في
13/09/2010
رحيل كلود شابرول... المخرج - المؤلف
الأكثر شعبية وتنوعاً
كتب ابراهيم العريس
ليس ما يفاجئ اكثر من موت انسان، وإن كان الموت متوقعاً بل حتمياً.
وليس ثمة ما
هو أكثر اثارة للحزن من موت مبدع وإن كنا نقول دائماً إن المبدعين لا
يموتون لأن
أعمالهم حاضرة الى الأبد في حياة الناس. من هنا حق لفرنسا خصوصاً، ولعالم
السينما
في شكل عام، أن يحزنا مرات خلال الشهور القليلة الفائتة، فليس
عادياً أن تفقد
السينما الفرنسية ثلاثة من مخرجيها الكبار، بينهم اثنان خلال شهر واحد
تقريباً. كما
انه لم يكن متوقعاً أن تفقد «الموجة الجديدة» في حقبة واحدة اثنين من كبار
مؤسسيها: قبل فترة خسرت هذه الموجة اريك رومر واليوم تفقد كلود شابرول،
وبينهما فقدت الآن
كورنو الذي لم يكن من مؤسسي «الموجة الجديدة» لكنه كان مخرجاً تميّز في
السينما
البوليسية، مثل شابرول.
كلود شابرول الراحل اول من امس من سادة السينما الفرنسية الكبار وإن
لم تكن
أفلامه دائماً «موجة جديدة». هو الذي بدأ مثل رفيقيه فرانسوا تروفو وجان -
لوك
غودار، ناقداً في مجلة «كاييه دو سينما» محاوراً المؤسس اندريه بازان، وكان
سباقاً
في اكتشاف السينما الأميركية ومعلميها الكبار، لا سيما ألفريد
هتشكوك وهوارد هاوكس.
وإذا كان الكتاب الحواري الذي وضعه تروفو عن هتشكوك قد اشتهر واعتبر الأهم
في فهم
السينما الهتشكوكية ، فإن شابرول كان سبّاقاً في وضع كتاب حواري مع سيد
سينما
التشويق الهوليوودي بالاشتراك مع إريك رومر سابقه الى العالم
الآخر.
بيد أن شهرة شابرول ليست هنا، بل في كونه انتقل الى الإخراج باكراً
نهاية
خمسينات القرن العشرين ليحقق أفلاماً متتالية قد يصعب اليوم ربطها حقاً
بالموجة
الجديدة، حيث في مقابل سينما تروفو ورومر وغودار المجددة في اللغة
السينمائية كما
في الموضوعات، آثر شابرول ان يطوّر فقط سينما شعبية ذكية تستقي
أساليبها من معلمي
التشويق الأميركيين كما من بعض سينما جان رينوار، وتبدو في مواضيعها كأنها
تنهل
حيناً من صفحات الحوادث في الجرائد والمجلات وحيناً آخر من الأدب، وإن كان
يصرّ
دائماً على خوض سينما المؤلف ككاتب للسيناريو وكمنتج.
وبالنسبة الى هذا البعد الأخير، قد يكون مفيداً أن نذكر أن شابرول لم
يصعب عليه
أبداً تمويل أفلامه، في مرحلة أولى مستنداً الى ثروة عائلته الغنية وبعد
ذلك لأن
أفلامه بتشويقها وبشعبية مواضيعها وحضور الممثلين النجوم او ممثلين صاروا
بين يديه
نجوماً (منهم زوجته الفنانة الكبيرة ستيفا أودران ثم إيزابيل
هوبير التي أمن لها
فيلم مبكر من اخراجه اول جائزة كبيرة حظيت بها أفضل ممثلة عن «فيوليت
نوزيار» من
إخراجه في «كان» 1978)، حظيت بنجاحات جماهيرية كبيرة كان من شأن أي مخرج
مؤلف كبير
آخر أن يغبطه عليها.
وفي المقابل لا بأس من الإشارة الى ان شابرول وبسبب شعبية سينماه
ربما، لم ينل
من التكريم المهرجاني ما ناله رفاقه مثل الراحل تروفو أو غودار. لكن هذا لن
يمنع
أفلاماً له مثل «سيرج الجميل» و «أولاد العم» و «فيوليت نوزيار» وليدي
تشاترلي» و
«الخادمتان»
و «بقفل مزدوج» وغيرها من ان تدخل تاريخ السينما العالمية والفرنسية من
باب عريض، كما ان خصوصيته في سينما المؤلف وكثافة ثقافته الفنية لن تمنعا
الجمهور
العريض من أن يحب مشاهدة أفلامه الأكثر شعبية، تلك التي أراد فيها أن يحاكي
أفلام
جيمس بوند، من حول شخصية سماها ماري شانتال، أو من حول جاسوس
مبتكر سماه «النمر».
أما عشاق سينما الأدب فسيذكرون له دائماً تجرّؤه على غوستاف فلوبير في
«مدام
بوفاري».
في اختصار كان شابرول الأكثر تنوعاً في تعاطيه مع السينما وحبه إياها،
وهو لهذا
جدير بالمزيد من الحديث عنه بالتأكيد، هو الذي كان يحب الثرثرة ويفتخر بأنه
جعل
منها فناً جميلاً.
الحياة اللندنية في
13/09/2010 |