الحوار المنشور معه
مؤخّراً في مجلة سينمائية فرنسية، مثيرٌ للسخرية. أقوال عدّة أطلقها في
الآونة
الأخيرة، تعكس سذاجة (تعليقاته على أفلام العنف الجديدة ألغت عنها إبداعها
السينمائي، لحساب أفلامه القديمة والجديدة معاً). لكن مهلاً:
هل يستدعي مخرج وممثل
وكاتب سيناريو اسمه سيلفستر ستالوني سجالاً نقدياً؟ صحيح أنه بارعٌ في
تحقيق أفلام
تشويقية وعنيفة ودموية، انتمى بعضها إلى فئة السلاسل المتتالية (روكي
ورامبو).
صحيحٌ أنه نشأ في بيئة سينمائية احتاجت، يومها، إلى هذا النمط السينمائي
المتحرِّر
من مضامين سجالية وأنماط فنية متفرّقة (ثريلر، تحليل نفسي، تحقيقات
استخباراتية أو
بوليسية... إلخ)، والمكتفي بالحركة ركيزة وحيدة لسرد حكائي، لا
يخرج على تمجيد
البطولة الفردية في مقارعة الألاعيب السياسية والمصالح العسكرية من جهة
أولى (رامبو)، أو في مواجهة تحديات اللعبة التي
لا تقلّ عنفاً ودموية، أي الملاكمة، من
جهة ثانية (روكي). غير أن سيلفستر ستالوني، الذي أطلّ مجدّداً
على المشهد السينمائي
العالمي بفيلمه الأخير «المرتزقة» (إخراجاً وتمثيلاً وكتابة)، لم يعد
قادراً على
الخروج من الإطار الضيّق، الموضوع فيه منذ سنين بعيدة: البطل القادر،
بمفرده، على
غلبة الكون، من أجل قضية يريد، دائماً، إقناع المُشاهدين بعدالتها، وإن
تطلّب الأمر
منه قتل المئات بطريقة مثيرة للضحك، قبل الاشمئزاز.
بطولات
البطل
القادر، بمفرده، على غلبة الكون والانتصار من أجل عدالة ما لقضية معيّنة،
أراد هذه
المرّة أن يكون ضمن فريق متكامل، كي يؤكّد فرديته التي يحتاج إليها الفريق
المتكامل
هذا، المؤلّف أساساً من ممثلين اعتادوا تأدية أدوار البطولات
الفردية، وغلبة الكون
من أجل قضايا يرونها، هم أيضاً، عادلة. ممثلون قدّموا بطولاتهم تلك في
أفلام رفعتهم
عالياً، وجعلتهم يتنافسون بين بعضهم البعض، أحياناً، من أجل إيرادات أعلى.
ممثلون
انخرطوا في نمط سينمائي تجاري استهلاكي بحت، نواته العنف الواضح والصريح
والنافر
أحياناً عدّة، على نقيض العنف وجمالياته البصرية، كما في أفلام
كوانتين تارانتينو،
أو بعض أفلام أوليفر ستون. ممثلون توزّعوا أدواراً متشابهة في أفلام لا
تُقدّم سوى
التشويق العادي غالباً، ولا تسعى إلى نقاش إنساني أو أخلاقي أو جمالي أو
فكري،
يُمكن أن يطاول عناوين الحياة والموت والعلاقات، إلاّ بشكل
مسطّح وعابر. فالأهم،
هنا، أن يكون العنف أساسياً، وأن يكون الممثل/ البطل متفرّداً في انفلاش
بطولاته
وعنفه ودمويته وانتصاراته الطالعة من الدم والجثث على مدى الحكاية كلّها.
لهذا، بدا
حضور هؤلاء في فيلم واحد، كتبه وأخرجه ومثّل فيه أحد رموز الأكشن
الهوليوودي
العادي، مجرّد خطوة إنسانية فردية أقدم عليها ستالوني تحية إلى
رفاق وأصدقاء. وإن
طُرح سؤال تغييب أسماء لامعة، هي أيضاً، في سينما التشويق والعنف المجاني،
يُمكن
القول إن المغيّبين نوعان: رافضو الانتساب إلى هذه المهزلة السينمائية
الجديدة، أو
المقيمون على عداء شخصي، ربما، لصاحب المشروع.
هذا تحليل شخصي. لكن جمع
أسماء شهيرة في سينما التشويق والعنف المجاني دون غيرها ممن «أبدع» في هذا
الإطار،
في فيلم واحد، مثيرٌ للتساؤل. أما المشاركون فهم: جايزون
ستاتايم وجت لي ودولف
لاندغرين وستيف أوستن (هل تتذكّرونه؟) وميكي رورك وإيريك روبرتس، بالإضافة
إلى «ضيفين» عبرا الفيلم في لحظات سريعة: بروس
ويليس وأرنولد شوارزينيغر. ولعلّ التعليق
الساخر الذي أطلقه بارني روس (ستالوني) ردّاً على سؤال السيّد
تشورش (ويليس) عما به
شوارزي، والقائل (التعليق الساخر) إنه راغبٌ في أن يكون رئيساً، يبقى
الأجمل في
السياق الدرامي كلّه. في حين أن المشهد البكائي لميكي رورك، عن إنسانيته
المفقودة
في حرب البوسنة، فساذج وباهت ومسطّح ومتصنّع. وعلى الرغم من أن
بعض هؤلاء ساهم في
صناعة سينما التشويق والعنف المجانيّ، إلاّ أن الإشارات السياسية
والاجتماعية
والإنسانية حاجة ملحّة في أفلامهم، خصوصاً أن بعض المضامين مرتكز على صراع
حقيقي
بين الأخيار (هؤلاء الأبطال الذين يمثّلون الولايات المتحدّة
الأميركية الطاهرة)
والأشرار (الشيوعيين، الإرهابيين الطالعين من ركام الكتلة الاشتراكية،
المسلمين،
الكائنات الفضائية، الطبيعة وكوارثها... إلخ). مع هذا، قدّم سيلفستر
ستالوني دوراً
سينمائياً بديعاً، بمشاركته روبرت دي نيرو وهارفي كياتل وغيرهما في
«كوبلاند»، الذي
يُعتبر أحد أبرز أفلامه وأهمها.
عنف مجانيّ
في «المرتزقة»، استمر
سيلفستر ستالوني، الذي شارك دايف كالاهان في كتابة السيناريو المستند إلى
قصّة لهذا
الأخير، في الانتصار لقضية يريدها عادلة. إنه جزء من مجموعة
رجال أشداء ذوي عضلات
مفتولة ومهارات شتّى في فنون قتالية شرسة. إنه قائدهم الطيّب والرحوم
والمرح،
والمتفاني في اختراق أقسى أنواع التحدّيات، من أجل تحقيق بطولة إضافية. إنه
الشرس
غصباً عنه، لأن تحقيق العدالة يمرّ على الجثث، ويسبح في الدماء
الكثيرة. إنه
الملهِم والملهَم، القادر على معاينة الخطر وتجنّبه، درءاً لفوضى العلاقات
القائمة
بينه وبين أفراد مجموعته. أشكال أعضاء الفريق أقرب إلى الأشرار المنتشرين
في
الأزقّة والطرقات العامّة، مع أنهم رسل سلام ومحبّة، لا يُمكن
لهما (السلام
والمحبّة) أن يعمّا بلداً أو جماعة من دون المرور في بحر شاسع من الدم
والجثث.
مهمتهم الأولى على الشاشة في بداية الفيلم
صورة لهم: إنقاذ أناس من أيدي القراصنة،
برشاشات بعضهم الأول وخناجر بعضهم الثاني وبهلوانيات بعضهم
الثالث وجنون بعضهم
الرابع. وهذا البعض الرابع ممثل بغانر جانسن (لاندغرين)، الذاهب بجنونه إلى
حدّ شنق
أحد القراصنة، خلافاً لطيبة قلب روس، زعيمهم وقائدهم، ما أدّى إلى طرده من
الفرقة.
والمجموعة مُكلّفة من قِبل السيد تشورش لتنفيذ مهمة جديدة: في جزيرة ما،
سيطر عليها
عسكري ديكتاتوري بحماية عميل سابق لـ«المكتب الفيدرالي للتحقيقات»، هناك
«أمور»
(مخدرات
متفرّقة بكميات هائلة) تحتاج إليها «جماعة» السيد تشورش بشدّة. الاستطلاع
واجب قبل اتّخاذ القرار: روس وصديقه الحميم لي كريستماس (ستاتايم) يتجوّلان
في
الجزيرة، برفقة صديقة عميل مقيم فيها، يعرفه توول (رورك).
أثناء الجولة، يقع
المحظوران الأمني والعاطفي: اصطدام بفرقة عسكرية في معركة يسقط فيها
العسكريون
جميعهم، بعد اكتشاف سرّ الصبيّة الجملية (ابنة الديكتاتور)، التي ترفض
الهرب معهما،
ما يجعلهما يبيدان فرقاً عسكرية أخرى كادت تحول دون هروبهما.
لكن العاطفة قوية:
بارني روس قرّر رفض المهمّة (أدرك أن السيّد تشورش عميل لـ«وكالة
الاستخبارات
المركزية»)، والعودة إلى الجزيرة لإنقاذ الصبيّة. معارك طاحنة. انفجارات لا
عدّ لها
ولا حصر. جثث بالمئات. جيش بكامله، درّبه عتاة العملاء
السابقين في «المكتب
الفيدرالي للتحقيقات» و«وكالة الاستخبارات المركزية» معاً، يتداعى أمام
جبروت فرقة
صغيرة الحجم، لم يُصب أي من أعضائها إطلاقاً، على الرغم من كثافة النيران.
ما قاله سيلفستر ستالوني في الحوار الصحافي المذكور في بداية المقالة،
مثيرٌ للسخرية، أو بعضه على الأقلّ. فيرونيك تروييه وصفته، في
مطلع حوارها معه
المنشور في «استديو/ سيني لايف» (آب/ أيلول 2010)، بأنه بات، بعد أربعين
عاماً
أمضاها في مهن التمثيل والإخراج والإنتاج والكتابة السينمائية، «نجم
التشويق
العالمي». أضافت: «مع أنه تجاوز الستين من عمره (مواليد السادس
من تموز 1946)، فإنه
لم يهدأ لغاية الآن. ومع فيلمه الأخير هذا، لم يُظهر أي استعداد للتوقّف عن
العمل».
أما هو، فقال: «أردتُ فقط إنجاز فيلم تسلية
وتشويق، من دون أن أكون وحيداً على
الشاشة. أردتُ فريقاً. لم أفعل هذا أبداً لغاية الآن. أعتقد
أنه ما من أحد فعل هذا
من قبل». لكن، هل يعتقد ستالوني أنه سيأتي يومٌ يشعر فيه بأنه بات عجوزاً
جداً لفعل
هذا التشويق والحركة والأكشن كلّها: «كلا. كلا. ذات يوم، سيقول الجمهور
كفى. حينها،
أتوقّف عن العمل». في المقابل، يريد الرجل تأكيد نظرية خاصّة به: «كلما شاخ
المرء،
شعر بأنه على خير ما يُرام. أنا في أبهى حالة اليوم، وربما
أفضل مما كنتُ عليه
أثناء رامبو».
واضحٌ أن سيلفستر ستالوني ليس في أبهى حالة. واضحٌ أنه بات
عليه الاستماع إلى صرخة «كفى».
يُعرض الفيلم، بدءاً من بعد ظهر اليوم، في
صالات «غراند أ ب ث« (الأشرفية) و«غراند كونكورد» (فردان) و«غراند لاس
ساليناس» (أنفة) و«سيتي كومبلاكس» (طرابلس)
كلاكيت
سجال سويّ؟
نديم جرجورة
المسألة واضحة تماماً.
الكلام عليها مُكرَّر، لكنه مطلوب ومُلحّ.
الرقابة اللبنانية، التابعة لـ«المديرية
العامة للأمن العام»، لا ترغب في إثارة النعرات الطائفية. تظنّ
أن أفلاماً سينمائية
لبنانية تُسبّب، وحدها، تلك النعرات الملعونة. متمسّكة هي بالسلم الأهلي،
مع أنه
هشّ ومنقوص. أكاد أقول إنه مغيّبٌ كلّياً. المحاولات الجدّية القليلة
لمقارعة
الرقابة وأفعالها المسيئة إلى حرية المعتقد والقول والتعبير،
عاجزة عن ردع الرقابة
عن ممارسة قوانين بائدة محتاجة إلى تغيير جذري، وعن تمسّكها بتوازنات
طائفية خطرة
للغاية على الحريات الثقافية والفنية أساساً. المحاولات الجدّية مستمرّة،
على الرغم
من هذا، في مسعى دؤوب وعملي إلى لجم المنع والقمع الثقافيين والفنيين
بقوانين
عصرية. المنع والقمع مغلّفان خطأً بشعارات الحماية الملتبسة
للأخلاق الحميدة،
وللوفاق الأهلي الكاذب، وللعيش المشترك المزوَّر. أما ما يحدث في الشارع
اللبناني
من تمزيق يومي عنيف لهذه الشعارات كلّها، فلا رقيب عليه ولا حسيب له.
آخر
أفعال الرقابة اللبنانية كامنٌ في منعها عرض الفيلم الوثائقي الأخير
للّبناني ديغول
عيد «شو صار؟». الرقيب أصدر قراراً بمنعه من العروض كافة،
التجارية والثقافية.
الحجّة: إثارته نعرات طائفية وسياسية وحزبية. الهدف من قرار المنع: وأد
الفتنة.
حسنٌ. هذا فيلم مثير لنقاش نقدي يطال،
أساساً، مضمونه الحكائي. الشكل السينمائي
عادي للغاية. لا مجال لمناقشته. معتمدٌ هو على لقاءات وزيارات
ميدانية إلى أرض
الحدث، واستعادة عادية لمشاهد مستلّة من ذاكرة فردية وخبريات جماعية. عاد
المخرج
إلى قريته للبحث في تفاصيل جريمة قتل جماعي ذهب ضحيتها والداه وشقيقته
وأفرادٌ
آخرون من عائلته. أفضى البحث به إلى معرفة الانتماء السياسي/
الحزبي لمرتكبي
الجريمة. إنهم تابعون للحزب السوري القومي الاجتماعي، بحسب الفيلم ومخرجه.
غير أن
الشكل السينمائي، وهو الأهمّ نقدياً، لم يبلغ مرتبة الإبداع الوثائقي. في
حين أن
المضمون ظلّ في إطار سرد حكاية شخصية قديمة، أرادها المخرج
مدخلاً إلى مصالحة ما مع
نفسه. الفيلم، بهذا المعنى، منتم إلى سلسلة أفلام وثائقية لبنانية جديدة،
استلّت
مضامينها من اختبارات فردية خاصّة بمخرجيها، بهدف تفكيك البنى التربوية
والتاريخية
والمجتمعية والسياسية والإنسانية المحلية، من خلال الحفر في
الذاكرة الجماعية، عبر
التوغّل في التجربة الفردية.
موضوع كهذا يثير مشكلة ما بين المخرج وفيلمه
من جهة اولى، والحزب المُتَّهم بالجريمة من جهة ثانية. لكن منع الفيلم من
العرض،
أقفل الباب على مناقشته من قبل أنصار الحزب على الأقلّ. المنع، مهما كان
مضمون
الفيلم، مرفوض. لأن العرض كفيلٌ بالسجال السوي. «شو صار؟» روى
إحدى الحكايات
الدموية التي عاشها اللبنانيون جميعهم أثناء الحرب الأهلية. عرضه استمرارٌ
لمناقشة
بعض الذاكرة. أما منعه، فاستكمال لسياسة إلغاء الماضي، من دون قراءته
والتمعّن فيه.
هناك من يمنع العودة إلى الماضي، لألف حجّة وحجّة.
لكن مهلاً. انظروا إلى
الراهن: أليس هو الماضي نفسه تماماً؟
السفير اللبنانية في
09/09/2010
«ميرال»
للأميركي
جوليان شنايبل في «مهرجان البندقية السينمائي الدولي الـ67»
يساجل الاحتلال
الاسرائيلي بحيوات فلسطينية
زياد
الخزاعي
«أنتِ
أملي»، هي الجملة
الأخيرة التي تقولها المحسنة الفلسطينية العجوز للصبية ميرال، في جديد صاحب
«بذلة
الغطّاس والفراشة» المخرج السينمائي والتشكيلي الأميركي جوليان شنايبل،
الذي يحمل
اسم بطلته. تتحوّل الكلمتان إلى ما يشبه وعداً تحمله اليافعة إلى الأبد، من
دون أن
يصل الفيلم إلى نقطة حسم إيديولوجي بشأن أعقد صراع سياسي في العالم، على
الرغم من
تثبيته إشارة إهداء إلى الذين لا يزالون يؤمنون بالسلام. إذاً،
ما الذي يجعل من
«ميرال»،
الذي يتنافس ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي الـ67، نقطة
سينمائية حسّاسة؟ الجواب أنه يُحيل المناحة الفلسطينية على واجهة السؤال
الغربي،
ويبحث عن ورطة إثمه في ما جرى منذ النكبة إلى أيام أوسلو وما
بعدها. لا يُجيّر
الفيلم، المقتبس عن نص الإعلامية الفلسطينية الأصل والإيطالية الهوية
والإقامة رولا
جبريل، الموقف الشخصي لشنايبل القريب من الذات اليهودية حول عقدة الشرق
الأوسط،
الدائرة ضمن الوعي الغربي في حيز أحقيّة الأرض والتاريخ
والأسبقية في الوجود
والتواجد ومثلها القوة والسطوة. فهو يورِّط مؤسّسات سينمائية مؤثّرة
ومنتجين
أميركيين نافذين في مقاربة نظرة مغايرة لقضية الشرق الأوسط، ويدفعها إلى
التجرؤ في
عرض الإثم الإسرائيلي بحق الفلسطينيين. صحيح أن الحكاية أشبه بـ«سوبرا
عائلية»، لكن
ما لا يُمكن تجاوزه هنا يتمثّل في أن عمل شنايبل سعى بجرأة إلى تقديم
الإسرائيلي
مغتصباً ومعذباً ومهيناً وعدائياً ومتسلطاً. إلى ذلك، يجب
التأكيد على نقطة شديدة
الأهمية: إن هذا الفيلم مُوجَّه إلى عقلية غربية، ترى في العربي عامة
والفلسطيني
خاصة عدواً ونقصاً حضارياً في المنطقة يجب إدغامه إلى أمد طويل بـ«صفات»
تخلّفه
ووحشيته وأصوليته الدينية. لهذا، فإن إنجاز «ميرال» في الوقت
الآني اختراقٌ لا يمكن
إغفاله أو التقليل من شأنه.
لا سيرة ولا بطولات
«أنتِ
أملي»، التي
تتلفّظ بها المحسنة الفلسطينية الراحلة هند الحسيني (أداء متواضع لهيام
عباس)،
تُقال بمثابة وعد سياسي يجب أن يحمله الفلسطيني إلى أترابه، في
مواجهة التغييب الذي
شارك فيه الجميع منذ العام 1948. والغريب، أنه جاء على لسان امرأة وليس على
لسان
قيادي في منظمة تحرير وطني، تقودها الصدفة إلى أيتام مجزرة دير ياسين، وهم
ضائعون
في شوارع القدس وحاراتها وأزقّتها، قبل أن يكونوا نواة تأسيس
أحد أكبر الملاجئ
الإحسانية في تاريخ فلسطين: «دار الطفل العربي». نص جبريل والفيلم ليسا
أتوبيوغرافيا للحسيني؛ وليسا تجميعاً لبطولاتها. هي الهداية
التي تقود بطلتها ميرال
إلى البلوغ البيولوجي والعقائدي. وكما نرى الصبية وهي تقع في الحب وتسعى
إلى تحاشي
ارتباكاته العاطفية أو ان تحمّل توابع النضال وانتكاساته ومظالمه، نعرف
لاحقاً أن
الأمان الشخصي لميرال (بمعنى آخر الكاتبة رولا جبريل) لا يضمنه
قرار سياسي ثنائي
إسرائيلي ـ فلسطيني، بل وافد أوروبي ينقلها لاحقاً نحو الأرض والمستقبل
المفتوحين
على الاحتمالات كلها، لكن بغمز واحد فقط أن تاريخ الفلسطينيين يصنعه
الآخرون. هل
هذه انتقاصة بحق الضحية؟ لا يقول شنايبل هذا بصراحة، بل
يُلمِّح إلى إرهاب الصهاينة
الأُول ومثلهم المستوطنون حديثا، ليصل إلى النقطة المثالية التي تقول إن
الفلسطيني
يخون ابن جلدته فقط، لأنه يتجرّأ على خوض تجربة التحرّر عبر الحوار
والمفاوضات، وإن
الفلسطيني المجالد هو الوحيد الذي يجب أن يكون سجيناً في مخيماته أو بين
جدران
مؤسّسات الإحسان على أقرب تقدير. من هنا، فإن جملة «أنت أملي»
تنطبق على أفراد يجب
أن يتلوّثوا بفكرة الإيمان بأن السلام هو صنعة الشراكة، لكن بوصاية أهل
القدرة على
إعادة صوغ تواريخ المنطقة المشتعلة إلى أمد ليس بقصير، على كل حال.
وبما أن
الواقع يقول إن العدو لا يُمكن أن يُنصف ضحيته، فإن «ميرال» شنايبل وشركاء
إنتاجه
التونسي طارق بن عمار والأميركي جون كيليك (من أفلامه «مالكوم
أكس» لسبايك لي
و«بابل» و«بيوتيفل» لأليخاندرو غونزاليس إيناريتو، من بين أفلام أخرى)
والمخرج
الإسرائيلي عيران كليراس، وصل إلى النقطة المناسبة: إن الخوف الخفي للعدو
يكمن في
أن يقوم أبناءٌ من جلدته بتعييره بجرائمه. بدا أن نص جبريل، الذي يحمل
أبعاداً
إنسانية متأوربة مثالياً إلى حدٍّ مفاجئ للثنائي شنايبل ـ
كليك، قبل أن ينضمّ
إليهما النافذ النيويوركي هارفي وينشتاين كموزّع وداعم، ليجعلوا منه فاتحة
سينمائية
وإعلامية أميركية استثنائية لإشعال الحريق الفلسطيني في الثوب الأميركي ـ
الإسرائيلي، قبل أن تصل نيرانه إلى الرداء الأوروبي لاحقاً.
ميرال (أداء
الهندية فريدا بنتو، لقرب تشابهها بالكاتبة رولا جبريل)، كما الزهرة التي
لا
يُدمِّر أوراقها غبار الطرقات الريفية حيث تولد وتموت. بل إن
ما يعرقل نموّها
الطبيعي إرادات بشرية تسعى إلى تذكيرها بأن نقصاً في محتدِّها ركيزة عارها،
إذ
أنجبتها إلى العالم رغبة انتقام جنسية، مارستها والدتها ضد كيانها في لحظة
انكسار
مؤلمة، بعد سلسلة من الاغتصابات التي كان زوج والدتها يمارسها
عليها تحت أنظار الأم
المرعوبة ببطشه ومستقبل عائلتها، ومثلها سوء ظنّ الآخرين، الذين وجدوا في
كيان أم
ميرال (أداء قوي للممثلة ياسمين المصري، التي عُرفت سابقاً في فيلم
اللبنانية نادين
لبكي «سكّر بنات») زلّة عار عليهم واجب هدايتها من دون أن
يفلحوا في ردعها، من دون
دفعها إلى الموت غسلاً لعارها.
كائن حيّ
من هنا، فإن ميرال ليست
مشروع بطولة وطنية، أو نموذج للفلسطيني المثالي. إنها كائن يسقط في
امتحانات كثيرة،
لكنّها بالتأكيد على قدر كبير من الحظ. والفيلم، في رأيي، يجذب
المشاهد الغربي إلى
التمعن به. هي، في نهاية مطاف الفيلم، ليست إرهابية أو أصولية متشدّدة، أو
مهووسة
انتقامات مزنّرة بآلات القتل والتدمير. وميرال ليست صنواً للحسيني أو
صنيعتها
المباشرة، حتى بفلسطينيتها. ذلك أن الأخيرة كبيرةٌ بفعلها
التاريخي ومنجزها
الاجتماعي، فيما تبقى ميرال مشروع امرأة تنتظر البطولة، التي لا يجرؤ
الفيلم
الإشارة إليها. إن نقص فلسطينية ميرال، على الرغم من تواجدها في غالبية
أمكنة الرمز
الفلسطيني الدينية والسياسية (القدس وحاراتها وأزقّتها، الأقصى
الشريف وحرمه
الإبراهيمي، المخيّمات وضائقتها البشرية، مرابع رام الله ومحيطها الريفي)
أمرٌ
جليّ، على اعتبار أنها جزءٌ من نقص قرار خفي. وما تبصّرها في انهيار ثقة
رفاق
حبيبها هاني (عمر متولي) به، هو الذي يمثّل الثقل الإتهامي
للفلسطيني المغامر
بتحرير نفسه، سوى إشارة سياسية إلى أن مستقبل البطلة مرتهن بحلفاء
المستعمر، وليس
برفاق النضال (تطلب منها إحداهن، بعد اختفاء العشيق، الوشاية به: «لا تنسي
أن
تخبرينا بمكانه إن وصل إليك»). من هنا، يربط مُشاهد فيلم
شنايبل هذا مع مشهد هجوم
والدتها نادية وقيامها بلكم يهودية في حافلة عمومية في القدس، إثر نعت
الأخيرة لها
بـ«العاهرة»، لكونه صيرورة أصل ميرال ولعنتها، ولاحقاً مستقبلها برمته
(هناك مشهد
صاعق بمغزاه الأخلاقي، نرى فيه شابة إسرائيلية تُقبِّل شفتي ميرال، وتسألها
إن كانت
تمانع). فيما يُقابل نص شنايبل ـ جبريل بين نادية (الساقطة
بالعرف العام) بعد
إرسالها إلى السجن مع الفلسطينية الأخرى فاطمة (ربى بلال)، التي تمثّل لبنة
أولية
للمناضلة التي لن ترتقي أم ميرال، التي تبرع في هزّ بطنها في الملاهي، إلى
مصافها،
وتُخبرها عن سبب اعتقالها: تهريب المجاهدين أثناء حرب النكبة،
ولاحقاً نقل قنبلة
إلى دار عرض سينمائية، نرى على شاشتها مشاهد من «النفور» لرومان بولانسكي.
تنتهي
هذه الفبركة الدرامية بنادية منتحرة في بحر فلسطين، باعتباره الأوجب لغسل
ذنوبها
وإفساح المجال لميرال أن تورث عنادها.
إن تقسيم شنايبل فيلمه إلى مقاطع
بأسماء بطلاته (إصراره على أنها قصتهن) هو ما أضعف بناءه، وأحاله فصولاً
تسعى إلى
تفخيم حيواتهن؛ ما جعل منهنّ تبريراً للمساقط التاريخية (عرض الأفلام
الوثائقية)،
التي يجب أن تُعرِّف المشاهد الغربي بتواريخ السياسة في الشرق
الأوسط، بدءاً بخطاب
تأسيس إسرائيل، وانتهاء بمصافحة عرفات ورابين، مروراً بالتهجير والمجازر
الإسرائيلية، ولاحقاً بمشهديات أسنان البلدوزرات الإسرائيلية وهي تهدم بيوت
الفلسطينيين، على خلفية صوت الشاعر محمود درويش وهو يشدّد على
«انتظرها».
لا شكّ في أن «ميرال» سيتعرّض لهجمات مُنظَّمة من اللوبي الصهيوني، أو من
موالي إسرائيل هنا وهناك. لكن المؤكّد أن سوء الظن العربي بشأن
غرض هذا العمل
ونياته سيكون وفيراً، إن لم يكن جارحاً برفضه خطابه، أو إصراره على أنه
حمّال
لمغالطات، أو أنه يغمط حقيقة هنا أو واقعة هناك. بيد أن ما هو مؤكّد وحاسم،
أن وجود
تاريخ هند الحسيني على شاشة المخرج شنايبل هو قطعاً في العرف
النضالي أكثر شرفاً من
تخريصات عشرات من مهووسي فلسطين أو أمثالهم من مرتزقة نضال تحريرها
وصفقاتهم، التي
أوصلتهم إلى بيع قضيتها قضماً، كما الحكاية الشخصية لميرال.
)البندقية(
السفير اللبنانية في
09/09/2010 |