في تقليد أصبح مستقرا، يتمثل في عرض الأفلام الوثائقية الطويلة في دور
العرض
التجارية، يعض حاليا الفيلم الوثائقي الطويل "جنوب الحدود"
South of the Border
للمخرج الأمريكي أوليفر ستون (في العاصمة البريطانية لندن.
في هذا الفيلم يخوض
أوليفر ستون مغامرة جديدة من مغامراته المثيرة للجدل، حينما يواصل منهجه في
السباحة
ضد التيار السائد، ضد الإعلام الأمريكي وما يروجه من معلومات خاطئة وما
يعكسه من
مواقف موالية بالكامل لنظرة الإدارة الأمريكية التقليدية بل
وضد موقف ورؤية وكالات
الاستخبارات الأمريكية من بلدان أمريكا اللاتينية، التي تتناقض في مواقفها
السياسية
مع رغبة واشنطن في فرض الهيمنة عليها.
على رأس تلك البلدان فنزويلا في عهد
رئيسها الممتليء بالحيوية والنشاط والذي يتحلى أيضا بشجاعة
كبيرة: هوجو
شافيز.
يتجول ستون، في عدد من بلدان القارة الجنوبية، فيذهب إلى فنزويلا حيث
يلتقي بشافيز، ثم إلى الأرجنتين فيقابل الرئيس السابق نيستور كيرشنر
والرئيسة
الحالية (زوجته) كريستينا كيرشنر، وإلى بوليفيا لكي يلتقي بأول
رئيس في أمريكا
اللاتينية من السكان الأصليين (يطلقون عليهم خطأ الهنود الحمر) وهو الرئيس
إيفو
موراليس، ثم إلى البرازيل والرئيس لولا دا سيلفا، وباراجواي والرئيس
فرناندو لوجو،
وأخيرا إلى كوبا ورئيسها راؤول كاسترو.
يستخدم ستون المادة الوثائقية المصورة
التي يظهر فيها بنفسه، يدير الحوارات أمام الكاميرا، ويطرح
الكثير من التساؤلات من
وجهة نظر الأمريكي "العادي" لكنه لا يحاول بالطبع ادخال الرأي الآخر،
المناقض لآراء
زعماء بلدان أمريكا اللاتينية، بل ويستثني رئيس كولومبيا المؤيد تماما
للسياسة
الأمريكية والذي تخوض بلاده حربا ضد جماعات الثوار منذ سنوات، والسبب بسيط،
لأن هذا
الرأي أو تلك الوجهة الأخرى، معروفة ومألوفة وشائعة، ويعرفها جميع
الأمريكيين، بل
والرأي العام في العالم من خلال أجهزة الإعلام السائدة مثل
قناة سي إن إن
التليفزيونية وغيرها، وهي تتلخص في إدانة هذه البلدان والحكم عليها بانتهاك
حقوق
الإنسان (التي يقول لنا الفيلم إنها أصبحت التهمة الجديدة بعد تهمة
الديكتاتورية
التي توجهها الإدارة الأامريكية إلى البلدان المخالفة
والمتمردة على
طاعتها).
ويسخر الفيلم من اتهام شافيز بالديكتاتورية، وتقول رئيسة الأرجنتين
إنها لا تعرف بلدا في العالم أجريت فيه الانتخابات الديمقراطية 17 مرة في
سنوات
معدودة كما حدث في فنزويلا. ويؤكد الفيلم أن جميع الرؤساء
الذين يحاورهم ستون جاءوا
إلى الحكم عن طريق الانتخابات، بل إنهم رفضوا دائما التصدي للعنف بالعنف،
ويصور
احترامهم لحق الإضراب والتظاهر في كل الظروف، باستثناء كوبا التي تنهج نهجا
مختلفا،
حيث تحظر فيها مظاهرات الاحتجاج كما هو معروف، إلا أن الفيلم يصور كيف يحظى
النظام
السياسي في كوبا بشعبية كبيرة من جانب الطبقات الكادحة، أي
الأغلبية.
والمدهش أن الفيلم يكشف لنا كيف أن هذه البلدان كلها، في عصر العولمة،
وبعد
اختفاء المنظومة السوفيتية من الوجود، انتفضت كلها وأعلنت تمردها على رغبة
واشنطن
في الهيمنة، وقاومت شروط البنك الدولي الذي توجهه الإدارة الأمريكية
لمصالحها كما
يقول الفيلم، كما رفضت الانصياع للشروط التي يحاول فرضها على
دول العالم الثالث
لإقراضها، وهي شروط قاسية تؤدي أحيانا إلى كوارث اجتماعية وسياسية، ولكن
دون أن
تنهار كما يذاع علينا يوميا، ودون أن تشتعل فيها الانقلابات والثورات.
ويتوقف
الفيلم امام حقيقة أنه في المرة الأولى في تاريخ قارة أمريكا اللاتينية،
كيف حدث
تقارب غير مسبوق بين الحكام والمحكومين في بلدان تلك القارة التي كانت
الولايات
المتحدة تعتبرها "الحديقة الخلفية" لها، وأصبحت برامج الإصلاح
الحقيقية توجه لمصلحة
الناس وليس لمصلحة البنك الدولي والاحتكارات الأمريكية.
ويركز الفيلم بدرجة
كبيرة، على تجربة شافيز في فنزويلا، وهي من أغنى الدول بالنفط، وكيف تآمرت
عليه
الولايات المتحدة وأرادت الاطاحة به في انقلاب سرعان من انعكس لصالحه، وكيف
تمكن من
الصمود وتحويل بلاده من دولة تستورد كل قمحها من الخارج إلى
دولة مصدرة، وكيف وفرت
الدول التعليم والصحة لفئات كانت محرومة تماما منها.
ولعل من الجوانب المهمة
التي يكشف عنها الفيلم من خلال الحوارات المكثفة مع زعماء
البلدان التي اشرنا
إليها، هو كيف تتضامن هذه الدول معا، في مواجهة القوة الأكبر في العالم،
متحدة
بموقف موحد ورأي واحد، لا تسعى للصدام بل لاحترام استقلاليتها وتوجهها
المختلف.
صحيح أن هذا الفيلم من الأفلام التليفزيونية المصورة بكاميرا
الديجيتال
الصغيرة، وصحيح أنه يعتمد على الحوارات بشكل أساسي، لكنه يتمتع بقدر كبير
من
الحيوية، والجمال الداخلي، الذي يشع من مشاهد كثيرة مثل المشهد الذي يلعب
فيه ستون
مع رئيس بوليفيا الكرة، أو عندما يشرح رئيس باراجواي الشاب في حماسة
وسخرية، كيف
أنه رد على رفض الأمريكيين سحب قاعدتهم العسكرية من بلاده بأنه
سيوافق على وجودها
في حالة موافقتهم على وجود قاعدة لبلاده على الأراضي الأمريكية!.
ويكشف الفيلم،
من خلال ما يدور من حوارات، عما يتمتع به هؤلاء الرؤساء من ثقافة سياسية،
وقدرة
تحليلية عالية، يدافعون جميعا عن دور الدولة في توجيه الاقتصاد، ويرفضون
فكرة
الاستسلام لاقتصاد السوق طبقا لشروط البنك الدولي، أي بغض
النظر عن موائمة تلك
الشروط لمصالح بلادهم.
وفي الفيلم جانب تعليمي مهم يساهم في إثارة الوعي لدى مشاهديه. وليت
هذا
الفيلم يعرض على الجمهور في بلادنا، وليت قناة الجزيرة الوثائقية تعرضه
وتناقشه،
لكي يشاهد الجمهور العربي الوجه الآخر من الحقيقة، ومن وجهة
نظر أمريكي محايد، يعيش
في جنة الرأسمالية الأمريكية، ومجتمع الحريات.
هذا مخرج محترف على درجة عالية من
الاحترافية، صنع مجده من قبل من خلال أفلام روائية طويلة مشهود
لها مثل "مواليد
الرابع من يوليو" و"السلفادور" و"قتلة بالفطرة"، لكنه يأتي اليوم لكي يمارس
السينما
كما يمارسها الهواة، يحمل كاميرا خفيفة من نوع الكاميرات الرقمية، ويتجول
بين عدة
بلدان، لكي يكشف الجانب الآخر الذي لا يقترب منه الاعلام الأمريكي أبدا،
لهؤلاء
الزعماء: كيف يعملون، كيف يفكرون، علاقتهم بشعوبهم، ورؤيتهم
للحكم وللديمقراطية،
وما هو مصدر قوتهم الحقيقة امام اكبر قوة في العالم.
ربما لا تكون التجربة
مثالية من ناحية الصورة والصوت، هناك الكثير من اللقطات المهتزة بالكاميرا
المحمولة، والكثير من اللقطات الداكنة، والتي يظهر فيها ستون يحاور
الشخصيات التي
تثير اهتمامه من خلال مترجم كونه لا يعرف شيئا من اللغة
الإسبانية.
وربما لا
يسيطر ستون تماما على دفة حواراته أو يسعى لتحدي الشخصيات التي يحاورها بل
يترك لها
العنان لدفع الحديث نحو الوجهة التي تريدها. ولكن من الذي قال إن ستون ذهب
أصلا
بعقلية المحايد، بل إن فيلميه السابقين القصيرين عن "كاسترو"
يشهدان عليه، أي بأنه
ليس من المحايدين، بل ذهب أصلا متعاطفا ومتفهما، بل أراد
أساسا، أن يقدم لجمهوره
الصورة التي لا يعرفها.
ولاشك أن التجربة جذابة، وشجاعة أيضا. ويظل الأهم هنا
قوة الصورة في اللحظة التاريخية التي يتم فيها اقتناص الشهادات الحية، وليس
في هذا
أي مغامرة فنية تذكر، بل المغامرة في الحقيقة، مغامرة في
السباحة "الفكرية" عكس
التيار.
الجزيرة الوثائقية في
31/08/2010
«خذني
إلى أرضي»:
عن زمن الجدات الباهي!..
بشار ابراهيم
مع فيلم «خذني إلى أرضي»، للمخرجة ميس دروزة، (عام 2008، وثائقي 54
دقيقة)،
ننتبه إلى أن العنوان العملي هو «خذني إلى جدتي»، فإثر مشاهدة هذا الفيلم
الوثائقي
الطويل، سوف نكتشف أن المخرجة إنما أخذتنا، معها، في رحلة طويلة إلى جدتها،
المقيمة
في بيت دمشقي، منذ ما قبل النكبة الفلسطينية، التي وقعت عام 1948.
قد يبدو،
للوهلة الأولى، على الأقل، وربما بغواية من العنوان، أن الفيلم يريد
الانتساب إلى
طائفة الأفلام التي شرعت القيام برحلات استطلاعية صوب الوطن الفلسطيني
المحتل،
لتفقده، واكتشافه، وإعادة التعرف عليه، بعد شوط من القطيعة
والهجران القسريين..
ولكن، سرعان ما سنكتشف أن الرحلة هنا، تذهب في «الاتجاه المعاكس»؛ بعيداً
عن فلسطين
في الجغرافيا والمكان، واقتراباً منها بالحكاية والتجربة والذاكرة والقول.
تتصدر الفيلم لوحة مكتوبة، تقول: «في عام 1935، غادرتْ عائلتي فلسطين
تفادياً
لأحكام الإعدام الصادرة عن الانتداب البريطاني بحق معظم شبانها بسبب
نشاطاتهم ضد
الاحتلال الصهيوني، لتتابع مقاومتها بالاشتراك مع حركة المقاومة العربية
المتواجدة
في المنطقة. واليوم، مثلي مثل العديد من الفلسطينيين المبعثرين على امتداد
الوطن
العربي، أجد نفسي أسلك طريقي إلى منزل عائلتي في دمشق، لأقدم
لكم جدتي وطفاء،
وأختها، خالتي جهاد»!..
وسنكتشف أن الفيلم لا يعدو أن يكون ذلك تماماً، دون أدنى
مفاجآت، أو منعطفات، أو تحولات درامية، يمكن لها أن تمنح الفيلم المزيد من
المعاني
أو الدلالات. إنه فيلم وثائقي فلسطيني آخر، يدور في فلك أفراد
واحدة من كبرى
العائلات المدينية الفلسطينية، ونخبها الأرستقراطية، إن صحت العبارة، تلك
العائلات
التي كان عليها أن تلعب أدواراً متراكبة فيما بين السياسي والديني،
والتربوي
التعليمي والوطني، وكذلك شغل المناصب في فلسطين.
تنطلق المخرجة ميس دروزة، منذ
مفتتح فيلمها، في رحلة طويلة، عابرة المسافات الطويلة، في غاية
وهدف محددين، لن
تحيد عنهما، بل ولن تنسج على منوالهما ما هو جديد، مفاجئ أو طارئ. الجدة
وأختها
بالانتظار. ويبدو تماماً أن الجدة تعي تماماً الهدف من تلك الزيارة
والفيلم، معاً:
ملازمتها بالكاميرا في كل وقت وحين، والتصوير معها للحديث عن العائلة،
جيلاً بعد
جيل.. ولهذا، ربما، سرعان ما سنرى الجدة تقرأ مقاطع من رسائل كان والدها؛
(والد
الجدة)، قد أرسلها إلى أسرته في مطلع الأربعينيات من القرن
العشرين.
الجزء
التمهيدي للفيلم يقوم على حركتين أساسيتين: الأولى منهما خارج الفيلم
تماماً، وهي
البطاقة المكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية، بينما تقوم الحركة الثانية
خارج
بيت الجدة، الذي ستدور وقائع الفيلم بغالبيته العظمى في ثناياه. ففي الطريق
الممتدة
إلى دمشق عبر الفيافي، وباعتماد آلية التصوير من نافذة
السيارة، على جانبي الطريق
معاً، واستخدام تقنية المزج بينهما، تدخل المخرجة بصوت التعليق، موجهة
كلامها على
هيئة رسالة إلى جدتها (تيتا وطفة)، الذاهبة إليها، مع عرض مجموعة من صور
فوتوغرافية
عائلية خاصة مع صور فوتوغرافية أرشيفية زائدة، تتناول مشاهد معروفة
ومتداولة من
تهجير الفلسطينيين عام النكبة، قبل أن تدخل صوت الجدة تقرأ
مقاطع مطولة من رسالة،
والكاميرا ما زالت على الطريق إليها، في بيتها الدمشقي، الذي سنصل إليهم
عما
قليل!..
البنية الأساسية للفيلم ستدور في بيت الجدة، في دوران لا ينتهي من
غرفة
الاستقبال، إلى غرف النوم، والمطبخ، والشرفة.. وإذا كانت الترجمة الحرفية
لعنوان
الفيلم هي «خذني إلى البيت»، فإن الكاميرا لن تخرج من البيت
إلا لماماً، في مرافقة
الجدة أو الخالة، في واحد من مشاويرها النادرة.
تصرّ الكاميرا على الحضور
الدائم، حتى لو أثقلت على الشخصيات، واقتحمت خصوصياتها، ولحظاته الحميمية،
آن تتخف
من ملابسها.. وتصر الكاميرا على الحضور أيضاً، حتى لو أثقلت على المشاهدين،
وزجَّتهم فيما لا يعنيهم رؤيته، أو سماعه!.. حتى لتبدو متشوّقة
لهذا الفضول
العنيد!.. إلى درجة أن الفيلم سينتهي بنفور الجدة، ومغادرتها الكادر!..
ستبدو
العائلة الأساس/ الكبيرة، حاضرة غائبة.. لا نرى منها إلا هاتين السيدتين
الطاعنتين
بالسن، وإن بتفاوت بائن، يكاد يوحي بأنهما أم وابنتها، أكثر مما هما سيدة
وأختها!..
هما سيدتان معزولتان عن العالم. منغلقتان بلا رجال، أولئك الذين لن يحضروا
في
الفيلم إلا طيّ الذاكرة، وعبر الأحاديث التي تستحضر العم والأب، غالباً،
والعاشق/
الخطيب/ الزوج، مرةً.. وما عداهم ليس ثمة من رجال أبداً!..
الجدة تتمدد على مدى
الفيلم، وتطغى بحضورها عليه، تارة تتحدث إلى الكاميرا، ومن خلفها المخرجة،
وتارة
تقرأ مقاطع طويلة من رسائل تبلغ الستين من العمر.. والجدة تتمتع بمواصفات
متميزة من
حيث مهاراتها الفردية، طلاقة اللسان، وفصاحة البيان، وحسن التعبير. الهمة
العالية،
والحركة الدائبة، وخفة الدم، وحضور البديهة، والنشاط الذي لا
يهدأ يعمّر البيت حركة
أمام الكاميرا، فتوسع المكان على ضيقه، وتفتح آفاقه على انغلاقه!..
والجدة، من
ناحية ظاهرة، تقدم هي وأختها، نموذجاً متحرراً من النساء اللواتي أخذن
بالاختفاء،
منذ أتى زمن اختفت فيه قضايا المرأة وحريتها وتحررها، وانطلاقتها، وقدرتها
على خلق
شكل من الانسجام بين تحررها وحضورها، وتخففها من ملابسها، بشكل
طافح بالاعتيادية،
من ناحية، وبين تدينها والتزاماتها الدينية، من ناحية أخرى!.. فيما يكاد
يشبه مرثية
لزمن الجدات الباهي!..
وما بين الأحاديث وقراءة الرسائل وبعض نتف الحوارات
والأسئلة الموجهة من قبل المخرجة من خلف الكاميرا، نستطلع جوانب من التشابك
العائلي
في الحديث عن أربعة أو خمسة أجيال متتالية، فالجدة تتحدث
لحفيدتها عن والدها
ووالدتها. هو الذي كان حينها في مطالع الأربعينيات من القرن العشرين، يعيش
غربة
مضاعفة، باضطراره مغادرة فلسطين، أولاً، ومن ثم ترك أسرته في دمشق، والذهاب
إلى
تركيا، تالياً!..
والجدة تتحدث عن عمها (أبو زهير) الذي كان يعمل مع الحاج أمين
الحسين، في الهيئة العليا، وكان مديراً عاماً للأوقاف. كما تبين أن عمها
هذا هو من
فتح «مدرسة النجاح» في نابلس، التي ستتحول إلى جامعة فلسطينية شهيرة، فيما
بعد. أما
والدها فقد كان مدرساً في المدرسة ذاتها. ومن ثم عمل في
التجارة، دون أن تكون
مناسبة لطرازه. وكان للوالد والعم أن أتيا دمشق للتنسيق مع الوطنيين في
سوريا،
الذين كانا يعرفونهم منذ أيام الأتراك.
الجدة، كما في الفيلم، إمرأة عجوز تعيش
في بيت دمشقي فاخر. تتنقل بين الحديث عن ذكريات والدها وعمها،
والتشاغل بالتطريز،
والخياطة، وتنطيف البيت، وترتيبه إلى درجة أنها، قبيل نهاية الفيلم، ستصف
البيت
بأنه «غليظ»، لا يمكن تركه لحظة، إذا أرادته نظيفاً مرتباً..
والمعلومات تتناثر
في الفيلم كثيرة، عابرة وراسخة، هامشية وجوهرية، طامحة لرسم صورة باهية عن
أسرة
فلسطينية ارستقراطية (آل دروزة)، عاشت أيامها قبل النكبة، وساهمت في
التأسيس
الحضاري للمجتمع الفلسطيني، ونجت من براثن الانتداب البريطاني،
ومن ثم العصابات
الصهيونية، والاحتلال الإسرائيلي، وقدمت أعلاماً معروفين في التاريخ
الفلسطيني
الحديث، لعل أبرزهم العلامة المؤرخ «محمد عزة دروزة»!..
المخرجة تسأل جدتها عن
البيت في فلسطين. الجدة تتذكر: «بيت كبير. بوابة كبيرة». لن تستفيض الجدة
بالحديث
عن البيت، أو عن نابلس، أو فلسطين!... ربما الموضوع لديها هو العائلة، لذا
سنراها
تستفيض بالحديث عن والدتها؛ (والدة الجدة)، تلك المرأة المفرطة
الذكاء، الصلبة،
الكريمة، الراعية لأولادها، وعجائزها، المستقبلة للضيوف، إن وفدوا من
الأردن، أو
الكويت، أو الضفة!.. والحريصة على توفير مؤن الرجال الغائبين في المنافي
والشتات.
والتفاصيل العائلية ستستغرق الفيلم، تماماً. لن يغير من الأمر كثيراً
أحاديث الجدة والخالة (أخت الجدة)، عن انتسابهن ذات وقت لحركة القوميين
العرب، أو
التأسف بسبب تداعي الواقع العربي، والشقاق بين فتح وحماس!.. بل
إنه حتى هذه
الأحاديث سيتم تناولها من بوابة العائلة الكبيرة. فالعائلة هنا هي البيت،
وهي
الوطن. والانتماء إليها هو الإنتماء إلى فلسطين ذاتها، التي تحملها العائلة
معها،
أينما حلت وارتحلت.
ثمة الكثير من الملاحظات التي يمكن قولها بصدد هذا الفيلم،
خاصة لناحية اختيار المخرجة آلية افتراق الصورة عن الصوت، وانعدام التناغم
أو حتى
التقارب بين ما نسمع، من جهة، وما نرى، من جهة أخرى، تماماً إلى درجة بدت
جملة
واسعة من اللقطات، أو (الانسيرتات)، غير ذات علاقة بالموضوع،
في افتراق لا يبرره
سوى اختيار المخرجة عدم الإثراء البصري للفيلم، والاكتفاء بالدوران في
البيت،
وتفاصيله!..
يبقى من الجدير الانتباه إليه، أن هذا الفيلم ينتمي إلى سياق ذاتي/
عائلي من
الأفلام، بدأ يتسع ويزداد، في العقد الأخير من السنوات، وخاصة في أفلام
المخرجات
الفلسطينيات اللواتي ينهمكن في التصوير مع أفراد الأسرة، وفي البيوت، حيث
تحضر
الأمهات والآباء، والجدات والأجداد، والأشقاء والشقيقات، بل
وحتى الأولاد
والحفيدات.
وفي حيث تذهب بعض المخرجات لتناول القضية الفلسطينية، بعمومها، أو من
خلال تفصيل ما، فإن أفلام أخرى بدا أن الشأن العائلي هو الموضوع الأساس،
وما القضية
الفلسطينية إلا خلفية تاريخية، أو فضاء زماني مكاني، لما يدور أمام
الكاميرا، ولمن
نمضي معهم أوقات الفيلم.. قد يبدو الأمر على مستوى أول من
التفسير باعتباره إشارة
إلى نكوص من مستوى وطني عام، إلى مستوى عائلي خاص، ربما اتفاقاً مع ما
تتعرض له
القضية الفلسطينية برمتها من تهشمات وتشققات مؤلمة!.. كما قد يبدو الأمر
على مستوى
آخر من التفسير باعتباره محاولة عودة إلى البدايات، والانطلاق من التفاصيل
الصغيرة،
وبالاعتماد على شخصيات «بيتوتية»، للحديث غير المباشر عن
القضية الفلسطينية برمتها،
اتكاء على مقولة إن القضية الفلسطينية باقية ما بقي فلسطيني حياً على وجه
الأرض..
ربما!..
الجزيرة الوثائقية في
31/08/2010
"الرحلة
110"..
طريق القدس عبر نفق مجاري!
سعيد أبو معلا
سيطرح مشاهد فيلم "الرحلة 110"
(Journey 110)
للمخرج الفلسطيني والمصور
الفوتوغرافي خالد جرار سؤالا مركزيا هو في جوهرة مشروع المخرج
الجديد، يتمثل بـ: ما
الذي يدفع بالفلسطينيين إلى كل هذا العذاب وتلك المخاطر وربما القرف الذي
لا يمكن
تخيله أو وصفه في سبيل الوصول إلى مدينة القدس؟
ومع ذلك السؤال الشخصاني
والإشكالي الذي يصعب صكة في إجابة واحدة نرى أن سؤالا ثان يطل
لنا برأسة ويتعلق
بتلك القدرة الكبيرة للفيلم الوثائقي على تقديم معاناة البشر بواقعية يحسد
عليها في
أحايين كثيرة، وتحديدا تلك الواقعية التي يصعب الحكي والكتابة عنها أو
وصفها بصورة
تقريرية، فمهما كانت الكلمات والحروف فإن الصور التي ظهرت في
شريط "جرار" الجديد
والقصير حيث يبلغ زمنه 12 دقيقة والقليل من الثواني تصيب المشاهد بالغثيان
والحيرة،
وتفجر في رأسة مئات الأسئلة.
الرحلة 110 تظهر لنا قدرة الفيلم الوثائقي على
اقتحام ما لا يمكن الايغال فيه، وهو دخول في فيلمنا الذي نتحدث
عنه لا يبدو محملا
إلا برغبة التوصيف النقل دون أي تدخل، والفيلم لا يدعي أنه يقول غير ذلك،
فقط ينقل
معاناة يصعب تخيلها يمر بها الفلسطيني في طريق دخوله إلى مدينة القدس
المحاصرة
بالحواجز والجدران ورصاص الجنود وعندها تكون أنفاق المجاري
مجرد ملجأ ومفر.
نحن إزاء شريط يستفز المشاهد ويجعله يشعر بحالة من عدم الرضا وربما
الرفض
لتصرفات أؤلئك المواطنين الذين تتضاعف أعدادهم في شهر الصيام حيث الذهاب
للقدس
والصلاة فيها تدفع بالمئات إلى سلوك أخطر الطرق وأكثرها صعوبة بشكل يومي.
الشريط
هنا لا يحدد زمنا لتلك الرحلة التي يرصد من خلالها إلى أي مدى يصل الإنسان
في بحثه
عن حقه في ظل وجود قوى شريرة تتمترس لمنعه دوما وأبدا، ويجعلنا نصل إلى ذلك
المدى
البعيدة جدا عن خيالنا، مدى لا يتحمله إلا الفلسطيني في سبيل
الحصول على حق من
حقوقه لكن عبر طريق مليء بالاهانة والقذارة والوحشة والخوف.
فنحن لسنا في برنامج
مسابقات كالتي تطالعنا بها القنوات الأجنبية والعربية وتحديدا عندما تدفع
بالمشاركين فيها إلى المخاطرة وفعل ما لا يمكن وصفه في سبيل تحصيل نقطة أو
الفوز
بمبلغ من المال مقابل مثلا وضع اليد في براميل مليئة بالفئران
والافاعي وانتزاع
المفتاح، نحن هنا أمام فعل يكاد يكون يوميا يحدث بعيدا عن أي رصد أو
اهتمام.
"صور.. صور يا خالتي"
المواطنون الذين لا
تظهر ملامح وجوههم لأسباب أمنية وشخصية في فيلم خالد جرار يعبرون نفقا
معتما لمياه
المجاري، يبدأ بالنور من أوله فيما نقطة صغيرة بحجم حبة عدس تظهر وتختفي في
أخر
النفق الذي يبلغ طولة 110 مترا هي المسافة التي على المهجوسين
بالقدس وسيرتها أن
يسلكوها للوصول إليها، وذلك بعد أن استحال المرور إليها بفعل الجدار الذي
يتربع فوق
النفق تماما، مانعا الفلسطينيين من وصول طبيعي.
لا يتحدث المخرج مع عابري النفق
لكنه يرصد ردود أفعالهم، هنا تحديدا تفاجأهم الكاميرا لتكون
ردود فعل أغلبهم: "صور..
صور يا خالتي.. خلي الناس تشوف" كما قالت أكثر من امرأة مجبرة على سلوك ذاك
الطريق – النفق.
في الفيلم ظهر الناس من خلال ملابسهم وقدرتهم على الحفاظ على
نظافتها من بركة الأوساخ التي يغوصون فيها وهو ما فشلوا فيه جميعا، وكأنهم
جنود
يتدربون على أقسى ظروف الحياة التي يمكن أن يمروا فيها، وهنا
يبدو أن لكل عابر
أسبابه الخاصة التي تختلف وتتوزع بين الديني والاجتماعي والصحي...الخ
هي حاجات
إنسانية بسيطة لكنها محرومة على الكثيرين في ظروف طبيعية فيكون اللجوء
للنفق حلا
ووسيلة أخيرة لفعل كان لا بد أن يتحقق.
فيديو ارت بروح
الوثائقي
يحتار مشاهد الفيلم في تصنيفه، فالمدون على بوستره يؤكد أنه
من فئة الفيديو أرت، فيما الفيلم يحمل الكثير من روح الوثائقي، فهو عبارة
عن رحلة
ترصد تفاصيل بشر يجتازون نفقا لمياه المجاري حيث يرصد كل
تفاصيلهم وهمهماتهم وقرفهم
وخوفهم.
الفيلم هو ثمرة تصوير استمر ساعات 6 قضاها المخرج في النفق يرصد حركة
مرور المواطنين بالعتمة والوحل المشبع بالرائحة الكريهة، وهو في فيلمه
يغرقنا
بالعتمة تماما كما فعل المواطنون فيه، إغراق يبدو من تسيد
اللون الأسود وعدم
استخدام الاضاءة إلا في أضيق نطاق اللهم إلا الاضاءة القادمة من مدخل النفق
ومخرجه.
ويمكن تقسيم تلك الرحلة كما قدمها الفيلم إلى ثلاثة أقسام رئيسية،
الأول
يظهر بدايات دخول النفق من المواطنين وعلى اختلاف فئاتهم.. يرينا شباب
وفتيات
وأطفال ونساء كبيرات..الخ لكنه قبل أن يفعل ذلك نعيش في أول 3 دقائق من
الفيلم حالة
من السواد حيث لا يرى المشاهد إلا خيالات بشر وأصوات خائفة وغير مفهومة،
كأنها
أشباح تمشي وتغوض في مياة ممر ضيق ومعتم.
في القسم الثاني نرى أرجل مجموعة من
الشابات والشباب على مدخل النفق يتحضرون لعملية المرور نفسيا
وماديا حيث المرور من
خلاله يتطلب لبس الأكياس البلاستيكية وتقوية المعنويات في ظل ما ينتظرهم من
فئران
كبيرة وصراصير ومياة صرف صحي ورائحة كريهة.
يلبسون بحماس يظهر في خلفيته الخوف
حيث نسمع شباب يقولون: "شو خايف"، "ما بدك تيجي" ليكون القرار
قرارا لا رجعة عنه،
ورغبة بالمضي في التجربة إلى أخرها.
في القسم الثالث من الفيلم نرى الوصول
ونهاية النفق حيث ضوء مشتهى يطل من فتحة صغيرة عبارة عن شق
مصدوع من بين أكوام
الصخور التي اغلق فيها النفق في أوقات سابقة.
هنا نرى العابرون في قمة اتساخهم
وتعبهم، لحظات ونراهم يضطرون للانحناء والحبو ليصلوا لفتحة
النفق لتلتقط كاميرا
المخرج الأيدي والأرجل المتعبة والمتسخة والواهنة والفرحة غير المكتملة
بالوصول.
نرى الشباب والفتيات يتسلقون بعد أن ينزعوا أكياس البلاستيك التي
التفت بها
ارجلهم ليكتشفوا أنها لم تكن مجدية كما تمنوا حيث المياة المتسخة طالت
أقدامهم.
لا يذهب بنا المخرج لأبعد من هذا النور القليل والشحيح، وهو كذلك لا
يضعنا بتفاصيل المكان أو لما هو أبعد من تلك الفتحة لكننا ندرك أنها عالم
أخر مختلف
لما قبل الجدار ولما قبل فتحة البداية ومع ذلك ندرك من بحر
الفيلم ذاته أن لا نهاية
للخوف حيث هناك رحلة العودة أيضا ومطاردات القوات الإسرائيلية الراجلة التي
دوما ما
تكون بانتظار المتسللين؟
الكاميرا التي جلست في النفق ساعات ست رصدت مئات
التفاصيل الصغيرة منها العتمة ذاتها التي سيطرت على خط الفيلم، عتمة تنتقل
للمشاهد
المنزعج ليتمنى ضوء لا يجود به الفيلم أسوة بالواقع ذاته الذي
يعيش الفلسطينيون
فيه، نسمع أصوات الناس تخبرنا تارة أن "العبارة/ النفق مسكر"، وتارة أخرى
تخبرنا "أن
لا حول ولا قوة إلا بالله"، فيما جملة ثالثة او عاشرة خائفة وهارعة لمكان
البداية تخبرنا أن "اجا الجيش.. الجيش مسكر العبارة"، كما
نستمع لأصوات خوف أنثوي
"يما.. يما.."...الخ
نرى ونسمع في مشاهد سوداء أصوات الأيادي التي تربط الأكياس
البلاستيكية على الأرجل الخائفة، اصوات الأقدام تغوص في المياة
السوداء، زحلقات
الأرجل وانزلاقاتها على حجارة النفق اللزجة، الأنفاس الحارة واللاهثة،
الخوف من
الفئران الكبيرة، وتلك السيدة العجور التي تحول لون ثوبها من الأحمر للأسود.
نرى
تلك الفتاة المحجبة والخائفة التي تكاد أن تفقد توازنها فتسقط في بركة
الصرف لتبزغ
من الداخل صديقتها لتساعدها على المرور. نرى رجلا يحمل طفلا نائما على
كتفه. وعدسة
خالد في كل ذلك لا تطارد وجوه الناس، لا تتفرس ملامحهم بمقدار ما تحاول ان
تنقل لنا
ماذا يفعل النفق ومجاريه بهؤلاء البشر، نرى كم يجعل ذلك النفق
الصغير نسبيا من
هؤلاء البشر الراغبين بقضاء حوائجهم مضطرين للعذاب الذي نراه ونتمنى أن لا
نصدقه.
مساحة
من عالم سفلي
لا يعتبر فيلم خالد فيلما متقنا فنيا، لكن مكمن عبقريته
وقوته التي جعلته يشارك في الكثير من المهرجانات الدولية هو أنه يرصد مساحة
لم
نرها، أو لا نريد أن نراها، أو لم نجربها ولن نجربها أيضا،
تعكس حالة غريبة، طارئة
مقززة، لبعض معاناة البشر التي يتكبدونها ذهابا وايابا لتحقيق غاياتهم من
دون ان
يحالفهم حظ العبور في أحيان كثيرة.
مؤكد أن تيمة الحاجز وصعوبة وصول الفلسطيني
إلى القدس أو المدن الأخرى بفعل الحواجز والاجراءات
الاسرائيلية يعتبر موضوعا أثيرا
في السينما الوثائقية الفلسطينية لكن ما قدمه خالد جرار هو الأكثر وجعا
وبؤسا وهو
إدانة للإسرائيلي الذي يدفع بهؤلاء البشر إلى الحط من إنسانيتهم في سبيل
تحقيق حاجة
وتطبيق حق إنساني، وخالد دون أن يقول كلمة واحدة في الفيلم
يؤسس لذلك، ويدفعنا
للتفكير بأنفسنا وبما أصبحنا عليه من بؤس وفقدان كرامة وإنسانية والسبب
الوحيد هو
الاحتلال ذاته، الذي لم يظهر بالصورة أبدا.
أن هذا الفيلم هو غوص في عالم سفلي
يضطر الفلسطيني إلى تجربته والعيش في ضوء احتمالاته وجعله من
مكونات حياته وهو
يقينا ما لم يظه بأعمال سينمائية فلسطينية...
وكأن المخرج يقول بالصورة المعتمة:
نفق.. نفق.. نفق هي حياة الفلسطيني، هذه المرة جاء نفقا لمياة الصرف
الصحي.. فهل
هنالك أكثر بؤسا مما يخبرنا به الفيلم؟ ربما لا.. وربما نعم.. فالواقع أكثر
ثراء من
خيالنا البسيط.
هنا علينا أن نقول أنه سبق لجرار ان قدم للجمهور صورا فوتوغرافية
عن محاولات عبور هذا النفق من خلال معرضه المصور "عبور" الذي جاء بمثابة
قصة مصورة
فوتوغرافيا التقطها أثناء مرافقته لسبع سيدات فلسطينيات في عبور ذات النفق
باتجاه
القدس، ونجاح ذلك المعرض واختلافه دفعه إلى فعل توثيقي جاء على شكل "الرحلة
110"
بكل ما تحمله من تقزز وبؤس ومرار.
الجزيرة الوثائقية في
31/08/2010 |