الدورة التاسعة لمهرجان الفيلم اللبناني التي انتهت قبل أيام قليلة، تكشف الوجه الجديد للفيلم اللبناني، مثلما تبيّن تضاريسه، نزواته، أمراضه، آماله واحباطاته المزمنة. من خلال مجموعة من 41 فيلماً تسابقت على الجوائز الثلاث الممنوحة من عرّاب المهرجان (مصرف لبناني)، نستشفّ المآل الذي سيؤول اليه الفيلم اللبناني في السنوات القليلة المقبلة، وما هي الاحتمالات المطروحة أمامه، حين يصبح كل شيء، ذات مستقبل قريب، في ذمة هذا الجيل الصاعد الذي يبدو ان السينما بالنسبة اليه مسألة مونتاج، في حين كان أسلافه يؤمنون انها تأليف وتصوير، وطبعاً (وكيف لا؟) مونتاج أيضاً. مناسبة جيدة اذاً هذا اللقاء، اقله لأنه سمح لكل من يسعى الى الاهتمام بهذا الفنّ، باستدراك التطور الحاصل في صناعة لم تحظ محلياً بفرصة واحدة قطّ تتيح لها التحليق، على رغم تأكيد الدورة، وقبلها دورات أخرى من مهرجانات مختلفة تعنى بالسينما المحلية، وجود أكثر من مشروع سينمائي قيد الولادة بين لحظة وأخرى، لو اتيحت لها ظروف الخلق الكاملة والشاملة. وهو أخيراً مناسبة جيدة للنظر عن كثب في جيل يسعى الى امتلاك أدواته الخاصة، وغالباً ما نراه ينقب في التراث السينمائي العالمي لاستخراج الأفكار، لسرقة التيمات، لالتقاط نبض مشهد، لتقليد هذا ولمحاكاة ذاك، وهذا كله مع رغبة دائمة في اعادة خلق السينما من جديد، وهو من حقّ كل جيل يريد التمايز وفرض نفسه.

واحد وأربعون فيلماً كانت كافية لنعيد النظر في بعض الاقتناعات التي تراكمت في أذهاننا جراء المشاهدات المشتتة للسينما اللبنانية، بإيقاع فيلم أو اثنين كل بضعة شهر؛ بجرعات قليلة غير قاتلة للخلق. هنا، تُطرح اللوحة كاملة. جهد سنة أو أكثر ينتصب أمام البصيرة، ململم، منقّح، مدوزن. ولا يمكن الافلات من بعض المعطيات التي ينبغي لها أن تكون مجال الدراسة الاوسع للنهوض بالحلم المؤجل للسينما اللبنانية: هل نحن في حاجة الى سينما تستقي أدوات التعبير الخاصة بها من التلفزيون؟ هل يكفي تصوير الواقع البليد أم ينبغي الارتفاع به للوصول الى مرتبة الفنّ؟ أين وصل مشروع بناء الذاكرة الجماعية من خلال الصورة؟ ما علاقة الجيل الأخير من السينمائيين اللبنانيين بكل هذه المعضلات، بكل ما اصاب ولا يزال يصيب البلد منذ 13 نيسان 1975 الى اليوم، علماً ان الحرب الأهلية وآثارها لا تزال مدار بحث الكثيرين، سواء أكانت علاقتهم بها حسية أم رمزية أم اختبارية أم مصلحية أم حقيقية. أين يلتقي الجيلان الأخيران وأين ينفصلان؟ هذه التساؤلات جميعها، التي ربما تأخرنا في طرحها، تضاف الى الهمّ الأكبر الذي يتم تجاهله على الدوام: أي سينما يمكن صنعها في ظلّ نظام متخلف؟ السينما في البلدان النامية (أو النائمة، لا فرق) فساد بفساد ووهم بوهم. المشاريع الجدية التي لطالما كانت قائمة على المبادرات الفردية، لا تلك التي تسوّق لإيديولوجيات مشبوهة، نادرة حتى في بلدان تطرح أرقاماً عالية في صناعة الفيلم. فما السبيل الى التخلصّ من أذهان مبرمجة على رفض الآخر، ونعني هنا المشاهد اللبناني الذي لا أزال أؤمن بأنه الآمر الناهي في مجال تشريع الرقابة أو الغائها. كل الرقابات، السلطوية والرأسمالية والدينية، تسقط أمام رقابة الجمهور. حتى ذلك الجمهور الذي من المفترض انه يمتلك وعياً كافياً وتأهيلاً ثقافياً لتقبّل العري والالحاد، وكل ما يندرج على لائحة الأخلاق الحميدة، نبذ أحد الأفلام التجريبية المعروضة في المهرجان وعبّر عن سخطه بصيحات استهجان وصلت اصداؤها المدوية الى صاحب الفيلم، الذي شاءت المصادفة أن يكون من الذين يسلّيهم التعرض لمواقف مشابهة.

على رغم كل شيء، تبقى هذه الدورة تأسيسية. لأنها تؤكد أكثر من أي دورة أخرى أن السينما في لبنان ممكنة، وأن الاعتماد على الخارج في ما يخص الانتاج ليس جريمة او انتقاصاً، ولا ضير اذا لم يرتبط هذا كله بالمصير الجماعي وبصندوق الدعم والخطة العامة لثقافة البلاد المتجهة نحو جعل السياحة الثقافة الأساس والباقي توابع. يكفي النظر الى أي مفهوم تروّج الدولة في اعلاناتها التلفزيونية عن السياحة. فـ31 فيلماً من أصل 41 هي الخطوات الاولى لمخرجيها خلف الكاميرا، ومعظمهم في طبيعة الحال من متخرجي معاهد السمعي - البصري، مستواهم يتفاوت بين الجيدّ والممتاز وما بينهما. أكثر من ثلث الأفلام المعروضة أعمال معقولة على المستويين التقني والفكري، على رغم طغيان الهمّ التقني دائماً على سواه من الهموم. معظم الهنات هي نفسها تتكرر في القسم الأعظم من الأفلام: تقليل من شأن ادارة الممثل (ليس اللوم على المخرج وحده)، إقحام سوقي لمؤثرات بصرية وصوتية، علاقة غير واضحة بالموضوع المعالج، إهمال جوانب متعلقة بالسيناريو، حوارات غير مبكلة، دسّ ممل لمشاهد اختبارية مأخوذة بكاميرات غير تلك التي صُوِّر فيها الفيلم. هذا غيض من فيض، وهناك الكثير من الهنات تعتري نصّ المخرج اللبناني الشاب، الذي يريد أن ينجز فيلمه كما لو أنه آخر فيلم له، أو كما لو تحققت فعلاً مزحة أحد الافلام المشاركة في المهرجان، الذي يروي ما يحصل في لبنان عند اعلان خبر عن كوكب يأتي من بعيد ويصطدم بكوكب الأرض فتنتهي البشرية.

اذاً، الكثير من هذه الاعمال تحمل "الخطية الأصلية"، لكنها تشكل نواة طيبة يصلح الشغل عليها في مطلق الأحوال. فالطموح أساس كل واحد من الأفلام الـ13 التي نعتبر انها تستحق كلمة فيلم. لنبدأ بقسم التحريك (يتضمن أربعة أفلام) وهو من أصعب الأنواع السينمائية على الاطلاق. تنفق هوليوود الملايين على أفلام مماثلة تكسح الأسواق العالمية. في Le temps d’un soupir يصوّر باتريك صفير لقاء غير اعتيادي على سطح أحد المباني. من هذا السطح سيقفز عاشقان في الفراغ، قبل ان يندما في منتصف طريقهما الى الأسفل. تولى صفير انجاز مراحل الفيلم كافة، من سيناريو الى تصوير ومونتاج فإخراج. لكن هذا الفيلم الفرنكوفوني هش تقنياً، ورسومه غير معبّرة عن حال الشخصيتين، ومجمل العمل فيه شيء من الافتعال. بكلمتين: تنقصه الجرأة. في المقابل، ثمة فيلم تحريك آخر اسمه "ديروت" لكلويه مازلو التي ولدت في فرنسا عام 1983 والتحقت بكلية الفنّ الزخرفي في ستراسبور. فيلمها يدل على كمّ من الخيال والطرافة والخلق وحس النكتة، وهو قبل أي شيء آخر، عمل شخصاني أساسه ذات المخرجه وعلاقتها بحرب لم تعشها، اذ هاجر والداها الأراضي اللبنانية عند اول طلقة رصاص، فولدت الطفلة في ارض النفي حيث عاشت وتعلمت الرسم، وسمعت عن الحرب التي جعلت والديها يستقران في فرنسا. في تموز 2006، وأثناء العدوان الاسرائيلي على لبنان، تستعد كلويه للقيام برحلة مماثلة لتلك التي قام بها والداها قبل 30 عاماً، لكن في الاتجاه المعاكس. بدايةً نلحظ عند كلويه ميلاً الى اعتبار الحياة كناية عن عناوين ومحطات وتواريخ والقليل جداً من الكلام. أي كلام هي في حاجة اليه، ما دامت كل الكلمات لا تعبّر عما تريه في فيلمها برسوم (مشهد ذوبان صور كوفي آنان وجورج بوش وجاك شيراك أمام الشموع) تذكّر، في ترابطها وميلها الى تخريب عقل المشاهد، بنفس غودار.

مستويات متفاوتة

في القسم الوثائقي، عُرضت عشرة افلام. "تجريب من غرفة" لرنا سالم و"عودة الى الجذور" لسامر غريب (حيث، خلال بحثه عن جذوره، يُسأل المخرج أكثر مما يسأل) غير موحيين بكلام نقدي، نظراً الى الخيارات الفنية التبسيطية، وطغيان الاسلوب الريبورتاجي عليهما. أما الجزءان من "كلام حبّ" اللذان أخرجتهما سيرين فتوح، فليسا أكثر من بطاقة تعريف مصورة لرجلين يمارسان رياضة رفع الاثقال أمام كاميرا المخرجة الخبيثة. لا شيء سوى كلام مقطع لهما أثناء ممارسة تلك الرياضة: واحد يتباهى بجماله وآخر يتحدث عن اعجابه بفيلم "العراب". لا تعليق مهماً ايضاً على فيلمي رين متري ("هش") وأولغا نقاش "أمي، لبنان وأنا"، اذ لا يفعلان سوى ركوب موجة مجموعة أفلام تستدر العواطف والشفقة، ولا يهمّ كيف ولماذا! أما "حجارة صغيرة" فهو الفيلم الذي يتيح لتمارا ستيبانيان الفرصة لتصوير أسرّة غير مرتبة ووجوه اربع نساء تسعى الكاميرا الى التقاط شيء من حكاياتهن في بلاد المهجر، الدانمارك، أو شيء من الحنين الى أرض الأجداد. من تلك البلاد، لا تقول ستيبانيان شيئاً، ولا ترينا الا مساحات فارغة مغطاة بالثلج، فيما التعليق الصوتي يروي شذرات من طفولتها. لا تقيم ستيبانيان وزناً لخلفية الصورة التي تلتقطها، بل تكتفي بتصوير قدمي فتاة اعتقاداً منها ان الصوت والرائحة يصلان على هذا النحو. ادعاء كثير في هذا الفيلم الذي يؤكد أنه لا يزال أمام المخرجة طريق طويلة لبلوغ السينما الحقيقية.

يبقى قسم الأفلام الروائية، وهو القسم الأساس في مهرجان الفيلم اللبناني: 19 فيلماً تعبّر عما يدور في رؤوس مخرجيها، ماضياً وحاضراً وربما مستقبلاً. المستويات متفاوتة، لكن حتى أكثر الأفلام هشاشة، يدل على حيوية معينة. لا تتضمن اللائحة أي فيلم لا يصلح عرضه، كما هي الحال في قسمي الوثائقي والتجريبي. لنبدأ من الأسوأ، من الفيلمين الهزليين "يا محلا النووي" لغابي زرازير و"10 دقائق بيروتية" لأشرف مطاوع. فهذان العملان يمتلكان أفكاراً ذكية، لكن من النوع الذي لا يُنجز صحبة الأصدقاء والعائلة والجيران. فيلم زرازير مستلّ من الواقع اللبناني، وفي ابشع زاوية ممكنة منه: التناحر الحاصل بين الناس جراء مواقف عبثية تنم عن ثقافة عدائية لا يجد زرازير مجالاً للتنقيب في أسرارها. من منا لم يكن شاهداً ذات يوم أو آخر على شخصين يتخاصمان في الشارع حول أفضلية المرور. هذا الموضوع اللبناني مئة في المئة، يصبح عند زرازير مادة للشماتة، اذ يقرر المتخاصمان على افضلية المرور، البقاء لمدة 20 عاماً على "أرض المعركة"، ولا يتنازلان عن موقفهما بجعل سيارة الآخر تمر. شخصيات سوقية، حوارات تافهة، حركة كاميرا مرتجلة، هذا كله يمنع زرازير من الارتفاع بالواقع، فيبقى على قدم المساواة مع الشيء الذي يسخر منه. مادة أولية كان يمكن إيلي خليفة أن يحوّلها جوهرة صغيرة، لكن ما يفعله زرازير هو جعلها مسخرة. بيد ان هذا الفيلم يحمل العارض الأكثر وضوحاً في جسد الفيلم اللبناني، وهو رعونة التنفيذ. القاعدة الاولى في السينما هي أن نصدقّ ما نراه. على هذا المنوال يسير ايضاً فيلم أشرف مطاوع، "10 دقائق بيروتية". رعب في شوارع بيروت بعد وصول خبر مفاده أن علماء روسيين واميركيين تمكنوا من اكتشاف كوكب بحجم المشتري يقترب من الأرض بسرعة هائلة وسيصطدم بها مؤدياً الى زوال البشرية بعد عشر دقائق. ينطلق الفيلم من هذه الفكرة البديعة ليراقب سلوكيات الناس، لكن يفعلها بخفة كبيرة، تترجم بكل عناصر الفيلم، من حركة الكاميرا الى الاداء المصطنع لجميع من يظهرون على الشاشة. هذا النمط الأرعن في صناعة السينما يدل على الفكرة المتدنية التي لدى بعض الأشخاص عن السينما، وهذا ليس ظاهرة لبنانية بل عربية. هذان نموذجان عن أفلام تعاني انفصالا كبيرا بين فكرة خلاّقة وطريق انجاز متواضع. في المقابل، نجد عكس ذلك: أفلام تبرع تقنياً وتسقط فكرياً لهزالة المادة المقترحة.

عن عشق السينما

هناك ايضاً البين بين الذي يتمثل في فيلم مثل "العمود الخامس"، لفاتشيه بولغورجيان (نال الجائزة الاولى في المهرجان) الذي يصوّر صراع صبي مع محيطه متعقباً اياه في شوارع منطقة برج حمود. يعاني الصبي من عزلة اجتماعية جراء فقدان والدته وصرف والده من وظيفته. تدفعه هذه المعاناة الى الهرب من البيت بعد أن يسرق مسدس والده، خشية ان يستخدمه في الانتحار. يتسكع في الشوارع حيث يلتقي مجموعة شخصيات مستقاة من واقع البيئة الأرمنية، شخصيات ثانوية تمنح الفيلم جزءاً من معناه السوداوي. من جهة أخرى، يبدأ والده البحث عن ابنه فيقابل مجموعة شخصيات رمزية، الى أن يجده، في نهاية تلك الرحلة التلقينية، في مشهد على الشاطئ، وتُختتم القصة على نوتة سوداء حزينة. مشهد اللجوء الى الشاطئ بات حلاً كلاسيكياً يجسد العودة الى الطهارة و"غسل" الخطايا. نحن هنا أمام فيلم يجمع قليلاً من أشياء كثيرة وجيدة على أكثر من صعيد.

هناك ايضاً فيلم روي خليل "كل العصافير بتصوفر" عن رجل عجوز (الراحل كمال الحلو) وزوجته التي تكتشف ذات يوم كم الحياة يمكن ان تكون حلوة عند الاستماع الى زقزقة العصافير. أما الطالبة رينه العويط فتتماهى في "بين الآخرين" بمراهق سينيفيلي منعزل عن محيطه ويعيش بالاستعانة من خلال المشاهدة النهمة. تعمل رينه بصدق كبير مع قصتها لتقول ان لا أحد يفهم عاشق السينما في بلد مثل لبنان. لذا، تهرّب بطلها الى حيث عالم مواز يتحول خلالها الى شخصيات قبل ان يعود ويقع من عليائه. الفيلم برمته مشيّد على أساس الذهاب والاياب بين الواقع والمتخيل. التحية الى فرنسوا تروفو واضحة من خلال مشهد الافتتاحية. ولا عجب أن نرى المخرجة تكرر مقوله المخرج الكبير: من يحبّ الحياة يذهب الى السينما. لكن الحياة، كما ترينا اياها في الفيلم، لا توازي السينما...

هذه الطفرة التي تشهدها السينما اللبنانية الشابة، والتي في معظمها تجارب لا تتخطى اطار المشاهدين الفضوليين والزملاء والعائلة، قد لا تعني شيئاً الآن. لكن هي البذرة التي تجعل الشجرة تنبت. وما الاقبال الواسع الذي شهده مهرجان الفيلم اللبناني، بحيث أدى ضيق الصالة أحياناً الى أن يفترش أعداد كبيرة من المشاهدين الأرض، الا اشارة تأتينا من بعيد لإنقاذ ما يمكن انقاذه، لاستعادة الأمل بالسينما اللبنانية، صناعة ومشاهدة. السينما اللبنانية الشابة تعد، لكن... متى تفي؟

حدث

عليوان ولبكي وعربيد يستعدون للتصوير وحجيج وسلهب وأبي سمرا للعرض

خــــريــــــفٌ حـــــــــــــار!

بعد عام فاتر، يعود النشاط الى الوسط السينمائي اللبناني في الأشهر الثلاثة المقبلة مع مباشرة عدد من المخرجين تصوير نصوصهم فور انتهاء التحضيرات المتعلقة بالتمويل وتجميل السيناريو. هناك المخرج فؤاد عليوان الذي سينجز، في نهاية هذه السنة، فيلمه الأول "عصفوري - الورطة/ الخيانة/ الانفصام"، بعد مجموعة أفلام قصيرة، منها "الى اللقاء" و"هوا بيروت". يقول عليوان ان اسلوبه في باكورته سيكون مزيجاً من العبثية والطرافة، وهو اسلوب قريب مما انجزه في اعماله السابقة. معظم حوادث الفيلم تدور في احد مباني بيروت القديمة، وسيبدأ عليوان في اختيار ممثليه في مطلع الشهر المقبل. يروي المخرج تفاصيل فيلمه على النحو الآتي: "في بيروت سبعينات القرن الماضي، يجتمع سكان بناية قديمة، من اجل التداول في اعادة دهن البناية وتجديدها، فتختلف آراؤهم واطوارهم حول لون الدهان، ويتعثر المشروع بفعل بداية الحرب الاهلية. كريم الطفل والمراهق والشاب يعيش تناقضات الحرب الأهلية وتناقضات البناية، التي تتغير الوانها ويتبدل معظم سكانها. في التسعينات، يعود كريم الشاب من اميركا بعدما أصبح مصوراً فوتوغرافياً. يعود الى بيروت بعد الحرب، وتستعيد المدينة والبناية وسكانها الأنفاس، ويقرر السكان الجدد في البناية ومن تبقّى من سكانها الاصليين، اعادة ترميمها ودهنها من اجل الحفاظ عليها. ينقسم سكان البناية مجدداً حول تقرير مسيرها، بعد ان تتدخل شركة تجارية عقارية، فتعرض على البناية مشروع تعمير "برج الاحلام" مكانها، فتعيش البناية تناقضات المرحلة وينخرط كريم في الدفاع عن البناية والتصدي لمحاولات الانقضاض عليها. خلال ذلك يتورط الشاب في علاقة غرامية مع مايا العائدة من كندا، ويعيشان قصة حب شائكة بفعل ما يدور من حوادث تعوق تواصلهما".

تحضّر نادين لبكي جديدها في سرية تامة، على ان ينطلق التصوير في 17 من تشرين الأول. تتولى الانتاج آن دومينيك توسان، التي سبق لها أن أنتجت "سكّر بنات". هناك طرفان آخران مشاركان في الانتاج: شركة انتاج جينجر، وآي آر تي. أما السيناريو، فيتشارك فيه ثلاثة، لبكي ورودني حداد وجهاد حجيلي، وهم الثلاثة الذين سبق أن كتبوا "سكّر بنات"، علماً ان الكاستينغ سيبدأ قريباً. هناك، أخيراً، المخرجة المقيمة في باريس دانيال عربيد، التي ستأتي قريباً الى بيروت لتهيئ تصوير فيلمها الروائي الطويل الثالث، على أن تبدأ عملية التقاط المشاهد بين التشرينين المقبلين.

من جملة الأفلام التي صوِّرت ولم تعرض بعد، هناك الفيلم الجديد لجان كلود قدسي، صاحب "آن الآوان"، الذي يعود الى الاخراج بعد غياب طويل، علماً ان الفيلم لا يزال في مراحل انجازه النهائية. هذه أيضاً حال بهيج حجيج الذي لم يتبقّ أمامه الا عملية تصحيح الألوان وميكساج الصوت كي ينهي فيلمه الروائي الطويل الثاني الذي عنونه "شتّي يا دني"، وهو يستعيد فيه تيمة فيلمه الوثائقي "مخطوفون"، لكن بصيغة خيالية. ومن المرجح أن يكون العرض العالمي الأول للفيلم في مهرجان أبو ظبي الذي موّل عمليات الانجاز النهائية. الفيلم من تمثيل جوليا بطرس وكارمن لبّس. في المقابل، ثمة أفلام اقترب موعد عرضها كثيراً: "شيوعيين كنا" لماهر أبي سمرا، الذي اختاره مهرجان البندقية لعرضه في قسم "آفاق"، وهو انتاج لبناني فرنسي اماراتي، سبق أن عُرضت منه أجزاء في الدورة الماضية من مهرجان ابو ظبي. يقول الملخص التعريفي ان الفيلم تأمل في الارث الذي تركته الحرب الاهلية، من خلال اربعة رجال يحكون قصصهم وخيباتهم في ظل الأزمات المتراكمة على حاضر البلاد. في حين لا تغيب الأسئلة المقلقة التي تتعلق بمستقبل وطن هشّ.

ويعود غسان سلهب برابع أفلامه الروائية الطويلة، "الجبل"، الذي صوّره في فيطرون، خارج مكانه المحبب، حيث اعتاد التصوير، علماً ان القصة تدور على رجل (فادي أبي سمرا) يزعم انه مسافر ويتوجه الى المطار، لكن ليستقل سيارة أجرة من هناك متجهاً الى الجبل. يقال ان الفيلم صوِّر استناداً الى سيناريو غير منجز تماماً وسيعرض في "أيام بيروت السينمائية" الشهر المقبل. هناك ايضاً فيلمان جاهزان، واحد لجو بو عيد عنوانه "تنورة ماكسي" وهو مشروع تخرجه من معهد السينما حوّله فيلماً طويلاً، والآخر انجزه جورج هاشم باسم "رصاصة طائشة"، من تمثيل تقلا شمعون ونادين لبكي. الى ذلك، هناك فيلمان يشقان طريقهما الى الصالات في أيلول، بعد انقضاء فترة على انجازهما وعرضهما في الخارج، وهما "12 لبناني غاضب" لزينة دكاش و"كل يوم عيد" لديما الحر، مع التذكير بأن آخر الأعمال الوثائقية للمخرجة القديرة جوسلين صعب، "شو عم بيصير؟" لم يجد الى الآن موزعاً محلياً له ليشاهده الجمهور اللبناني. أياً يكن، هذه المشاريع كلها دليل على ان الخريف سيكون حاراً بالنسبة الى السينما اللبنانية.

( hauvick.habechian@annahar.com.lb)

مقابلة

"المطحنة" لرامي قديح

العنف دائماً وأبداً

"المطحنة" ثاني فيلم يخرجه الشاب رامي قديح، وهو نال الجائزة المالية الثانية لأفضل فيلم في مهرجان الفيلم اللبناني. بعد فيلم التخرج الذي انجزه قبل ثلاثة أعوام، "وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح"، أنجز قديح فيلمه الأول كمحترف، بإمكانات محدودة، لكن لم يهمل أياً من جوانب العمل السينمائي، وهو يتسلل في جديده الى حميمية شاب يمضي عطلة مع رفيق له في منطقة نائية بالقرب من مطحنة مهجورة. لكن الحوادث، التي يرويها المخرج مستعيناً بفيض من المؤثرات البصرية والسمعية، سرعان ما تأخذ منعطفاً لا يتوقعه أحد.

الدافع الاساسي خلف انجازه هذا الفيلم كانت كاميرا الـ"ريد وان" التي كانت وصلت الى لبنان حديثاً ولم تستخدم الا في تصوير الدعايات والكليبات. فقرر مع صديق خوض تجربة تصوير فيلم بهذه الكاميرا. بالاضافة الى أنه كان يرغب منذ زمن بعيد انجاز فيلم بموازنة ضئيلة، علماً ان نصين سينمائيين كانا في حوزته لكنهما يتطلبان موازنة كبيرة. لا أحد كان يعرف استعمال الكاميرا سوى مدير تصوير كان "حرتق" عليها بعض الشيء. كتب قديح السيناريو في شهرين ونصف شهر تقريباً، ثم كان التصوير. حصلت معه "مشكلات اجتماعية" ذات طابع شخصي، لا يريد الافصاح عنها، وهذا ما عكر صفو علاقته بالفيلم وضغط عليه. "تخطيناها"، يقول اليوم. "الأهم، هو النتيجة".

واجه بعد التصوير مشكلات تقنية، من مثل صعوبة منتجة الفيلم على الحاسوب المحمول، اذ كان يتطلب الأمر معدات أكبر لم تكن متوافرة. كلف الفيلم 15 ألف دولار من ماله الخاص ومال أهله. لم يكن سهلاً تدبير هذا المبلغ. وكان عليه أن يعمل في اخراج دعايات للمصرف اللبناني الفرنسي، وأشياء أخرى لجني المال. يقول انها المرة الاولى يخوض فيها تجربة تركت في نفسه نوعاً من تروما، موضحاً ان فيلمه السابق كان اسلوبه جذاباً ويرضي الجميع في حين أن جديده اكثر نضجاً. هنا المسؤولية أكبر. "في "شهرزاد..." كان لي رب عمل هو الجامعة. هنا أنا كنت رب العمل".

أثناء كتابة السيناريو لم يرد قديح توضيح بعد الجوانب في القصة. لكن كثراً من المشاهدين اعتبروا ان البطل متأثر بالآعيب الفيديو العنيفة جداً. لكن، هو ينظر الى الشخصية من زاوية مختلفة، ويعتقد ان ما يعتري شخصية علي هو عامل التجربة والمخاطرة، معتبراً ان الكبت الموجود لدى علي في حاجة الى اعتراف معين، وهذا الاعتراف لا يترجم الا بالعنف!

ليس من خلفية اجتماعية واضحة في الفيلم باستثناء بعض اشارات السير وأطراف الحديث. قديح يبدو متأثراً بالسينما أكثر من تأثره بالحياة. تارانتينو مرجع كبير بالنسبة اليه، لكنه لا يلتقي معه في نظرته الى العنف، كون عنف تارانتينو تهكمياً فيما عنفه أكثر جدية. أياً يكن، دخلت السينيفيلية حياة قديح بدءاً من عمر الثامنة عشرة. يتذكر أيام المدرسة، اذ كان معروفاً عنه المامه بالموسيقى، ويؤكد عدم وجود أي شخص في محيطه يتعاطى في مجال الصوت والصورة. هو اليوم يبلغ السابعة والعشرين من العمر، ويقول انه قبل بلوغه السن القانونية لم يكن شاهد قط أكثر من فيلم "المصارع" لريدلي سكوت. كل شيء بدأ في العام الجامعي الأول حيث اكتشف روائع السينما. ويعزو ثقافته السينمائية ايضاً الى العمل الذي تولاه في "فرجين" بصفته بائعاً في جناح الـ"دي في دي".

موضوع العنف الذي يتناقله من فيلمه الاول الى الثاني، واضح لا يحتمل نقاشاً. "في رأسي أنا عنيف، لكن من الخارج أنا شخص عاقل ومسالم. متأثر بما حولي. بيروت ليست مدينة عنيفة، بل مدينة Gore. نحن جيل نتيجة. ما مر به اسلافنا لا يقارن بأفلام تارانتينو. فهو أكثر عنفاً من كل ما رأيناه على الشاشة. النظام الذي نعيش فيه لا شك انه عائق كبير أمام تطور السينما وانشراحها، لكن ارى بيروت مصدر الهام لا يرقى اليه أحد. من الصعب أن تكون لنا صناعة سينمائية في لبنان. اذا قلت لمن حولي اريد أن انجز فيلماً يهزأون مني ويقولون الناس يموتون وانت تريد أن تنجز فيلما!".

هـ. ح. 

المستقبل اللبنانية في

26/08/2010