|
حين قرر المخرج سام بكنباه الانصياع لرغبة العديد من النقاد وتحقيق
فيلم بعيد عن العنف الذي كان سمة معظم أعماله السابقة، قام بإخراج فيلم
جيّد، لكنه بقي في مجال “الوسترن” نفسه الذي كان أنجز عبره “الزمرة
المتوحّشة” حيث بدأه وأنهاه بمعركتين بالغتي العنف و”بات غاريت وبيلي ذ
كيد”، لكنه تجنّب فيه تصوير رتل من الجثث وتخصيص القتل بلقطات مفصّلة
وتجسيد الموت بطيئاً وتحويل أعين المشاهدين إلى متابعين قلقين من تأثير ما
يشاهدونه أمامهم .
The Ballad of Cable Hogueالفيلم
كان “قصيدة كابل هوغ” وأخرجه سنة 1970 من بطولة جايسون روباردس الذي كان في
العمر المناسب (48 سنة) ليلعب دور رجل لاكته الأيام وتخلّى عنه الأصدقاء
وتركوه ليموت في الصحراء، وتبين أنهم تركوه في المكان الخطأ، إذ يقع على
بئر ماء في ذلك اللامكان ومنه يؤسس لنفسه عالماً صغيراً قوامه محطّة
للمركبات التي تقطع المسافات الطويلة وتريد أن ترتاح وتتزوّد بالماء .
الفيلم، بموضوع هو غريب حتى عن جيل السبعينات، من القرن الماضي فشل
تجارياً، ما جعل المخرج الراحل يقول: “طالبني الجميع بتحقيق فيلم غير عنيف
. وعندما فعلت، لم يقبل أحد عليه”. لا داعي للقول إنه (باستثناء فيلم واحد
لاحقاً) عاد إلى أفلام العنف التي كُني بها إلى اليوم .
هل كانت أفلام ذلك المخرج عنيفة بالفعل، خصوصاً إذا ما قورنت بأفلام
اليوم؟
وهل كان فيلمه “قصيدة كابل هوغ” خالياً من العنف فعلاً؟
الجواب عن السؤال الثاني أولاً: لا . رصد العنف الأكبر . عنف الحياة
على ذات شخص مهزوم، وهذا أصعب تحقيقاً (وأكثر تأثيراً) من أي عنف آخر . أما
فيما يتعلّق بالسؤال الأول، فيكفي أن نرى أفلام اليوم بما تحمله من رؤوس
طائرة وأنياب ظاهرة وكسر مرافق واجتثاث أعضاء وكل ذلك بكاميرا قريبة ورغبة
في جعل المشاهد غير الوجل يتابع بتلذذ حمّام الدم لدرجة التشبّع . هذا لم
يعد حكراً على أفلام الرعب فقط، فقد يحدث مثيل له في أفلام من أنواع مختلفة
. خذ مثلاً الفيلم الجديد للمخرج الذي استحق إعجاب العديدين لأعماله
السابقة ذات الطروحات المعادية للسياسات الغربية مايكل وينتربوتوم (“في هذا
العالم”، “الطريق إلى غواتانامو” . . .) .
في فيلمه الأخير “القاتل في داخلي” يقتبس قصّة وضعها المؤلف البوليسي
جيم تومسون سنة 1952 حول شريف بلدة غارق في الفساد حتى قمة رأسه: سادي
عنيف وكاذب مخادع، وقاتل شرس بلا أي رادع من أي نوع . لا يجد بطل الفيلم
(كما أداه كايسي أفلك) رادعاً يوقفه عند حدّه، بقدر ما لم يجد المخرج
وينتربوتوم رادعاً يوقفه عند حدّه في معالجة موضوع عنيف بعنف أعلى .
إنه من الخطأ الاعتقاد بأن الرواية المكتوبة حول عنف الأشخاص، بصرف
النظر عن موقعهم في الحياة، لا يمكن التعبير عنها إلا بقدر مماثل (على
الأقل) من العنف . والبرهان يأتي من الرواية المذكورة ذاتها، فهي عولجت
سينمائياً من قبل سنة 1976 حين حوّلها المخرج بيرت كندي إلى فيلم بوليسي من
بطولة ستايسي كيتش في الدور الذي يؤديه اليوم كايسي أفلك . ومن تتاح له
مشاهدة الفيلم اليوم سيشاهد عملاً لا يخفق في وصم بطله بالعنف والفساد،
إنما بعيداً عن استغلال الحالة لأجل إحداث الصدمة .
تصوير العنف كعنف هو مثل تصوير الضحك كتهريج والعاطفة كتداعيات شعورية
خالية من الحقيقة، ما يحول المادة الفيلمية إلى حالة استثارية رخيصة . في
الستينات، عندما تخلصت السينما الأمريكية من الامتثال لشيفرات المجتمع
المحافظ، حافظت في المقابل على الرغبة في إحداث توازن ما بين ما يمكن أن
يُعرض وما يمكن أن يوحي . ومع أن هناك عديداً من الأفلام التي لم تنجز هذا
التوازن تماماً، الا أن غالبيّتها قصدت الربط السياسي بين الوضع الذي يعرضه
والحرب القائمة في فيتنام، كما الحال في “الجندي الأزرق” لرالف نلسون و”رجل
صغير كبير” لآرثر بن: كلاهما “وسترن” يربط ما حدث للهنود الحمر بما كان
يحدث للفيتناميين .
سينما اليوم ما عادت حريصة على أي معادلات، وذلك تبعاً لانزلاق يشملها
ويشمل قاعدة عريضة من الجمهور الشاسع . معظم المنتجين حول العالم مستعد
للذهاب إلى أي حد إذا ما عرف أنه سيلقى نجاحاً جماهيرياً كبيراً . وأفلام
العنف (خصوصاً تلك الكامنة في سينما الرعب) مجال دائم للاختبار . قليل منه
ضروري لإيصال فكرة واقعية كانت أو ذات بعد مجازي (كما الحال في “إنقاذ
المجنّد رايان” الذي سعى فيه مخرجه ستيفن سبيلبرغ لتصوير عنف الحرب و”سبعة”
الذي سجّل فيه المخرج ديفيد فينشر موقفه من مجتمع قائم على العنف)، لكن
معظمها خال من الدواعي الحقّة مهما قيل إن مخرجيها مهمّون ومتميّزون كما
الحال مع فيلم الدنماركي لارس فون ترايير “ضد المسيح”، وفيلم الأمريكي زاك
سنايدر “300” .
عربيتان في "دوفيل" إخراجاً
وتمثيلاً
بدأت زحمة المهرجانات السينمائية والعديد منها يخبط بعضه بعضاً:
مهرجان فينيسيا الإيطالي ينطلق بينما مهرجان مونتريال لا يزال في عز عروضه،
وقبل أن ينتهي الأول يبدأ “تورنتو” دورته . وبعد المهرجان الإيطالي وقبل
الكندي يفتتح “دوفيل” الفرنسي أبوابه، وهكذا ستتوالى المهرجانات إما
متضاربة وإما بفواصل قليلة من الأيام، لا تتيح الفرصة لالتقاط الأنفاس .
مهرجان دوفيل يبدأ عروضه في الثالث من الشهر المقبل وينهيها في الثاني
عشر منه والاحتفال، كالعادة، بما يعتبره أفضل ما ستعرضه السينما الأمريكية
من أعمال . ولهذه الغاية حشد أربعة عشر فيلماً في قسم بعنوان “برميير” تشمل
بعض تلك الأفلام التي ستحاول، في الأشهر القليلة اللاحقة، البحث عن مكان
لها وسط ما هو مرشّح للجوائز السنوية كالأوسكار والغولدن غلوب وسواهما .
أحد أبرز الأفلام التي استحوذها “دوفيل” دون سواه فيلم مستقل لمخرجة
عربية الأصل أسمها زينة درّة يحمل عنواناً لافتاً هو: “الاستعماريون لا
يزالون أحياءً” وهو يدور حول عائلة عربية تعيش في نيويورك وحين تقع كارثة
الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر تجابه ردات الفعل السلبية والعدائية التي وجد
عرب كثر حينها أنفسهم يدورون في رحاها .
مخرجة أخرى تقدّم فيلمها، المستقل كذلك، هي فلوريا زيغيزموندي التي
تتحدّث في “الهاربات” عن عضوات فرقة موسيقية، بذلك الاسم صعدن درجات الشهرة
الأولى في السبعينات قبل أن ينزلقن في دروب المغامرات العشوائية . الممثلات
اللواتي يضطلعن بالبطولة هنا هن كرستين ستيوارت وداكوتا فانينغ و(العربية
الأصل أيضاً) علية شوكت .
وسواء أكان الأمر مصادفة أم لا، فإن نصيب الأفلام النسائية الإخراج
ملحوظ . وهذا فيلم ثالث لامرأة، ومن أصل روسي، هي ليسا شولودنكو، وعنوانه
“الأولاد بخير” .
يأتي الفيلم في وقت يصفّق فيه الليبراليون في الولايات المتحدة وسواها
لصدور قرارات قضائية تجيز الزواج المثلي . الفيلم يبدأ متعاطفاً ثم يرسم،
بعد ذلك، صورة ساخرة تكاد تكون مضادة . يدور حول امرأتين تعيشان معاً
ولديهما صبي وفتاة من لقاحين تبرّع بهما ذات مرّة رجل يملك الآن مطعماً .
بينما تبدأ المرأتان التفكير فيما يطغى على عالمهما من رتابة، يقرر الولدان
البحث عن والداهما (مارك روفالو) ويجدانه سريعاً ليخطو الفيلم إلى حكاية
مهدورة حول كيف تشعر واحدة من المرأتين (جوليان مور) نحوه بحب جديد ما يغيظ
الأخرى (أنيت بانينغ) .
من غير المعروف كيف يستضيف المهرجان هذا الفيلم وكيف ضمّه إلى قسم
“برميير” وهو كان شهد عرضه العالمي الأول في مهرجان فرنسي آخر هو “كان” .
مهما يكن، فإن المهرجان يحتفي بإحدى بطلتي الفيلم وهي أنيت بانينغ، بعرض
مجموعة من أفلامها السابقة .
كذلك في المجموعة فيلم سبق عرضه في مهرجان برلين بعنوان “المخرج عبر
دكان الهدايا” وهو فيلم تسجيلي عن حياة فناني رسوم الجدران شهد إعجاباً في
غير محلّه حين عرض في المهرجان الألماني.
باقي الأفلام المعروضة تضم “اثنا عشر” للمخرج جوويل شوماكر بطولة
مجموعة من الممثلين الشباب من بينهم تشايس كروفورد وروري كولكين وكيرتس
جاكسون وزاو كرافيتز ويدور حول عالم الإدمان ومساوئه . موضوع جاد آخر نجده
في إطار “رجال الشركة” لجون وَلز مع كن كوستنر وبن أفلك وماريا بيلو وتومي
لي جونز وكريس كوبر ويدور حول مجموعة من الموظّفين في شركة اقتصادية كبيرة
يواجهون احتمالات خسارتهم العمل بسبب قرارها خفض نفقاتها وموظفيها .
وعلى مستوى ميلودرامي، ينحاز المخرج دون رووس في فيلمه الجديد “الحب
ومساع مستحيلة أخرى” إلى حكاية امرأة غير متزوّجة لكنها تبنّت صبياً تكتشف
صعوبة التواصل معه . في الأدوار الأولى نتالي بورتمن وليزا كودرو وتشارلي
تاهان .
علامات
الإنسان قبل الإخراج
كل يوم هناك مخرج سينمائي جديد ينضم إلى المجموعة الضخمة التي سبقته،
من أول يوم سينما وحتى اليوم السابق لهذا المخرج .
معظم المنضمّين إلى الركب آتون إليه حبّاً بالعمل في السينما . بعضهم
حبّاً في السينما ذاتها والفارق كبير للغاية . الأول هو رغبة في الحضور في
محيط تعبيري من ناحية، ومادّي من ناحية، يقطف المخرج ثماره بيدين مفتوحتين
إذا ما نجح، وهو في اللعبة لكي ينجح .
حب السينما هو حب الحياة وفنّها . إذا ما نظرت إلى المغيب في مساء يوم
لا يخلو من السحب لابد أن تلاحظ الفن في الخلق العظيم ذاته: السحب
المستطيلة التي تبدو كما لو رُسمت بفرشاة . والشمس التي تنزلق من السماء
صوب البحر . ولون السماء المتدرّج من الأزرق الفاتح إلى الغامق كلما نزلت
الشمس قليلاً، وألوان السحب نفسها وردية وبنفسجية . هذا، والمذكور هنا ليس
سوى نزر يسير من تكامل تشكيلي محسوب، يعلو عن كل ما يستطيع الإنسان أن
يفعله ويدعو الإنسان إلى أن يسعى، بقدراته المحدودة، إلى الاحتفاء به .
البعض يرسمه . البعض يضع شعراً حوله والبعض يصوّره .
المخرج الجيد الذي لديه ما يقدّمه هو حالة إنسانية في المصاف الأول .
ولأن لا أحد يولد مخرجاً، فهو إنسان في الأول والآخر . هو من الذين تميّزوا
عن سواهم بتأمّل الحياة وحبّها كما هي . بصرف النظر عما يحدث له من إخفاقات
أو إحباطات، وبصرف النظر عن كيف تعامله الحياة، فإنه سيحبّها وسيحاول فهمها
وحين يقرر أن يصبح مخرجاً سيضع في حسبانه نتاج ذلك الإدراك الذي اكتسبه من
تأمّلاته وقراءاته ومشاهداته ومعرفته .
المخرج ليس الوحيد الذي يحتاج إلى هذه المعرفة . كلّنا نحتاج إلى ذلك،
بصرف النظر عن مواقعنا في الحياة والحقول التي نعمل فيها، لكن إذ نتحدّث عن
المخرج، نبحث عن المخرج الذي يكوّن أفلامه من رؤاه الإنسانية قبل سواها .
من تلك التي تحمل جانبين لا يمكن فصلهما: هو مخرج لأنه فنيّاً يستطيع
ويستحق أن يكون، وهو مخرج لأن لديه ما يقوله في الحياة والإنسان والمجتمع
الذي ينتمي إليه .
السؤال الذي يطرحه كل يوم عدد كبير من الطامحين إلى دخول مجال الإخراج
هو: كيف أنتقل من الحلم إلى التنفيذ وأصبح مخرجاً؟ السؤال الذي يجب أن يسبق
ذلك هو: هل أنا جاهز لمثل هذه الخطوة؟ وكثير يعتقدون أنهم جاهزون، لأنهم
درسوا السينما في المعاهد، أو لأنهم اشتروا كاميرات وتعلّموا الشغل بها،
لكن الاستعداد هو أوسع من كل ذلك ويشمل التواصل الدائم مع شؤون الحياة وكيف
يمكن التعبير عنها بصياغات فنيّة، وليست أدبية أو إنشائية أو خطابية أو
مسرحية، أو أي شيء آخر عادة ما يلتصق بالعمل السينمائي مثل الحشائش الفطرية
. إنه لا يهم أي سينما تحب، أي أسلوب تتّبع، أي نوع من أشكال السينما تريد
أن تتخصص فيه . ما يهم هو ما سبق كلّه والإدراك أن الحياة اليوم تختلف عما
كانت عليه بالأمس، حين ساد مفهوم أن يتنازل المخرج أول الطريق ثم يختار ما
يريد فعلاً تحقيقه . هذا المفهوم كان خطأ حينها وهو خطأ أكبر اليوم، لأن
الحياة أقصر من أن يمارس المرء ما لا يريده، وهو غالباً سيستمر فيه
متنازلاً دائماً عن ذلك الحالم المبتسم الذي كان يوماً عليه .
م.ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
10/08/2010 |
