شيّد كريستوفر نولان سمعته على ثابتة أساسية قادته
من حضن المهرجانات الى شاشات العالم الرحب، فتحول في أقل من عشر سنين
واحداً من
المخرجين الذين توقّع لهم هوليوود شيكات على بياض. هذه الثابتة تقوم على
النظر الى
الوجود من أكثر الزوايا تعقيداً ووضع عقبة أمام كل حلّ، وسؤال جديد أمام كل
جواب
محتمل. استطاع نولان ان يحوّل مادة تأمل عصية على التحليل النهائي كانت الى
الأمس
القريب حكراً على النخبة السينيفيلية، موضوع نقاش تهتف له قلوب أبسط
البسطاء،
متسلحاً بموهبة ضخمة لا نملك الا ان نبقى مبهورين أمامها.
من سينما ألفرد
هيتشكوك المرتكزة على القلق والذهاب نحو
مجهول خطير، اقتبس نولان باكورته "تعقب".
بعدما عُرف بهامشيته ونزوعه الى الابتكار، دخل عوالم سينما لم تنل حصتها من
الاهتمام الجماهيري والنقدي، الا في مهرجانات كبيرة مثل تورونتو وروتردام.
افلامه
الثلاثة الاولى ("تعقب"؛ "ميمينتو"؛ "أرق" مع آل باتشينو) أعمال على قدر من
التميّز
اخراجاً وتأليفاً وتصويراً، عُرضت هنا
وهناك، وجعلت نولان يدفع ثمن ارتباطه المكشوف
بمجموعة انتاجات أثقلت على "جانر" يأتي في المقام الثاني، وهو السينما التي
انتجت
افلاماً كبيرة بانحيازها الفطري الى صغائر الأمور، تاركة
القضايا الانسانية الكبرى
لفن ارقى من المنظور الانتاجي والإجتماعي.
فمحدودية المسألة المطروحة، زماناً
ومكاناً وإمكانات، وغياب الاثارة
والانترتنمنت المطلوب في أفلام القوالب الجاهزة،
كذلك شحّ الموازنة، زادت ماهية نولان السينمائية غموضاً وإرباكاً: فيلم
حركة من دون
أبطال حقيقيين، لا مطاردة على احد الخطوط السريعة، ولا قصة انجذاب جنسي بين
نادلة
وبطل مدجج بالأسلحة: هذه مكونات الـ"ستاندار" الذي بهت مع كثرة ما دار على
نفسه.
حتى مرحلة معينة، كان نولان قد أدار ظهره لهذه الاشكاليات، ثم
خطر على باله دخول
المصنع الكبير، لإحداث ثورة من الداخل. وها
هو يثبت ان خطوته لم تكن ناقصة.
ليس "استهلال" الاّ تكريساً معلناً لهذا النمط الذي باشره مع "ميمينتو" عام
2000، مع
اصرار جديد، يتفاقم منذ "الفارس الأسود"،
على المؤثرات البصرية التي لا تحجب أي
احساس آدمي يمكن أن يعانق الحوادث. يصيب نولان حيث يطيش سهم كثيرين، من
خلال جعل
الديكورات الافتراضية تضحك للقلوب، والكلمات تأخذ مداها في وجدان المتلقي.
هذا كله،
وعلاقته بالواقع مشوشة، قسرية، ملتبسة، عقيمة، عضوية. لا يفعل نولان هنا
الا أخذنا
في جولة عبر المخاخ البشرية. لعبة دومينو أم تيه في دهاليز؟ ربما الاثنان
معاً.
حتماً الاثنان معاً. ذلك أن النتائج هنا غير مضمونة وغير متوقعة، وكل شرح
يأتي به
المُشاهد يعود ويسقط أمام شرح جديد، وهكذا دواليك حتى الختام، الى أن نصل
الى اللا
فهم واللا فيلم واللا شعور، من كثرة توافر القليل من كل شيء. هذه، في كل
حال، هي
النتيجة التي يرسو عليها هذا الفيلم ذو الموازنة التي بلغت 170 مليون
دولار. ونراهن
على ان هذا الضياع في دهاليز فيلم متوتر وقلق، هو ما كان يريده نولان منذ
الأول!
اذاً نحن حيال بلوكباستر أميركي من صنف خاص جداً. ولم يكن الترويج له
ممكناً
الا عبر اسناده بمرجع، وربطه بفيلم آخر كان له صدى في أذهان
الناس. لذلك بدأ يشاع
قبل اسابيع من بدء عرض الفيلم، أننا سنشاهد
نسخة أخرى من "ماتريكس". أياً تكن
السياسات التي استندت اليها الاستديوهات المنتجة للفيلم، للترويج، يبقى
أننا أمام
شريط لا مثيل له في بث خطيئة المتعة عند المتلقي الذي يوقّع منذ البدء بند
الدخول
الى الفيلم. وهو بند لا يحمل أي شرط. نادراً ما يكون فيلم عالي الموازنة
على هذا
القدر من التشعب. ويتحمل هذا الكمّ من القراءات المختلفة والشرح الذي يخرج
على طور
المنطق أحياناً، ليصطدم بالخيال العلمي الذي يشرعن كل شيء وأي شيء. وأيضاً:
نادراً
ما يقدَّم الينا شريط "جانر" (نوع) يتضمن هذا الكمّ من التنوع والاثارة
والانتقال
من جوّ مغلق الى جوّ فسيح، ومن توتر وقلق وتعبئة الى انشراح
وتفريغ. هذا كله تنبعث
منه روح الاصالة النقية، ليصبح تالياً من
الصعب أن ننكر حقيقة أن نولان سينيفيلي من
الطراز الأول، مشبعٌ بمشاهدات مكثفة، بعضها دخل مخيلته وبعضها الآخر استند
اليه
ربما بكامل وعيه. على كل حال، ينبغي الثناء على موهبة نولان، لأنه أنجز، من
بين ما
أنجزه، أفضل مشهد لحادث سيارة (تسقط في المياه) معروض بالإيقاع البطيء منذ
"أشياء
الحياة" لكلود سوتيه.
كل شيء في "استهلال" قابل للتحول في كل لحظة. الشخوص
والأفكار تتحرك في هذه الفوضى الذهنية الخلاّقة التي تثيرها عصابة متخصصة
في
التجسس، على رأسها دوم (ليوناردو دي كابريو) الذي يعاني أزمة نفسية مرتبطة
بزوجته
تنعكس سلباً على الفيلم وتأخذه الى حيث أفلامٌ قليلة من هذا الحجم تذهب
عادة. كل
لحظة هي لحظة جديدة تُقرأ وتعاش وتحتل مكانها بمعزل عن سابقاتها، وتدور على
نفسها
في دوائر حلزونية، من دون أن يكون هناك اي مَخرج، الا في حدود ما يسمح به
المُخرج
ــ الإله (نولان في هذه الحالة)، بين حين وآخر. ينقلنا نولان باستمرار من
الوعي الى
اللاوعي، من الحلم الى الحقيقة، من دون أن ينذرنا، لاغياً الفواصل بين
التضادات، في
لعبة تكاد تبدو من دون نهاية. والأهم انه يمنح مقاييس زمنية مختلفة لكلٍّ
من الواقع
والمتخيل.
من خلال مراقبته آليات الدفاع التي ستنتج جراء التجارب التي سيخوضها "سارق لاوعي الناس وأسرارهم" هذا، يدخل نولان في متاهات الميتافيزيقيا،
فينقل
شخصياته من ضفة الى أخرى. هؤلاء الذين
نراهم في بداية الفيلم يقومون بمهمة روتينية،
تجبرهم حوادث الفيلم شيئاً فشيئاً على اتخاذ مواقف أخلاقية، واضعة إياهم
أمام
معضلات لا تنفك تُحلّ واحدة منها حتى تظهر أخرى. في هذا كله، يتبدى جلياً
ميل نولان
الى شقلبة الأمور، مرةً أخرى بعد "ميمينتو"، الذي كانت تجري حوادثه في
المقلوب، أي
ان الفيلم كان يبدأ من نهاية الحكاية ويختتم في أولها. هذه
الشقلبة التي صارت عنده
نوعاً من فيتيشية، تتمثل هنا في أن البطل
في بداية الفيلم كان يسرق أفكار الآخرين
وأحلامهم، قبل أن يبدأ القيام بعكس ما كان يُطلب منه، أي زرع فكرة في مخّ
أحدهم،
وتحديداً في مخّ صاحب مؤسسة كبيرة، لأغراض ندعكم تكتشفونها (بعضهم يروي
الخواتيم
مفسداً عنصر المفاجأة). حتماً، من هنا وصعوداً، سيقحمنا نولان في سلسلة
مطاردات
بعضها ستصمد في الذاكرة طويلاً، لجمالياتها التشكيلية وابتكارها الذكي
وطليعيتها،
وبعضها الآخر تقتفي خطى جيمس بوند.
في المقابل، ثمة صياغة بصرية لبعض مشاهد
القتال والمواجهات، تدل على قدرات نولان الخارقة، كتلك التي تنعدم فيها
الجاذبية،
وفي هذا كله لا يهبط الايقاع الا عند ضرورات اعادة تموضع الحالة
الدراماتيكية. ينجز
نولان ما كان يحلم أن ينجزه كوبريك: فيلماً حافلاً بلحظات شاعرية حيث يبلغ
التشويق
فيها الذروة. هذا ليس الشيء الوحيد يتقاسمه مع مخرج "البرتقالة الآلية"،
فهناك
ايضاً الغموض الذي ولد مع الفيلم، وهو الغموض الذي رافق لسنوات
طويلة "2001، أوديسة
الفضاء". لا مشاهد ربط هنا، واذا وُجدت فهي
قليلة أو لا تقوم بوظيفتها المحددة.
مفهوم الزمن عند نولان متربط بشخصيات تفرض قواعدها الخاصة على القصة، ثم
على
الفيلم، ثم على المخرج. كل واحدة من تلك الشخصيات تملك "اقتناعاً" في ما
يختص
الزمن. هذا الاقتناع هو الذي سيجعل زوجة دوم، مخرّبة مهماته، تقفز في
الفراغ كي
تستعيد حياة أخرى تؤمن بوجودها. لكن هل يمكن خيانة زمن للذهاب الى احضان
زمن آخر؟
نولان يؤكد أن العبث بالزمن ممكن. هذا الخطاب المبتكر حول الزمن، الذي
انكبّ عليه
معظم السينمائيين الكبار منذ اختراع هذا الفنّ (ما السينما في الاصل إن لم
تكن فنّ
ابتكار الزمن؟) يجعل من فيلم كان يمكن أن ينزلق الى أماكن غير محببة، فتحاً
سينمائياً، ويحوّل مخرجه مفكراً وتشكيلياً ومستفزّاً لأسئلة كثيرة راهنة،
انطلاقاً
من فكرة التحكم، التي هي سيدة السينمائيين وعبدتهم منذ سحيق العهود. حتماً،
ما يخلص
اليه الفيلم هو سؤال سياسي وفلسفي ووجودي وسينمائي في آن واحد: ما الحقيقة؟
هل هي
موجودة فعلاً؟ أليس ما نخترعه حقيقياً أيضاً؟ الأرجح أن هذه الهواجس كلها،
الآتية
من صميم ثورة الرقمية والابعاد الثلاثة، ستظل ترافقنا لزمن طويل...
غياب
برنار جيرودو لم يسحقه عالم
الكبار
مــــــــــوت
بـــحّـــــــــــــــــــــــــار!
"عالمنا في سبات عميق، ليس ثمة تقدم
فعلي، اذا نظرنا في تاريخ الحضارة الاسلامية لرأينا ان لا شيء تحرك. منطق
العشائر
هو السائد". لم يكن برنار جيرودو، الذي خطفه مرض السرطان في 17 من الشهر
الماضي،
خبيراً في الشؤون السياسية، لكن ما كان يراه من حوله من تطرف سياسي وديني
من
الاطراف كافة، كان يثير اشمئزازه و"يدفعه الى التقيؤ"، على قوله. هذا
الممثل، نجم
الثمانينات، كان يعتبر ان ما نعيشه اليوم هو عصر البشاعة
والظلامية والجهل، وهذا ما
كان يدفعه دائماً الى السفر، مستعيداً من
خلال رحلاته الدائمة الأمل الذي كان يفقده
في اماكن اخرى. حين التقيته عام 2005 في بيروت، تحدثنا معاً في السينما
وايضاً في
ما يدور خارجها. آنذاك كان جاء الى معرض الكتاب الفرنسي لترويج أحدث
مؤلفاته، الذي
كان وجد صدى طيباً عند الرأي العام الفرنسي. امتد لقائي به الى أكثر من
ساعة تطرقنا
خلالها الى الحياة بصعابها وتحدياتها ولحظات التماهي مع السعادة، ومنها
قفزنا الى
مساره المهني الحافل بالنجاحات والاخفاقات وخيبات الأمل الكبرى. قبل أن
يغادر، قال
لي كمن يحمّل الآخر أمانة: "كفانا احقاد... نحن في حاجة الى القليل من
السلام".
نعرفه ممثلاً، لكن هو يعتبر نفسه حكواتياً. روى لي انه بدأ يخوض تجربة
الكتابة قبل العمل في السينما. لكنه لم يكن يدرك ان ما يفعله
هو فعل الكتابة. كان
ذلك مباشرةً بعد انضمامه الى القوات
البحرية في عمر الـ15، حيث بقي حتى بلوغه
العشرين. "كتبت لأني كنت وحيداً. السبب الآخر هو لأني كنت ارفض ان يسحقني
عالم
الكبار، كتبت من دون اكتراث بأهمية ما أكتبه. وتابعت الكتابة على هذه
الوتيرة
لاحقاً، مدوّناً ما يخطر على بالي من أفكار. منذ الصغر، كنت مهتما بالتعامل
مع
الكلمات والجمل، لعلني خُلقت كي أكتب، علماً انني لم اتلقّ أيّ نوع من
الدروس
يؤهلني للكتابة. قبل نحو 5 سنوات، توفى صديق لي كان مشلولاً، فأعيدت اليّ
الرسائل
التي كنت ابعثها اليه. شاءت المصادفة ان أتعرف الى ناشر اقترح عليّ جمع هذه
الرسائل. وأعدنا صوغ بعضها بعدما وجدت هندسة لكتاب لاقى استحساناً من
النقاد
والجمهور".
علاقته بالسفر والرحلات كانت متينة جداً. بدأ يسافر حين كان صغيراً.
من كثرة ما كان يشعر بالنقص والحاجة الى الرحلات والاسفار، بات "مدمناً"
ذلك. نتيجة
تنقلاته، اقترب من ثقافات اخرى وتعرف الى شعوب لم يكن يعلم بوجودها.
"يجتاحني فضول
التعرف الى الآخر، اميل الى ما هو روائي"، قال لي، قبل أن أسأله: "الا تخشى
ان
يخذلك اكتشافك للواقع؟". فكان ردّه سريعاً وحاسماً: "ليس هناك سبب ليخيب
املنا من
بلاد لم تبع روحها".
حين لم يكن يخرج فيلماً او لا يمثل في ادارة الآخرين، كانت
تتضاعف عنده الرغبة في تأليف القصص. أكثر ما كان يلفت في كتابه موضوع
اللقاء،
تناوله المرأة والحبّ وكل ما يتعلق بهما من منظور بحّار، ولعله كان يأخذ
البحّار
ذريعة كي يتكلم عن رجال هذا العالم. لم يكن من المستغرب ايضاً ان تراه
يتباهى بكونه
بحّاراً أكثر من تباهيه بصفة النجم التي حملها لسنوات على كتفيه كحمل ثقيل.
"أنا
رجل بحر، اذاً انا بحّار. احكي عن الحبّ والمرأة لأنهما الامران اللذان
يعيش الرجال
من اجلهما. لولا النساء للازم البحارة سفنهم. النساء اعطين البحارة الرغبة
في أن
يدوسوا بأقدامهم الارض. والارض تملك ما يكفي من الجمال كي نتعلق بها".
مثّل
جيرودو وكتب. لكن كيف تعلّم تقنيات التصوير
والاخراج لإنجاز ما انجزه من أفلام؟ كان
في السابعة والخمسين حين جرى هذا الحديث بيننا، واعترف لي، جواباً عن سؤالي
له ان
التعلم تطلب منه وقتاً "طويلاً طويلاً". حين كان في الـ 22، دقّ باب المسرح
فوجده
يشرع أبوابه أمامه، ثم حالفه الحظ ان تحتضنه السينما على النحو
الذي احتضنته وأخذته
الى حيث لم يكن يتوقع البتة. وبعدما اشترك
في أكثر من 30 فيلماً، كان قد تعلم أين
يضع كاميراته، يوم قرر الانتقال الى
الاخراج. شأنه شأن المساعدين السينمائيين،
الذين يتولون عملية الاخراج من كثرة ما يمضون من وقت على بلاتوهات التصوير.
من
دولون الى غابان، عاصر جيرودو كبار الفن
السابع، وشارك واياهم في بطولة بعض
كلاسيكيات السينما الفرنسية. لكن، حين نظرت
الى عينيه الزرقاوين، لم اجد ذلك
الـ"جون برومييه"، كأن المرض الذي كان بدأ
يتربص به منذ عام 2000، أكله لحماً ورماه
عظاماً، حتى بالمعنى السينمائي. فعبارة "كل شيء تغير" صارت عنده محطّ كلام،
شاكياً
من أن الـ"ستار سيستيم" في طريقه الى الزوال في فرنسا، "على رغم انه لا
يزال
موجوداً في الولايات المتحدة". لم يكن يقبل التطور الطبيعي
للأمور، كونه لم ينسجم
البتة مع احد مبادئ الموجة الجديدة الذي
قام على عدم تقديس الممثل. على رغم عدم
طعنه في السنّ كثيراً، كان يمنحك الانطباع
بأنك تجالس كلود ليفي ستراوس وهو يروي لك
كم ان العالم بات مكاناً لا يحلو فيه العيش. "في فرنسا لم يعد هناك نجوم
قادرون على
جذب المشاهدين لمجرد ان اسماءهم في اعلى الملصق. فيلم جديد لدانيال اوتوي
او جيرار
دوبارديو قد يُعرض في الصالات ولا احد يكترث به. اتمنى العودة الى ما تمثله
هالة
الممثل على الشاشة. في الماضي كانت هناك ادوار مثل فانفان لا توليب. اليوم
ادوار
المنحرف والمختل عقلياً والقاتل بالتسلسل أكثر تشويقاً من غيرها".
ما كان
يتذكره عن التجربة التمثيلية الاولى له، هو
احساس أكثر من كونه ذكرى. انها
"المتعة"، هذه الكلمة العجيبة التي لا مزاق لها ولا
لون، لكنها تفعل فعلها في صميم
الكائن.
في السنة التي أجريتُ فيها هذا اللقاء معه، كانت مرت تسع سنوات على
اخراجه "نزوات نهر"، فيلمه الأخير. مذذاك لم يقدم أي جديد حتى تاريخ رحيله،
على رغم
انه كان يتكلم عن فيلم تجري حوادثه في تشيلي ويروي قصة حبّ
مجنون في الصحراء خلال
حقبة الديكتاتورية. لم يكن مقلاً لأسباب
تمويلية فقط انما لأنه لم يجد دوماً ما
يثيره ويثير طموحاته السينمائية. زد، ان
السينما الفرنسية، في وقت من الأوقات، كانت
ترغب في طرح موضوعات من الحياة اليومية، وتنحصر احداثها في الزوج والزوجة
والعشيق،
وما يدور بينهم كان نطاقه الجدران الأربعة لشقة باريسية في الدائرة 16. لم
يكن هذا
عالم جيرودو. على الانضمام الى شلة "الواقعيين"، فضل المشاركة في عدد من
الأفلام
التجارية كانت تعكس في مرحلة من المراحل واقعاً فرنسياً منقحاً
لا يعود على أحد
بالضرر. كان يتكلم بشيء من الحنين عن مرحلة
حلّقت فيها السينما الفرنسية عالياً مع
أفلام بوليسية كان خلفها أمثال جيوفاني ودوروا وملفيل وفانتورا وبلمندو.
كان يستعيد
تلك الذكريات مدركاً في الحين نفسه أنه يتكلم عن عصر آخر، وغير متناسٍ كذلك
فكرة
مبدئية هي ان التغيير ناتج من رغبات الجمهور التي تتغير بين حقبة زمنية
وأخرى.
قبل أن ينهض ويمشي، سألته: "من هم المخرجون الذين تمتعت في العمل
معهم؟"،
أجاب: "راوول رويز وفرنسوا اوزون وبرنار
راب. احببت العمل مع نيكول غارثيا وكذلك مع
باتريس لوكونت وآخرين". ثم كان الحديث عن "مسألة ذوق" و"نقاط مياه على
احجار ساخنة"
اللذين سجلا عودته الى الصدارة بعد افلام عدة كان
مصيرها الفشل الجماهيري، قبل أن
يعترف لي ان ما من فيلم استطاع رفع
معنوياته في السنوات الأخيرة. "لهذا السبب اقول "لا"
لمعظم المشاريع التي تعرض عليّ. لا داعي لأكرر نفسي في ادوار لا تهمني".
أياً
يكن، فإن مجمل اعماله وخياراته كانت تمنحه الشعور بأنه مهمّش. لم يلفظ تلك
الكلمة،
التي باتت اليوم مستهلكة، حباً بالتميز، بل لأنه كان يقيم للتفرد وزناً
ويعتبره
جزءاً من هويته. وعندما يراك متعاطفاً معه وقلقاً على مصيره، يجتاحه شيء من
الندم
لتوريطك في همّ لا شأن لك فيه، فيبادر الى القول: "لا تبالِ يا صاح، ولا
تلمني،
فأنا رحالة قبل أن أكون أي شيء آخر".
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
خارج الكادر
الرجل الذي أهان السينما!
لا أحد
شرشح السينما وأهانها كما فعل خالد شوكات
(مدير مهرجان روتردام للفيلم العربي) ومن
يحومون حوله. كان يمكن هذه المقالة الاّ تُكتب. وكان الأفضل لهذه الصفحة
المشغولة
بالسينما، وبالسينما فقط، ان تبقى في منأى من هذه الصراعات الخارجة على اطر
الحياء.
لكن صاحب المهرجان - المسخرة أصرّ على أن يستدرجنا الى هذا العفن بعدما صار
الصمت
علامة تواطؤ. أصر مرة واثنتين وثلاث مرات. وذيّل هذا الاصرار باسمه. هذا
الاسم الذي
بات اليوم موصوماً بكل أشكال الانتهازية في عالم المهرجانات السينمائية
العربية.
مثله عشرات، لكن يبقى هو معلمهم جميعاً. أصرّ على أن يشتم الجميع. هدّد من
فضحوه،
وتحوّل بين ليلة وضحاها صحافياً يكتب بيانات دفاعاً عن مشروعه المهرجاني
الذي ليس
أكثر من كومبينة على طريقة دريد لحام في مسلسلاته التلفزيونية التي كساها
الغبار.
والكل يعلم ما الهدف من أي كومبينة.
كل واحد علّق على مهرجانه - المسخرة الذي لم
ينتبه لوجوده سوى منظميه، حمل عند شوكات صفة "حاقد". بحث في أسباب هذه
الحملة ضده.
فوجد انها تحمل تواقيع ايادي سوداً، تابعة لاؤلئك، مثلاً، الذين يقول عنهم
انهم
حاقدون لأنه لم تجر دعوتهم! طرح نفسه صاحب مسار مثالي منزّه عن أي خطأ.
وربما ينبغي
لماركو موللر أو جيل جاكوب أن ينكبا على تجربته كي يستخرجا منها الدروس.
وقد وصلت
الوقاحة بالرجل حدّ أن يقول ان النقاد مستعدون لفعل اي شيء بسبب ظروفهم
المادية
المتردية. في رسالة مفتوحة له (مسلية جداً اذ يستخدم فيها كلمة "أنصح")،
موجهة الى
النقاد العرب، شكك شوكات في صدقية هؤلاء، فيما هو، كان محاطاً، في الدورة
الأخيرة
من مهرجانه، بلصوص المقالات والمسترزقين على السينما والمخرجين الفاشلين
الذين سقط
الشعر عن رؤوسهم وكسا البياض ما تبقّى منه وهم لا يزالون ينجزون
الريبورتاجات
المضحكة ويسمّونها وثائقيات. وكتب شوكات عن النقاد بنوع من شفقة. جاء بحجج
سوريالية
تبرر هجومهم عليه.
للوهلة الاولى تشعر بأنك تقرأ أحد بيانات حزب البعث. ثم
يتدنى هذا الشعور أمام هول ما تسمعه، ومن مصادر مختلفة، من عشرات
الانتهاكات التي
حصلت لأخلاقيات تنظيم المهرجانات، في الدورة الأخيرة من مهرجان روتردام.
فالكل، في
هذا الحدث - المهزلة، كان يربت كتف الكلّ. الجوائز كانت عبارة عن تنفيعات.
القاعات
فارغة. لجان التحكيم من الذين يحتاجون الى أن يتعلموا وليس أن يعلّموا.
ارتجال،
محاصصة، تفرد في الادارة. باختصار، صورة مصغرة عن العالم العربي، حيث لا
ايمان في
المؤسسات التي ترتفع فوق الأشخاص، انما في الأنظمة التي يديرها الرجل
الواحد. جرى
الحديث عن كل شيء، بما في ذلك العقارات، سوى السينما. التظاهرة بدت مناسبة
لالتقاط
الصور، صحبة الهواة والمتطفلين، مع الانتباه الى تضييق الكادر كي لا تتكشف
الكذبة
الكبيرة.
كان المهرجان برمته عبارة عن فضيحة، حتى النظام الجزائري خجل من أن
يرتكب شيئاً قريباً لها عندما نظّم مهرجان وهران. مع هذا كله، خرج شوكات
يؤكد
النجاح ويتباهى بأنه يصنع مهرجانه خارج جدران الأنظمة العربية. تفصيل صغير
فات
الرجل، وهو انك عندما تكون ابن نظام، فأنت ابن هذا النظام الى الابد، ولا
يسعفك ان
تكون موجوداً، جسدياً، في ارقى البلدان وأكثرها ديموقراطية، عندما يكون
عقلك مقيماً
في قلب البؤس. لذلك، لو جرى هذا المهرجان في القاهرة أو دمشق أو تونس
العاصمة، لكان
وجد نفسه منسجماً أكثر مع واقع تلك العواصم.
مهلاً، هناك نكتة مسلية أيضاً، قد
تضفي بعض الطرافة على هذه الحكاية المأسوية: فشوكات يشغل منصب المدير في
مركز دعم
الديموقراطية في العالم العربي في لاهاي! الأرجح انه يديره كما يدير
المهرجان: بعسف
وتسلط تغلغلا في شرايين الكثير من المهاجرين الى أوروبا من الذين لم
يتعلموا شيئاً
خلال سنوات اقامتهم الطويلة في الغرب، ربما لانعزالهم في غيتوهات أكثر
بؤساً من
البلدان التي جاؤوا منها. هل تصدقون ان فضيحة مثل فضيحة مهرجان روتردام
تحصل في بلد
مثل هولندا؟ وهي لا تحصل منذ البارحة فقط، بل منذ عشر سنين، وهي ربما
ستستمر لسنوات
طويلة. هذا كله على مرأى ومسمع من دولة تساهم من دون أن تدري في ارساء
قواعد الفساد
الجديدة في قلب الثقافة الانتهازية العربية!
هـ. ح.
الخميس المقبل في "أدب فكر فن - سينما"
¶
اندره تيشينيه في حوار خاص مع "النهار" من باريس.
ليس هناك ما يدعى ملكية فكرية
ليس هناك ما يدعى ملكية فكرية. انا ضد التوريث. أن
يستفيد أولاد فنان ما حتى بلوغهم السن القانونية من عائدات أعمال أهلهم،
فليكن، لكن
لا أجد من المنطقي أن يقبض ابناء رافيل المال على معزوفة "بوليرو". حقوق
المؤلف،
هذا شيء غير ممكن على الاطلاق. المؤلف لا يملك أي حقّ. لا أملك
أي حقّ. عليّ واجبات
فقط. بومارشيه لم يكن يريد الا بعض ايرادات
"زفاف فيغارو". قال: "أنا الذي كتبت
فيغارو". لا أعتقد انه قال: "فيغارو لي". هذا الإحساس بتملك الأعمال ظهر
لاحقاً.
اليوم، مجهول يضع الانارة على برج ايفل ويقبض المال مقابل ذلك، وعندما تذهب
لتصوير
البرج، ترى نفسك مجبراً على الدفع مرة أخرى لواضع الانارة.
(جان
ــ لوك غودار لمجلة "لي انروكوبتيبل")
Cut
•
كان متوقعاً عرضه في البندقية، لكن صدر برنامج المهرجان
الايطالي، وتبين أنه
لا يوجد فيه الفيلم المنتظر جداً لتيرينس
ماليك، "شجرة الحياة".
• "براق" للمغربي محمد مفتكر سيشارك في مهرجان أبو
ظبي في حين يعمل التونسي رضا
الباهي على "براندو وبراندو" ليلحق بدبي.
• "عشرة أيام، عشر دقائق"، مشروع جديد لنبيل فارس
يقوم على اخضاع "مخرجين" هواة
لبنانيين وعرب لمسابقة، يجري نتيجة ذلك اختيار مجموعة من أفلام صنعوها.
•
هل يُعقد مهرجان أيام بيروت السينمائية في موعده المحدد، أي
بين 17 و25 أيلول
المقبل، وبعد كوبولا، أي مخرج تستضيفه
كوليت نوفل هذه السنة لدعم مهرجان بيروت
السينمائي؟
•
يُعرض في الثامنة من هذا المساء في الأونيسكو فيلم ايراني عن
المقاومة يعكس
وجهة نظر الحكومة الايرانية، وهو من بطولة عدد من الممثلين
اللبنانيين والايرانيين.
يتبع...
النهار اللبنانية في
05/08/2010 |