حطّم فيلم «عسل اسود» لأحمد حلمي الرقم القياسي في تعدّد الإعلانات فيه،
وتراوحت بين شركات طيران واتصالات ومياه غازية ومعدنية، وردت جميعها في
سياق
المشاهد.
ما الأسباب الكامنة وراء لجوء المخرجين إلى اعتماد ظاهرة الإعلانات في
الأفلام
والتي تزايدت بشكل ملحوظ في الموسم الصيفي الراهن؟ هل تؤدي هذه الإعلانات
دوراً في
توجيه دراما الفيلم لصالحها، بتعبير أدقّ هل يتم تفصيلها لإرضاء المعلنين؟
ما
الشروط الواجب مراعاتها لدى تضمين الفيلم الإعلانات بحيث لا تخلّ بسياقه
ولا تحوّل
أحداثه؟
شكّلت أفلام المخرج طارق العريان أول تعارف صريح وواضح بين الإعلانات
وجمهور
السينما. صحيح أنها لم تؤدِّ دوراً في توجيه مسار الأحداث لكنها كانت
موجودة
كإعلانات بما لا يدع مجالاً للشك.
في هذا السياق، يتساءل خالد دياب، مؤلف «عسل إسود»: «ما الضرر من ظهور
ماركة
سيارات يستخدمها البطل أو مشهد يشرب فيه مياهاً معدنية من نوع معين أو
غيرهما؟ على
العكس يشجّع هذا الأمر صناعة السينما ويوفر لها دخلاً، خصوصاً مع أزمة
الإنتاج التي
نعيشها، فكيف نغلق باباً يساعد في تحقيق هذا الهدف، لا سيما إذا استُخدم
بطريقة لا
تضرّ بالفيلم؟}.
يشير دياب الى أن استخدام الإعلانات في «عسل إسود» لم يؤثر سلباً على دراما
الفيلم أو أحداثه ولم يشتّت انتباه البطل، ثم لم يُطلب منه تفصيل أي مشهد
ليتضمّن
زجاجة المياه أو السيارة أو الجريدة أو غيرها كمواد إعلانية.
أصول
يرى الناقد عصام زكريا أن الإعلانات موجودة بقوة سواء في البرامج
التلفزيونية أو
المسلسلات أو الأفلام، «من حيث المبدأ لا مشكلة، إنما تكمن المعضلة في
تقديم
الإعلانات بشكل فجّ ومستفز لا يراعي أصول المهنة».
يضيف زكريا: «ثمة أصول معينة تحكم الإعلان حتى في الصحافة، ولا يجوز
تجاوزها،
حتى أن بلداناً كثيرة تمنع إذاعة الإعلانات في توقيت مشاهدة الأطفال
للتلفزيون، من
بينها: توقيت الإعلان، عدد الإعلانات في الفيلم، احترام المتلقي عبر وضع
الإعلان
بطريقة لا تشوّش عليه أو تحدّ من الاندماج مع أحداث الفيلم»...
من هنا يطالب زكريا غرفة صناعة السينما بأن تراعي معايير الإعلان الفنية
داخل
الفيلم كي لا تضرّ بالعمل الفني وبحق المشاهد في الاستمتاع بالفيلم من دون
توقّف.
حول الإعلانات التي وردت في الأفلام التي تعرض راهناً، يؤكد زكريا أنها لم
توظَّف بشكل جيد، ولم تراعَ أصول مساحة الإعلان داخل الفيلم، «في النهاية
نحن
نتعامل مع الفيلم كمنتج فني ثقافي وليس كسلعة، من ثم يجب أن يتوافر تقنين
للإعلانات
كي لا تشوِّه صورة الفيلم».
توظيف جيّد
في المقابل، ترى الناقدة ماجدة خير الله أن الإعلانات وُظفت بشكل جيد سواء
في «عسل
إسود» أو في غيره ولم تسبّب بتعطيل الدراما.
تشير خير الله إلى أن الإعلانات في السينما تختلف عن التلفزيون حيث تكون
مباشرة
وتفصل المشاهد عن المتابعة، وخير مثال على ذلك الفيلم الأجنبي cast away
الذي أجاد
توظيف الإعلان فيه.
في هذا الإطار، يرى المنتج محمد العدل أن الإعلان قد يكون في صالح الفيلم
عندما
يوظَّف بشكل صحيح لأنه يساعد المنتج في تمويل فيلمه، خصوصاً مع ارتفاع كلفة
إنتاج
الأفلام.
يضيف العدل: «على المنتج والمخرج مراعاة شروط كثيرة في ما يتعلّق بحجم
الإعلان
ووضعيته في سياق الفيلم، مثلاً لقّب الجمهور فيلم «السلم والتعبان» بـ
«السلم
والإعلان» نظراً إلى كم الإعلانات المبالغ فيها التي وردت فيه، ما جعل
المشاهد يشعر
بأنه يشاهد إعلاناً يتخلله فيلم وليس فيلماً في داخله إعلان، بينما لم تظهر
في «عسل
إسود» الإعلانات بشكل فج وكانت موظّفة بشكل طبيعي، حتى إعلان «اتصالات» كان
أقرب
إلى «الأفيه»، أما الخطأ الوحيد فهو ذكر اسم المعلنين والرعاة على تتر
نهاية
الفيلم، لأن المشاهد لا بد من أن يفهم أن الإعلان مستخدم بطبيعية وليس بقصد».
يوضح العدل أنه كمنتج يرحّب بوجود الإعلان داخل فيلمه شرط عدم تدخّل المعلن
في
تحديد مكان الإعلان داخل الفيلم وأن يترك هذه المهمة إلى المنتج بحيث
يوظّفه بمنطق
يتلاءم مع الحدث، مؤكداً أن هذه الظاهرة موجودة منذ أفلام الأبيض والأسود.
من جهة أخرى، يرى مخرج فيلم «لمح البصر» يوسف هشام، أن هدف الإعلان في
الفيلم
المساهمة في تخفيف نفقاته، «مثلاً احتجنا في التصوير إلى سيارة بمواصفات
محددة وكان
تأجيرها بمثابة عبء على الموازنة، لذا اقترحنا على صاحبها ظهور ماركتها
كنوع من
الدعاية لها، ما خدم الفيلم وأفاده من دون الإضرار به ومن دون أن يكون
الإعلان
مبالغاً فيه».
الجريدة الكويتية في
18/06/2010
المليجي وهدى سلطان
...موهبتان
من الحجم الكبير
محمد بدر الدين
محمود المليجي وهدى سلطان، من أهم الأعلام الذين أخلصوا للفن بلا حدود،
فمنحهما
الجمهور وما زال تقديراً واعتزازاً إلى أبعد مدى.
تجمع بين الفنان الكبير والفنانة القديرة، اللذين نحيي ذكراهما هذه الأيام،
موهبة أصيلة ومثابرة ومقدرة على الاستمرار في تقديم الفن الجميل إلى آخر
لحظة في
عمرهما.
يعتبر المليجي نموذجاً في السينما المصرية بموهبته الكبيرة التي اكتشفت هذه
السينما حجمها وعمقها متأخراً – نسبياً – لكن على أية حال ، أن يأتي ذلك
متأخراً
خير من ألا يأتي على الإطلاق.
حصرت السينما المليجي طويلاً، في دور رجل العصابة أو الشرير ذي البعد
الواحد،
فلا غنى في رسم الشخصية ولا تفاصيل أو لمسات خاصة، إلا في حدود ما كان
يمنحه
المليجي نفسه، بما يتمتّع من مقدرة وخبرة، إلى شخصيات يأتي رسمها في
السيناريو
فقيراً ومحدوداً، كذلك الأمر بالنسبة إلى نماذج كثيرة في السينما نذكر من
بينها:
عبد المنعم إبراهيم وتوفيق الدقن...
لحسن الحظ، كان المليجي على موعد مع «فصل» جديد مختلف في مسيرته، بفضل
لقائه
الفني الرائع مع المخرج الكبير يوسف شاهين في فيلم «الأرض» (1970)، حينها،
وجد
المليجي في شخصية الفلاح المثابر محمد أبو سويلم دوراً جميلا مميزاً، غنياً
بالأبعاد والمواقف، فمنحه طاقته وبراعته، وتأكد للجميع، ما رآه شاهين في
الممثل
العملاق، بعدما فشل آخرون في اكتشافه أو تأخروا في إدراكه.
تألّق المليجي في دور أبو سويلم، فبدا مقنعاً في تجسيد ملامح الفلاح المصري
الأصيل، الذي يقاوم مع رفاقه الاحتلال والإقطاع بكل بسالة منذ شبابه
المبكر، وعندما
تقدّم في العمر حارب أطماع الباشوات ملاكي الأراضي الذين نهبوا أرض صغار
الفلاحين،
ونزفت يداه وجسده وروحه وهو يتشبّث بأرضه واختلطت حمرة دمه بخضرة الأرض
وبياض القطن
فيما يجرجره العسكر بلا رحمة وهو يقاوم ويستبسل حتى الرمق الأخير (يعتبر
هذا المشهد
أحد أعظم مشاهد النهاية في السينما المصرية بل في السينما العالمية).
استكمل المليجي عطاءه المتميّز في أهم أعمال شاهين: «الاختيار» (1971)، «العصفور»
(1974)، «عودة الإبن الضال» (1976)، «إسكندرية ليه؟» (1979)، وفيه يؤدي
دور والد يحيى، أي شاهين في صباه، وهو محام يقف إلى جانب ابنه حتى يحقق
حلمه بالسفر
إلى أميركا للتخصّص في السينما، ويجسّد نموذج المحامي الجاد الشريف الذي
يعود فشله
في كسب بعض القضايا إلى الفساد الشامل المخيف الذي يضرب البلاد. يُذكر أن
الفيلم هو
الجزء الأول من رباعية يتناول فيها شاهين سيرته الذاتية.
أما هدى سلطان فإن أهم ما اتسمت به مسيرتها الفنية، في اعتقادنا، هو
«التفوق»
الواضح في كل مجال دخلته، فهي تعدّ في تاريخ الغناء العربي أحد أكثر
الأصوات تميزاً
وجمالاً ورهافة، وتفوقت في التمثيل في الأدوار كافة: من البنت البسيطة
المغلوب على
أمرها إلى أداء دقيق لدور فيه ملامح إغراء وشهوة لا تقدر عليه إلا الممثلات
المحترفات في العالم، كما في «امرأة على الطريق»، أحد أهم أفلام المخرج عز
الدين ذو
الفقار والكاتب عبد الحي أديب.
عندما أدت سلطان دور الأم في مرحلتها الأخيرة، وصلت إلى ذروة أخرى وتفوّق
جديد،
ولا ننسَ تجسيدها شخصية الأم الفذ في المسلسل التلفزيوني «الوتد» (قصة
الأديب خيري
شلبي)، فكانت «وتد» البيت بحقّ وعماد الأسرة، التي من دونها يتداعى كل شيء.
جمعت سلطان في أدائها البارع بين رقة الأم في أعماقها ورسوخها وصلابتها في
الوقت
ذاته، وبين مقدرتها على توجيه الأسرة والإمساك بزمام كل شيء بمهارة وثقة.
لهذا وكثير غيره، يبقى محمود المليجي وهدى سلطان، خالدين في حياتنا الفنية
الإبداعية، إنهما من المواهب التي لن تخبو ومن العلامات التي لن تغيب
أبداً.
الجريدة الكويتية في
18/06/2010 |