منذُ ظلام الكادر الأول في "فيلم
اشتراكية" جان لوك غودار،
يقودنا شريط الصوت في مساراتٍ مُتقاطعة، بدءاً
من
ذلك الصفير الخاصّ بالكاميرا، وحتى التعليق الأخير المكتوب على الشاشة:
Quand la loi n'est pas juste, la justice passe avant la loi
"عندما
لا يكون القانون عادلاً، فإنّ العدالة تتخطى
القانون".
مُثيراً ارتباك المُتفرج، وتساؤلاته الضمنية:
ـ هل انتهى الفيلم،
أم لا ؟
* * *
ما بين الشهقة الأولى للكاميرا، وفُجائيّة
الصمت، يلجأ "غودار" إلى بناءٍ صوتيّ يهيم في الفضاء المكانيّ داخل اللقطة،
وخارجها: مُؤثرات صوتية، موسيقى، تعليقات، عبارات مُستعارة من
كتبٍ، ومسرحيات،
حوارات بلغاتٍ متعددة، مفهومة للبعض، وغامضة لآخرين، ناقصة، أو مُكتملة،
واضحة، أو
نقية، مُتداخلة، أو مُتراكبة، مُتزامنة مع الصورة، أو مُتعارضة
معها،.....
استخداماتٌ مألوفة في "السينما التجريبيّة"، غرضها تحطيم سيولة
السرد، توسيع مفهوم المرئيّ، والغير مرئيّ في إطار الصورة،
إبعاد المُتفرج عن
الاستغراق في أحداث الفيلم، وحثه على المُشاركة الذهنية كي يتخيّل الصور،
والأصوات
المقصيّة، إكمالها، أو إعادة صياغتها.
يتحددُ دور "الميكساج" في أيّ فيلمٍ
بجمع الأصوات المُسجلة (الحوار، المُؤثرات، الموسيقى)، وتنسيقها في شريطٍ
واحدٍ
يأخذ بعين الاعتبار أماكنها، أطوالها الزمنية، لحظات دخولها/خروجها،
مستواها
العالي/المُنخفض، البعيد/القريب،
..
في "فيلم اشتراكية"، يتخلى "غودار" عن هذه
المرجعيّات الوظيفية التقليدية، يُحطم تناغمها المُفترض،
ويتركُ كلّ صوتٍ يتدفق في
مساره وُفق منطقٍ "غوداريّ" خاصّ.
تنطلق الموسيقى في منتصف مشهدٍ، وأحياناً
لقطة، لا تتناسب مع محتوى الصورة، ورُبما تمتلك قيمةً جمالية، ودرامية أكثر
أهمية،
وزخماً، ولكن، حالما يتفاعل المتفرج معها، ويتأثر بها، تتوقف فجأةً.
أحياناً،
تطغى على كلمةٍ، بداية جملة حوارية، أو حواراً مُتبادلاً بين شخصيتيّن، أو
أكثر،
ويصبح من الصعب سماعها، وحتى فهمها.
تهبط الموسيقى من لا مكان (خارج الكادر)، وهو أمرٌ
مألوفٌ في السينما، ولكنها في "فيلم اشتراكية" تبدو مفردة جمالية، ودرامية
موجودة
في المشهد نفسه بدون تحديد مصدرها، كما الحال مع الموسيقى التي تُرافق
مشاهد الصبيّ "لوسيان"
في محطة البنزين التي تُديرها عائلة السيد "مارتان"، كان يتابعها، ويحرك
يديه مثل قائد أوركسترا، وفي مشهدٍ لاحق، تظهر إيماءات على وجهه، وكأنه
يسمعها.
في بعض المرات، يصدرُ صوتٌ مُفاجئٌ من خارج الكادر، ويرتطمُ بكلمةٍ، وفي
حالاتٍ أخرى، يحتفظ شريط الصوت بضجةٍ مزعجة تؤثر على سماع
الحوار، كما صفير الرياح
على ظهر السفينة، وشخير محركات السيارات التي تعبر الطريق القريب من محطة
البنزين .
من جهةٍ أخرى، يعشقُ "غودار" مسرحة أداء المُمثلين
الذين (يُمثلون) أدوارهم بالمعنى الحرفيّ للكلمة.
في فيلم "المرأة هي المرأة" /1961
يعرفون بأنّ هناك كاميرا تُصورهم، ومن وقتٍ إلى آخر، يتعمّد أحدهم التحديق
فيها، وحتى مُمازحتها بطرفة عين.
أحياناً، ينطقون حواراتهم بطريقةٍ غير مفهومة،
وفي بعض المشاهد يُكررون جملة حوارية مرة، أو أكثر، وكأنهم في بروفة مسرحية.
بعد
أن تعترف أنجيلا "Anna Karina"
بخيانتها مع الفريد "Jean-Paul Belmondo"
كي تُنجب
طفلاً، يلتفتُ صديقها إميل "Jean-Claude Brialy"
نحو الكاميرا قائلاً
:
ـ لا
أعرف إن كان كوميدياً، أو تراجيدياً، ولكنه تحفة فنية (يقصدُ الفيلم نفسه).
ورُبما تذكرنا هذه العبارة الإحتفائية بالمشهد الأخير من فيلم
"Inglourious Basterds"
لمخرجه "كونتان تارانتينو" عندما يحفر الملازم
ألدو راين "Brad Pitt"
علامة الصليب النازيّ على جبين الكولونيل هانز لاندا "Christoph Waltz".
بدوري،
كنت أظنّ بأنّ لدغة "آنا كارينا" أبدية، وعندما شاهدتُها في أفلامٍ أخرى
"عشّ حياتك
فيلمٌ من 12 لوحة، بييرو المجنون،.." تبيّن لي، بأنها حالة مُؤقتة من صُنع
"غودار".
في "فيلم اشتراكية" يمتلكُ "غودار" حرية أكبر في
علاقته مع الأنظمة الرقمية، ويحوّل اختلافاتها عن أشرطة
السيلولويد إلى مفرداتٍ
جمالية جديدة، يكفي بأنه يُصوّر بأكثر من كاميرا (من الأرخص، والأقلّ جودة،
وحتى
الأغلى، والأفضل تقنياً) كي يحصل على تبايناتٍ في مُسطح الصورة بين مشهدٍ،
وآخر (أو
لقطةٍ، وأخرى) من حيث الوضوح، النصوع، الدقة، وحتى نقاء، أو
ضجة الصوت المُصاحب،
وفي بعض الأحيان، يُعيد تصوير وثائق سمعية/بصرية مُتاحة على دعائم فيلميّة
منزلية " VHS
أو
DVD"
فقدت ملامحها، وتهالكت تضاريسها.
لم يتدخل "غودار" تقنياً في
اللقطات (كما فعل في الأجزاء المُلوّنة من فيلم " في احتفاء بالحبّ"/2001)
"ماعدا
لقطةً واحدة، أو اثنتيّن"، ولم يتعمّد ترميمها، إصلاحها، أو تشويهها، ولكنه
استخدم
نتائج تصوير كاميراتٍ مختلفة النوعية، هاوية، واحترافية، ولهذا، كانت
المُحصلة
المُونتاجية للفيلم تنويعات كثيرة لتضاريس الصورة بالأبيض،
والأسود، والألوان.
يبدأ الفيلم على ظهر الباخرة مع مصورٍ محترف، وفي
نهاية ذلك المشهد، تتباطأ اللقطات الكبيرة للكاميرا الفوتوغرافية حتى
الثبات لبعض
الثواني.
بالمُقابل، تتلذذُ بعض الشخصيات التمثيلية المزروعة في الباخرة
السياحية، والكثير من المُسافرين الحقيقيين بتصوير بعضهم
بكاميراتهم الرقمية، أو
هواتفهم المحمولة، ولم تكن استعارة هذا السلوك المألوف في حياتنا اليومية
صدفة،
بالنسبة لي، (ولا أعرفُ ما يدور في عقل "غودار") فقدت "الصورة الرقمية"
أهميتها
مُقارنة مع "الصورة الفوتوغرافية" التي تمتلك مرجعاً مادياً "نيجاتيف"،
وبالإمكان
طباعتها على دعائم ورقية خاصة، والاحتفاظ بها فترة زمنية أطول، على عكس
"الصورة
الرقمية" المُعرّضة لخطر الاختفاء بسبب خطأ تقنيّ، أو إزالة
مقصودة، وبدون ذاكرة
أجهزة الكمبيوتر، تفقد احتمالية وجودها/حياتها.
بدورهم، يرغب الملايين من
مُستخدمي "الفيس بوك" التفرّج على أنفسهم، وعلى الآخرين في لعبةٍ بصبصة
"إباحية" (ليست
بالضرورة جنسية)، و"التعريّ" أمام الملأ عن طريق صورٍ، وتعليقاتٍ، وأفكار
سوف
تستهلكها إضافاتٌ جديدة.
ببساطة، يبحثُ هؤلاء عن تاريخٍ افتراضيّ، ويمكن القول
وهميّ.
منذ أفلامه القصيرة الأولى (قصة ماء/1958 بمُشاركة
"فرانسوا تروفو"، شارلوت، وصاحبها/1958، شارلوت، وفيرونيك، أو كلّ
الشباب اسمهم
باتريك/1959)، وحتى "فيلم اشتراكية"، يستخدمُ "غودار" نفس المُفردات
السينمائية
بتنويعاتٍ مختلفة.
عندما لا يُظهر كتباً على الشاشة، أو يستعيرُ عباراتٍ مُقتطعة
منها، فإنه يستخدم عناوينها بدلاً من الحوار.
في "المرأة هي المرأة"، وخلال
مُشاحناتهما المُتكررة، يقرر العاشقان بصبيانية مُحببة، بأن لا يتحدث
أحدهما مع
الآخر، ينهضان من سريرهما، ويتوجهان نحو الكتب المرصوصة على الأرفف،
ويستخدمان
عناوينها كحواراتٍ مُوجزة لا تعكس بالضرورة أحاسيسهما الحقيقية.
في مشاهد محطة البنزين من "فيلم اشتراكية"، تقرأ
الابنة الشابة "فلورين" كتاباً لـ "بلزاك" (أوهامٌ ضائعة)، وفي لقطاتٍ
لاحقة، تقول
للصحفية التي جاءت إلى البلدة لإنجاز تحقيقٍ عن الانتخابات المحلية:
ـ لو سخرتِ
من "بلزاك" سوف أقتلكِ.
ورُبما يتذكر العاشقون لـ "جودار" فيلمه "بييرو
المجنون"/1965، تلك الشخصية الأسطورية المُغامرة لا تتوقف عن
شراء الكتب، وقراءتها،
ومن وقتٍ إلى آخر، يتردد اسم "بلزاك" على طول الفترة الزمنية للفيلم (كما
يمكن سماع
اسمه في أحد مشاهد "احتفاء بالحبّ"/2001)، بالنسبة لـ"بييرو"، تأتي أهمية
الكتب قبل
الموسيقى.
اللقطة الوحيدة في "فيلم اشتراكية" التي أُعيد
تلوينها رقمياً، عندما كان الصبيّ " لوسيان" يجلس على درجات
السلالم، ويُعيد تلوين
لوحة لـ"رينوار، كانت الكاميرا خلف ظهره، تسأله الصحفية السمراء عما يفعل،
يقول لها :
ـ أستقبل منظراً طبيعياً من الأيام الخوالي.
بينما استحضر فيلم "بييرو
المجنون" في لقطاتٍ اعتراضية عشرات اللوحات لـ"رينوار"، وغيره، ورسومات قصص
مُصورة،
واعتمد بكامله على الألوان، وخاصة الأحمر، والأزرق اللذان نشاهدهما في كلّ
مكان،
الملابس، الديكور، السيارات، الإضاءة، وحتى بعض اللقطات التي تلوّنت بفعل
مرشحات
العدسات.
على حين تطغى العتمة على الجزء الأول من فيلم "احتفاءٌ بالحبّ"،
ويزدهرُ الجزء الثاني منه بمشاهد أُعيد تلوينها، فابتعدت عن
واقعيتها، واقتربت من
جانبها الحلميّ.
وانطلاقاً من مفهوم واسعٍ، يمكن اعتبار "فيلم اشتراكية" (فيلم
طريق) على ظهر سفينة سياحية تشق مياه المُتوسط، وتنتقل بين
أحداثٍ في الحاضر، وأخرى
من الماضي، ورُبما يكون استمرارية لقصة طريقٍ صغيرة في "بييرو المجنون"
خلال
تنقلاته في سياراتٍ مسروقة مع عشيقته "ماريانا".
ومن حقّ المُتفرج، البسيط، أو المُتمرّس، التساؤل
عن تلك الحيوانات التي تظهر في "فيلم اشتراكية" (ببغاويّن في اللقطة الأولى
من
الفيلم، قبل العناوين السريعة، قطتان تتحاوران على شاشة الكمبيوتر، بومٌ
أبيض،
لاما، حمارٌ في محطة البنزين، وآخرٌ يحمل على ظهره جهاز
تلفزيون في إحدى القرى
المصرية، أسماكٌ، وحيتانٌ في البحر تدور حول بعضها في دوامة، خروفٌ، وخراف،
رأس
سمكة، تمساحٌ يلتهمُ طيراً).
ولكن، من المُفيد أيضاً تجديد ذاكرتنا:
وماذا
كان يفعل ببغاءٌ ملونٌ، وثعلبٌ صغيرٌ في أحد مشاهد "بييرو المجنون" ؟
والتفكير
بتلك اللقطة المُتمهلة عند بعض الخيول، والأبقار في أحد الحقول من فيلم
"احتفاء
بالحبّ"، وخوار إحداهنّ يغطي على بداية حوار.
والتمعن بأسباب سماعنا لمواء قطةٍ
بدون أن نراها على الشاشة في أحد مشاهد فيلم "المرأة هي المرأة".
التفسير
المُحتمل، بأنّ "غودار" يعتبرها شخصياتٍ صامتة، أو ناطقة
.
ومن ثمّ، ألا يمكن
الظن (بدون أن نرتكب إثمّاً)، بأنّ "غودار" المُغرم بالحضارة الفرعونية
التي تتشكلُ
لغتها الهيروغليفية من أشكالٍ حيوانية تعبيراً عن هذا الحضور.
وإذا عثرنا في
ثنايا إحدى لقطات "فيلم اشتراكية" على رواية " العائش في الحقيقة" (العنوان
بالفرنسية Akhénaton le renégat)
لنجيب محفوظ، ألا يمكن التفكير بأنّ "غودار" قرأ
"كليلة، ودمنة"، واستقبل بعض شخصياتها في فيلمه.
كلّ شيئ ممكن من هذا السينمائيّ
الذي تزخرُ لقطاته بمصادر، وتأثيراتٍ متعددة لا يتورّع عن تكريمها، وأولها
السينما
التي يُذكرنا بها في أفلامه بطريقةٍ ضمنية، أو مباشرة.
مع أنّ جان "Jean-Paul Belmondo"
في فيلم "شارلوت،
وصاحبها"/1958 وبصوت "غودار" نفسه يُعبّر لصديقته شارلوت"Anne
Colette"
التي هجرته
عن كراهيته، واحتقاره للسينما، بينما يُبجل الكتب، واللوحات.
وكما هو مشاغبٌ،
مثيرٌ للجدل، وكارهٌ لأفلامه.
سوف أكون، بدوري، أكثر شغباً، إثارةً للجدل،
وإخلاصاً لسينماه.
وأتجرأ القول، بأنّ "غودار" لا يحبُّ السينما
فعلاً، ويُجسّد سخريته من قدرتها على استلاب المُتفرج بتحطيم تأثيرات
مفرداتها
الجمالية التقليدية، ولهذا، فقد (كتبَ) أفلامه، و(رسمها) كي يُقرّبها أكثر
من
الأدب، الشعر، الفلسفة، الفنون التشكيلية، والموسيقى،..
باختصار، كي يُعيد
اكتشاف السينما من جديدٍ، ويجعلنا نعشقها حتى الشغف.
الجزيرة الوثائقية في
14/06/2010 |