لا تعرف حينما تشرع فى الكتابة عنه من أين تبدأ. من حياته التى عاشها
مخلصاً للفن وعاشقاً للنساء؟ أم من تأثيره فى تكوين المسرح الحديث فى مصر
بكل ما تعنيه الكلمة؟ أم من تصريف القدر الذى جعل من سنوات عمره قصة أشبه
بالحكايات التى لا تنتهى مفاجآتها حتى بعد رحيله بسنوات وكأنه أسطورة لا
تنتهى؟ رغم أن لحظة النهاية فى حياته قد سُجلت فى دفتر التاريخ فى الثامن
من يونيو عام 1949 بإحدى حجرات المستشفى اليونانى بالقاهرة بسبب حمى
تيفودية، كما يقول سجل الوفيات لذلك العام. حديثنا عن نجيب الريحانى عملاق
الكوميديا المصرية الذى أراد أن يحترف الميلودراما فأبى الفن، وساقه فى
طريق الكوميديا التى صار عنواناً لها حيث لا تُذكر إلا واسمه مقترن بها،
ولا تأتى سيرته إلا وتحدثوا عن تأثيره فيها.
وحديث «المصرى اليوم» عن نجيب الريحانى الآن يقترن بثلاثة أسباب،
أولها اقتراب موعد ذكرى رحيله الـ61 التى توافق 8 يونيو المقبل، وثانيها
رعايتنا مع مكتبة الإسكندرية لمعرض فى الفترة من 2-5 يونيو تعرض فيه أفلامه
وصوره وتقام فيه الندوات الفنية التى تناقش دوره، وثالثها - وهو الأكثر
جدلاً - لقاؤنا بابنته جينا التى مثل ظهورها فى افتتاح مهرجان القاهرة
السينمائى منذ نحو ثلاثة أعوام مفاجأة ذكّرت البعض بحياة هذا الرجل، ودفعت
آخرين لتكذيبها ونفى قصة أن يكون لنجيب الريحانى أبناء من الأساس. ولكن من
يتحدث مع جينا-73 عاماً- يدرك أن لديها الكثير عنه وعنها.
فى أحد شوارع حى لوران الراقى بالإسكندرية تقع شقة جينا تلك الشقراء
ذات الملامح الأوروبية الصميمة والروح المصرية الأكيدة. تتحدث بلغة عربية
تنقصها بعض الحروف التى تجعل منها «خواجاية» كما يقول أولاد البلد
المصريون، وتمتلك من روح الفكاهة ما يجعلك تستشعر تواصل لعبة الجينات
المؤثرة فى تلك الدماء الأوروبية. وقد لا يتفق الكثيرون فى قصة الجينات
تلك، إلا أن جينا لديها ما يستحق أن تسمعه وتراه عن حياة أبيها. ليست وحدها
من يتحتم عليك الاستماع لها، ولكن هناك أيضاً الفنان التشكيلى حمدى الكيال
الذى جاوز عمره الستين بقليل ولكنه يحتفظ بتاريخ وسيرة نجيب الريحانى من
خلال ما يقرب من 91 لوحة رسمها بنفسه بعد لقائه على مدار 3 سنوات، بدأت فى
العام 1961، مع رفيق رحلة الريحانى، بديع خيرى، حكى له خلالها الكثير من
المواقف والذكريات التى لخصها فى لوحات وعرضها فى العام 1964 من خلال معرض
فنى حضره معظم أبطال فرقة الريحانى ومنهم عدلى كاسب ومارى منيب وبديع خيرى
نفسه، ولكن تظل نقطة البداية مع جينا.
عند لقائك بها تتراءى أمام عينيك تفاصيل قصة الأميرة «أنستازيا» صغرى
بنات قيصر روسيا الأخير «نيقولا رومانوف» الذى اُعتقل هو وأسرته عقب قيام
الثورة البلشيفية فى العام 1917 وأعدموا رميا بالرصاص فى العام 1918.
وأحاطت بقصة مقتلهم الكثير من الأساطير وتعلق أكثرها بالأميرة الصغيرة التى
ذكر أنه لم يتم العثور على جثتها بعد نجاحها فى الهرب خارج روسيا، لتظهر
بعدها بسنوات فى لندن من تدعى أنها «أنستازيا» فيرفض قصتها الجميع، ورغم
ذلك لا يملكون تكذيبها وهى من سردت وقائع لا يعلمها إلا من عاش فى القصر
الإمبراطورى فى روسيا. وهكذا جينا التى أحدث ظهورها صدمة رفضت هى أن تنساق
وراء نتائجها أو أن تدافع عن نفسها أو تبرز ما لديها من أوراق، تكرر لك بين
الحين والآخر: «لا يهمنى الناس، يكفينى أننى أعرف نفسى. أنا ابنة نجيب
الريحانى». ومن هنا كان لقاؤنا معها فى الإسكندرية جزء من حديثنا دار فى
منزل الفنان حمدى الكيال الذى سعت للتعرف به وصار من أخلص أصدقائها هو
وأسرته، والجزء الآخر دار فى منزلها لتطلعنا على ما لديها من أوراق وصور
ومتعلقات.
«فى أواخر عام 1920 كان الخلاف قد دب بينى وبين الصديقة «لوسى دى
فرناى» فافترقنا إلى غير عودة ويقينى بأن هذا الفراق كان أولى النكبات التى
صبها القدر فوق رأسى وساقها فى حلقات متتالية يأخذ بعضها برقاب بعض. فما
كان يغمرنى من خير جارف أضحى بعد ذلك البحر جفافاً من كل ناحية بل شرا
مستطيراً، حتى لقد اقتنعت بأن هذه الفتاة كانت هى مصدر الأرزاق وأنها إنما
حملت فى جعبتها بسمات الدهر وحظ العمر». تلك كانت بعضاً من كلمات نجيب
الريحانى نفسه فى مذكراته التى نشرها لأول مرة فى العام 1937 فى مجلة
«الاثنين»، ثم أعادت مجلة «الكواكب» نشرها فى العام 1952، ثم صدرت فى كتاب
عن «دار الهلال» سنة 1959، ثم تضمنها الكتاب الذى أعده دكتور محمد كامل
القليوبى بمناسبة مهرجان القاهرة السينمائى الدولى عام 2007 واستعان فى جزء
منه بالحديث مع جينا التى روت جانباً آخر من قصة حياة والدها وعلاقته
بأمها. تقول جينا: «نعم لم أعش مع والدى كأى طفلة ولم أشاهده إلا مرات
معدودات عاش فيها بعضا من أيام عمره ولكننى عايشت حنانه وأبوته القصيرة فى
سنوات عمرى، وخبرت قصة لقائه من والدتى التى لم تعرف الحب إلا معه. وقصة
لقائهما جاءت بالمصادفة فى العام 1917 حينما حضرت أمى لمصر ضمن فرقة
استعراضية كانت تجوب العالم، وكانت لوسى مجرد راقصة بين راقصاتها. فى هذا
الوقت كان أبى يبحث عن راقصة أجنبية تشارك فى مسرحية من مسرحياته فرشح له
صديقه أحمد فران اسم أمى التى رفضت فى البداية لارتباطها بالعمل فى فرقتها
التى كان مقررا لها مغادرة القاهرة بعد انتهاء عروضها، كما أن المسرحية
كانت باللغة العربية وأمى لا تجيدها، وكانت تخشى أن يكون عملها معه لفترة
تنتهى بسرعة. ولكنه أقسم لها أنه لن يتخلى عنها وأن عملها معه مضمون ولكنها
ترددت فى إعطائه موافقتها وظلت تتهرب منه أكثر من مرة كلما سأل عنها فى
البنسيون التى كانت تقيم فيه، حتى ترك لها ورقة قال لها فيها: «البروفة يوم
الأحد الساعة 12 وأنا فى انتظارك». حكت لى أمى أنها ذهبت فى الموعد وأدركت
منذ لحظة لقائها به أن هناك قوة تشدها إليه. كان الجميع يحبونه ويقدرونه فى
الفرقة.
تناسى أعضاء الفرقة اسم لوسى الحقيقى وباتوا ينادونها باسمها فى العرض
«جاكلين» وصارت صديقتها المقربة إليها زينب صدقى، إلا أن الأمر لم يخل من
مضايقات البعض لها سواء من بين أعضاء الفرقة الذين كانوا يشعرون بمكانتها
لدى الريحانى، أو من بعض الجمهور الذى كان يمتدحها بعبارات الثناء على
جمالها، فى الوقت الذى توطدت فيه علاقتها بالريحانى. وهو ما تحكى عنه جينا
بالقول: «قالت لى أمى إن أبى اعترف لها بحبه وطلب منها ترك العمل والتفرغ
له وأن تكون شريكته فى الحياة وهو ما فعلته ولكنهما لم يتزوجا. وعاشت معه
وكانا يشعران بأن كلاً منهما تميمة الحظ للآخر على مدى ثلاث سنوات. فأبى
خُلق للحب الذى كان كثيرا ما يقع فيه كلما التقى امرأة جميلة، وعرفت أمى
أنه على علاقة بفتاة صغيرة كانت قد التحقت بفرقته، وكانت تثور وتمتنع عن
الطعام وتبكى وكان يخاف عليها ويعدها بعدم تكرار فعلته ولكنه لم يستطع
السيطرة على نفسه حتى إنه ترك لها المنزل يومين قررت فيهما العودة لفرنسا
وتركت له خطاباً بألا يبحث عنها لأنه لن يراها ثانية.
شعر الريحانى فى تلك الفترة بحجم الفراغ الذى تركته لوسى بعد رحيلها
حتى إنه كتب عبارته التى عبر فيها عن ذلك فى مذكراته ودون أن يعلم أن القدر
سيعيد له لوسى مرة أخرى بعد 16 سنة وبالمصادفة أيضاً. فلوسى التى عادت
لفرنسا فى العام 1920 التحقت بالعمل كراقصة فى كازينو «مولان روج» وفى
العام 1925 تعرفت على شاب ألمانى تزوجته وسافرت معه للعيش فى ألمانيا،
لكنها تركته بعد 4 سنوات بعدما اكتشفت أنه سكير كما خسر كل ماله فى القمار
فتركته وعادت لباريس، حيث التحقت بالعمل كمصممة أزياء فى فرقة «أوبرا
كوميك» حتى كان اللقاء مجدداً مع الريحانى فى العام 1936. وهو ما تحكى عنه
جينا قائلة: «كانت أمى فى استوديو بباريس تنفذ تصاميم مطلوبة منها، وتأخر
عليها عامل البوفيه فى إحضار الشاى لها، فذهبت لتحضره بنفسها، لتجد نفسها
أمام أبى وجهاً لوجه، وكان قد حضر لإنهاء أعمال مونتاج أحد أفلامه، فتعانقا
وهما يبكيان من الفرحة، وقد كان على أبى أن يبقى فى باريس لمدة أسبوع واحد،
ولكنه ظل مع أمى 3 أشهر عادا فيها للعيش كحبيبين، ولكن اضطر للعودة لمصر
بعد انتهاء تلك المدة لارتباطه بأعماله، على وعد بالرجوع لها مرة أخرى. وما
هى إلا أسابيع قليلة حتى أرسلت أمى لأبى خطاباً أخبرته فيه بحملها فى،
فأرسل لها فى نفس اليوم برقية يطلب منها الاهتمام بصحتها وإخباره بموعد
الولادة ليكون فى استقبال الوليد.
جاءت «جينا» للدنيا فى 14سبتمبر من عام 1937 فى ألمانيا دون أن يكون
والدها فى انتظارها، فأرسلت لوسى برقية للريحانى تخبره فيها بمولد ابنتهما
ولكنه لم يستطع السفر إليهما. ولتعمدها فى الكنيسة بغير حضور والدها الذى
كتب اسمه فى خانة الأب بالألمانية فى شهادة التعميد. وهو ما تحكى عنه جينا
قائلة: «لم يستطع بابا الحضور لرؤيتى وليدة، وكان هتلر وقتها فى قمة زهوه
بما يحققه لألمانيا وكانت أمى تخشى من التعرض لأى مساءلة إن هى سجلتنى فى
الأوراق الرسمية باسم مصرى لا يتناسب والعرق الآرى كما كان يقول هتلر. ولذا
سجلتنى باسم عائلة أبيها، وكتبت اسم والدى فى شهادة التعميد فى الكنيسة.
والتقينا بأبى فى صيف العام 1938 فى باريس وكان يدللنى باسم أميرتى
الصغيرة، يومها وضع وديعة باسمى فى بنك «كريدى لونيه» مبلغ 50 ألف فرنك كى
تنفق أمى على من ريعه. وظل معنا حتى اضطر للعودة مرة أخرى لمصر، ولكننا
سافرنا له وقضينا معه 15 يوماً فى الفيوم فى أعياد كريسماس عام 1938 عدنا
بعدها أنا وأمى مرة أخرى لباريس.
هنا يقفز السؤال ولما لم يعلن نجيب الريحانى زواجه من لوسى وإنجابه
منها طفلة؟ ولم كان يحضرهما فى الخفاء ويزورهما سراً خلال تواجدهما فى مصر؟
الإجابة تأتى على لسان جينا التى تقول: «كان أبى متزوج فى ذلك الوقت من
الراقصة «بديعة مصابنى» التى كانت شديدة الغيرة عليه ولم يكن يستطيع إعلان
زواجه بغيرها حتى لو كان ذلك فى الخارجاً. ولذا كان وجودنا دوما سرياً فى
حياة أبى، وكان سبباً فى بعض الأحيان فى نشوب المشكلات بين بابا وماما التى
كانت تشعر بالإهمال من جانب بابا والخوف من معرفة قصة زواجهما.
مرة أخرى يلتقى الريحانى ولوسى وابنتهما فى باريس فى العام 1939 أثناء
تواجده بها لعمل مونتاج أحد الأفلام، يطلب منها قبل مغادرتهما أن تجهز
نفسها للمجىء لمصر لأنه قرر أن يستأجر لهما شقة فى حى الدقى القريب من
المدرسة الألمانية لتدرس بها جينا، واعداً إياها بالتردد عليها بين الحين
والآخر. وهو ما كان واستمر حتى العام 1940 حينما تلقت لوسى رسالة من
والدتها تخبرها بأن أباها مريض للغاية فى ألمانيا ويطلب رؤيتها، فتسافر مع
جينا لألمانيا لزيارته ولكن تمنعها ظروف الحرب من العودة للقاهرة بعد إعلان
هتلر إغلاق الحدود الألمانية وإعلان حالة الطوارئ لتصبح ألمانيا بلداً
مغلقاً لا يمكن الخروج منه أو الدخول إليه، وانقطعت الخطابات بين لوسى
والريحانى. وعانت جينا من مناخ الحرب الذى تتذكره بقولها: «كان كل شىء
حولنا كئيب وكانت أعداد القتلى تزداد، وهتلر يردد أن ألمانيا فوق الجميع
وعندما مات الرجال أخذ الصبيان الصغار للمشاركة فى الحرب. كانت القنابل
تنهار علينا من كل جانب واضطررنا للانتقال لكوخ صيفى من الخشب بجوار شاطئ
البحر لم تكن به نوافذ فوضعنا عليه ورق الكارتون، كثيرا ما شعرت أنا وأمى
ووالداها بالجوع نتيجة نقص الطعام ولكن كل الشعب الألمانى كان يعانى لم نكن
وحدنا.أذكر أن أمى كانت تنطلق فى الغابة لجمع بعض الأعشاب وطبخها لنا، كما
كان الخبز يوزع فى المدارس بمعدل رغيف لكل فرد مرة واحدة فى الأسبوع. كانت
أمى وجدتى تحملان أجساد الموتى ويضعنها فى صندوق من الخشب لدفنها دفناً
جماعيا حتى لا تتفشى الأمراض».
وقتها كانت جينا تبلغ من العمر 5 سنوات وقد ألحقتها أمها بمعهد لتعلم
الباليه، وأظهرت فيه تفوقا وموهبة حتى صارت بطلة لعدد من عروض المعهد
ببلوغها ست سنوات من عمرها. ولكنها ظلت تعانى مع أسرتها ويلات الحرب التى
اشتدت تفاصيلها وصار الحديث عن رعب يصيبهم منها، أو ملاجئ يختبئون بها
خوفاً من طلقات مدافع أو قذائف طائرات، حديثا مكرراً. تقول جينا: «فى العام
1944 وكان عمرى 8 سنوات حاولنا أنا وأمى وجدتى الهرب لسويسرا ولكن فشلت
محاولتنا وتم ترحيلنا إلى قرية «كينتس» فى المنطقة الشرقية وظللنا بها حتى
انتهاء الحرب فى العام 1945 وتقسيم ألمانيا إلى جزءين تسيطر روسيا على
الشرقى منه، بينما تسيطر أمريكا وإنجلترا على الجانب الغربى منه. فى العام
1946 نجحنا فى الهرب إلى الجزء الغربى من ألمانيا بمساعدة جنود إنجليز،
واستقررنا فى ميونيخ والتحقت أمى بالعمل كممرضة فى احد المستشفيات. كان
الفارق فى المعاملة بين الروس والأمريكان والإنجليز كالفارق بين الأرض
والسماء. ولكن أخذت الأمور فترة طويلة حتى استقرت. ونجح والدى فى لقائنا فى
باريس فى العام 1946 وقضى معنا شهرين. كانت تلك المرة الأولى التى أرى فيها
والدى منذ سنوات. أذكر يومها أن والدتى ألبستنى فستاناً نظيفاً وحضرت
الطعام، وقالت لى سيأتى ضيف مهم اليوم لزيارتنا. وعندما دق الباب وجدت أبى
يدخل وهو يحمل فى يده عروسة صينى رائعة وجرى على واحتضننى. أتعرفين عندما
أشاهد فيلم «لعبة الست» أشعر أنه أكثر الأفلام تعبيرا وقربا من شخصية بابا
الحقيقية. كان هكذا حنوناً هادئاً محباً للبيت ومن فيه».
سرعان ما تنتهى زيارة نجيب الريحانى لابنته وأمها ويعود لمصر إلا أنه
فى صيف عام 1947 يعاود لقائهما فى باريس، ثم تكرر لقائهما فى مصر فى أعياد
كريسماس عام 1947 ليقضيا الإجازة فى فندق «وينتر بالاس» بالأقصر بعيداً عن
أعين الناس، فى تلك الزيارة زارت جينا مسرح الريحانى هى وأمها وشاهدته على
المسرح والناس تصفق له دون أن يجرؤ أى منهما على الدخول له فى الكواليس.
وسرعان ما تنتهى زيارتهما لتعودا إلى ألمانيا من جديد. ويغيبا عن نجيب
الريحانى لمدة عام كامل لا ترياه فيه إلا فى أعياد كريسماس عام 1948. كان
قد استأجر لهما شقة فى جاردن سيتى وكان يتردد عليهما خفية بين الحين
والآخر، إلا أن أعماله وانشغاله بقصة حب جديدة جعلت من لقائه بهما فى تلك
الفترة أمراً نادر الحدوث، وهو ما أغضب لوسى التى شعرت بأنه لا يحفل بها
ولا بابنته ولذا ثارت بينهما المشاكل كلما حل لزيارتهما. وهو ما تقول عنه
جينا: «كنت أشعر بالخوف والقلق كلما رأيتهما يتحدثان بغضب أمى تقول أنها
ملت تلك الحياة وهو يقول لها أنه لا يستطيع فعل شىء آخر، ولذا جاء سفرنا
أنا وأمى بعد انقضاء إجازة الكريسماس. لم أكن أعلم أن تلك هى المرة الأخيرة
التى ستتاح لى فيها رؤية أبى. كان عمرى وقتها 11 عاماً».
فى يونيو من العام 1948 أصيب الريحانى بالتيفود ونقل إلى المستشفى
اليونانى، كانت حالته تزداد سوءاً يوماً بعد يوم حتى كانت وفاته فى الثامن
من يونيو فى إحدى حجرات المستشفى، لتصل برقية للوسى وابنتها جينا من أحد
معارفه تخبرهما بوفاته. فلم تسعيا لإثبات حقهما فى الميراث أو للحصول على
أى شىء تركه، لأن لوسى كانت تعلم أن هناك من سيقاتل فى سبيل تلك الأشياء.
وهو ما تعلق عليه جينا قائلة: «شعرت يوم وفاة أبى بأننى فقدت كل شىء فى
حياتى وقتها تعايشت مع الواقع، ولكن ظل فى نفسى حنين لمصر التى لم أحس أن
لى وطناً غيرها. علمت فيما بعد أن من استطاع أن يأخذ شيئاً من شقة أبى فى
عمارة الإيموبيليا أخذه. وقد مات أبى وعليه ديون 200 جنيه للضرائب فباعوا
ما تبقى من مقتنيات شقته لسدادها».
تمر سنوات الطفلة وحنينها لأبيها وكل ما يذكرها به يعيش بداخلها تقول:
«بعدما نضجت صحبت فرقة الباليه التى كنت أعمل بها للشرق الأوسط لإحياء بعض
الحفلات وعندما حضرنا لمصر حاولت تقصى سيرة والدى لكننى لم أعرف، فعدت
لألمانيا بعد خلاف مع الفرقة وعملت فى شركة لتنظيم المعارض الدولية. وفى
إحدى المرات كان لدينا مهمة المشاركة فى المعرض الزراعى فى القاهرة وعندما
حضرت شاهدت زوجى وكان محاسباً مصرياً من عائلة ثرية ومحافظة من الصعيد.
تطورت الأمور بسرعة وطلب منى الزواج وسافر للقاء والدتى التى لم تكن مرحبة
لأننى سأبتعد عنها، ولكننى كنت أعرف أن قدرى فى مصر فتزوجنا وعشنا فى
الإسكندرية. كان زوجى غيوراً يرفض حتى أن أتبادل الحديث مع أى أحد فعشت معه
أحاول أن أطيع طبيعته تجنبا للمشاكل، وأنجبنا ابناً وابنة ولم أظهر للناس
إلا بعد وفاته منذ عامين».
فى منزل «جينا» شاهدنا صور زوجها وأبنائها وأحفادها ولكنها طلبت منا
ألا نعرض لهم فى الحديث احتراما لرغبة زوجها وأبنائها. والآن صدق جينا أو
لا تصدقها، اعتبر قصتها دربا من الخيال إن شئت أو انظر لها على أنها حقيقة
تؤكدها شهادة تعميدها. ولكن من قال أن الحياة دائما ما تسير على نسق المنطق
ودربه؟
المصري اليوم في
31/05/2010
مذكرات الضاحك الباكي.. «الريحانى» (2)
حكايتى مع الفقر والنساء
نشوي الحوفي
عندما تقرأ مذكرات نجيب الريحانى التى كتبها بيده ونشرتها مجلة
«الاثنين» عام ١٩٣٧ للمرة الأولى، تدرك أنه لا خلاف بين «الريحانى» على
الشاشة و«الريحانى» فى الحياة، بخلاف فروق لا يعلمها إلا من عايشوه.. «الريحانى»
يكتب مازجاً فى كلماته بين الجدية والسخرية حتى من ذاته وأقداره التى غلب
عليها البؤس فى كثير من سنوات عمره ومن تصريف الأمور التى صعدت به إلى عنان
السماء فى بعض الأحيان، وسرعان ما هبطت به إلى قاع الأرض.
ينتزع منك الضحكات وهو يروى مسيرة أيامه غير خجل من أخطاء ارتكبها،
ولا من وضع آل إليه. إلا أن ما يسيطر عليها - حياته - منذ بدايتها لنهايتها
هو عشقه الطاغى للتمثيل الذى غلب عليه كيانه، وحبه الدائم المتواصل للنساء،
رغم تركز تأثيرهن فى ثلاث نساء هن: «لوسى دى فرناى»،
صديقته وشريكة حياته وأم ابنته «جينا»، و«بديعة مصابنى» زوجته الأولى
التى تزوجها عام ١٩٢٤، و«جوزفين بيكر» المطربة السمراء ذات الأصول
الأمريكية، التى جاءت إلى مصر فى العام ١٩١٨، ومثلت معه عدداً من المسرحيات
بالفرنسية وأحبها. لتدرك ألا شىء كان يعوق الريحانى عملاق الكوميديا عن
التمثيل أو العشق، يتحدث عنهما من دون مواربة.
يقول فى مقدمة المذكرات، التى أعاد تقديمها الدكتور محمد كامل
القليوبى، فى كتاب صدر بمناسبة مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى العام
٢٠٠٧: «قبل أن أسمح لنفسى بنشر مذكراتى فكرت فى الأمر كثيرا لا لشىء إلا
لأننى خلقت صريحا لا أخشى اللوم فى الحق ولا أميل إلى المواربة والمداراة.
فهل يا ترى أظل فيما أكتب متحلياً بهذه الخليقة؟ أم يدفعنى ما درج الناس
عليه من مجاملة إلى عدم المواجهة والتهرب؟».
إلا أن تلك الحيرة فيما يبوح به وما يحجبه، سرعان ما تحسمها طبيعة
الريحانى المتدفقة، حتى إنه يحكى كل ما مر به مهما كانت صادمة للقارئ: «آليت
على نفسى أن أقول الواقع مهما حاقت بى مرارته وأسجل الحقائق مهما كان فيها
من ألم ينالنى قبل أن ينال غيرى ممن جمعتنى بهم آية جامعة وربطتنى بهم أقل
رابطة».
هكذا نبدأ المذكرات كما رواها عملاق الكوميديا. وعلى الرغم من أنه لم
يحدد فيها سنة ميلاد، إلا أن شهادة تعميده فى الكنيسة التى تمت فى مايو عام
١٨٩٠، تشير إلى أن عمره كان وقتها عاماً وثلاثة أشهر وهو ما يعنى أنه من
مواليد فبراير ١٨٨٩ فى حى باب الشعرية بالقاهرة لأب عراقى مسيحى وأم مصرية
مسيحية.
وتعلم فى مدرسة «الفرير» بحى «الخرنفش» ولم يغادرها، كما يقول، إلا
بعد أن نال منها «المؤونة» الكافية من تعليم وخبرة. ولحبه وتفوقه فى الآداب
التى كان يعشقها جاء له أبوه بشيخ يدعى «بحر» لتزويده بمهارات إلقاء الشعر
ونبرات التمثيل. وفى سن الـ١٦ مات والد الريحانى وكان عليه أن يلتحق بأى
عمل للإنفاق على أسرته، حيث كان أبوه قرر أن يترك ما جمعه فى الدنيا قبل
رحيله لابنة شقيقته اليتيمة.
ولم يكن شقيقه الأكبر توفيق ممن يتحملون المسؤولية، وهكذا التحق
الريحانى بالعمل فى البنك الزراعى الذى التقى فيه عزيز عيد، الذى دعم عشق
الريحانى للتمثيل وبخاصة التراجيدى دون الكوميدى. كان يمارس التمثيل أثناء
ساعات العمل حتى كان يوم دخل عليه المدير فقرر رفته، وكان يخلو لنفسه فى
المنزل وهات يا إلقاء وخد يا تمثيل، حتى ضجت أمه وكاد إخوته أن يتركوا
البيت، ولكنه لم يكن يضع شيئاً فى باله. وكانت أول رواية مسرحية يشارك فيها
بعنوان «الملك يلهو».
ويقطع الريحانى حديثه عن المسرح فى مذكراته ليحكى قصة أول غرام،
فيقول: «كنا نجلس فى قهوة إسكندر فرح المجاورة لمسرحه فى شارع عبدالعزيز،
وكان من بين زبائن القهوة الممثل القديم على أفندى يوسف وكان لـ«على»
«قطقوطة» من بين الممثلات تحتل أحد أركان قهوة الفن وهى السيدة (ص.ق).
وعندما ذهبت لأشاركهما الحديث ذات يوم كانت نظرة فابتسامة فمش عارف
إيه فشبكان وظلت أواصر الصداقة تتواصل بينى وبين فتاة على يوسف بينما
تتراخى بينها وبين صديقها دون أن يعلم من أمرنا شيئاً، حتى لعب الفأر فى
عبه وقاتل الله الفئران كلها من أجل هذا الذى لعب فى عب أبى يوسف. ولكنه
كان على قدر كبير من اللؤم فلم يبد لنا شيئاً مما فى نفسه وعمل على
مراقبتنا من حيث لا نشعر.
وقتها كنت صبياً فى السادسة عشرة من عمرى ومع عدم المساس بفضيلة
التواضع أرى أنه لا مانع من الاعتراف أن خلقتى لم تكن لتقارن، أستغفر الله
العظيم، بخلقة الصديق على يوسف، زد على ذلك أننى كنت موظفاً مضمون الإيراد
فى حين كان منافسى يا مولاى كما خلقتنى. ولذا اتفقت مع الغزال النافر على
تمضية نهاية الأسبوع فى الإسكندرية، بعيداً عن يوسف ورقابته القاسية.
وبما أن يوم الأحد هو يوم عطلة البنوك فحصل الرضا والاتفاق بينى وبين
محبوبتى على أن نغادر القاهرة ظهر السبت ونعود صباح الاثنين، ولكن قبل موعد
الخروج من البنك زارنى فى مكتبى على يوسف وألح على فى أن أقرضه شيئا من
المال، لأنه دعا عدداً من أصدقائه لنزهة، فأعطيته ما طلب وأنا أحمد الله
على زحلقته وأدعو بطول العمر لأصدقائه الذين شغلوه عنى فى هذا الظرف
السعيد.
وفى الموعد المحدد قصدت إلى محطة السكة الحديد فوجدت «الكتكوتة» على
أحر من الجمر فى انتظارى على رصيف القطار، الذى امتطيناه وقلوبنا ترقص
فرحاً وعندما وصلنا الإسكندرية نزلنا نسير وخلفنا الشيال يحمل حقيبتنا
المشتركة، وما كدت أسير خطوات متأبطاً ذراع المحبوبة حتى برز أمامى عزرائيل
فى ثياب الصديق الملعون على يوسف. وراح يستقبلنا هاشا باشا مرحبا وهو يمد
لى يده بالتحية شاكرا إياى على دفع مصاريف السفر لحضرته وحضرتها، بسلامتها
الست المصونة والجوهرة المكنونة، الذى استلبها منى وتركانى أعض بنان الندم.
وظللت واقفا فى مكانى حتى دنت ساعة القطار العائد إلى مصر فامتطيته وجئت
أضرب أخماساً فى أسداس».
لا يقف الأمر مع تلك السيدة (ص.ق) عند تلك الواقعة مع الريحانى الذى
يحكى عن واقعة ضمت ثلاثتهم مرة أخرى. يقول: «اتفقت معى الكتكوتة على إشارة
معينة، هى أنها إذا وضعت نوراً فى النافذة كان معنى ذلك أن علياً بن أبى
يوسف غائب عن البيت، وأن فى وسعى أن أزورها والعكس بالعكس. وفى إحدى
الليالى تراءى لى النور فعرفت أن الطريق خال، وأن السنافور مفتوح، فخلعت
حذائى وتأبطته ثم صعدت السلم بلا حركة وطرقت الباب طرقا خفيفاً جدا، وإذا
الفاتح هو غريمى على يوسف، الذى تناول الحذاء من يدى وتركنى أعدو إلى
الشارع ببذلتى حافى القدمين».
بعد تركه للبنك الزراعى لم يجد الريحانى مأوى له سوى قهوة الفن، حتى
التقى، بـ«أمين عطا الله»، وكان ممثلاً سوريا جاء لمصر فعرض عليه أن يسافر
معه للإسكندرية للتمثيل فى فرقة أخيه سليم عطا الله، التى كانت تحظى بعطف
البلدية التى تمنحها إعانة مالية، ليقبل الريحانى العرض مباشرة مقابل راتب
شهرى قدره ٤ جنيهات. وكان أول مرتب ذى قيمة يتقاضاه من التمثيل.
ويحكى الريحانى قائلاً: «كانت الفرقة تعتزم تمثيل رواية (شارلمان
الأكبر) وكان العرف يقضى أن يُسند دور البطولة إلى مدير الفرقة بينما أسند
لى الدور الثانى وهو دور شارلمان نفسه. وتهيأت لى الفرصة التى كنت أرقبها
من زمن فى أن يسند لى دور فى إحدى الدرامات،
وفى نهاية الفصل الثالث من الرواية مشهد رائع وحوار بديع بين شارلمان
وبطل الرواية. أجهدت نفسى فى أداء المشهد وبذلت قصارى جهدى فكان لى ما
ابتغيت إذ حالفنى الحظ بشكل لم أكن أنتظره، حتى لقد أفهمنى الكثيرون أننى
طغيت على البطل نفسه.
وحين أسدل ستار هذا الفصل هالنى أن جمهرة من الفضلاء والأدباء وأغلبهم
من أصدقاء مدير الفرقة صعدوا إلى المسرح، وقابلوا المدير فى غرفته وطلبوا
استدعائى وأجزلوا فى تهنئتى ونصحوا المدير بالاحتفاظ بى، لأننى على حد
قولهم سأكون ممثلاً لا يشق له غبار. وفرحت بل ظقطط بعد هذا المديح، الذى
انهال على من حيث لا أحتسب. وفى صباح اليوم التالى استدعانى المدير، فقلت
يا واد جالك الفرج وظللت أخمن وأحذر مقدار العلاوة التى سيتحفنى بها.
حبكت أزرار جاكتتى ودخلت على مديرى باسما متهللا معللا نفسى بالآمال،
قائلاً فى نفسى: (يكفينى أن تكون العلاوة جنيه واحد وخلينى لطيف). وبعد هذا
الحوار الظريف الذى دار بينى أنا نجيب الريحانى وبين نفسى التى هى أمارة
بالسوء، بادرنى المدير قائلاً: «متأسف جداً يا نجيب أفندى لأن الفرقة
استغنت عنك».
يا نهار زى الحبر يا ولاد.. استغنت عنى، وهل يعتبر النجاح جرماً يعاقب
عليه الممثل؟ وإذا كان الأمر كذلك فلم لم تصدر لى الأوامر قبل التمثيل حتى
كنت ألجأ للسقوط التام والفشل الزؤام؟ نهايته أخدتها من قصيرها وعدت
للقاهرة ففى قهوة الفن متسع للجميع ومن فات قديمه تاه».
وكأن عيوب زمانه مثل عيوب زماننا فكم من «مليح» العمل تركه بفضل
مهارته وتفوقه، ولكن يبدو أن للتفوق شروطاً أهمها ألا تتعدى فى نجاحك أو
تقترب من حدود ولى النعمة، وإلا فذنبك على جنبك مثل عمك نجيب الذى طال
جلوسه على مقهى الفن، وحفيت قدماه دون أن يجد عملاً يقتات منه، حتى كانت
سنة١٩١٠ حينما عثر على وظيفة فى شركة سكر نجع حمادى ليسارع بالسفر لتسلم
العمل، تاركاً وسط التمثيل الذى يعشقه ويتمناه.
اجتهد فى العمل فى النجع حتى نال رضا رؤسائه وإعجابهم ولكن دوام الحال
من المحال، وعند صفو الليالى يحدث الكدر. فإن كان قد ترك عشق الفن، فعشق
النساء فى شريانه يجرى جريان الدم. يقول نجيب الريحانى فيما خطته يداه:
«تتراءى لى تلك الواقعة بعد سبعة أشهر من عملى هناك، فقوضت ما بنيت من
المستقبل وحملتنى من حال إلى حال.
قاتل الله الشيطان، واقعة أذكرها من باب التسجيل وإن كان الخجل يكسونى
كلما طوح بى الفكر إلى تلك الذكرى البعيدة. كان باشكاتب الشركة رجلاً مسناً
اسمه (عم ت) وكان على نياته وكل همه أن يتلو الإنجيل ويستوعب معانيه، وكان
مسكنى مواجها لمسكنه فولدت بيننا الجيرة اتصالا وثيقاً.
وكانت السيدة حرم (عم ت) على جانب كبير من الجمال وكانت فى سن تسمح
بأن تكون ابنته لا زوجته، وكذلك أنا وإلى هنا تسير المسألة فى مجراها
الطبيعى الذى ترسمه طبيعة كل شىء. وفى أحد أيام الشهر السابع من عملى فى
نجع حمادى اضطرت الأعمال حضرة الباشكاتب إلى السفر لمصر فى مهمة مصلحية،
وإذ ذاك خلا الجو للشباب وحلا له أن يمرح، فحدث أن اتفقنا على ألا تغلق
بابها الخارجى حتى أستطيع المرور فى منتصف الليل، وتم الترتيب كما اتفقنا،
وذهبت لمخدعها بعد أن تظاهرت أمام الخادمة أنها أقفلت الباب،
ولكن لا أدرى أى شيطان دفع بهذه الخادمة اللعينة إلى القيام بعد ذلك
بإحكام إغلاق الباب من الداخل. حان موعد اللقاء فتسللت، وما أشد دهشتى
حينما وجدت الباب موصداً دون غرامى وأحلامى، فاستشرت الشيطان فيما أفعل،
فدلنى قاتله الله إلى منفذ فى السقف تدليت منه، ولكن الخادمة استيقظت فى
نفس اللحظة، وظنتنى لصاً فصرخت بصوتها المنكر وصحا الجيران ووفد الخفراء
وألقى القبض على، وكانت فضيحة اكتفوا عقبها بفصلى من عملى فعدت إلى محلى
المختار على قهوة الفن بشارع عبدالعزيز».
«أنا مدين بمكانتى وشهرتى ونجاحى لأستاذ عظيم.. هو الفقر» عبارة رددها
نجيب الريحانى، ولكن فقر الريحانى لم يكن بالأمر السهل. كان من الممكن أن
يمكث بلا طعام لمدة يومين متتاليين خاصة أن والدته أوصدت بابها دونه بعد
فصله من شركة السكر، ولكنه كان عزيز النفس، رفض أن يذل نفسه لأحد حتى
والدته، فكان يمكث فى قهوة الفن حتى موعد انتهاء العمل بها فى الثانية بعد
منتصف الليل،
ثم يغادرها إلى كوبرى قصر النيل متجهاً للجزيرة حتى إذا أعياه التعب،
استلقى على الإفريز وتوسد حجرا من أحجار الطريق حتى الصباح. يحكى عن تلك
الأيام فيقول: «وإن نسيت فلن أنسى يوماً قمت فيه من النوم وتلفت فإذا تحت
وسادتى كنز، كنز ثمين لا يعرف قيمته إلا المفلسون، أتعرفون ما هو، قرش
تعريفه. وافرحتاه خمسة مليمات حته واحدة ما هذا الفتوح، وعندها وسعت على
نفسى فى الإفطار، وإن شا الله ما حد حوش، فقد أكلت طعاماً دسماً عماده
الفول المدمس والسلطة والطعمية والعيش، كمان كانت الدنيا مبحبحة والقرش
تعريفة ثروة».
وكأن الزمان أراد أن يرسل له ونيساً فى ليله، حيث كان يتلمس مكانا له
فى ظلام إحدى الليالى ليستريح فيه، فتعثرت قدماه بشىء تحسسه، فكان إنساناً،
وحين استيقظ عرف أنه صديقه الكاتب محمود صادق سيف!!
نجيب: ما الذى جاء بك هنا يا محمود؟
محمود: هو الذى جاء بك أنت يا نجيب.
نجيب: إذاً كلانا يسكن فندقاً واحداً!
إلا أن تلك الصحبة لم يقتصر أثرها على تزويد الريحانى بالنديم، ولكنها
أثمرت عن حصوله على عمل يقتات منه ويسكن بسببه فى غرفة أحد البنسيونات.
والحكاية كما يرويها تقول: «جاءنى محمود سيف ذات يوم مبتهجاً وقال اسمع يا
نجيب صاحب مكتبة المعارف كلفنى بتعريب أجزاء فرنسية من رواية اسمها «نقولا
كارتر» واتفق معى على أن أتناول مقابل ذلك ١٢٠ قرشاً عن كل جزء وستصدر
أسبوعيا، وأنت تجيد الفرنسية كما أجيد أنا العربية فهيا نتشارك فى العمل
ونقتسم الثمن مناصفة.
وفى الحال نفذنا الفكرة وظللنا نتقاضى الأجر فرحين وكان صاحب دار
المعارف يدير فندقا فى أعلى المكتبة فاتفق معنا على استئجار غرفة نظير خمسة
قروش فى الليلة وكان يخصمها من الأجر الذى نتقاضاه منه، كانت الغرفة تحتوى
على سرير واحد وكنبة مفروشة، وكان السرير موضع نزاع دائم بينى وبين محمود
صادق».
كانت فرقة الشيخ أحمد الشامى تقدم المسرحيات المترجمة عن الفرنسية،
وكانت تبحث عن معرب وممثل، وكانت الوظيفة من نصيب الريحانى مقابل ٤ جنيهات
فى الشهر. كانت الفرقة تجول كل مدن وقرى مصر، من نقطة إلى أخرى تنطلق.
وكانوا يستأجرون بيتاً يسع الفرقة كلها إذا ما حلوا بقرية أو مدينة توفيرا
للتكاليف. فكان أعضاء الفرقة يصحبون فى ترحلهم مراتب ومخدات وألحفة.
وفى ذات يوم كانت الفرقة فى طنطا وفجأة طرق باب البيت الذى ينزلون
فيه، وعندما تم فتحه وجد والدته أمامه. يقول الريحانى: «واكسوفاه كنت أتمنى
أن تشق الأرض وتبتلعنى حتى لا ترانى أمى على الحال التى كنت بها، خصوصاً
أننى كنت عامل أبو على وطالع فيها ومتظاهر أننى فى غير حاجة لأهلى ما داموا
ينكروننى.
إلا أن سبب مجىء والدتى هو أنه وصلنى خطاب على عنوانى بالقاهرة من
مصنع السكر فى نجع حمادى يدعوننى فيه للعودة للعمل. كان طلب الشركة عودتى
لها سبب دهشة كبيرة لى إلا أنه إذا عرف السبب بطل العجب، فقد حدث بين بعض
موظفى الشركة وعم ت خلاف استحكمت حلقاته، ولكنهم لم يتمكنوا منه، ولم يجدوا
سببا لفصله من عمله، فهداهم تفكيرهم إلى استعمال الحيلة بأن يعيدونى لعملى
بالشركة، فلا يجد غريمى العم ت بداً من هجر الشركة والبلد بمن فيه.
بالطبع لم أتوان عن قبول الوظيفة وجمعت عزالى وهو عبارة عن مخدة ولحاف
ومرتبة وكام هدمة، وعدت سريعا للقاهرة ومنها إلى نجع حمادى، حيث استلمت
عملى وأنا أقسم جهد أيمانى أننى لن أعود للتمثيل مهما حدث، ومهما كانت
الأسباب. فهل بررت بقسمى؟».
ويل لمن تمسك الموهبة بتلابيب روحه وقلبه وإبداعه، فهكذا كان حال نجيب
الريحانى الذى حاول التمسك بقسمه على مدى عامين من ١٩١٠-١٩١٢ ادخر فيها ٢٠٠
جنيه ذهبية، وكان هادئا مستريح البال، حتى تلقى خطاباً من عزيز عيد يخبره
فيه بأن جورج أبيض عاد من أوروبا وأنشأ فرقة مسرحية، وأن الصحافة بدأت فى
الاهتمام بالمسرح، فقرر النزول للقاهرة فى إجازة شهرين ليشاهد تمثيل جورج
أبيض، وتوسع فى الإنفاق هنا وهناك، حتى نفد ماله، واقترض ثمن تذكرة القطار
لنجع حمادى فى طريق عودته لعمله.
يقول الريحانى: «بعد عودتى ساءت أحوالى وعادت غيَّة التمثيل تراودنى
فى الغدو والرواح، وكان لى صديق اسمه دكتور جودة كان صديقا لى فى نجع حمادى
كنت أجبره على الإنصات لى تارة أقلد جورج أبيض وتارة عزيز عيد، وكم ضاق بى
جودة ذرعاً وتهرب منى حين كنت أجبره على السهر معى، حتى شاء الله بعد فترة
أن يجد الدكتور جودة من يحمل العبء عنه إذ وفد على نجع حمادى المهندس
الظريف الأستاذ محمد عبدالقدوس منقولا إلى مدرسة الصنايع هناك. فائتلفنا
ائتلافا تاما وتسلينا بكل ما تعنيه الكلمة، وتباحثنا فى فنون الدردحة، ولا
أعرف أكنت أتلقى هذه الفنون على يد «كندس» أم كنت ألقنه إياها؟
كان يلقى على «مونولوج»، وأنا أجلس منه فى مقاعد الشعب من الممثل، ثم
يأتى دورى فألقى بقطعة تمثيلية يحتل هو أثناء إلقائى لها مكانى بصفته
متفرجاً، وهكذا إلى أن يأذن الليل بالرحيل.
ولكن لم يطل بقاء «كندس» فى نجع حمادى بل غادرها منقولا أو مرفوتا لست
أدرى. الذى أدريه أنه ترك وحشة وفراغاً لم أكن أتوقعهما».
المصري اليوم في
05/06/2010 |