يعاين المخرج والاعلامي المصري أسعد طه في شريطه الجديد (بريشتينا غزة)
قضيتين على غاية في التعقيد. صحيح أنه يفرد مساحة واسعة للحديث المصور عن
نضالات ألبان كوسوفو ونيلهم الاستقلال في شباط من عام 2008، إلا أن مربط
الفرس في ( النقطة الساخنة ) يكمن في فلسطين بالذات هذه المرة.
ليست ازدواجية المعايير التي يتّبعها المجتمع الدولي الممثل بالغرب في
تعامله مع القضية الفلسطينية بكافة ملحقاتها الصعبة هو فقط ما يؤخر على
الفلسطينيين انتزاع الاعتراف بدولة مستقلة. ففي الوقت الذي تفوح رائحة
الاستقلال الكوسوفي المزين بالأعلام الأميركية، وعلى وقع طبول الحرب
الأطلسية على صربيا المفاخرة بقوميتها المجنونة حد الانشطار والتمزق
والانتحار، تبدو غزة بعد عدوان 2009، منكمشة على قطاعها وجغرافيتها
الملتبسة، ومحرومة من أبسط مفردات العيش السهل: الخبز والماء.
لا ينطلق أسعد طه من عقد مقارنة سهلة بين كلتي الحالتين. يغوص في التاريخ
نفسه الذي كان بالإمكان أن يدعو للتفاؤل قبل كتابته، ويستعيد صورا أرشيفية
للقدس، ولفلاحين فلسطينيين لايحفلون بالأسماء وهم يعقدون حلقات الدبكة
وحلقات البيع والشراء بينهم. يواصلون حياتهم بالايقاع الريفي البسيط قبل أن
يزول بعد كتابة تاريخ الهجرة المعذب مع وصول طلائع اليهود من مختلف أصقاع
الأرض ليقيموا دولتهم على خرافة الأرض الموعودة.
يبدأ فيلم (بريشتينا ـ غزة) بصور من تاريخ الأسود والأبيض المحير. التاريخ
الذي يجمع بين بين، والواقع بين مرحلتي الكتابة، وليقيم شبح الوصل الدرامي
الذي تفترضه أيضا ثنائية المكانين الصعبين، ولولا تلك المقاربة الذكية في
تساؤله عن هنا وهناك، عن أحقية الكوسوفيين بالحصول على استقلالهم، وعن منع
هذا الحق عن الفلسطينيين بمباركة من القوى نفسها التي باركت هناك استقلال
ألبان كوسوفو، لظهر الفيلم، وكأنه معني فقط بمحاولة تبين هذه الحيرة
المزدوجة التي يخلفها السؤال الصعب عن التطهير العرقي والعنصرية والاستعلاء
في المكانين. هاهو الشاعر الكوسوفي وأستاذ الأدب الفرنسي في جامعة بريشتينا
يقول في مطلع قصيدة له:» كم هي قريبة ... كم هي بعيدة فلسطين». ربما تبدو
قريبة بالفعل، لأن الكوسوفيين الألبان، ومنذ أكثر من أربعة عقود، اخذوا
يطلقون الأسماء الفلسطينية على مواليدهم الجدد، فأصبح لديهم ياسر عرفات
وليلى خالد. وهذا قد يبدو مطمئنا للسياق الانساني الذي انتبه إليه الفيلم،
وهو السياق المكلف الذي تناهب القضيتين المعقدتين الخطرتين، وهما تتشكلان
عبر عقود على مرأى من أنظار المجتمع الدولي المحير بحلوله ومعاييره في أصول
النفاق وبدعه. وهي بعيدة في جانب، لأن الاستقلال الكوسوفي لايشبه الاستقلال
الفلسطيني الناقص الذي أعلنه ياسر عرفات في الجزائر عام 1988، من دون أن
يحظى باعتراف هذا المجتمع الدولي الفائق القوة ، والمتعدد الوجوه والاشارات.
نعم، المكان في الفيلم هو كوسوفو، ولكن القضية هي فلسطين، وبالتالي مايفعله
المخرج هو اللجوء إلى «بدعة « التاريخ نفسه. فهنا يتأكد عمق الروابط، فعدا
عن أن أصحاب هاتين القضيتين مسلمين في غالبيتهم العظمى، إلا أن ثمة مايلفت
في حديث الباحث الألباني المعروف محمد موفاكو حين يقول إن علاقات تاريخية
ربطت بين الألبان والفلسطينيين على مرحلتين: المرحلة الأولى قديمة، وهي
بحاجة للبحث والاستقصاء، ذلك أن بعض القبائل غادرت منطقة بلست الواقعة في
مكان ما على خارطة ألبانيا الكبرى في القرن الثاني عشر إلى كريت، ومنها إلى
فلسطين. هذا جزء من الرواية الألبانية عن الحكاية، ولكن الفترة الأهم بحسب
موفاكو نشأت إبان فترة الحكم العثماني لكل من الشعبين تحت مظلة الدولة
العثمانية لمدة أربعة قرون، وعاشا على وقع قوتها وعلى وقع انهيارها. لابل
إنه في مطلع القرن الماضي تولى بعض الألبان مناصب عليا في حكومات فلسطين،
من دون أن يفوت الفيلم توثيق زيارة المفتي أمين الحسيني التاريخية لمنطقة
البلقان في أربعينيات القرن العشرين، ودعوته مسلميها للتطوع من أجل فلسطين،
وهو الأمر الذي دفع بالعشرات من الألبان والبوسنيين للمجيء والمشاركة في
حرب 1948.
على وقع هذه اللحظات التاريخية المتأرجحة بين الشك واليقين يتساءل أسعد طه
عن سبب نجاح ألبان كوسوفو وفشل الفلسطينيين. بالطبع الأسباب كثيرة، وربما
لاتكون الاجابة وحدها مايسهم بردم هذه الهوة بين الجسرين اللذين ينشأ
عندهما التساؤل الأساسي الذي يقصده المخرج ويمنح هوية الفيلم. ففي الوقت
الذي بدا فيه أن هناك تصدعاً في الاجماع الألباني حول كوسوفا بين ابراهيم
روغوفا الذي قاد المقاومة السلمية، ونجح في تدويل قضية بلاده، وبين آدم
ياشاري الذي أسس جيش تحرير كوسوفو، معتمدا خيار المقاومة المسلحة قبل أن
يلقى مصرعه على يد الصرب ظهر واضحا للجميع أن هناك مسارين في مسار واحد،
وهذا مافشل فيه الفلسطينيون.
المشهد المهيمن على قرية كوسوفية من نافذة يطل منها المخرج والمعد والمقدم،
وهو يدون ملاحظاته، أوروبي بامتياز تفتقر له بلدان كثيرة، قد يكون واحدا من
الأسباب التي منحت ألبان كوسوفو حق تأويل وتفسير حق تقرير المصير، ذلك أن
الغرب الأوروبي البروتستانتي ـ الكاثوليكي يريد أيضا أن يثأر من صربيا
الأرثوذكسية الموالية لروسيا. ربما هذا دفع بروغوفا للتقرب من الفاتيكان،
ايمانا منه بتأثير البابا على هذا الغرب. حتى أن هناك فرضيات تشير إلى أن
المقاوم السلمي أعلن كاثوليكيته في وقت من الأوقات، وأن البابا قد عمده، من
دون أن تحسم شأن هذه الفرضية، مثل غيرها من الفرضيات التي رافقت هذا
الاستقلال (الملغز)، خاصة وأنه عبر مسيرة نضاله السلمي عمد إلى نزع أي بعد
اسلامي عن القضية الكوسوفية.
هل أخفق الفلسطينيون في هذه الخانة بالذات ؟
عبد الباري عطوان يقول في اطلالته عبر الفيلم إنه لم يستخدم أحد الورقة
المسيحية كما استخدمها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي ظل على
الدوام عضوا مسيحيا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، لابل وتزوج هو
نفسه من مسيحية، ولديه مستشارون مسيحيون، ولكن «إن استخدمنا الورقة
المسيحية، فكأننا نستخدم الورقة الاسلامية «. هنا ليس ثمة فرق، فأثناء
مأساة كنيسة المهد وحصارها ، دكت من قبل القوات الاسرائيلية، ولم تحدث
مظاهرة في دولة أوروبية واحدة .
يبدو واضحا بالتأكيد أن ( بريشتينا ـ غزة ) لايبحث عن اجابات، لكنه يحرك
الدوائر في السكون المتاح أمام الجميع، فحتى استقلال كوسوفو لم يحظ باعتراف
عربي لأسباب كثيرة يعرفها العرب ـ ربما ـ قبل الصرب، وهذا مايفسح المجال
أمام غلظة أكبر في حجم الدوائر. فالحالة الفلسطينية كانت في المقابل ضحية
جاهزة لتدخلات اقليمية ودولية، لم تحدث في حالة كوسوفو، ناهيك عن أن تيار
روغوفا وتيار ياشاري خاضا المفاوضات بتنسيق كامل بينهما، وهما قد تمكنا من
ايجاد اطار أمني للمفاوضات مع الصرب، في حين فشلت مفاوضات أوسلو في ايجاد
اطار مماثل يضمن للفلسطينيين تشكيل الدولة ومؤسساتها الديمقراطية.
مايفعله أسعد طه في شريطه الجديد عبر حلول ومتابعات بصرية هو لجوؤه وقت
اشتداد الدوائر من حوله إلى الريف الكوسوفي ، حيث يمنحه فرصة لفضائل
التفكير، وربما للحديث عن مؤمرات وخبث الآخرين ـ كما يقول ـ «من دون أن
نتحدث عن أخطائنا: تغييب البعد الانساني والتحرري والقيمي. ففي حين قدم
الكوسوفيون قضيتهم من دون الاعتماد على العاطفة فقط، بل من خلال شرح
ارادتهم كشعب موحد، حافظ الفلسطينيون على الطروحات العاطفية التي كان
ينقصها البعد العقلاني، وهي الطروحات التي لم يفهمها الغرب يوما، وهو يجد
نفسه ملزما على الدوام باسرائيل وحاجاتها وأمنها وتفوقها.
جون ويتنيك محامي بريطاني ومستشار دولي لمنظمة التحرير الفلسطينية يقول في
الفيلم:» نجح الكوسوفيون في استخدام مفردة الحرية، في حين أنه لم يكن لدى
الفلسطينيين أي استشعار لمثل هذه المفردات التي يفهمها الغرب جيدا. ففي حين
أن لا أحد في هذا الغرب المتحضر يتحرك قلبه للجدار العازل، ركّز
الفلسطينيون على محاولة الظهور دوما بمظهر الشخص الطيب، وغضّوا الطرف عن
مفردات الديمقراطية والحرية بمنأى عن العنف، لأن هذا ماكان سيجعل الأعداء
بلاحول ولاقوة. القيادة الفلسطينية فشلت تماما، ولم تفعل سوى تملق الولايات
المتحدة. هذا التملق الذي لم يؤد في نهاية المطاف إلى تحول أخلاقي عند
الغرب. هذا لم يحدث. ولن يحدث في المستقبل.
كوسوفو بهذا المعنى مثال نادر على وجودها كبرميل بارود في أوروبا التي
لاتقوى على مشاهدة حروب من أي نوع على أراضيها بعد حربين عالميتين مدمرتين.
هذا عار غير مقبول حدوثه إلا في أمكنة أخرى. كوسوفو برميل بارود، لاالغرب
يريد تصغير حجمه، وتصغير شأنه بقصد تلاشيه، ولا يريد بالمقابل للشرارة أن
تصل إليه. أما غزة، فموضوع مختلف، يراد لها أن تكون برميل بارود يمكنه أن
ينفجر إلى الداخل، ويمحو حتى امكانية التساؤل عن سبب نجاح هنا ..... وفشل
هناك.
أسعد طه مخرج وصحافي ومنتج مصري، من مواليد مدينة السويس 1956. شارك في
تغطية حروب يوغوسلافيا، الشيشان، الكونغو، جنوب السودان، الصومال، العراق،
الحرب الأهلية في ألبانيا، وتنّقل في مناطق أزمات دولية كثيرة ليقدم صورة
مشرقة للاعلامي العربي الجديد، وهو اشتهر باعداد وثائقيات تقصي الحقائق في
سلسلة «نقطة ساخنة» و»يحكى أن» اللتين عرضت لهما فضائية الجزيرة على مدى
سنوات. وقد قام مهرجان
MIPDOC أحد فعاليات مهرجان كان السينمائي بتكريمه أخيرا (10 ـ 11 نيسان)
الماضي على مجمل أعماله باعتباره مخرجا ومنتجا قدم من خلال شركته ( هوت
سبوت فيلمز ) مايقارب من 900 ساعة وثائقية.
المستقبل اللبنانية في
30/05/2010 |