يبدو مهرجان الأفلام القصيرة
الاسبانية الذي جرى تدشينه قبل فترة قصيرة بالقاهرة مهما من أكثر من زاوية،
سواء من
حيث التوقيت أو المحتوى الفني، والأهم من ذلك الرسالة التى تقف وراءه.
إذ يأتي
بعد قرابة شهر من 'مهرجان الصورة' الفرنسي، ومحاولة الاختراق الصهيوني،
وفرض
التطبيع الثقافي على الشعب المصري من البوابة السينمائية، وما تركته من اثر
سلبي،
وشرخ في جدار الثقة مع المؤسسات الثقافية الاوروبية، غير أن هذا المهرجان
الأسباني
الذي حرصت السفارة الاسبانية على تجنيبه حالة جدل مشابهة لما قام به
الفرنسيون، بل
والاهتمام بأن تسبقه ورشة عمل تعمل على إعداد فريق من المترجمين المتخصصين
في ترجمة
الأفلام من الأسبانية إلى العربية، خفف حدة التوتر، وبدا بشكل غير مباشر،
كما لو
كان محاولة لترميم الشروخ، وإستعادة مناخ الحوار و التواصل الحضاري،
والعودة
لطرح'تحالف الحضارات' الذي بادر إلى الدعوة إليه قبل سنوات قليلة رئيس
الوزراء
الاسباني لويس ثاباتيرو.
وقد كانت خطوة ترجمة الأفلام إلى العربية جيدة للغاية،
إذ عكست اهتماما بالوصول إلى الجمهور المصري بلغته الأم، وهو ما لاقى صدى
طيبا، عبر
عن نفسه في الحضور الواسع، مقارنة بعروض أخرى غير مترجمة، أو مترجمة عبر
لغة وسيطة
كالأنكليزية.
ولاشك أن الوسيط السينمائي أفضل الوسائل للتقارب بين الشعوب،
والتعريف بثقافة الآخر، وقيمه التى في الأخير إذا ما تأملناها، سنجد
المشتركات أكثر
من التباينات، فالهم الإنساني واحد، سواء في مصر أو اسبانيا أو أي مكان على
سطح
الأرض، خاصة بعد تحول العالم إلى قرية صغيرة في ظل العولمة، وطغيان نفس
الثقافة
المادية ذات الطابع الاستهلاكي.
وهو ما تجلى بوضوح في مضامين الأفلام المطروحة،
التي في معظمها تتميز بالجودة الفنية والفكرية، وجرأة التناول لـ'ثيمات'
تتعلق
بالواقع اليومي، والمعاناة الانسانية على أكثر من مستوى، ومن أكثر من زاوية
رؤية.
ففي فيلم'ضد الجسد' على سبيل المثال، نرى المخرج ادواردو تشابيرو جاكسون
يطرح أفكارا فلسفية عميقة كتشيؤ الإنسان في المجتمع الرأسمالي،خاصة المرأة،
على نحو
يجعلها أقرب لسلعة لها قابلية البيع والشراء، والعرض في واجهة المحال، بل و
لها
صلاحية بعدها يكون مكانها الإلقاء مع النفايات.
وقد عالج المخرج هذه الثيمة بشكل
إبتكاري أعتمد على الصورة والموسيقي والحركة، وأستغنى عن الحوار تماما، مع
مونتاج
بارع أتكأ على القطع المتوازي بين'المانيكان' منذ لحظة صنعه، إلى عرضه،
وإنتهاء
بصلاحيته وإلقائه مع القمامة وتفتيته، وبين شابة تبدو مهوسة بجسدها،
وقوامها لدرجة
أنها طوال الوقت مهمومة بوزن وقياس كل جزء، إلى أن تصاب بالسرطان على ما
يبدو،
وتصبح طريحة الفراش، ثم ينتهي أجلها.
وأستهل المخرج فيلمه بإستعراض صور أغلفة
مجلات تتصدرها فتاة، ثم أنتقل لجسد عار، فموازين كثيرة، ثم فتاة
تصنع'مانيكان'
بلاستيكيا، ثم تضع نفسها داخله، كما لو كان يريد أن يقول إنه لا فرق بين
المرأة،
وهذا الجماد الذي يُعرض للمارة، فكلاهما يؤدي نفس الوظيفة، ويتعرض لنفس
الإستغلال،
ويحظى بنفس المعاملة، كما لو كان شيئا، وليس بشرا له مشاعر واحاسيس.
ومن وقت
لآخر يقطع المخرج على وجه طفلة صغيرة تنظر بتأمل لـ'المانيكان' المرتدي
فستان
سواريه جذاب، كما لو كانت الطفلة هي ذاتها المرأة، التى حلمت بأن تكبر
وترتدي هذا
الفستان الأنيق، فتحولت إلى كائن مستهلك، ومُستهلك، ولكي تدفع ثمن هذه
الأناقة
عليها أن تكون جزءا من قانون السوق، وسلعة من سلعه التي تباع وتشتري
وتُستهلك، وفي
الأخير يكون مصيرها المعاناة القاسية التى جرى التعبير عنها بالمرض العضال،
والوحدة، والإهمال، ثم الموت غير مأسوف عليها، كالتمثال الجبسي الذي يختلط
بالقمامة، ولا يبالي أحد به، بعد أن كان جذابا وملفتا للانظار.
ويبدو هذا الفيلم
الذي أتخذ عنوانا دالا 'ضد الجسد'، كما لو كان صرخة في وجه المجتمع
الرأسمالي الذي
يكرس لقيم غير إنسانية، ويزداد فيه الخواء الروحي، ومعاملة المرأة بشكل
خاص، كجسد،
وليس كعقل أو روح.
ويقترب فيلم'روليت' للمخرج روبرتو سانتياغو من العزف على ذات
الوتر، لكن بتنويعات اخرى، وبتكنيك مختلف، مثل فيه الحوار الركيزة
الاساسية، على
نحو يحمل ذات الانتقاد اللاذع للثقافة الإستهلاكية التى صارت تحاصرنا،
والتي لا
نستطيع الإفلات من إغراءاتها الكاذبة، من خلال مجموعة من السيدات يجلسن معا
في مطبخ
احداهن، ويقلدن لعبة 'الروليت' الشهيرة بإستخدام مسدس، يتم العبث به بشكل
دائري،
لكسر حالة السأم، ومن يأتي عليها الدور تبدأ في الثرثرة، وفضح حالة الخداع
الرأسمالي التى نتعرض لها يوميا، خاصة ما يتعلق بالأعيب التسويق، وما يسمى
بالحسومات والعروض الخاصة التى تغريك بشراء أكثر من احتياجاتك، او حتى ما
يتعلق
بالعزف على وتر التخويف، خاصة لدى تسويق الأمصال.
وقد حرص المخرج على تأكيد حالة
الحصار الاستهلاكي لحياتنا، بعمل 'كلوز آب' من وقت لآخر على التليفزيون،
وهو يذاع
الاعلانات أو على المجلة الاعلانية التى تتصفحها أحداهن بشغف، ثم التجوال
بالكاميرا
عند الأجهزة المنزلية الحديثة التى لا تبدو ملحة ك'الميكروويف'، ثم ذهب
أبعد من هذا
لإبراز الإحتجاج على هذه الثقافة المدمرة، بأن جعل واحدة من السيدات تطلق
الرصاص
على نفسها ويتناثر الدم على الطفل والأرضية، كما لو كان يريد أن يقول إن
هذه العدوى
الإستهلاكية ستنتقل حتما من الكبار إلى الصغار، ولن تنتهي حتى لو أحتج
البعض، إذ
قامت الأخريات بتغطية الجثة بجريدة إعلانية، والجلوس بجوارها على صفحات
إعلانية
أيضا، ومعاودة اللعب بلا أكتراث، وكأن شئ لم يكن، وكأننا نشتكي فقط، لكننا
عاجزون
على الفعل والمقاومة لهذه الثقافة، ونعيش حالة تناقض رهيبة، في إنتقاد
لجماهير
المستهلكين، وليس الرأسماليين فحسب.
وإذا كان الفيلمان السابقان قد تطرقا إلى
أفكار كبرى، فان ثمة اعمال أقتربت اكثر من الخاص، وعالجت قضايا مهمة، كقضية
التعصب،
وتجلياته على مستوى الأسرة، كفيلم'ضربة جزاء' للمخرجة انا مارتينيث، حيث
سعت للربط
بين التعصب والعنف، وإنتقاد هذا الفعل الذي يتخذ أشكالا عدة، من خلال أب
يشاهد
مباراة كرة قدم لفريقه المفضل، ويتفاعل مع الأحداث بشكل مبالغ فيه، يكشف عن
تعصب
يقوده إلى عدم السيطرة على أعصابه، حال تعرض فريقه لمواقف عصيبة، لدرجة أنه
يقوم
بتكسير بعض الأشياء من حوله، وحين يغلق التليفزيون، لا يستطيع الإبتعاد،
فيعاود
المتابعة، بينما نجد الطفل يكف عن اللعب، ويهرول إلى أمه التى تستخفي هي
الأخرى من
وجه زوجها تحت الملاءة، لأنهما يخافان ردة فعله الغاضبة، إلى أن يفوز فريق
الرجل
بضربة جزاء فينتفض كل من الزوجة والأبن، ويهللان فرحا، ليس للفوز
بالمباراة، وانما
لضمان السلامة من الإيذاء من أب متعصب.
وتلعب المخرجة باث جوميث على ثيمة
الإنتقام والعقاب ممن يؤذينا، ما يجعلنا نتخلص من التوتر، ونعود إلى حياتنا
الطبيعية، ونصلح الخلل الذي أصابها من خلال
فيلم'إصلاحات' الذي يتناول قصة أمراة
تمر بأزمة عاطفية أثر خلاف مع حبيبها، فتظن أنه هو الذي يكسر قفل صندوق
بريدها،
ويعبث برسائلها، خاصة أنها كلما هاتفته، تجده غير متاح، وكلما تضع قفلا
جديدا يتكرر
الفعل ذاته، ما يصيبها بالتوتر الشديد، والعجز عن مواصلة حياتها اليومية،
حتى يقترح
عليها أحد زبائن متجر الأقفال أن تنتقم ممن كسر قفلها بنفس الطريقة، ويوحى
إليها
أنه ربما يكون جارا لها على خلاف معها، فتتذكر شخص بعينه، وتشرع في كسر
قفله، وحين
تجده يصلح صندوق بريده، وهو مستاء، ويعيش نفس مشاعرها السلبية السابقة تشعر
بالسعادة، ويزول توترها، وتتأكد أن حبيبها لم يكن هو الفاعل، فتسرع إلى
الاتصال به،
والإعتذار إليه، بعد أن كانت تأبى مصالحته.
وكأن المخرجة تريد أن تقول لنا أن
أفعالا صغيرة في حياتنا لو توقفنا عندها، بالإمكان أن تعطلنا عن رؤية
الحقيقة،
والإستمتاع بالحياة، غير أننا إذا ما تجاوزناها يمكن أن نرى الصورة بشكل
أوضح
وأجمل، وتتجلى الحقائق التى تغيب مع الإنفعال، والشكوك، فضلا عن أن الجرأة
والمواجهة تجعلنا كثيرا نصبو إلى ما نريد، وفق منطق'لا يفوز باللذات الا كل
مغامر'.
ويبدو فيلم 'رحلة روستيكو الطويلة' للمخرج رولاندو دياث مميزا بطريقة
سرده غير التقليدية، وبمزجه بين القالب الروائي والتسجيلي، فضلا عن إيقاعه
السريع
ولغته البصرية المميزة والموحية.
إذ سعى المخرج لتقديم سيرة حياة عجوز عاش بين
كوبا وجزر الكناري، وما مر به في مشوار حياته الطويلة، بدءا من الطفولة،
ومرورا
بالشباب، وإنتهاء بالشيخوخة، وعند كل محطة يتوقف ليرسم لنا بروتريه لهذه
المرحلة
وأبرز ملامحها، ولا يكتفي فقط بأن يجعل الرجل يروى الوقائع في ذات المكان
الذي تركه
من سنوات وعاد إليه، وأنما يمزج بين الحكي على لسانه، ومشاهد جرى تصويرها
في ذات
المكان من خلال ممثلين، وحرص على جعلها بالأبيض والأسود، وتوظيف تقنية الـ'فلاش
باك'، لإستعادة ما بالذاكرة من حكايات وأشخاص وأحداث وأمكنة، والمزج بين
الماضي
واللحظة الراهنة.
وفي بعض الأحيان، يقطع المخرج على عجوزه، لينتقل إلى شباب
يسردون تجربة ما من تجاربه، بتمثيل مسرحي حي في الشارع، أو بالغناء على آلة
الغيتار، على طريقة شاعر الربابة في ثقافتنا الشعبية، أو الجوقة في المسرح
الأغريقي، وذلك لكسر الشعور بالملل، وخلق شكل سينمائي مختلف.
وقد أحسن المخرج في
إختيار الشخصية الملائمة ذات الحس الساخر، والقدرة على الحكي، ولفت أنظار
المتفرج،بتفاصيل شيقة ومتنوعة وبأسلوب جذاب، وسط شلال من الحكم، تدل على
خبرة
إنسانية عميقة، تجعلك تتوقف عندها، وتلتفت أن ثمة جدوى من مشاهدة هذا الرجل
العجوز،
والتعرف على تجربة حياة طويلة يختصرها في بضع كلمات ذات دلالة، كحديثه عن
الإنتماء
للوطن وقسوة الغربة: 'يتألم المهاجر دائما، مهما كانت حياته أفضل في
المهجر'، أو
حديثه عن عشق الحياة 'لا أفكر في الموت، لأن ثمة أشياء كثيرة في الحياة
تستحق
التفكير فيها'.
أو تذكرينا بحقيقة وجودية مؤلمة كمرور الزمن بقوله 'التقدم في
السن لا يرحم أحدا'، أو 'قدر العائلات أن تفترق'.
وينهي المخرج فيلمه الجذاب
بطريقة أكثر جاذبية، بجعل عجوزه ينهي بحكمة عن إنتهاء الحياة كقوله: 'قدر
الإنسان
أن يكون له جناحان يطير بهما' في دلالة على إنتهاء الحياة واقتراب الموت،
ثم نجده
يصيغ معادلا بصريا يعمق به هذا المعنى، بأن ركز على صياغة لقطة بها طيور
تحلق في
السماء وقت الغروب، بينما أقترب'كلوز اب' من مركب خاو، ثم توقف عند ظهر
الرجل، الذي
يبدو كأنه يولي ظهره للدنيا، وهو يقف ينظر ما بين البحر الذي يمثل رحلة
عمره
الطويل، والسماء التى ستصعد إليها روحه، إن عاجلا أو آجلا.
'كاتب
وناقد
مصري
mabdelreheem@hotmail.com
القدس العربي في
24/05/2010 |