انطوان فاكوا.. مخرج متميز لفت إليه الأنظار بقوة من خلال فيلم »يوم
التدريب« الذي رشح لأكثر من جائزة أوسكار والذي تدور أحداثه في عالم الشرطة
بين شرطي متمرن لازال يحمل خضرة القلب وبراءة النظرة، وشرطي عجوز قهرته التجارب والظروف..
وقد استطاع المخرج من خلال هذا الثنائي المثير أن يقدم فيلماً يقرب من
التراجيديا عن عالم الشرطة السري والنفسي، وعن العلاقة التي تربط هذا
العالم شديد الخصوصية بالعالم الخارجي الذي يبدو مختلفاً
تماماً عن هذا العالم الخاص.
كتب فيلم »يوم التدريب« الشهرة لصاحبه ووضعه فوراً
في مصاف كبار مخرجي الحركة والتحليل الاجتماعي
والنفسي في هوليوود..
وهاهو فاكوا يعود مرة أخري بفيلمه الجديد ليقدم
تنويعة أخري..
عن هذا العالم الذي خبره وعرف خفاياه وتسلل إلي أعماقه.
إنه يقودنا في الفيلم الذي أطلقنا عليه في مصر خطأ اسم »عصابات نيويورك«
مرة أخري إلي أعماق رجال الشرطة مختاراً ثلاثة نماذج مختلفة عن بعضها اختلافاً
جذرياً، ولكن يجمعها عمل واحد، ومهنة واحدة، وهدف واحد.
الأول (ريتشارد جير) شرطي وصل إلي آخر أيام مهنته ولم يبق له علي تركه
الخدمة سوي أيام أو أسابيع معدودة يريد أن يمضيها دون أن يلوث يديه بأي دم
كان..
بعد أن اجتاز الكثير من الظروف الصعبة محتفظاً بكيانه الإنساني..
مؤدياً واجبه دون تجاوزات ودون ظلم بيِّن.
أما الثاني (ايثن هوك) شرطي متزوج وله أولاد، ويعيش حياة الفاقة والعوز في بيت مفتوح في كل أركانه علي ضجيج الشارع
وصخب المترو..
مما يدفعه إلي سلوك لا أخلاقي..
يسرق فيه الكثير من الأموال المصادرة لدي المهربين الذين يقوم بقتلهم
أحياناً بدم بارد ودون أية ضرورة قصوي ولكن كي يفسح المجال لسرقاته كي تبقي
دون شهود ودون عقاب.
أما الثالث.. فزنجي من عصابة المهربين..
قرر تغيير طريقه والانتماء إلي جهاز الشرطة السري حتي لو خان
رفاقه القدامي ووشي بهم.
ثلاثة نماذج تخصصت في مطاردة عصابات المخدرات وتهريب الكوكايين.. تتواجه في
لقاءات مصيرية مدهشة..
أحسن (فاكوا)
تقديمها بطريقة بارعة ومن خلال سيناريو يقترب في الكثير من أحداثه من
التراجيديا كما عرفناها..
ويؤكد المقولة الشهيرة التي قالها الكاتب الكبير
»أندريه مالرو«.. وأصبحت بعده مثلاً يكرره الجميع..
وهو أن الفيلم البوليسي الأمريكي
(هو إحياء للتراجيديا اليونانية في عصرنا الحديث بكل مقوماتها وطموحها
وبنائها الدرامي وشخصياتها المتناقضة التي تعيش تحت وطأة قدر قاس.. لا تملك
منه فكاكاً ولا تستطيع منه فراراً).
القدرية.. هي الصفة التي تغلب علي فيلم انطوان فاكوا الأخير..
سواء في الأحداث أو في رسم الشخصيات، ومصيرها المحتوم الذي لا تستطيع الإفلات منه.
(ايثن هوك) بدوره المعقد، المليء بالانفعالات والصراعات الداخلية المحتدمة..
خطف الفيلم من أبطاله الباقين الذين بدوا إلي جانبه بما في ذلك ريتشارد جير
مجرد ممثلين ثانويين يطوفون كالنجوم حول شمسه الساطعة.
ولكن رغم التصوير المدهش للشخصيات والسيناريو المتكامل في بنائه الدرامي
يثبت »فاكوا« أنه لازال سيداً في السيطرة علي مشاهد الحركة..
والقتل.. والمطاردات.. وأنه عرف كما في فيلم »يوم التدريب«
كيف يوازن بين الفكر والحركة..
بين السينما الحقة والسينما الجماهيرية..
بين الفن الأصيل والفن الشعبي المطلوب.
وبالضبط هذا ما فشل فيه مخرج فيلم »الرجل الحديدي
٢«
الذي يطل علينا حافلاً بحشد من النجوم يكفي واحداً
منهم لحمل عبء الفيلم وحده..
روبرت داوني الذي استطاع أن يخرج من عباءة شارلي شابلن.. بالفيلم البائس
الذي صنع عن حياته..
وأن يعيد لنفسه السمعة التي فقدها بعد
أدائه المنظم والمليء بالانفعالات الخفية في فيلم
»شارلوك هولمز« الذي رشح من أجله لجائزة الأوسكار هذا العام.
إلي جانب داوني هناك الرائعة چونيث بالترو، ورائعة الحسن سكارليت چوهانسون،
والمخضرم ميكي رورك..
الذي أعاده فيلم »المصارع«
مرة أخري إلي دائرة الضوء..
والممثلان الأسودان دون شيدل ومايكل جاكسون..
في ظهور خاطف ولكن مليء بالإثارة.
إذن »الرجل الحديدي« يعود إلينا مثقلاً بالنجوم والسمعة الشعبية التي رافقت جزئه الأول،
ورفعت الفيلم إلي قائمة الأفلام الأكثر إيرادات في الولايات المتحدة.
الفيلم الجديد يبدأ من حيث انتهي الجزء الأول، والرجل الحديدي يعلن عن هويته ويكشف عن وجهه..
مما يجعله هدفاً لحملات إعلانية تستغل شهرته وجماهيريته وتعرضه في شكل استعراضي تحيا
به عشرات الفتيات الجميلات.
ويجد الرجل الحديدي نفسه موضوع منافسة مع نظير روسي له..
عرف سر بذلته الحديدية وطور نظامها..
وقرر مواجهته وهزيمته في عقر داره.
كما تقوم شركات أخري خاصة بمحاولة الإحاطة به..
وسرقة مشروعه منه..
بالإضافة إلي الحكومة التي تريد أن تجعله سلاحاً خاصاً
به.. يأتمر بأمرها فقط..
دون أن تكون له حرية التحرك،
وأن يفقد صفته الشعبية كمنقذ للأبرياء والمظلومين الذين يحتاجون للمساعدة..
وسفيراً للسلام الحقيقي في أنحاء العالم.
كما نري.. الفيلم خرج عن سياقه التجاري..
ليحمل فكراً
معقولاً.. يستحق الوقوف أمامه وتأمله..
ولكن هذا الفكر كان مع الأسف هو السبب في انهياره وبعده عن
السياق الذي كان عليه أن يسير عليه.
إذ تاه السيناريو من الحوار الطويل المليء بالثرثرة..
وتقديم الصراعات بشكل بارد..
رغم إبداع ميكي رورك في دور المنافس الروسي (ايفان).
وكان علينا أن ننتظر ما يقرب من نصف الساعة..
قبل أن نري أول صراع بين المتنافسين الأمريكي
والروسي في جبال مونت كارلو حيث تقام مسابقة السيارات الشهيرة.
وهنا تعود الحياة قليلاً إلي الفيلم.. وتتحرك روحه.. ولكن سرعان ما يغفو
مرة أخري ليستفيق قبل نهاية الفيلم في صراع آخر.. يعتمد علي المؤثرات
البصرية والخدع السينمائية البارعة.
ولم تنجح قصة الحب الوليدة بين (داوني وبالترو)
في إعطاء الفيلم الشحنة العاطفية التي كنا
ننتظرها..
كما لم يستغل الفيلم استغلالاً
كافياً جمال »سكارليت چوهانسن«
الباهر وأحال دورها إلي دمية جميلة متحركة..
تكاد لا تفعل شيئاً.
»الرجل الحديدي
٢«
يذكرنا بأفلام الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا..
مركزاً علي قوة الرجل الحديدي وبدلته العسكرية التي تشعل النار وتبعث الموت
والخراب أينما اتجهت، ثم محاولة استثمار هذه الظاهرة..
كل في ميدانه..
الدولة وجيشها وأجهزة مخابراتها..
الشركات الخاصة وقانون التنافس الخاص بها..
والحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي الذي يبدو أنه عاد للإطلال
علينا من جديد بعد أن اختفت آثاره منذ سنوات، وأصبح »نائماً«
في ركن النسيان.
ولكن كل هذا لم يستطع إعطاء جرعة الحياة لجسد فقد كل حيويته وتأثيره، وهذا
ما يقودنا مرة أخري إلي تكرار ما سبق لنا أن قلناه كثيراً.. وهو عدم جدوي
صنع أجزاء ثانية وثالثة من أفلام نجحت فنياً وجماهيرياً.
وإذا كان »الأب الروحي« في أجزائه الثلاثة استثناء حقيقيا فإن كانت الأجزاء
الثانية من الأفلام الناجحة.. جاءت مع الأسف أقل قيمة وأقل إثارة من
أجزائها الأولي.. باستثناء الأفلام التي تعتمد علي شخصية واحدة مثل جيمس
بوند مثلاً أو انديانا جونس والتي توضع لها في كل فيلم مغامرة مختلفة.. في
إطار مختلف وتوجه مختلف.
لقد عاد »فاكوا« حقاً إلي عالمه البوليسي الأثير،
ولكن كي يضيف إليه وينوعه ويزركشه..
ويزيده عمقاً.
أما »الرجل الحديدي
٢«
فيبدو أن بدلته الشهيرة بدلة المعجزات قد أصابها مس كهربائي..
أضاع تأثيرها وقوة رصدها..
ولم يبق منها إلا الذكريات.
أخبار النجوم المصرية في
20/05/2010 |