«المشاوشة» رياضة كانت شائعة في المغرب في القرن التاسع عشر، وهي ظلت كذلك
حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي. هي رياضة قريبة الشبه بالمصارعة الحرة،
تشتبك فيها الأجساد والأيدي في نزالات حامية الوطيس، ويمكن استخدام الخدع
والحيل فيها بما يضمن اذلال الخصم والايقاع به.
محمد عهد بن سودة مخرج مغربي يقيم في فرنسا حاليا، وهو درس السينما أصلا في
معهد سينيثيل بباريس، ونال شهادة اضافية في تاريخ السينما وتحليل الصورة من
جامعة السوربون، وحاز دبلوما في كتابة السيناريو من معهد سيني كور من كندا،
وهو عضو في مجمع قراءة السيناريوات في المنظمة الفرنكوفونية في العاصمة
الفرنسية، كما إنه يدرّس تاريخ السينما في الوقت الراهن في معاهد فرنسية
إضافة إلى عمله الأساسي مُخرجاً.
بن سودة قدم أخيرا فيلما عنوانه «موسم المشاوشة«، وقد نال عنه بعض الجوائز
وتنويها خاصا من مهرجان مسقط السينمائي السادس (13 20 مارس آذار 2010 ).
هنا حوار معه حول الفيلم :
·
بعث «المشاوشة« من القرن التاسع
عشر ماهي الجدوى منه الآن ؟
في إطار البحث عن نوع سينمائي «فرجوي« جديد في السينما العربية خال من أي
تقليد أو محاكاة لأي سينما من السينمات الموجودة، قمنا بالبحث في إطار
أكاديمي في تاريخ السينما العالمية، ووجدنا أننا لو أخذنا السينما الآسيوية
كمثال، فسوف نجد أن لها مكانتها المميزة في العالم إذ هي لا تشبه أيا من
السينمات الموجودة، فرنسية أو ألمانية أو ايطالية، ذلك أن الآسيويين بحثوا
في تراثهم الصالح للاستغلال في الصورة وفي الحركة، ووجدوا أن هناك رياضات
شعبية مثل الكاراتيه والكونغ فو والجودو وفنون أخرى كثيرة أعطت ما يسمى
بأفلام الفنون القتالية. نحن ليست لدينا رياضات صالحة للاستغلال في الصورة،
وهذه هي المسألة، وبالانطلاق منها وجدنا أن هناك رياضات وجدت في المغرب،
ولم يبق منها إلا التسميات. نحن أخذنا إحدى هذه الرياضات، ووجدنا أنها
صالحة للاستغلال الحركي في الفيلم، وبنينا سردا روائيا حول قصة غرامية،
لنعطي جمالية الصورة مكانتها في قالب تاريخي مبني على هذه الحقيقة
التاريخية.
·
يبدو أن البحث في جذور وأصول هذه
الرياضة هو مهمة أنثروبولوجية توثيقية قد تصلح لفيلم تسجيلي مثلا ؟!
هذه الرياضة ظلت تمارس حتى مطلع الخمسينات من القرن الماضي، وهذه مسألة
مهمة جدا تكمن في البعد التاريخي للانقطاع عن مزاولتها. نحن بدأنا عملية
البحث في كيفية مزاولتها، وفي قوانينها، ووجدنا أناسا مازالوا على قيد
الحياة كانوا يمارسونها. آباؤنا الذين كانوا في العقود الأولى من أعمارهم
كانوا يمارسونها في صحن المولى ادريس الثاني في مدينة فاس، لأن هذه الرياضة
كانت تمارس كل يوم جمعة بعد الانتهاء من الصلاة، فكان الصنّاع التقليديون
والحرفيون، وكل الصنّاع الذين يعتمدون على البدانة وقوة الجسد، يمارسونها
للترفيه عن أنفسهم.
انطلاقا مما تقدم فكرنا في استغلال ما يسمى بالديكورات التي لها علاقة
بالهندسة المعمارية القوطية في أماكن التعبد، ففي الأفلام الكلاسيكية
الكبرى استعملت هذه الديكورات، المعابد والكنائس والكنس، ولكن في المجتمعات
الاسلامية بقيت محظورة، لأن الكاميرا لم تتمكن من التغلغل في المسجد، وهذا
الفيلم هو أول فيلم يصور في مسجد في المغرب، لأن هذه الرياضة كانت تزاول
داخل المساجد كما أسلفت. لقد جرى استغلال الديكورات بالموازاة مع هذه
الرياضة التقليدية، وبالاستناد إلى وثائق مصورة، منقولة من كتاب للمصور
الفرنسي المعروف غابرييل فيفر الذي عاش في المغرب، وصور فيه ما بين الأعوام
1897 1935.
·
واضح أن هذه الرياضة استغرقتك
كثيرا الى حدّ أنك لم « تخف « منها على بناء الفيلم نفسه ؟
أهم شيء في أفلام ليست تاريخية، وإن كانت مبنية على حقيقة تاريخية متجلية
برياضة «المشاوشة «،هو بناء سرد درامي متخيل من حولها. وهذه الحقيقة لم
تأخذ حيزا أكثر من ربع الفيلم، شأنها شأن أكبر الأفلام الكلاسيكية التي
تعالج حقيقة تاريخية مثل فيلم «المجالد« لريدلي سكوت. لم تأخذ رياضة
«المشاوشة« أكثر مما أخذته رياضة المصارعة الرومانية في فيلم سكوت، لكن
عندما تتمكن من ضبط موازين قياسية في كتابة السرد يخيل للمتفرج أن هذه
الرياضة تحتل حيزا كبيرا في الفيلم، مع أنها لا تمثل إلا ربع أحداثه،
والبقية عبارة عن سرد روائي في قصة متماسكة ومحكمة.
·
ولكن يبدو لي أن هناك استطرادات
في السرد لم تُغنِ الفيلم، مثل حديث الشيخ في المسجد عن ابن البيطار؟
هذه اشارات تاريخية تزامنت مع هذه الحقبة، ومع هذه الديكورات القوطية. هناك
جامعة القرويين الموجودة في الفيلم، التي يظهر فيها الإمام متحدثا عن ابن
البيطار. هذه الجامعة، تعد الأقدم في العالمين العربي والاسلامي، وهي بنيت
سنة 245 هجرية عن طريق فاطمة القهرية، وكان يُدرّس فيها، وحتى يومنا هذا،
الفلك والطب والحساب والشريعة والدين.
لقد استشهد الإمام بابن البيطار، لأن له علاقة مباشرة بالفيلم وبطله (هشام
بهلول ). لماذا ؟ لأن البطل كان يريد تطوير بنيته الجسدية، والاعتماد على
الأعشاب المقوية، وهو قد استعان بابن البيطار، (الذي هو عالم نبات)،
واستفاد الغرب منه كثيرا في علوم الصيدلة والكيمياء. لقد أخذنا رمزا واحدا
من الرموز العربية التي أفادت المجتمعات الانسانية في وقت من الأوقات.
وهناك اشارة تاريخية أخرى على غاية الأهمية، وهي التعامل التجاري بين
المغرب والأندلس عن طريق التاجر خوان الذي كان يأتي لشراء مايسمى
بـ»الخليع«، وهو اللحم المجفف. وهناك اشارات، كما لاحظت لتزكية هذا العمل
واعطائه ملمحا جديا، لكي تتكامل صورة التوثيق للحدث التاريخي المتمثل
برياضة «المشاوشة«.
·
ألا تخشى من مقارنة فيلمك بعشرات
الأفلام التي تحدثت عن البطل الفادي الذي يبني قوته الجسدية عن طريق تعلم
الفنون القتالية من أجل أن يخلص حبيبته من براثن الأشرار واعادة الأمور إلى
نصابها في المكان الذي ينتمي إليه ؟!
هذا الخط الدرامي هو مسألة أكاديمية تحق لأي انسان أو أي مبدع. وعندما أقول
أكاديمية، فإن هذا يقودني للحديث إلى ميثولوجيا السينما، وسآخذ كمثال،
ميثولوجيا السينما الأميركية في الماضي والحاضر. هذه الميثولوجيا بنيت
وتبنى حاليا في اطار بناء درامي لسيناريوات الأفلام على ثلاثة أشياء، وهي
يا للأسف لم تستغل حتى يومنا هذا عن طريق الكتّاب عندنا وهي : التأثير
الديني، فالكتّاب في أميركا يأخذون قصصا من الكتاب المقدس، ويحولونها إلى
قصص معاصرة، فتعطينا أنواعا سينمائية يتعاطف معها الجمهور عبر العالم،
والأمثلة كثيرة تبدأ من فيلم «بن هور« ولا تتوقف عند «الإغواء الخير
للمسيح«. التأثير الثاني يكمن عبر التأثر بفنون القرن التاسع عشر، وهذه
حقبة من أغنى الفترات في العطاء الفني الأوروبي، فهي أعطت كتّابا كباراً،
وهناك أفلام كلاسيكية بنيت على التراجيديات الاغريقية والشكسبيرية، فتجد أن
أغلب الأفلام مثل «المجالد« و«طروادة« و«الاسكندر الأكبر« تنتهي تراجيدية
وقد تأثرت بفنون القرن التاسع عشر لجهة الديكورات القوطية. التأثير الثالث،
وهو ما أسميه «الخرافي»، فالسينما الأميركية اشتغلت كثيرا على الخرافة،
فاستغلت مثلا الأخوين غريم، وحوّلت قصة «الحسناء والوحش« إلى أفلام ديزني
الشهيرة. نحن في ثقافتنا العربية والاسلامية لم نستغل هذا التراث الفني
المتوفر لدينا، مع أننا نملك «كليلة ودمنة« و«ألف ليلة وليلة« و«حي بن
يقظان»، والقائمة أطول من أن تعد وتحصى. في «موسم المشاوشة« وجدنا انطلاقا
من هذه المعطيات، أننا من أجل الخروج بسينما جديدة، مررنا بهذا الجزء
المندثر من الذاكرة المغربية. أما التأثر بالأفلام الأخرى، فهذا أمر بديهي،
لأننا اشتغلنا بطريقة أكاديمية، فرسالة السينما أولا وأخيرا هي الفرجة ثم
الفرجة.
·
وهل أعطيت هذه النهاية الفجائعية
للبطل تماشيا مع فكرة النهايات التراجيدية ؟
فكرة النهاية كانت مدروسة ولم تجئ عبثا، فالفيلم يحترم نهايات الأفلام
الكلاسيكية، وأنا عندما كنت أكتب السيناريو أوليت اهتماما كبيرا بربع
الساعة الأخير من الفيلم. لكي تبني النهاية بطريقة كلاسيكية لترسخ في ذاكرة
المتلقي هناك ثلاث نهايات : النهاية البطولية، النهاية السعيدة، النهاية
التراجيدية. هذه هي نهايات الأفلام الكلاسيكية عبر تاريخ السينما، وأنا
حاولت أن أجمع ثلاث نهايات في واحدة.
·
جمع هذه النهايات في فيلمك ألا
يخلق تشويشا عند المتلقي ؟
باعتقادي لا، لأن المتفرج معتاد النهايات البطولية، ونحن في المجتمعات
العربية نحب هذه النهايات. وكما أن هناك أفلاماً أخرى اعتادها الجمهور
العربي، وهي النهايات السعيدة، ثمة أفلام نشاهدها ولانتذكرها، وهناك أفلام
تظل راسخة في الذهن، وأغلبها يحمل نهايات تراجيدية.
·
هل تعتقد أن «موسم المشاوشة«
سيظل راسخا في ذاكرة من يشاهده ؟
كلما عرضت الفيلم في مهرجانات حول العالم كان المتلقون يتعاملون معه بحب
وبوصفه شيئا جديدا يوثق لهذه الرياضة أولا، وكل من شاهده أصبح يتحدث عن
وجود رياضة صالحة للاستغلال في الصورة. وإن لم تتذكر الفيلم، فعلى الأقل
سوف تتذكر رياضة «المشاوشة« على الدوام.
المستقبل اللبنانية في
16/05/2010 |