يحيلنا الفيلم الروائي الثاني «ضربة البداية» للمخرج الكردي العراقي شوكت
أمين
كوركي (المولود في مدينة زاخو 1973) الى تيارات ومدارس سينمائية عدة. فمن
حرارة
الواقعية الإيطالية الجديدة ورموزها دي سيكا وتورناتوري وانطونيوني...، الى
رهافة
السينما الإيرانية وبساطتها التي صاغها مجيدي وكياروستامي وقبادي، الى
الكوميديا
الحافلة بالألم التي نجدها في بعض أفلام أمير كوستوريتسا... يغزل كوركي
ملامح فيلمه
المشغول بحرفية فنان يعرف كيف يشيّد عالمه السحري الخاص. فهو إذ يشتق
عناصره
ومفرداته من كبار سبقوه، إلا أنه لا يقلد ولا يحاكي، بل يبحث عن بصمته
الدالة،
ولعله نجح، إذا اعتبرنا الجوائز أحد مقاييس النجاح. فقد نال الفيلم جوائز
عدة كان
آخرها الجائزة الكبرى في مهرجان الخليج، وقبلها الجائزة الفضية لمهرجان
مسقط
السينمائي، وجائزة النقاد الدوليين في دبي، إضافة الى جائزتين في مهرجان
بوسان في
كوريا الجنوبية بينهما جائزة أفضل فيلم.
منذ البداية، وبلا اية مقدمات، يضع شوكت أمين كوركي المُشاهدَ في مواجهة مع
أحداث فيلمه «ضربة البداية» عبر مشاهد لملعب كرة قدم ولافتة كتب عليها
«كركوك».
هنا، في هذا الملعب، وفي أحد فصول الصيف القائظ، بعد سقوط النظام العراقي،
تتحرك
كاميرا كوركي لتوثق حياة نحو 300 عائلة من اللاجئين العراقيين، كرداً
وعرباً، ممن
شردتهم ظروف الحرب الأميركية في العراق، فوجدوا في هذا الملعب ملاذاً
آمناً، مثلما
فعلت أسر عراقية كثيرة لاذت بمؤسسات الدولة الخاوية والمدمرة بعدما ضاق بها
العراق
على اتساعه.
فوضى وسوداوية
الحياة في بيوت الصفيح المتناثرة على أطراف الملعب تسير في جو سوداوي قاتم،
وسط
الفوضى والغبار والفقر المدقع وهدير الطائرات، وأصوات الانفجارات. شخصيات
منهكة
تروي بملامحها الحزينة تاريخاً طويلاً من القهر والمعاناة والحروب، وجدت في
هذا
الركن القصي مساحة للأمل، والهدوء، غير أن هذه الأمنية غدت مستحيلة في بلد
مزقته،
لعقود خلت، المعارك والبطولات الوهمية، والحروب الطائفية والمذهبية،
والصراعات
العرقية، فشبح الماضي يطاردها أنّى ذهبت، وهذا ما يشير اليه كوركي بإشارات
وقرائن:
طفل بُترت ساقه بلغم حينما أراد أن يستعيد كرته التي استقرت في حقل ألغام،
ورجل فقد
منزله وحقله، ولا يزال يحتفظ بأوراق قد تعيد اليه ممتلكاته الضائعة، وأطفال
حرموا
التعليم فراحت الفتاة هيلين (روزان حماجان) تعينهم على محو الأمية، وصراع
يومي
للحصول على الماء الشحيح وعلى مستلزمات العيش البائس في بلد تقول الأرقام
انه يملك
ثاني احتياطي نفط في العالم...
كرد وعرب
في هذا «الغيتو» المغلق، وفي غياب أية وسيلة للترفيه، يسعى بطل الفيلم آسو
(شوان
عطوف)، وبمساعدة صديقه ساكو (كوفار أنور)، إلى تنظيم بطولة في كرة القدم
بين الصبية
الأكراد والعرب، وعند حلول موعد ضربة البداية يدب الخلاف ين الفريقين،
فالفريق
العربي يعترض على أن يكون حكم المباراة كردياً، والفريق الكردي يعترض،
بدوره، على
أن يكون الحكم عربياً. يلجأ الفريقان إلى مصور أجنبي كان قد جاء لتصوير
المباراة،
ليكون حكماً... وهذا يحيلنا، ببساطة، إلى واقع العملية السياسية في العراق
حيث
يستعين الفرقاء العراقيون بالخارج كي يصلوا إلى توافق غالباً ما يكون
مهزوزاً نتيجة
عوامل عدة، لعل أخطرها العمليات الإرهابية. لا يغفل صاحب «عبور الغبار»،
فيلمه
الروائي الأول، عن هذا الجانب، فحين يذهب آسو لشراء الكأس التي ستمنح
للفريق الفائز
يتعرض سوق كركوك لتفجير انتحاري يودي بحياة الكثيرين بينهم آسو؛ بطل
الفيلم، الذي
اختزل في روحه المعاني السامية والجميلة لعراق المستقبل، لكنه ذهب ضحية
الإرهاب
الأسود. وفي حين انطوى هذا المشهد الذي انتهى به الفيلم على رثاء للواقع
العراقي،
نجده يطرح، في الآن ذاته، أسئلة جارحة حول الدوافع التي تدفع بالبعض إلى
اغتيال
الأمل الذي يلوح في الأفق، والذي كان يمثله آسو.
هي فوضى خانقة نجح كوركي في هندستها من خلال كوادر بصرية بالغة الثراء تضج
بألوان الحياة، وتكاد تختزل واقع العراق السوداوي الذي نراه، يومياً، على
شاشات
الفضائيات. ملعب صغير في مدينة قلقة، شهد قصة حب صامتة بين هيلين وآسو،
وشهد وحدة
العراقيين كرداً وعرباً لدى متابعتهم المباراة النهائية في كأس آسيا بين
منتخبهم
الوطني والمنتخب السعودي وانتهى بفوز الأول، فنسي اللاجئون محنتهم للحظات
وراحوا
يصفقون بعفوية لفريقهم الفائز. زالت «الهويات القاتلة» إزاء مرح «الساحرة
المستديرة»، بتعبير الرياضيين، وكأن النزاعات الدموية التي تدور على «أرض
السواد»
تحركها أذرع خفية، أقوى من إرادة العراقيين.
أسئلة سينما الإنسان
أسئلة كثيرة يطرحها هذا الفيلم، غير ان هذه الأسئلة لا تقدم في شكل دعائي
فج،
وهي بعيدة، كذلك، من الأسلوب الوعظي التلقيني. هي أسئلة السينما الجليلة،
سينما
الإنسان التي تتخفف من الأدلجة والشعارات الزائفة لتقترب من المكاشفة
والبوح عبر
سرد بصري مرهف. والواقع أن كوركي يولي عناية خاصة لهذا الجانب، ويستغل
أمكانات
السينما على نحو بديع، إذ احتفظت لغته البصرية بحرارة المكان وبكل ما يزخر
به من
أصوات الطيور والحيوانات ومشاهد البؤس والبشاعة والقتامة التي دفعته إلى
استبعاد
الألوان والاقتصار على اللونين الأبيض والاسود كمقترح بصري يرمز الى التقشف
والقسوة، ويتجانس مع طبيعة ذلك العالم المزدحم؛ الضيق، والمتواري خلف
مدرجات ملعب
اسمنتي كئيب ذي بوابات عالية لا تقود إلا إلى الموت، كما حصل مع بطل الفيلم.
عناوين كثيرة يمكن ان نستخرجها من القصص الإنسانية في هذا الفيلم الذي كتب
له
السيناريو المخرج ذاته، وأُنتج بتمويل من اليابان وحكومة إقليم كردستان،
فهو يتحدث
عن فساد الأزمنة وغياب العدل، عن العشق الذي ينمو بخجل ولا يقوى على الظهور
الى
العلن، عن الخراب الذي أسس له الطغاة، عن الاضطهاد الذي يجعل الروح، أبداً،
أسير
الخوف والهلع، وعن الاغتراب الذي يغذيه إرث ثقيل وطويل من ثقافة الإلغاء
والإقصاء... وهو بالتالي عن عراق يسعى الى التصالح مع ذاته ومعانقة الحياة
الجديدة؛
المؤجلة. كل هذه العناوين استطاع كوركي ان يختزلها في شريط سينمائي (80
دقيقة) مؤلم
بمناخاته ومضامينه، مدهش وجذاب ببنائه السينمائي، وأسلوب إنجازه، فجاء
الفيلم وكأنه
أغنية حزينة لكن بصوت شجي؛ رقيق.
الحياة اللندنية في
14/05/2010
خلافات المؤلف والمنتج هل تجهض
المشروع؟
القاهرة – رحاب السماحي
يبدو أن أزمة فيلم «المسيح والآخر» تدخل منعطفاً جديداً خصوصاً بعد لجوء
مؤلف
الفيلم فايز غالي الى نقابة المهن السينمائية إثر تشككه في جدية المنتج
محمد جوهر
في إنتاج الفيلم، والذي كما أُعلن «رصدت له موازنة تفوق الـ50 مليون جنيه
مصري»،
و «رشح لبطولته عدد من نجوم هوليوود من بينهم مورغان فريان ومونيكا
بيلوتشي وصامويل
جاكسون!». وترجع وقائع الخلاف كما يرويها المؤلف فايز غالي إلى طلب المنتج
محمد
جوهر معالجة جديدة للفيلم لتبدأ الأحداث من خلال صحافي أميركي يأتي الى مصر
للبحث
في رحلة العائلة المقدسة ويصل الى نتيجة غير مؤكدة حول الرحلة وهذه
المعالجة رفضها
غالي.
وعن حقيقة ما أثير حول مشهد صلب المسيح الذي كرس الخلاف إذ تبدأ أحداث
سيناريو
غالي بصلب المسيح، والعذراء وهي تتذكر طفولته، يؤكد غالي موافقة جوهر منذ
البداية
على السيناريو طوال مراحل إعداده وحتى تسليمه في شباط (فبراير) 2009 «لم
يحاول
التدخل نهائياً في السيناريو، ما يعني موافقته على مضمون الفيلم في إطار
العقيدة
المسيحية الأرذوكسية، فإما أن يقبل بهذه المعالجة أو يرفضها منذ البداية».
ويضيف: «رشح
المنتج رامي جرجس مخرجاً للفيلم فإذا به يقترح تعديلات المنتج نفسها، فرفضت
حتى طرح اسم المخرج أحمد ماهر مخرج فيلم «المسافر» فأبدى إعجابه بالسيناريو
وأخبرني
أن المنتج عرض عليه معالجة أخرى لكاتب إنكليزي رفضها ماهر وأصر على
السيناريو الذي
كتبته. ثم مر عام من دون اتخاذ خطوات جدية، ما أثار شكوكي فتحدثت مع جوهر
حول جديته
في إنتاج الفيلم، فقال: «لن أنتج الفيلم إلا إذا تنازلت عن السيناريو على
رغم أن
العقد ينص على ألا يتم التنازل إلا بعد انتهاء التصوير، فعندما رفضت تعمد
إهانتي
قائلاً: لا أريد أن أعرفك».
شكوى وجلسات
وعن قرار غالي اللجوء الى نقابة المهن السينمائية، يقول: «نتيجة لالتواء
مواقف
المنتج محمد جوهر تقدمت بشكوى ضده واستمرت الجلسات لمدة شهرين حتى انتهت
لجنة
التحقيق المشكّلة برئاسة مستشار في مجلس الدولة بنظر القضية ونحن في انتظار
قرارها
النهائي». وعن السبب الحقيقي وراء هذا الخلاف يشير إلى أن المشكلة تكمن في
رغبة
المنتج في التلاعب بمجريات الفيلم من ثوابت تاريخية وعقائدية «وهذا يكشف ما
يضمره
المنتج تجاه الفيلم من وأد للسيناريو».
يذكر أن قانون الرقابة على المصنفات الفنية في مصر يمنع ظهور الأنبياء
والرسل
فضلاً عن تحفظ الرقيب الحالي الدكتور سيد خطاب على تناول حياة السيد المسيح
درامياً
لما تثيره من حساسيات لدى المسلمين والأقباط على السواء. وعن ذلك يعلق غالي
قائلاً:
«نحن
نعيش عصر الحرية وكل إنسان من حقه التعبير عن عقيدته شرط ألا يهين عقائد
الآخرين. والدليل إقبال الجمهور من المسلمين خصوصاً على مشاهدة فيلم «آلام
المسيح»
عندما عرض جماهيرياً في مصر. من الذي رسم الرقيب بطريكاً ليقرر ما يعرض وما
لا
يعرض؟».
في المقابل، يؤكد مخرج الفيلم أحمد ماهر رغبة المنتج محمد جوهر في إنتاج
فيلم
متسامح يعلي فيه من شأن قصة السيد المسيح، القصة الأكثر إنسانية في العالم.
ويرى
جوهر أن من حق أقباط مصر إنتاج فيلم برؤية شرقية يعبر عن الكنيسة المصرية
الأرذوكسية والتي لم يتم تناول المسيح من خلالها من قبل، ويشير ماهر إلى
عدم فرض
جوهر قيماً فكرية أو سياسية على الفيلم فضلاً عن عدم مساسه بالسياق الديني
أو
التاريخي للعمل.
الحق في التعديلات
وعن استعانة المنتج بكاتب إنكليزي لوضع معالجة لسيناريو غالي، يقول ماهر:
«من حق
المنتج طلب تعديلات على السيناريو في أي مرحلة، لذا استعان بكاتب متخصص في
الكتابات
المسيحية ليقوم بعمل تتابع للمشاهد والتي يستند فيها الى الحقائق التاريخية
الواردة
في سيناريو غالي حيث طرح تناول رحلة العائلة المقدسة من خلال صحافي أميركي
يأتي الى
مصر وهذه بداية تقليدية للأفلام التاريخية ولكنها لا تشكك في الرحلة بأي
حال، لكنني
رفضت ذلك واقترحت أن تبدأ الأحداث بواقع العالم الآن بعد أكثر من ألفي عام
مع تزايد
وتيرة التعصب والعنصرية ومن ثم أقارن بين هذا الواقع وبين رسالة التسامح
التي أتى
بها المسيح والتي هي جوهر الأديان الأخرى».
وحول مشهد صلب المسيح الذي بدأ به غالي الفيلم، يقول: «هذا المشهد سيثير
حفيظة
المسلمين ونحن نصنع فيلماً يهدف الى التقارب بين الأديان وليس تناحرها، أنا
ضد
العبث بالمعتقدات وأحترم الأديان والمتدينين، فضلاً عن أنني ضد فكرة
«الفلاش باك»
وأفضّل التسلسل الطبيعي لرحلة العائلة المقدسة منذ ظهور أعراض الحمل على
السيدة
العذراء».
ويرى ماهر أن الأزمة التي نشبت بين المؤلف والمنتج كان يمكن احتواؤها عبر
جلسات
لتقريب وجهات النظر من دون اللجوء الى النقابة: «أنا حزين لهذا الخلاف
وعاتب على
فايز غالي لإثارته هذه الضجة على رغم تفهمي حرصه على العمل».
وعن موقفه بعد تعقد المشكلات يؤكد ماهر قراره بالابتعاد عن الفيلم موقتاً
لحين
الوصول الى حل توفيقي بينهما، «لكن إذا لم يتم التفاهم سأنسحب نهائياً من
الفيلم،
إذ إن لا طائل من إهدار هذا الجهد قبل دخول الفيلم». وعن إمكانية إخراجه
فيلماً عن
المسيح بمعالجة أخرى، يقول: «جئت من إيطاليا لتوقيع عقد هذا الفيلم معتمداً
على
سيناريو غالي لإعجابي به ولا يمكنني ظلم المؤلف أو بخس قدره وأعتقد أن
المنتج لا
يريد ذلك أيضاً ولكن رأيي النهائي سأحدده بناء على مستجدات الأمور».
وحول موقف الرقابة من الفيلم، يشير ماهر إلى أن القانون يمنع عرض فيلم مصري
يصور
حياة الأنبياء، «لذا سنلجأ الى تصويره كفيلم أجنبي وينفذ من خلال شركة
أجنبية ليعرض
جماهيرياً في مصر ليراه الأقباط والمسلمون وأتمنى أن يزول الخلاف ويقدم
الفيلم
خصوصاً في وقت يعاني العالم تنامي الكراهية والتعصب».
الحياة اللندنية في
14/05/2010 |