كان لا بد من سؤال المخرج السينمائي السوري سمير
ذكرى فيما هو يتابع عمليات
المونتاج الأخيرة لفيلمه الجديد، عن هوية «حراس الصمت»، فالفيلم مقتبس عن
رواية
لمواطنته الروائية غادة السمان «التي قدرت عالياً كتابتي السينمائية
للرواية
المستحيلة». ذكرى يقول إن الإجابة هنا «يجب أن تكون درامية
بحتة، ومستمدة من الفيلم
نفسه». ربما أراد المخرج السوري أن يغلب وضوح بعض التفاصيل أكثر مما اعتاد
زملاؤه
حين يتحدثون عن أفلامهم في طور الإعداد والتشكيل فـ «حراس الصمت» هم كل
شخصيات
الفيلم التي تعمل على إعاقة طفلة من أن تعرف أسباب وفاة أمها،
وتمنعها من أن تحقق
ذاتها ككاتبة عبر الكتابة كما تعرف وتعيش». هل تجاوز ذكرى المألوف هنا؟!
ربما واحدة
قد تكفي، ولكن المخرج الذي يتأهب لوضع اللمسات الفنية النهائية على فيلمه
يقرر أن
يتحدث في حواره مع (الحياة) عن أشياء قد لا تبدو مألوفة، ولكنه
يصر على أن تكون
القناة الموصلة للتعريف بفيلمه:
·
إذا كانت هي الرواية المستحيلة،
فهل هو الفيلم السوري المستحيل؟
-
هي الرواية المستحيلة لأن غادة السمان كانت تجد
صعوبة في سرد الحكاية من
ذاكرتها وخيالها في نسيج روائي يحكمه خط متسلسل واحد، ولذلك هي ارتأت أن
يكون السرد
عبر محاولات للسرد، وذلك من خلال المحاولة الأولى، والثانية، والثالثة،
والرابعة،
أما المحاولة الخامسة فوضعت أمامها ثلاث نقاط. وعندما أعجبها
السيناريو المكتوب عن
روايتها، اقترحت عليها أن يكون هو المحاولة الخامسة، ولكنه بالطبع سيكون في
الفيلم
شيء مختلف، وهي قد عبرت عن ذلك قائلة: «لقد قبضت على روح الرواية وكتبتها
درامياً
كسيناريو فيلم». والحقيقة أن ما قالته السيدة غادة السمان
يذكرني تماماً بما قاله
لي محمد ملص ذات يوم عندما كتبنا سوية سيناريو فيلم «أحلام المدينة»: «لقد
أخرجت ما
بداخلي وحولته إلى سيناريو فيلم من دون أن تفرض ذاتك أو أسلوبك على
السيناريو».
وأنا أعتبر ما صدر عن السمان وملص بمثابة مديح كبير لي ككاتب سيناريو.
فيلم واحد لا يكفي
·
يبدو أن الكاتبة غادة السمان
انتبهت للجانب الأدبي في السيناريو، ولكن
كفيلم وانتاج وتقنيات، وهذا عملك أساساً كمخرج، هل يمكن القول
معه إنه سيكون الفيلم
السوري المخلص والمنتظر، لتغادر السينما السورية بعض أوجه أزماتها؟
-
لا يوجد فيلم يخرج سينما من أزمتها، فما هو مفترض
هو وجود كم انتاجي يثبت وجود
هذه السينما، ومن خلال هذا الكم الذي عملنا به طوال السنوات الماضية أثبتنا
شيئاً
هاماً جداً، وهو أننا نستطيع أن نصنع الفيلم السينمائي في سورية من ألفه
إلى يائه
بكل ما تعنيه كلمة صناعة الفيلم من معنى.
·
ولكن يمكن فيلماً أن يحدث
انعطافة أو جاذباً لحركة ما باتجاه مخرج ما؟
-
أعتقد أن هناك سينما سورية سمّاها الأميركيون عند
عروض الأفلام السورية في
(لينكولن
فيلم سنتر) في نيويورك منذ سنتين بالكنز المدفون، وامتدحوا طويلاً جرأة
المضمون وجودته. عندما تأتيك هذه الشهادة من ملوك السينما في العالم، عليك
أن تشعر
بالفخر. لم أصدق عيني عندما قرأت مقالة نقدية، ربما تكون
الوحيدة التي كتبت عن تلك
التظاهرة لناقد أميركي يقارن فيلمي الأول «حادثة النصف متر»، والذي كلف
المؤسسة
العامة للسينما عام 1981 حوالى ثمانية آلاف دولار (بسعر صرف اليوم)
بالسينما
الأميركية. وصدقني أنا نفسي لا أجرؤ على عقد هكذا مقارنة،
ولكنني أشعر بالدهشة لما
قاله حرفياً عن صناعة الفيلم في أميركا التي تتطلب «مبهرات» وعوامل الجذب
والتشويق
والعين دائماً مصوبة باتجاه شباك التذاكر، أما هذا الفيلم – والقول للناقد
الأميركي -،
فقد كان لمخرجه السوري كامل الحرية في أن يخلق عوامل الجذب فيه من صميم
الفيلم
نفسه. السينما السورية تصنع في الحقيقة بسبب إصرار السينمائيين السوريين
على
صناعتها، وأحياناً أشك في أن هناك من يريدها أصلاً، ومن يريد السينما
عموماً، وكم
تمنيت أن أقرأ ريبورتاجاً صحافياً مع المسؤولين السوريين عن
آخر فيلم شاهدوه.
نحن نصنع أفلامنا في مثل هذه الأجواء، أما زيادة
وتيرة الإنتاج، فلسنا مسؤولين
عنها، فثمة نقطتان تتحكمان بهذه الموضوعة: ما يكرس من موازنات حكومية
لصناعة
الأفلام، وسلوك المدراء العامين في غالبيتهم المطلقة.
الخارج والداخل
·
أنت في جانب من إجابتك ترسم صورة
مشرقة للسينما السورية في الخارج، ولكن
الصورة في الداخل تبدو معتمة إن لم نقل سوداوية، فكل فيلم سوري
جديد تنشب من حوله
معركة تكاد لا تنتهي إلا بالتزامن مع ظهور فيلم آخر؟!
-
أنا أرسم صورة مشرقة للسينمائيين السوريين، وللشعب
السوري كأفراد، وما يستطيع
أن يصنعه. أما ما عدا ذلك، فهو ليس بمقدورنا. أنا لا أستطيع أن أرفع مستوى
معيشة
هذا الشعب كي يتمكن أفراده من دفع ثمن تذكرة في صالة حديثة كلف إنشاؤها
الملايين،
فيما الحد الأدنى لسعر هذه التذكرة ثمانية أو عشرة دولارات. أنا أصنع
الفيلم بوصفي
مخرجاً، أما عن بقية الأمور، فعليك أن تسأل وزير الاقتصاد الذي
أعلم صندوق النقد
الدولي أن نسبة النمو في سورية بلغت 6,8 بالمئة، متفوقين بذلك على معدلات
النمو في
الصين وإنجلترا وألمانيا، مع العلم أن متوسط دخل الفرد عندنا خمسون دولاراً
شهرياً.
·
«تمجد»
السينمائي السوري، وتقفز عن السينما السورية كمادة للحديث عن
الأزمة، ففي الوقت الذي يجب فيه أن تكون هذه السينما خططاً
ودراسات وتوجهات
مستقبلية، تبدو في حديثك عن السينمائيين وكأنهم مجموعة من السحرة والحواة،
يمكنهم
أن يصنعوا أفلامهم من دون هذه الخطط؟
-
بالطبع سوف تأخذ الأمور هذا المنحى، هذا إذا علمت
أن فيلمي هذا أخذ من عمري
ثلاث سنوات بسبب التلكؤ الإداري والمالي وبطء قرارات اللجنة الفكرية التي
أبقت
السيناريو في حوزتها مدة عام، مع العلم أن الرواية كانت قد اقترحتها إدارة
المؤسسة
نفسها، ولكن عقدي معهم كان ينص على المدد القانونية لإنتاج
الفيلم، أي عام ونصف
العام، هذا اذا علمت أيضاً أن أجر إخراج هذا الفيلم هو 12 ألف دولار
تقريباً، أي
أنني أتقاضى أجراً أقل من أي «زبال» في سورية، وليس في أميركا، إذا ما قسمت
هذا
الأجر على ثلاث سنوات من العمل والانتظار، وهو لم ينتهِ حتى
الآن. ما يعوض هنا، هو
أنني أتمتع بعملي، وإن جعلونا ندفع غالياً ثمن هذه المتعة، فهم يفاجئونك
يومياً
بمشاكل إنسانية لا يمكن إلا أن تراها وتعيشها وتشعر بها، لأن ما يجرى حولك
أهم
بكثير مما تعالجه في فيلمك.
·
ما دمتم تملكون أشياء أهم مما
يعالج في أفلامكم كما تقول، فلماذا تلجأون في
أعمالكم إلى التاريخ القريب نسبياً أو حتى البعيد؟
اذا عاينت تسلسل افلامي، فسوف تجد أن «حادثة النصف
متر» هو فيلم معاصر عن مرحلة
1967، و «وقائع
العام المقبل» هو أيضاً معاصر. وبعد هذين الفيلمين هربت إلى فيلم
تاريخي هو «تراب الغرباء»، ثم عدت ثانية نحو ثيمة معاصرة في فيلمي «علاقات عامة»،
وأنا الآن أعود إلى التاريخ القريب نسبياً، أي منتصف الخمسينات على وجه
التحديد.
·
إلامَ تحيل هذا «النوسان»
السينمائي إن جاز التعبير بين الأزمنة؟
-
يمكنك أن تقول إنني أشعر أحيانا عندما أتناول
موضوعاً معاصراً أنني أشرّح في
جسد ميت، فأهرب إلى الماضي، واذا به يحيلني ثانية إلى الحاضر كما هو الحال
في «حراس
الصمت». نحن السينمائيين السوريين أصحاب السينما الوطنية ذي الرافعة
الفكرية
والثقافية التي نصر عليها، نعيش في دائرة من الألم لولاها لما
كانت هذه
السينما.
·
ولكن السينما صناعة وبحبوحة
اقتصادية وفكرية؟!
-
أين البحبوحة الفكرية؟ تصور أنني أتمنى أن أنفذ
فيلماً عن الحب تتخلله مشاهد
فيها تعبد بجمال الجسد الانساني، ولكنني لا أسمح لنفسي بذلك.
·
لماذا وأنت سينمائي يملك بحبوحة
في المخيلة على الأقل؟
-
لا يلح عليّ الآن الفيلم ذو البحبوحة الفكرية،
والراحة الجسدية، فأنا أعتبر
أنه من واجبي أن أقوم بتنفيذ فيلم كبير عن القضية الفلسطينية، ولك أن تعلم
أنني
صرفت من عمري أكثر من خمس عشرة سنةً وأنا أحاول تنفيذ فيلم «الزورق» عن
رواية
الكاتب الفلسطيني حسن سامي اليوسف، ولم أفلح، وكذلك هو الحال
مع (سعيد أبي النحس
المتشائل) لإميل حبيبي، وأنا هنا لا أفهم سبب رفض وريثته في حيفا سهام
داوود أفلمةَ
مثل هذا العمل الكبير.
·
رواية غادة السمان... هل هي
بحبوحة فكرية؟
-
أدب غادة السمان عموماً يفجر بحراً من المشاكل.
الحياة اللندنية في
14/05/2010
عباس كياروستامي بين الأصل والنسخة
ندى الأزهري
قبل فترة نشر عباس كياروستامي في بعض الصحف الإيرانية رسالة مفتوحة للتضامن
مع
المخرج جعفر بناهي المعتقل حالياً في إيران. في هذه الرسالة
ذكّر كياروستامي
بالظروف التي تحيط بعمله في إيران، وأشار إلى أنه يحقق أعماله بموازنة
ضئيلة، وإلى
أن توجهه نحو الخارج لإنتاج أفلامه لم يكن إلا ضرورة جاءت رغماً عنه. كما
قال إنه
فقد الأمل برؤية أفلامه معروضة في بلده.
عشر سنوات ونيف مضت على عرض آخر فيلم لكياروستامي في إيران. كان «ستحملنا
الريح
بعيداً» الذي عرض في مهرجان فجر عام 1999، لكن عدم عرض أعمال
كياروستامي على الشاشة
الكبيرة في إيران لا يمنع توافرها كلها على الأقراص المدمجة، وهو ما اعتبره
المخرج
الشهير «وسيلته الوحيدة» للتوجه نحو مواطنيه. كياروستامي الذي لا يرغب بترك
وطنه
الذي «يفضله على أي بلد آخر»، كما ذكر في مقابلة لمجلة «فيلم»
السينمائية، توجه
وللمرة الأولى لتحقيق فيلم له خارج هذا البلد.
وكان العمل الروائي الأول له بعيداً من إيران، وبه يعود كياروستامي إلى
مهرجان
كان وإلى المسابقة الرسمية تحديداً، بعد مرور ثلاث عشرة سنة
على فوزه بالسعفة
الذهبية فيها عن «طعم الكرز».
«نسخة
طبق الأصل» فيلم عباس كياروستامي الأخير هو الأول الذي يعمل فيه مع ممثلين
محترفين عالميين. البطولة للفرنسية جولييت بينوش ويرافقها وليم شيمل، مغني
الأوبرا
الذي يمثل للمرة الأولى بعد أن سبق وظهر في أوبرا أخرجها
كياروستامي قبل سنتين. دور
شيمل كان مقرراً لروبرت دو نيرو الذي اعتذر عن القيام به لانشغاله.
فيلم عن «آدم وحواء» كما وصفه كياروستامي، وفيلم عن جولييت بينوش ولأجلها
كما قد
نقول بعد رؤيته. ثمة رابط بين بينوش والشخصية. كياروستامي، بعد
أن عرض فيلمه على
مجموعة محددة ومحدودة من المتلهفين لرؤية عمله الأخير، في محاولة ربما لجس
نبض
الجمهور قبل عرض الفيلم في كان، قال إنه حين أرسل السيناريو لبينوش وقرأته
مع رفيق
حياتها فإن هذا الأخير علق قائلاً «لقد دس أنفه في حياتنا
الخاصة».
السيناريو الذي كتبه كياروستامي، هو عن رجل وامرأة يلتقيان ويلفان شوارع
فلورنسا
والحوار بينهما لا ينقطع، هي مديرة صالة عرض التحف الفنية في
فلورنسا وهو زائر عاد
إلى المدينة بعد غياب أربع سنوات للمشاركة في مؤتمر عن الأعمال الفنية
الأصلية
والمنسوخة . يبدو وكأن لا علاقة من نوع خاص تجمع بينهما ولكن تتابع الأحداث
يبدي
علاقة غامضة بين الاثنين. زوجان سابقان؟ عشيقان سابقان؟ يلعبان
لعبة ما؟ لغة
المحادثة تتنقل بين الإنكليزية والفرنسية والإيطالية، ويحصل مزج لغوي في
بعض
المواقف فيتحدث البطل الإنكليزية لغته الأم وترد هي بالفرنسية.
فيلم يتكئ على الحوار كمعظم أعمال كياروستامي، كما الغوص في التفاصيل
الحياتية
لأبطاله عبر الكلام عنها وليس عبر الحدث، وكعدة من أعماله
أيضاً تحضر السيارة
كوسيلة لكشف مكنون الشخصيات، كمكان لتبادل الأحاديث، للتفاهم أو للعراك.
السؤال
الذي يطرحه العمل هو هل تساعد النسخة على فهم الأصل؟ هل إن ردود أفعال
الناس أمام
لوحة ما، شهيرة بالضرورة، هي بسبب النسخة التي سبق لهم ورأوها
عشرات المرات؟ لقد
قال كياروستامي لنا إنه صور الكثير من زائري متحف اللوفر والتقط ردة فعل كل
منهم
أمام لوحة الجيوكندا وإن هذا كان «شيئاً رائعاً». فهل ثمة رابط بين
الجيوكندا
وبينوش؟ وهل بانت بينوش «الأصل» في فيلمه بعد أن رأينا «نسخاً»
عنها في أفلام
سابقة؟ قد يكون الجواب تعليقاً لبينوش في مقابلة صحافية: «انسوا ما
شاهدتموه مني
قبلاً، فهنا سترونني أنا».
شاهدنا الفيلم في نسخته الأولى في طهران قبل أن تكتمل العمليات التقنية
ولذلك
سيصعب الحكم عليه، لكن يمكن القول إننا بحثنا عن كياروستامي
«أين منزل الصديق؟» ولم
نجده. بالطبع، سنين طويلة مضت بين العملين نال خلالها كياروستامي السعفة
الذهبية في
كان. لكن كياروستامي بات شيئاً مختلفاً منذ ذلك الحين...
فهل سنتساءل أين كياروستامي الذي استطاع ببساطة وشاعرية سينماه وبراعة
عدسته أن
يكون من عباقرة السينما الإيرانية والعالمية؟
الحياة اللندنية في
14/05/2010 |