كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن السينما التونسية واتجاهاتها ومخرجيها
ونجوم تمثيلها، وخاصة بعد حازت أفلام تونسية على جوائز وتنويهات عربية
وعالمية خاصة لأفلام مثل "الحلفاوين" أو "عصفور السطح" لفريد بوغدير و"صمت
القصور" لمفيدة التلاتلي، و"صفائح من ذهب" للنوري بوزيد، وأخيرا وليس آخرا
فيلم عبد اللطيف بن عمار "نغم الناعورة" وفيلم رجاء العماري "الستار
الأحمر".
ومن هنا تأتي أهمية كتاب الناقدة السينمائية نائلة الغربي المعنون "بانوراما
السينما التونسية في 100 عام" حيث يسرد تاريخا لسينما متميزة فرضت نفسها
عربيا وعالميا، وكذلك يقدم الكتاب نظرات نقدية جديرة بالتقدير كما هي جديرة
بالاعتراض.
ويرى ناشر الكتاب إن السينما التونسية تمكنت من نحت شخصية خاصة بها، شخصية
كثر حولها الجدل من معجب وساخط ومشجع ومحبط للعزائم. وهذا إن دلّ على شيء
فعلى أن السينما التونسية تحير، تقلق، بعبارة أخرى تثير وتدفع إلى ردود
الفعل إيجابية كانت أم سلبية. ويشيد بالعمل الذي قامت به الآنسة نائلة
الغربي والذي يمتاز بعدّة فوائد، أولها هو انه لا يتجه إلى المختصين ولا
إلى الباحثين، إنه عمل موجه إلى الجمهور الواسع، للتعريف بالسينما
التونسية. ومما يزيد في قيمة هذا العمل هو أنه أوّل دراسة شاملة تنجز
بالعربية ولعلها نوع آخر من "المصالحة" بين السينما التونسية وجمهورها.
الحديث عن السينما التونسية والسينما في تونس يحيل إلى ذكريات تتعلق
بانطلاق الفن السابع الذي يرجع تاريخه إلى أواخر القرن التاسع عشر. فبعد
أوّل عرض سينمائي للأخوين أوغست ولويس لوميير ( Auguste et Louis Lumière )
يوم 28 ديسمبر 1895 في المقهى الكبير بساحة الكبوسين Place des Capucines )
بباريس تم إرسال بعض التقنيين من طرف الأخوين لوميير لتصوير بعض المشاهد
السينماتوغرافية بعدة أماكن في العالم منها تونس.
بعض الوثائق تدلنا على أنه وقع تصوير اثني عشر شريطا وثائقيا حول تونس سنة
1896. كان طول كلّ مشهد ستة عشر مترا أي دقيقة واحدة تحتوي على مناظر
خارجية لبعض الأماكن والمعالم الهامة بالبلاد: الباي وحاشيته، سوق السمك،
سوق الخضر، ساحة الخضراء، ساحة فرنسا، الحلفاوين، سيدي بن عروس، باب سويقة،
سوق الباي، سوق الفحم بسوسة ومحطة القطار بحمام الأنف. أوّل عرض جماهيري
لهذه المشاهد نظم في فيفري 1965 في إطار أسبوع السينما الفرنسية بدار
الثقافة بتونس العاصمة ثمّ وقع الاحتفاظ بتلك الأشرطة على شريط نيغاتيف
يوجد إلى الآن بالسينماتيك في فرنسا.
وتمضي نائلة الغربي في حديث الذكريات قائلة انه في سنة 1897 في دكان بشارع
فرنسا في العاصمة تونس نظم أوّل سينمائي تونسي الجنسية ألبير شمامة شكلي (
Albert Samama Chikly ) وسولير ( Solers ) شابان لا يتجاوز سنهما الخمسة
والعشرين، عروضا سينمائية لفائدة الجمهور وهذه العروض كانت تتضمن الأفلام
الأولى للأخوين لوميير ( "لخروج من المصنع" و " وصول القطار " الخ ) وكانت
مدة العرض تدون عشر دقائق. اندهش المشاهدون وانبهروا بتلك العروض: كانوا
يرون بكل إعجاب مشاهد من الشوارع والناس أمثالهم يتحركون على قطعة قماش
تدعى الشاشة.
جلبت تونس الكثير من المخرجين الأجانب الذين ما انفكوا يتوافدون عليها
لتصوير أفلامهم التي نذكر البعض منها " الرجال الخمسة الأشقياء " للمخرج
الفرنسي لويس مورا ( Louis Morat) و" معروف الاسكافي " لروجيه ديسور
(ٌRoger Dessort ) وفيلما عن قصة ألف ليلة وليلة. يعتبر فيلم " زهرة " الذي
قام بإخراجه ألبير شمامة شكلي سنة 1922 والذي قامت ببطولته ابنته هايدي
تامزالي ( Haydée Tamzali ) ( وهي ما تزال على قيد الحياة ) أوّل شريط
تونسي وعربي على الإطلاق، يحكي الفيلم قصة فتاة فرنسية أنقذها من الغرق
صياد ماهر وبعد أن اعتنى بها رحلت مع طيار فرنسي. سنة 1924. ثمّ صوّر ألبير
شمامة شكلي الفيلم الثاني " عين الغزال " أو " فتاة قرطاج " وهي قصة حب
تدور أحداثها في الضاحية الشمالية بتونس وقامت هايدي تمزالي بدور البنت
العاشقة وأحمد الدزيري بدور المحب.
وتعلق نائلة الغربي بعد حديثها عن تلك البدايات قائلة إن "ألبير شمامة
شكلي" هو أحد رواد السينما التونسية ولا يزال الناس يذكرون أعماله ويشيدون
بها في العديد من المحافل إلى يومنا هذا.
من جهة أخرى كان يتزايد كلّ سنة عدد الأجانب الذين يختارون تونس لتصوير
أفلامهم. ففي سنة 1926 تمّ تصوير فيلم " ياسمينة " للمخرج الفرنسي اندريه
هوقون ( André Hugon ) وعام 1927 " المنزل المالطي " لجان فينيو ( Jean
Vignneaud ) وسنة 1935 " شهرزاد " لالكسندر فلكوف ( Alexandre Velkhov) وفي
نفس السنة وقع تصوير " الأميرة تام تام" الذي تلعب فيه المغنية الشهيرة
جوزفين باكير (Joséphibe Baker) دور البطولة ثمّ فيلم "الطرقي" الذي يضم
عددا هائلا من الفنانين التونسيين نذكر منهم المغنية حسيبة رشدي. ومن أهم
وأبرز أفلام تلك الفترة فيلم "مجنون القيروان" للمخرج الفرنسي كروزي (
Cruzy ) والذي قام فيه الممثل محيي الدين مراد بدور البطولة. يعتبر هذا
الفيلم مهمّا من حيث العدد الكبير من الفنيين والفنانين التونسيين الذين
عملوا فيه. وقد وقع العثور عن نيغاتيف الفيلم في إحدى السينماتيكات بفرنسا
وقد تم ترميمه وجلبه إلى تونس وعرضه في التسعينات في العديد من المناسبات
منها أيام قرطاج السينمائية بحضور الممثل محيي الدين مراد. أما واضع
الموسيقى فهو محمد التريكي وقد حظي الفيلم بإعجاب الجماهير بسبب موضوعه
المؤثر وتلقائية الممثلين.
ولكن المؤلفة من جهة أخرى تقول انه لا يمكن الحديث عن النهضة السينمائية في
تونس بدون ذكر ما قامت به الجامعة التونسية لنوادي السينما منذ نشأتها سنة
1950 لترسيخ ثقافة سينمائية لدى الجمهور العريض. يبدو أن الجامعة التونسية
لنوادي السينما حسب بعض الملاحظين تمثل الانطلاقة الحقيقية لبعث سينما
وطنية ذات ركيزة أساسية صلبة ومتينة. ونوادي السينما التي كانت منتشرة بعدد
هائل في كافة أنحاء البلاد لعبت دورا طلائعيا في تاريخ السينما العربية
والأفريقية والى حدّ يومنا هذا لا تزال نوادي السينما على الرغم من تقلّصها
تبث الثقافة السينمائية وتقوم بتوعية الجمهور بفضل جلسات النقاش التي تدور
بعد عرض كلّ شريط مهما كانت جنسيته.
لقد ارتفع عدد منخرطي نوادي السينما إلى 35000 خلال الستينات والسبعينات
موزعين على 60 ناديا. ومنذ شهر أفريل 1995 أنشأت الجامعة مركزا للتوثيق
السينمائي يضمّ مراجع مختصة ومختلفة ( قواميس، كتب، دوريات متخصصة ) كما
تحتوي مكتبة المركز على عدد هام من سيناريوهات الأفلام التونسية سواء كانت
قصيرة أم طويلة هذا إلى جانب برمجة عروض سينمائية متخصصة عن طريق آلة عرض
سينمائي 16 ملم.
في 15 جوان 1946 وقع بعث المركز السينمائي التونسي الذي سرعان ما أغلق وتم
تعويضه في نفس العام باستوديوهات " أفريكا " لصاحبها الفرنسي جورج ديروكلز
( Georges Derocles ) والهدف من هذه الاستوديوهات هو انجاز الأفلام الطويلة
والغرض هو تجنب جميع العراقيل التقنية التي يمكن أن تحدث أثناء التصوير.
ومنذ انبعاثها إلى سنة 1954 أنتجت استوديوهات " أفريكا " 56 فيلما. في نفس
تلك الفترة صور القبطان الشهير جاك كوستو ( Jacques Yves Cousteau) أوّل
مشاهد في أعماق البحار لسفينة رومانية.
وكان " الصادقية " أوّل فيلم تسجيلي يخرجه "التونسي العربي" ويتم إنتاجه
بفضل استوديوهات "أفريكا" التي تنتج الأفلام تسجيلية كانت أم روائية ونذكر
من بين الأفلام الطويلة " رحلة عبد الله " لجورج رونيه ( Georges Regnier
). في عام 1953 كلفت استوديوهات "أفريكا" كلّ نصف شهر بإعداد أفلام إخبارية
تكلفت بانجازها ابتداء من سنة 1961 الشركة التونسية "العهد الجديد" ثمّ
الشركة التونسية للإنتاج والتنمية السينمائية (الستياك) ومن الأفلام
القصيرة التي أنتجت في ذلك العهد شريط "العقد الذهبي" ( Chaine d or )
للفرنسي رينيه فوتي ( René Vautier ) عن سيناريو للمؤلف التونسي محمد رجب
وقامت ببطولته كلوديا كاردينالي ( Claudia Cardinale ) وكان ذلك أوّل ظهور
لها على الشاشة وقد أحرز الفيلم على جائزة في مهرجان البندقية لسنة 1962.
وتعددت الأشرطة القصيرة التي تعكس حياة تونس في بداية الاستقلال وجهاد
الشعب فيها، إنها سينما كفاح وأغلب إنتاجها أفلام هادفة وعملية (سياحية أو
تعليمية أو إخبارية ) كانت الفترة ما بين 1935 و1958 أخصب السنوات في تاريخ
السينما الاستعمارية بتونس إذ تمّ خلالها إنتاج عدد كبير من الأفلام
الروائية أهمّها وآخرها شريط "جحا" لجاك باراتي ( Jacques Baratier) الذي
تحصّل على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان لسنة 1958.
صور "جحا في تونس" وجمع عددا هائلا من الممثلين العالميين كعمر الشريف الذي
قام بدور جحا وكلوديا كاردينالي وحسيبة رشدي، تدور وقائع الفيلم في زمان
ومكان غير محددين وتروي القصة المغامرات الغرامية لجحا الرجل الساذج
والبسيط الذي لا يفارقه حماره. إن طرافة الموضوع وطريقة تناوله بأسلوب هزلي
ومضحك أقنع وأعجب كلّ من شاهده. ورغم إن تونس على غرار الجزائر والمغرب
احتضنت كما سبق ذكره الظاهرة السينمائية مبكرا لكن الملاحظ، كما تقول
المؤلفة نائلة الغربي، هو إن هذا السبق التاريخي لم يؤد إلى خلق صناعة
سينمائية محلية قائمة بذاتها كما هو الشأن مثلا بالنسبة لمصر والهند.
وفي عام 1960 أنشئت الشركة التونسية للإنتاج والتنمية السينمائية
(الساتباك) وكان هذا يعتبر عهدا جديدا للسينما التونسية التي ستبدأ نشاطا
مكثفا في مجال السينما المحلية من حيث الإنتاج والتوزيع واستغلال القاعات
سيبلغ أوجه في منتصف السبعينات، فالشركة الوطنية بفضل مخابرها أنتجت
الأفلام التونسية طويلة وقصيرة كما اشتركت مع دول أجنبية في إنتاج أفلام
عالمية وواصلت تصوير الأفلام الإخبارية إلى حد ظهور التلفزيون التونسي كما
أنها حافظت على التراث المرئي الذي يرجع عهده إلى بداية هذا القرن.
ومن سنة 1967 إلى سنة 1970 أنتجت الساتباك تسعة أفلام روائية طويلة تناولت
في مطلع الاستقلال تاريخ الحركة الوطنية وإبراز نضال الشعب والمعارك التي
قام بها لكسب استقلاله وحريته، فكان "الفجر" أوّل فيلم تونسي إخراجا
وتصويرا وتمثيلا، وعمار الخليفي الذي نفذه يعتبر رائد السينما التونسية أو
أباها، كما تؤكد ذلك المؤلفة.
بعد الانطلاقة هذه، تزايد الإنتاج التونسي وتنوع حسب تنوع مخرجيه الذين
درسوا وتكونوا في المعاهد السينمائية الأوروبية. بعد "الفجر" اهتم عمار
الخليفي بإخراج فيلمين آخرين عن الحركة الوطنية ففي سنة 1968 قدم "المتمرد"
الذي يصوّر بطولات أحد زعماء المقاومة للاستعمار وهو علي بن غذاهم، ثمّ سنة
1970 اخرج "الفلاقة" الذي يعرض من خلاله استشهاد المقاومين الذين يسمون
"الفلاقة" في سبيل تونس.
في فقرة أخرى من كتابها الهام هذا، تبين لنا نائلة الغربي كيف انه في نفس
الفترة اختار بعض المخرجين تناول مشاكل اجتماعية وإنسانية فـ "خليفة
الأقرع" لحمودة بن حليمة يروي حكاية شاب يستغل عاهته ليتسرب داخل العائلات
لتقديم خدمات مختلفة أما "تحت مطر الخريف" لأحمد الخشين فهو يرسم مشاكل
عائلة قيروانية فقيرة يقوم أحد أفرادها أي البنت بخطيئة فتندلع الفضيحة.
هذان الفيلمان يصوران عن قرب البيوت التونسية عاداتها وتقاليدها ونظرتها
إلى العالم الخارجي المحيط بها وطريقة تعاملها في زمن التغيرات تناولنا
لهذه الأفلام لا يمكن أن يجعلنا نغفل عن الدور الطلائعي الذي قامت به منذ
انبعاثها سنة 1962 الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة أو الغير المحترفين
فهي الركيزة الأساسية التي ساهمت في خلق نواة إنتاج سينمائي على غرار
"الساتباك" فيما يخص الإنتاج المحترف، فالجامعة تعهدت بتكوين العديد من
السينمائيين المحترفين وهذا في غياب معهد وطني لدراسة السينما. فعمار
الخليفي وعبد اللطيف بن عمار وأحمد الخشين وفريد بوغدير ورضا الباهي وغيرهم
كانت انطلاقتهم في المغامرة السينمائية عن طريق الجامعة التونسية
للسينمائيين الهواة التي مازالت تواصل مسيرتها في إعطاء فرصة للشباب
التونسي لممارسة السينما. وقد بعثت الجامعة مهرجانا دوليا للسينما الهاوية
ينظم كلّ سنتين بمدينة قليبية التي تقع في شمال البلاد التونسية والمهرجان
يعد من أهمّ مهرجانات السينمائيين غير المحترفين في العالم.
ثم كانت سنة 1966 مفصلا هاما، حيث شهدت انطلاق الدورة الأولى لأيام قرطاج
السينمائية.
إن هذا المهرجان الذي أسس من طرف وزارة الشؤون الثقافية وبمبادرة من السيد
الطاهر شريعة الذي أصبح كاتبا عاما له منذ البداية حتّى سنة 1972 يهدف إلى
تنمية السينما العربية والإفريقية حتّى تقوم بدورها على المستوى العالمي
للتعريف ولنشر الفيلم العربي والإفريقي بصفة خاصة وأفلام العالم الثالث
بصفة عامة كما يشكل إطارا خاصا لتلاقح الثقافات والشعوب بمختلف هويتها
ويناضل من أجل رفع مستوى السينمائيين العرب والأفارقة.
من أبرز وألمع السينمائيين الذين مكنتهم أيام قرطاج السينمائية من البروز
تذكر نائلة الغربي في كتابها الذي نعرض له هنا بعجالة، المخرج المصري يوسف
شاهين الذي تحصّل فيلمه "الاختيار" على التانيت الذهبي في دورة 1970 وعثمان
سامبين الذي نال فيلمه "سوداء فلان" التانيت الذهبي لأوّل دورة 1966
وغيرهما كثير.
ستعرف هذه السنوات أيضا ميلاد مخرج متميز برز بفيلم "ريح السد" وهو إنتاج
تونسي مائة بالمائة: المخرج النوري بوزيد والمنتج أحمد بهاء الدين عطية
صاحب شرطة إنتاج سيني تيلي فيلم سيقومان بإعطاء دفع ونفس جديد ومتألق
للسينما التونسية.
وحول مشكلة الإنتاج والتمويل تقول نائلة الغربي إن الإنتاج السينمائي
التونسي على الرغم من بعض النجاحات في المهرجانات العالمية يظل رهبن تمويل
حكومي ولا يستطيع جلب الممولين الخواص وإشراكهم في الاستثمار السينمائي
وحتى وجود منتجين خواص في الساحة لا يعني أنهم يساهمون في الإنتاج بما تدره
مداخيل أفلامهم بل هم يديرون الأموال التي تنفقها الدولة اثر ترشيح المشروع
من طرف لجنة الدعم لوزارة الثقافة أو هم يحاولون إقناع أطراف أوروبية
بالمساهمة في مد يد المساعدة. الوضع لم يتغير إلى يومنا هذا بل بالعكس تقلص
عدد دور العرض إذ توجد حاليا 60 قاعة عرض فقط بالجمهورية التونسية، وتكتم
الغرب إزاء سينما العالم الثالث لا يبشر بالخير، لكن هذا لم يمنع
السينمائيين التونسيين من مواصلة الطريق بشجاعة وحزم. فموضوع الهجرة
والنزوح وقع تجسيده في الأفلام التالية: "وغدا" لإبراهيم باباي و"السفراء"
لناصر قطاري، و"فردة ولقات أختها" لعلي منصور و"السبت فات" للطفي الصيد و
"ظل الأرض" للطيب الوحيشي.
وتنتقل بنا الباحثة إلى مرحلة الاستقلال حيث دخلت البلاد في معركة البناء
والتشييد فحملت على إثرها تغيرات في عقلية الشعب الذي أغلبه من الريف بحكم
أن المساحة الزراعية تشكل ما لا يقل عن 70% من تراب تونس فالمعطيات
الاقتصادية والسياسية الجديدة أعطت بدون شك دفعا ونفسا للبلاد جعلها تطمح
للتطور والرقي لكنها تسببت في خلق مشاكل اجتماعية. فتفككت الأسر وتشتت بسبب
مغادرة أراضيها والبحث عن القوت في المدن أو خارج البلاد هذا الهم
الاجتماعي كان محط أنظار المبدعين الذين استوحوا قصصا درامية وكوميدية وقع
تناولها بأسلوب واقعي لا يخلو من الشاعرية. فيلم "وغدا" لإبراهيم باباي
يرسم مأساة قرويين بارحوا قريتهم لنضوب عين الماء فيها باحثين عن عمل في
المدينة فنرى الصعوبات التي تصادفهم. في نفس السياق يروي "السفراء لناصر
القطاري معاناة العمال المهاجرين في الغربة . "ظل الأرض " للطيب الوحيشي
يتعرّض إلى متاعب مجموعة تعيش في منطقة نائية نضبت مدخراتها وأفنى الوباء
ماشيتها فاغترب الأبناء باحثين عن القوت خارج الوطن. أما علي منصور فقد
اختار لفيلمه "فردة ولقات أختها " معالجة مشكلة النزوح بشكل هزلي مليء
بالمغامرات والمفاجآت، كما عمل لطفي الصيد في فيلمه " السبت فات " على
إعطاء مسحة فكاهة في تناوله موضوع الهجرة من خلال مغامرات ثنائي تونسي
وجزائري في باريس.
وتعترف نائلة الغربي انه لا يمكن حصر الأفلام حسب مواضيعها لأنها تختلف من
فيلم إلى آخر لكن يمكن مثلا إدراج " يسرى" لرشيد فرشيو و " صراخ " لعمار
الخليفي في جملة الأفلام من نوع الميلودراما العاطفية التي تعتمد بالأساس
على عوامل مختلفة كالسجن والحب والجنس في بعض الأحيان بصفة محتشمة لإثارة
أحاسيس المتفرج وإعطائه صورة تحمله إلى عالم الخيال والحلم. من ناحية أخرى
هناك لمسة سياسية تميز الكثير من الأفلام " كسجنان" لعبد اللطيف بن عمار
الذي يشكل المنعرج الأساسي في السينما التونسية ذات الصبغة السياسية،إن سرد
الأحداث والنهاية المفتوحة " لسجنان " يجعلانه ينتمي دون شك إلى السينما
السياسية فبعد تأزّم الوضع ينتهي الفيلم بفكرة أنه وقع ظلم وهذا من شأنه أن
يستفز تفكير وغضب المتفرج إضافة إلى موضوع الحركة الوطنية ومقاومتها
للمستعمر الذي طرح في أوّل فيلم تونسي " الفجر " لعمار الخليفي. لم ينف "
سجنان " وجود صراع الطبقات داخل المجتمع التونسي. وتقول الباحثة بشئ من
الجزم إن "سجنان" فيلم هامّ لأنه تمكّن لوحده من حوصلة السينما التونسية
آنذاك.
ومن الأفلام ذات الصبغة السياسية تذكر المؤلفة مثلا شريط "شمس الضباع" لرضا
الباهي الذي يعالج مشاكل السياسة السياحية بتونس والعوامل السلبية على
الحياة الاجتماعية بها. ومن الأفلام التي تبرز فيها صورة العائلة التونسية
وخاصة منها المرأة تذكر صاحبة كتاب "بانوراما السينما التونسية.." شريط "
في بلاد الترانني " وهو عبارة عن ثلاث روايات للهادي بن خليفة وحمودة بن
حليمة وفريد بوغدير " وأمي تراكي " لعبد الرزاق الحمامي و "أطفال القلق"
لرشيد فرشيو و"فاطمة 75" لسلمى بكار و"عارضة الأزياء " للصادق بن عائشة و
"العرس" للمسرح الجديد.
وعندما تصل إلى ما تسميه بالعقد الثالث للسينما التونسية الذي ينطلق من
1981 إلى سنة 1990، تلاحظ نائلة الغربي انه قد حصلت فيه عدة تغيرات على
صعيد التشريع الشيء الذي يشكّل منعرجا جديدا لهذه السينما الفتية.
فسياسة التحرر الاقتصادي التي اتخذتها الحكومة، ودائما مع المؤلفة، فرضت
على الشركة الوطنية الساتباك وضع حدّ لمهامها فوقع إغلاقها وبيع قاعاتها
إلى الخواص وتكوّنت شركات توزيع الأفلام، عددها خمس حسب شروط يضبطها
القانون بموجب الأمر عدد823 لسنة 1981 المؤرخ في 23 ماي 1981 والمتعلق بضبط
طرق التصرف في صندوق الإنتاج والصناعة السينمائية: 2/3 من المداخيل
المقتطعة على المشروبات الكحولية تستخدم لفائدة تنمية الصناعة السينمائية و
1/3 بعنوان الإنتاج السينمائي، تدفع هذه المبالغ لتمويل جزء لإنتاج أو
إتمام إنتاج الأفلام التونسية الطويلة، وتمنح هذه المساعدة بعد أخذ رأي
لجنة تشجيع على الإنتاج السينمائي تتركب من
ممثلين عن وزارة الثقافة ومؤسسات ثقافية وجمعيات أو منظمات ثقافية
وسينمائية. منذ انبعاث هذا الصندوق تمكن العديد من السينمائيين الجدد من
خوض مغامرة الفيلم الروائي الطويل فتم انجاز ما لا يقلّ عن خمسة عشر فيلما
كلها تعكس التغيرات التي خلفتها الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية،
فعكف السينمائيون كلّ واحد في إطار خاص على تقديم نظرة خاصة حول ما يحيط به
أو ما يهزّ كيانه كالبحث في الإنسان مثلا والتعبير عن أحلامه وآلامه، نضاله
وكرامته. ويتخذ هذا البحث مظهرا راقيا فيه شيء من العنف في فيلم "عبور"
لمحمود بن محمود 1982. الحبكة الفنية والجمال الرائع للصور تثري فكرة
المواجهة بين الشرق والغرب التي أراد المخرج معالجتها من خلال مسافرين:
مثقف عربي ولاجئ من أوروبا الشرقية يقع طردهما من طرف شرطة الحدود
البلجيكية. صورة المهاجر هنا تغيرت بحكم تطور عقليته وأسلوب تفكيره فعلى
الرغم من هذا ظل الغرب ينظر ويعامل هذا المهاجر من طبقة مرتفعة بنفس الطرق
التي يتخذها مع المهاجر الأمي الباحث عن القوت "فعبور" يكسر الكليشيهات
التي تحيط عادة بأفلام العالم الثالث.
وتصب المؤلفة نقدها الحاد على شريط "الملائكة" لرضا الباهي (1984) الذي
شارك في التمثيل فيه فنانون مصريون كمديحة كامل وكمال الشناوي وهو يحيل إلى
عالم المضاربين وعلاقة أحدهم بالفن من خلال قصة حب مع شابة تعمل بإحدى
الفرق المسرحية، وتقول إن الفيلم غير مقنع بالمرة بسبب ضعف الشخصيات
وتناولها بطريقة سطحية.
بينما ترحب الباحثة بمخرج آخر. ففي نفس السنة يستلهم ناصر خمير تراث أجداده
ويعود إلى الحضارات القديمة الأندلسية خاصة ليسأل ويستخدم عناصرها ويعيد
صياغة أشكالها في تأليف جديد وعلاقات معاصرة فيقدم هذا المخرج الموهوب، كما
تقول نائلة الغربي، في أوّل فيلم له "الهائمون في الصحراء" رؤية عالمية
جديدة للمجتمع العربي محمولا على آماله وأحلامه، فيلم غريب وشيق في موضوعه
ساحر ومحير ومثير في إخراجه وتصويره، حاول المخرج الذي يعلب فيه دور البطل
(وهو معلم شاب) أن يعبر عن الشعور بالضياع بين اليوم والأمس فراح يعيش ذكرى
أمجاد ماضية في عصر الأندلس الذهبي ليستمد منها قوة تعينه في حاضره
ومستقبله. ركز المخرج على البعد الجمالي حيث استخدم ما تمنحه الهندسة
المعمارية العربية الأصيلة من نسق متميز في الإطار السينمائي. لم يكن من
الصعب عليه أن يخرج هذا الفيلم الرمزي الرائع فهو نشأ على الحكايات
والأساطير الأندلسية وغيرها التي كانت جدته تقصها عليه في طفولته. جدته
التي كانت همزة الوصل بينه وبين الأندلس الضائع الذي مازال يسكن عالم
أحلامه ثمّ يعود سنة 1988 إلى الذاكرة ليستفيد منها في تحقيق شريطه الثاني
"طوق الحمامة المفقود" وهو عبارة عن رحلة في اللامكان واللازمان. لماذا
الأندلس؟ لأنها أرض التقت عليها ثقافات عديدة، حوار حي بين الديانات
والشعوب والتي يمكن قراءة آثراها حتّى اليوم في النصوص والموسيقى والحدائق
والمعالم ما بين الأطلس وبحر الصين. لأنها المكان الهندسي للحب وصورة
متعددة ومكثفة للآخر. إنها ليست قصة حب في الأندلس ولكن الأندلس كعين للحب
فيأخذنا الفيلم إلى الأندلس في القرن الحادي عشر إلى الفترة التي شهدت
ازدهار الحضارة العربية الإسلامية حيث يطالعنا شاب يبحث عن أسماء الحب
ويحلم بعلاقة مع أميرة سمرقند.
في نفس السنة ناجية بن مبروك المتحصلة على شهادة من المعهد الأعلى للسينما
ببروكسل في بلجيكا تخرج أوّل فيلم روائي لها "الشامة" اعتمدت فيه على سرد
السيرة الذاتية لفتاة تترك قريتها في الجنوب التونسي لتواصل دراستها في
العاصمة. صورت ناجية بن مبروك الواقع من الزوايا التي تظهر خشونته وفضاعته
مركزة على البعد الاجتماعي والنفسي في رسم شخصية بطلتها بأسلوب بسيط غير
مركب لكنه ناقد ومؤثر. الجزء الثاني للفيلم غير مقنع يعطي رؤية ساخرة عن
الواقع الذي تعيش فيه تلك البنت الريفية. لم يروج الفيلم في قاعات العرض
بسبب خلاف بين المخرجة والمنتجين.
انطلاقا من خلية صغيرة، كنيسة يلتقي فيها صدفة جمع من العرب اختفوا من
الأعداء يتطرق فيلم "عرب" (1986 ) لصاحبيه فاضل الجزيري وفاضل الجعايبي إلى
واقع العالم العربي في تلك الفترة: مضيفة طيران إحدى بلدان الشرق الأوسط
تعود من بيروت بحثا عن صديق كانت فقدت أخباره لكنها تجد نفسها في مكان محاط
بالأعداء حيث يعيش فيه بشر رجعوا إلى قيم القرون الغابرة: الملاحم
والفروسية والغيرة والثأر.
وبعد تجربته الفاشلة مع السوق المصرية التي لم توزع فيلمه "الملائكة" على
الرغم من أنه يضم جمعا من الممثلين المصريين ويعتمد في الحوار على اللهجة
المصرية يعود رضا الباهي بفيلم طموح عنوانه " الذاكرة الموشمة" معتمدا هذه
المرة على ممثلين عالميين كالأمريكي بن كزارا والانكليزية جولي كريستي
والفرنسيين باتريك برويل وجان كارمي لغزو السوق العالمية. تجري الأحداث في
إحدى قرى شمال إفريقيا في سنة 1955 حيث يرفض ابن أحد المعمرين العودة إلى
بلاده ويظل متشبثا بالأرض رغم إلحاح زوجته التي عجزت عن إقناعه بالاعتراف
بابنه الذي أنجبه من سفاح مع امرأة تسكن في القرية.
ستعرف هذه السنوات أيضا ميلاد مخرج متميز برز بفيلم "ريح السد" وهو إنتاج
تونسي مائة بالمائة: المخرج النوري بوزيد والمنتج أحمد بهاء الدين عطية
صاحب شركة انتاج سيني تيلي فيلم سيقومان بإعطاء دفع ونفس جديد ومتألق
للسينما التونسية. فمن منطقته الصغيرة صفاقس في الجنوب التونسي، استطاع
النوري بوزيد بفيلمه " ريح السد" (1986) أن يرسم صورة شاملة عن المجتمع
العربي والعقد القاسية المتعلقة بهاجس الرجولة الذي يشغل بال الرجل العربي.
فبوصفه المحكم لشخصياته الهشة تمكن النوري بوزيد من أن يكسر الكليشيهات بكل
دقة ونعومة: صورة حقيقية لموضوع محرم عادة في المجتمعات العربية "الاغتصاب"
يروي الشريط قصة شاب مهموم ليلة زفافه بسبب تعرضه في طفولته إلى عملية
اغتصاب من طرف صاحب معمل فضل ينوء تحت ثقل ذكريات ذلك الماضي في حين يبدو
صديقه الذي تعرّض لنفس المحنة غير يائس.
هذا الشريط، كما تقول نائلة الغربي، أثار ضجة في الأوساط الثقافية والصحفية
العربية عند عرضه في سنة 1988 لكن النوري بوزيد يعيد الكرة بفلمه "صفائح من
ذهب" الذي أثار بدوره ضجة مماثلة حيث تطرق هذا الفيلم إلى جيل المناضلين
الثوريين التونسيين عبر مسيرة أحدهم يوم خروجه من السجن الذي دخله لأسباب
سياسية. فيبدأ بمحاكمة جيله ومجتمعه وأهله وحتى الأحلام التي بنى عليها
مستقبله. انطلق النوري بوزيد من رؤيته الذاتية حيث امتاز هذا المخرج عن
بقية زملائه بفرديته وتمرده على المألوف في السينما والتزامه الاجتماعي
والسياسي. تبدأ الرحلة في ليلة عاشوراء بالمدينة العتيقة حيث يتجوّل البطل
بحثا عن ماضيه وعبر هذا البحث يلتقي بأبنائه المتفرقين وأمه التي لم تعد
بينه وبينها أية علاقة ويلتقي بامرأة ايطالية صديقة له يتحدث معها حول
السنين التي قضاها في السجن والتعذيب الذي لقيه، الفيلم هو في الآخر سفر
روحاني فيه العديد من المحطات وتمثل كلّ محطة مرحلة من ماضيه المكبل
بالمآسي والانتصارات والانكسارات.
في خضمّ هذه الحركة السينمائية النشيطة يعمل الناقد القدير فريد بوغدير على
توثيق ذاكرة السينما العربية والإفريقية بإنجاز فيلمين من النوع التسجيلي
الأوّل بعنوان "كاميرا افريقية" يتحدّث فيه عن مجموعة صغيرة من الرجال
متفرقين في جميع أنحاء قارة ضخمة يتقاسمون منذ 20 سنة نفس الحلم أن تعبر
السينما عن إفريقيا. هدفهم تحرير الشاشة وإنتاج صور افريقية وعرضها في
القاعات. في نفس السياق يستعرض شريطه الثاني "كاميرا عربية" لأوّل مرة
تاريخ السينما العربية الجديدة من خلال 20 سنة من التجربة مع تقديم أصحابها
ومقتطفات من أفلامهم وخاصة تلك التي ميّزت مسيرتهم مع تحليل الرابطة الخفية
الموجودة بين الأعمال والأحداث التي هزت المنطقة العربية في غياب سوق
حقيقية.
في خط مواز لهذه السينما التي تربط الفنان بمجتمعه وبيئته وتراثه قدم
المخرج علي العبيدي فيلمه الأوّل "برق الليل" عن رواية تحمل نفس العنوان
للأديب بشير خريف. تدور أحداث الفيلم بتونس العاصمة في النصف الأوّل من
القرن السادس عشر وبالتحديد سنة 1535 عند هروب الحسن الحفصي آخر سلاطين
الدولة الحفصية واستنجاده بإمبراطور اسبانيا شار لكان. ولئن كانت القصة لها
تفرعات اجتماعية ودينية وسياسية فإنها تتركز أساسا على شخصية برق الليل وهو
عبد زنجي يتوق للتحرّر والانعتاق حيث يطلب منه أن يتزوج من مطلقة "بثلاث"
ليلة واحدة مقابل مبلغ مالي يمكن أن يستفيد منه في تحرره والهدف من هذا
الزواج هو أن يحق للمرأة الشابة العودة من جيد إلى زوجها الأوّل باعتبار أن
المطلقة "بثلاث" لا تحلّ لزوجها من جديد إلا إذا دخل بها رجل آخر شرعا. لكن
برق الليل يرفض أن يطلق زوجته وتبدأ مساومته لكنه يصر على حقه في زوجته
شرعا فتنطلق مطاردته وإجباره على الطلاق. وفي المطاردة طرافة خصوصا إن
الزوج يحمل رغبة دفينة في خصي برق الليل إمعانا في تعذيبه وإهانته وإفقاده
لحريته مدى الحياة. في غياب حبكة قصصية وصورة سينمائية معبرة يبقى المهم
فكرة التعبير عن مأساة قديمة وأخرى حية معاشة. يبدو أن هذا الشريط عاجزا عن
استقطاب الجمهور لذا لم يقع بثه على شاشات السينما.
بأسلوب "تراجيكو ميدي" يتناول شريط "الحلفاوين" (اسم حي في المدينة العتيقة
بتونس) التحول من الطفولة إلى سن البلوغ ويمثل هذا الفيلم انطباعات المخرج
عما حدث في طفولته وسن مراهقته وهي فترة مهمة في حياة كلّ إنسان، مرحلة
المرور من الطفولة إلى المراهقة تعني بالنسبة له الخروج مطرودا من جنة
النساء اللواتي عاش معهن طيلة طفولته ودخول عالم الرجال. الفيلم قائم على
هذا المرور الذي يحدث بعد أن يترك وراءه بعض الأسف وكذلك بعض العذاب. لقد
عالج فريد بوغدير هذا الموضوع الشائك بذلك وصراحة وشجاعة واضحة بواقعية
تثير أسئلة يطرحها المشاهد بصمت دون أن ينال أجوبة شافية ترضي فضوله. هذا
الفيلم الذي تصفه نائلة
الغربي بأنه فيلم شعبي، وهو وصف ذكي لا محالة، لقي نجاحا لا مثيل له حيث
شاهده عدد كبير من المتفرجين وحقق إيرادات هامة شجعت المنتجين على أن
يدعموا المشروع الثاني للمخرج.
وتظل الصحراء برمالها وصعوبة ممارستها تجذب المخرج الطيب الوحيشي الذي
اختارها مرة أخرى كمسرح لوضع أحلامه. حكاية حب قيس وليلى مشهورة في التاريخ
العربي وكان قد تأثر بها العديد من المستشرقين مثل الكاتب الفرنسي أندري
ميكال واستقطبت اهتمام ابن الجنوب التونسي الطيب الوحيشي الذي أعطى قراءة
جديدة لهذه الأسطورة فحوّل مزج هموم الحبيبين بالصعوبات المناخية التي تؤثر
على سلوك الإنسان وطبعه. فقصة قيس الشاعر الشاب العاشق تبدو ثورية في ذاك
الإطار المحافظ الذي يرفض قبول أي تغييرات خارجة عن حدوده. يعكس لنا الطيب
الوحيشي صورة الإنسان العربي الإسلامي المتشبث بتقاليده وعاداته رغم
التطورات التي حصلت من حوله. إن هذه النظرة النقدية بدت غير مقنعة بسبب عدم
تعميقها لكن الفيلم يحتوي على مشاهد شاعرية تحملنا إلى أعماق الصحراء
السحرية.
من أسطورة الطيب الوحيشي إلى الواقع الأليم لإبراهيم باباي الذي يأخذنا إلى
الذاكرة التي تصور لقاء أصدقاء بعد عشر سنوات، فرقت بينهم الأحداث
الاجتماعية والسياسية التي عاشتها تونس في السنين الأخيرة من النظام
البورقيبي. المضمون الأساسي "لليلة السنوات العشر" عن رواية للكاتب التونسي
محمد صالح الجابري يتعلق بالمعاناة الدائمة التي تحيط بالفرد التونسي. أعاد
إبراهيم باباي صياغة الأحداث بكثير من الفاعلية والانفعال والتعبير عن
المشاعر بإحساس صادق انطلاقا من رغبته في تحليل التاريخ الاجتماعي والسياسي
دون خوف أو تردد.
البحث عن الهوية هي من المواضيع التي كثيرا ما شغلت بال مبدعينا. تنعكس
مشكلة الهوية وأزمة الثقة في النفس والنزاع بين الأجيال والاعتراف بالأقلية
في فيلم "شيشخان" للمخرجين محمود بن محمود وفاضل الجعايبي. يتناول الشريط
قصة رجل مسن كانت له علاقة بامرأة ايطالية ويتنكر لابنه من زنا ثمّ يهدي
كاعتراف بالجميل لامرأة هو معجب بها وعربونا للمحبة لها شيشخانا هو مصاغ
العائلة وذاكرتها.
وعن تداعيات الأحداث العالمية المؤثرة على السينما التونسية، تحدثنا
الباحثة نائلة الغربي عن فيلم "حرب الخليج وبعد" الذي يحملنا إلى الواقع
السياسي العربي غداة حرب الخليج. فان خمسة مخرجين عرب هم نوري بوزيد وناجية
بن مبروك من تونس وبرهان علوية من لبنان ومصطفى الدرقوي من المغرب وإيليا
سليمان من فلسطين أعطى لهم منتج هذا الفيلم أحد بهاء الدين عطية فرصة
التعبير عن آرائهم في خصوص حرب الخليج وما نتج عنها من تأثيرات على المواطن
العربي العادي وعلى المثقف. فانبرى كلّ منهم بحرية مطلقة وغضب شديد أحيانا
وسخرية أحيانا أخرى يقيم هذه الحرب المخجلة والاستفسار عن دوافعها.
يقتحم النوري بوزيد في فيلمه الثالث "البزناس" دنيا السياحة في تونس كمورد
رزق للكثير من التونسيين وكعمود فقري لاقتصاد البلاد. موضوع حساس وشائك
تولاه المخرج بحذر شديد خاصة وانه لم يتحصل على منحة الإنتاج التي توفرها
عادة وزارة الثقافة للأفلام، إن رغبته في الهجرة إلى الخارج تجبر شابا من
منطقة سياحية توجد على سواحل تونس على تسخير جسده للسائحات الأجنبيات مقابل
مبلغ من المال وتأشيرة تمكنه من الهجرة فيعيش تضاربات داخلية تجعله يحتار
بين المحافظة والتفتح، التقاليد والحداثة. استطاع النوري بوزيد بثقة نفس
كبيرة أن يضع تحت المهجر هذا الانفصام الذي تعيشه شريحة من المجتمع التونسي
لكن الصورة لم تكن معبرة كما كانت في أفلامه السابقة المستوحاة من سيرته
الذاتية ومن معاناته اليومية.
في فيلمه الروائي الأوّل "سلطان المدينة" ذهب المخرج منصف ذويب في رحلة
عميقة: داخل وكالة في قاع المدينة يعيش جمع شاذ من الناس من نماذج بشرية
هجينة يتمتع المتفرج بسلوكياتها العديدة ويتفسح في صدى أجوائها الهابطة.
كاميرا المنصف ذويب تصور بحرية وتلقائية الطقوس السائدة عند هذه الشريحة من
المجتمع المغلق على نفسه وقد استطاع المخرج أن يتحكم في أدواته التقنية بعد
التجربة الطويلة التي قضاها في المسرح وخبرة لا يستهان بها في انجاز
الأشرطة القصيرة. شخصيات الفيلم لم تكن بريئة إجمالا فهي قبيحة في حياتها
وبؤسها ودعارتها.
وبكثير من التعاطف والحميمية تتحدث المؤلفة نائلة الغربي عن مخرجتين ميزتا
السينما التونسية بطعم فريد. إنهما: مفيدة التلاتلي بفيلمها "صمت القصور"
الذي تحصّل على العديد من الجوائز في المهرجانات العالمية ولقي صدا واسعا
عند الجمهور، وسلمى بكار بفيلمها "حبيبة مسيكة" الذي لقي نفس النجاح. فيلم
"صمت القصور" ينتمي إلى مجموعة أعمال "المخرج المؤلف" كما هو الشأن لأغلب
الأفلام التونسية. سبق للمخرجة أن عملت كمونتيرة في الكثير من الأفلام
التونسية والعربية قبل أن تنجز فيلمها الأوّل. فهي تطرح هموم المرأة في
مجتمع محافظ ومغلق في فترة ما قبل الاستقلال. إن أهم ما يلفت الانتباه في
موضوع الفيلم، ودائما مع نائلة الغربي،
هو ذلك الطرح الموضوعي لوضع المرأة بين مرحلتين تاريخيتين يفصل بينهما عامل
تاريخي مهم هو الاستقلال الذي يفترض أن يكون العامل الفاصل القاطع بين
المرأة ما قبل الاستقلال المقيدة المهانة وبين المرأة ما بعد الاستقلال
التي بشرها بالحرية والكرامة والتي للأسف لم تحقق منها شيئا، هذا على الأقل
ما أوحت به قصة الفيلم. مغنية شابة تذهب في أجواء الماضي لتبحث عن هويتها.
القصر الذي قضت فيه طفولتها ومراهقتها مع أمها التي كانت تعمل فيه خادمة
فتسترجع ذكريات ترتبط بالماضي والذكريات التي ظنت أنها دفنتها. بنسق بطيء
تعبر مفيدة التلاتلي القصر الفخم لتفضح أسراره وتزيل الستار عن فساد بعض
أصحابه الذين يستغلون خادماتهم لإشباع نزواتهم.
تدور أحداث الفيلم الروائي الأوّل "حبيبة مسيكة" لسلمى بكار في الفترة
1930-1920 وهي سنوات حاسمة في العالم تميزت بأزمات اقتصادية حاسمة في
البلدان المصنعة حيث فقد الأثرياء ثروتهم واشتدّ الفقر بالطبقات المعوزة
وظهرت مطالبة المرأة بحق الانتخاب فيما تستعد فرنسا للاحتفال بمرور خمسين
سنة على فرض الحماية على الإيالة التونسية. الفيلم اعتمد حياة فنانة يهودية
شهيرة في الأوساط التونسية "حبيبة مسيكة" لنقل الجو العشريني الدافئ في
تونس العاصمة وفي بعض الأماكن التي مرت منها الفنانة ( باريس - برلين
الخ... ) مكنتها رحلتها إلى العواصم الأوروبية من التعرف على الحياة
الثقافية ذات النسق السريع في باريس وحضرت عروضا للفنانة سارة برنار
وعروضها للأزياء مما مكنها من تحقيق نقلة نوعية وفكرية جسدتها في لباسها
وتسريحات شعرها وما شدّ المخرجة في قصة "حبيبة مسيكة" هو موتها المبكر الذي
كان على يد عشيقها الأوّل من آثار الغيرة القاتلة.
وتختم نائلة الغربي كتابها النقدي التوثيقي هذا، بقولها إن السينما
التونسية عبر هذه السنوات الطويلة أمدتنا بأفلام غزيرة الكم وثرية الكيف
تحمل الهم الوطني والاجتماعي والسياسي والإنساني: إنها سينما المؤلف المخرج
الذي ينطلق من ذاته للبحث عن الهوية والهوية هنا هي في الآخر البحث عن
تاريخ الفرد وليس التاريخ المفروض عليه من طرف السلطة فهكذا تتحرر "الأنا"
من قيدها باحثة عن هوية تربطها بتاريخ واضح وملموس.
* ناقد من العراق يقيم في لندن
hikmetelhadj@gmail.com
مدونة "سينما إيزييس" في
04/05/2010 |