في عام 1985 قدم المخرج اللبناني المتميز (برهان علوية) فيلما بقي في
الذاكرة طويلا، (بيروت اللقاء) رصد بشاعرية عالية ولغة سينمائية شفافة واقع
الحرب الأهلية اللبنانية من خلال قصة حب بين شاب مسلم وفتاة مسيحية، ولم
تنس الذاكرة مطلقا مشهد النهاية حيث أمل اللقاء ولكن البطل يمزق شريط
المسجلة الذي دون فيه وقائع وذكريات الحرب ليرميه تحت عجلات السيارات، فيما
البطلة تنتظر في المطار البطل لتراه للمرة الأخيرة قبل هجرتها لمدينتها
التي تحب بيروت، لا جدوى من اللقاء مادام السلاح يشرخ النفوس العاشقة.
لا أريد الحديث في هذا المدخل عن فيلم علوية ولكن هذه الشاعرية
والشفافية هي ما أفتقده الفيلم البحريني (حنين)الذي يرصد هو الآخر الصراع
الطائفي وواقع البحرين السياسي، مركزا على فترة زمنية طويلة ممتدة من بداية
ثمانينات القرن الماضي وحتى عصرنا الحاضر، محاولا قدر الامكان معالجة
التحولات في هذه الدولة الخليجية وعلاقتها بجيرانها من خلال رؤى دينية
وأيديولوجية، مبتدأ مسيرة الفيلم من الحرب العراقية-الإيرانية مرورا
بالصراع السوفيتي –الأفغاني، هذا الوضع المتأزم ولد حربا صغيرة داخل البيت
الواحد لتكون نتائجه وخيمة على المجتمع ككل، متخذا من عائلة بحرينية صغيرة
صورة للانقسام الطائفي، الأب السني والأم الشيعية، محنة الدين بين أخوين
والتي جرت خلفها عواقب ومصائب لذلك البيت الصغير الذي كان يوما رمزا
للتسامح، وهو أشارة للبيت البحريني الكبير.
حاول المخرج حسين الحليبي والسيناريست خالد الرويعي أن يطرحا موضوعا
حساسا جدا وبجرأة من خلال واقع معاش فعلي مصورين عجز المثقف أمام آفتي
الفساد والتطرف وانتصار الطائفية على الحب في نهاية كلاسيكية مفتوحة
ومتوقعة سلفا عند المتلقي.
جنح المخرج نحو الرمزية التي لم تنقذه من السقوط في المباشرة والتكرار
في لغة الحوار، وحتى إصراره على شرح مشاهد بسيطة باستطاعة المتلقي إدراكها
بسهولة ناسيا أن الصورة هي الوسيط المعبر بين أفكار المخرج وتلقي المشاهد.
ممثلو الفيلم ( هيفاء حسين، علي الغرير، خالد فؤاد، مريم زيمان) بأدائهم
الجميل استطاعوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من رتابة الفيلم كما كان للموسيقى
التصويرية التي وضعها خليفة زيمان دور مهم في التعبير عن الأحاسيس المخبوءة
داخل النفوس المعذبة.
حنين
هو الفيلم الثاني للمخرج الحليبي بعد فيلمه (أربع بنات)، ورغم جدية الموضوع
المطروح
ألا أنه أفتقد للجذب وعنصر المفاجأة وشاعرية التناول فقد بقي رهان المخرج
على
حساسية القضية الطائفية خصوصا وإنها تأخذ مديات أبعد من
البحرين لتشمل العراق
ولبنان ودول الخليج وحتى المغرب العربي، مع هذا يبقى للحليبي شرف المحاولة
وكأنه
صدى لجاك نيكلسون في نهاية طيران فوق عش المجانين حين فشل في محاولة قلع
المغسلة
الرخامية أمام ضحكات رفاقه المجانين (لكني حاولت .... أليس
كذلك!!؟؟)
العالم العراقية في
21/04/2010
فيلم في البلد الذي يشبهك، المغامرة الفنية لصالح التجربة
الشخصية
بوابة المرأة من مها حسن ـ باريس
تسأله لماذا لا يخرجان من البيت، يتجولان، يتمشيان في المدينة؟ يجيبها أن
الأمر يشبه كما لو أنه يخرج معها إلى ساحة الضيعة. هل تعرفين ساحة الضيعة؟
سألها، أجابت بلا. وسألها مجددا ما هي ساحة الضيعة بالنسبة لها، شارحا
رمزية ساحة الضيعة، أنه لكل واحد منا ساحة ضيعة. قالت له "أنا ما عندي ساحة
الضيعة". أضاف: " باريس مدينة كبيرة، ليس فيها ساحة ضيعة، وهنا في بيروت،
هي مدينة كبيرة أيضا، وما من ساحة بالمعنى الحقيقي، ولكن ثمة دوما ساحة
الضيعة".
بالنسبة لصبية عاشت حياتها في فرنسا، فهي لن تفهم هذه الرمزية، ويأتي
جوابها البسيط "أنا ما عندي ساحة الضيعة"، ليعبر عن غربتها عن اللغة
برمزيتها وعن الحالة ذاتها، حالة "ساحة الضيعة"، حيث الجميع يعرف الجميع.
الفيلم الذي عُرض في معهد العالم العربي وحمل عنوان "في البلد الذي يشبهك"،
بحضور مخرجته مايا عبد الملك، لا يتحمّل الكثير من المضامين الإيديولوجية،
حيث تلا العرض بعض الحوارات مع الجمهور في الصالة. الصبية عبد الملك، لا
تحمّل فيلمها الشعارات التي تربينا واعتدنا عليها، لأنها تنتمي إلى جيل
ربما يحق لنا دعوته، بجيل ما بعد الإيديولوجية، إذ أنها هي وجيلها، نموا
وترعرعوا في بيئة مختلفة، بيئة لا تشكّل فيها الصراعات السياسية محورا
أساسيا.
ليس الفيلم بحثا عن الهوية، ولا نوع من التطهّر عبر طلب المغفرة لأنها نست
بلدها الأصلي، بل ببساطة هو محاولة للتذكر ... فمايا تنتمي لجيل مختلف، جيل
عربي متخلص من أعباء السياسة، لأنه نما في جغرافيا أخرى، جيل يحافظ على
ابتسامته المتصالحة مع الماضي، فهو لا يذكر أحداث ذلك الماضي، تؤكد لها
أمها أن شقيقها الصغير ظل خائفا لفترة طويلة، كلما سمع صوتا عاليا، أو صوت
موتور يمر، لأنه يتذكر أصوات القذائف في بيروت ... بغرابة شديدة وبغربة،
تستغرب الصبية أنها لا تذكر.
حاولت بعض التعليقات على الفيلم، والتي قام بها بعض الحضور، إلصاق الشعارات
بالفيلم، وهذا لأننا ننتمي لجيل غير جيل المخرجة، والتي حين غادرت بيروت
أثناء الحرب، لم يكن لها سوى بعض السنوات، التي لم تسعفها في تسجيل أحداث
الحرب في ذاكرتها ... صبية كبرت في فرنسا، مسترخية عن صراع الهويات
والانتماءات والطوائف والتعدديات الحزبية ... ما فجر بها الرغبة المباغتة
للعودة إلى بيروت، هو لقاء وقع الصدفة مع شاب، سمعته يتحدث لغتها تلك، لغة
أمها وعائلتها .
في المقهى حيث سمعت لغة الشاب "ماهر أبي سمرا"، إضافة إلى اهتمامه مثلها
بالسينما، تفجرت رغبتها للتعرف على ذلك البلد، البلد الذي جاءت منه مع
عائلتها، هربا من الحرب، وهي طفلة، وتركته نائما أو نامت عنه، دون أي ذاكرة
حتى، طيلة تلك السنوات ... إلى أن قررت الذهاب إلى هناك، لتتذكر، وتحطم
الأسطورة القابعة بداخلها، حيث نمت أسطورة المكان، محل الفراغ الذي أحدثه
غياب الذاكرة، كان عليها أن تذهب، لترى البلد الذي جاءت منه، كما هو في
الحقيقة، لا كما تتصوره ، وفق كلام الآخرين عنه.
نرى المخرجة داخل الكادر، باسترخاء وتكاسل وشبه انسحاب، كأن ثمة مسافة
تفصلها عما يجري، لا موقف ولا مشاعر ولا رأي، سوى طرح أسئلة خفيفة،
واستعراض ذكريات بطريقة عشوائية . أبطال العمل هم الذين يقودون العمل، الأم
بحنانها المطبخي، حيث اعتادت الأمهات منح الحب والتعبير عنه عبر الطهي،
الجدة التي يتكرس لها جزء كبير من الفيلم، بانسيابية وتلقائية ، حيث لا
تحاول صاحبة الفيلم التدخل، لأنها مشغولة بمحاولة الفهم، والتذكر . ثمة
كاميرا تدور للمرة الأولى في هذه الأمكنة التي جاءت إليها المخرجة ، لتتعرف
على ذاتها القديمة ، وتستذكر تفاصيل حياة أهلها قبل الهجرة . الصناديق
المحملة بأغراض العائلة، المغلقة منذ سنوات، والتي يطلب "ماهر" منها أن
تفتحها ، مستغربا عدم فضولها لفتح تلك الصناديق ...
أضفى وجود ماهر في الفيلم حضورا قويا، وهو المخرج والصديق لصاحبة الفيلم.
بدا ماهر وكأنه وحده فقط المتواجد الحقيقي في الفيلم، الشخص الأكثر اقترابا
من الفيلم، لأنه ابن المكان، وابن الإيديولوجية، وابن الحرب ... الرجل
المنتمي بقوة إلى كل ما يجري في بيروت، وكأنه لم يغادرها يوما، ولو حتى
للدراسة أو العمل، فروحه هي روح المكان.
حملت هذه الشخصيات الثلاث فيلم عبد الملك، الأم والجدة بتلقائية خالصة،
الأم عبر سرد ما بعد الحرب وأسباب المجيء والبقاء في فرنسا، والجدة التي
ظلت هناك، قابعة، شاهدة على الحرب والهجرة، تلك التي لا تزال تغلي قهوتها،
وتبصّر في الفنجان، رغم كل الكوارث التي حلت بها، وقد قتلوا ابنها في عز
شبابه وشتتوا عائلتها. أما الحامل الثالث للفيلم فكان الحبيب والصديق،
ماهر.
الفيلم في النهاية، وكما ذكرنا، ليس بحثا عن الهوية أو الجذور أو الانتماء،
ولا تكفير عن ذنب الابتعاد، ولا رغبة في فهم الواقع السياسي والاجتماعي
والثقافي لهذا البلد بعد الحرب الأهلية، ولا حتى هو محاولة فنية لتقديم
رؤية ما، الفيلم أقرب ما يكون إلى المغامرة الفنية لحساب التجربة الشخصية
، محاولة المخرجة ـ البطلة لترميم ذاكرتها .
نذكر أن عنوان الفيلم، مأخوذ من قصيدة لبودلير، تحمل عنوان "دعوة إلى
السفر" من مجموعته الشهيرة "أزهار الشر"، حيث تعمل مايا في تدريس الأدب،
ونراها في الفيلم وهي توزع نص القصيدة على طلابها، ونسمع القصيدة بصوت
إحدى الطالبات، كما أن الفيلم من إنتاج عام 2009، مدته 52 دقيقة، التصوير
لـ كلير ماتون، الصوت لـ جورجي لومتر، المونتاج لـ فلورنس بريسون. وهو
الفيلم الأول لمايا عبد الملك التي لم تدرس السينما. ربما علينا انتظار
أعمال قادمة لمايا ، لنتأكد فيما لو كان هذا الفيلم مجرد نزوة للتعرف على
الذات بطريقة فنية ، أم أنه سيكون أمامها مشروعا سينمائيا حقيقيا.
عن الكاتبة:
مها حسن روائية وصحافية سورية، مقيمة في فرنسا، تكتب في الصحافة والمواقع
العربية.
حصلت على جائزة هيلمان/هامت التي تنظمها منظمة
Human Writs Watch
الأمريكية في عام 2005.
صدر لها:
·
"اللامتناهي ـ سيرة الآخر" رواية
ـ عام 1995 في دار الحوارـ اللاذقية ، سوريا،
·
"لوحة الغلاف، جدران الخيبة
أعلى" رواية ـ عام 2002 ـ سوريا/
·
"تراتيل العدم" رواية ـ عام 2009
ـ دار الريس ـ لبنان ـ بيروت
بوابة المرأة في
22/04/2010 |