لا ينكر أحد من مؤرخي السينما أهمية المخرج السينمائي الأميركي دافيد
يورك غريفث، الذي يقر له الجميع بريادة دوره في اكتشاف وسائل التعبير
السينمائية وتطويرها، وتحويل السينما إلى فن له خصوصيته المميزة له، إضافة
إلى دوره في جعل عملية إخراج الأفلام ذات جدوى اقتصادية، فأصبحت السينما
إثر ذلك صناعة مزدهرة، وهذه الإنجازات أهلته لكي يحمل بجدارة لقب "أبو
السينما"، وليس فقط السينما الأميركية بل السينما عموماً.
حين كانت السينما طفلاً ينمو في الفترة الصامتة، كان غريفث يحلم بأن
يجعل من السينما لغة أو فناً عالمياً. وعلى الأغلب، فلم يكن ذاك الحلم إلا
نتيجة طبيعية مترافقة مع بهجة الاكتشاف التدريجي المتسارع لإمكانيات و هذا
الفن الوليد وآفاقه. لم يكن غريفث وقتها يقصد بحلمه ذاك السينما الأميركية
تحديداً، بل الفن السينمائي بشكل عام، ولم يكن يقصد بحلمه أن تكون السينما
الأميركية هي المهيمنة عالمياً، بل أن تكون السينما "لغة" عالمية إنسانية
الرسالة تساعد على التواصل بين شعوب العالم.
ففي ذلك الحين لم تكن صناعة السينما الأميركية بالقوة والحجم
والانتشار العالمي وقوة التأثير الذي وصلت إليه في ما بعد، مثلما أن أميركا
نفسها، كقوة سياسية واقتصادية وعسكرية، لم تكن في حينه بهذا الحجم الكبير
الذي آلت إليه بدءاً من النصف الثاني من القرن العشرين، ولم تكن لتلك
الصناعة السينمائية في البداية رسالة أيديولوجية واضحة، مخطط لها وذات صلة
وثيقة بالمصالح السياسية والاقتصادية الأميركية في سائر أرجاء العالم.
نشأت السينما الأميركية مستفيدة منذ البداية ومستندة إلى أرضية
اقتصادية صناعية هائلة الإمكانيات سمحت لها بتطوير متواصل للتقنيات
السينمائية، تتقاسمها شركات إنتاج وتوزيع كبيرة، وهذا ما ساعدها على سرعة
الانتشار عالمياً. وإذا ما تم استثناء مجموعة من الأفلام التي حققها غريفث
وبضعة أفلام حققها مخرجون آخرون، وبعضهم جاء من أوروبا، والتي كانت تنطلق
من خلفية ثقافية وتستند إلى تراث أدبي وفني راق، ويحركها هاجس إبداعي
استكشافي لإمكانيات الفن السينمائي الجديد، فإن غالبية الإنتاج السينمائي
الأميركي، كانت تتعامل مع الأفلام كسلعة ذات إمكانيات تجارية ربحية بالدرجة
الأولى، تحقق أهدافها بواسطة قصص "مغامرات" فيها قدر كبير من التسلية
والتشويق.
نجاح صناعة السينما الأميركية في تحقيق هدف السيطرة على أسواق التوزيع
والعرض السينمائية في العالم، سبقه أول انتشار خارجي عسكري / سياسي أميركي
في قارة أوروبا بالذات،وذلك عندما شاركت أميركا في الحرب العالمية الأولى.
فقد كان من النتائج المباشرة للحرب العالمية الأولى، توقف صناعة السينما في
دول أوروبا خلال فترة الحرب والفترة التي تلتها، مما وسّع الباب أمام تدفق
الأفلام الأميركية، التي لم تتأثر بأحداث الحرب البعيدة عن أميركا، إلى
أسواق أوروبا السينمائية، التي شلت الحرب قدرتها على الإنتاج، كما أن
الشركات السينمائية الأميركية وسّعت مجال نشاطها وساهمت في تصوير أفلام عن
الحرب فوق أراضي أوروبا. وكان غريفث أحد السينمائيين الأميركيين الذين
صوروا أفلاماً حربية في ذلك الوقت في أوروبا، في فرنسا وبريطانيا تحديداً.
أدى توقف الإنتاج السينمائي الأوروبي خلال الحرب العالمية الأولى، إلى
تطورات أخرى ذات أهمية بالغة بالنسبة للسينما الأميركية، يمكن تلخيصها
بتعبير "الهجرة المعاكسة"، أي هجرة السينمائيين الأوروبيين، من مخرجين
ومصورين وممثلين وممثلات، إلى أميركا بحثاً عن فرص للعمل في السينما باتت
غير متوفرة في أوروبا في ذلك الوقت، حاملين معهم خبراتهم الإبداعية التي
سرعان ما استوعبتها صناعة السينما الأميركية وأعادت قولبتها وسخّرتها
لصالحها ولتجعل خصائصها منسجمة مع أنماط الإنتاج السائدة في السينما
الأميركية.
لم يقتصر إنجاز صناعة السينما الأميركية على نجاح سيطرتها على أسواق
التوزيع والعرض العالمية، بل تعداه إلى تكريس صيغ وأنماط السينما
الأميركية، خصوصاً في مجال أفلام الحركة بأنواعها المختلفة، بوصفها الصيغ
والأنماط الأكثر جذباً لجماهير المشاهدين في أرجاء العالم والأشد تأثيراً
فيهم، على ما بينهم من اختلاف في العادات والتقاليد أو فوارق في المستويات
الثقافية والاجتماعية.
يتضح مدى قوة وجسامة تأثير السينما الأميركية عالمياً، عند ملاحظة مدى
تأثيرها في فرنسا، الدولة التي كانت وما تزال تتغنى بتقاليدها الفكرية
والأدبية والفنية الرفيعة، والتي أثّرت مدارسها الأدبية والفنية في تطور
الأدب والفن العالمي وصارت عاصمتها محجاً للباحثين عن الإبداع من الرسامين
والموسيقيين والأدباء.
وقد افتُتح في أحد مقاهي العاصمة الفرنسية في العام 1896 أول عرض
سينمائي في العالم للجمهور العام، فصار معروفاً كبداية تؤرخ لولادة
السينما، التي حقق فيها المخرج الفرنسي جورج ميليه، الملقب بـ"ساحر
السينما"، في السنوات الأولى من القرن العشرين، أول الإنجازات الفنية
والتقنية الإبداعية في مجال السينما، فنقلها من مجرد وسيلة لعرض الصور
المتحركة التي تعكس صور الواقع مباشرة، إلى وسيلة تعبير فنية متطورة للخيال
فيها دور عظيم.
لمعت في فرنسا أسماء مخرجين ونجوم سينمائيين كبار، وظهرت فيها على مدى
العقود الماضية أكثر المدارس السينمائية انتماء للحداثة، مثل السينما
السريالية، وصدرت فيها أهم الكتب النظرية في مجال السينما وأهم المجلات
السينمائية المتخصصة ومنها مجلة "دفاتر السينما" التي ساهمت كتابات نقادها
في انطلاقة موجة السينما الجديدة في فرنسا، وتأسس فيها أحد أشهر معاهد
تدريس السينما في العالم وهو معهد "الإيديك".
خلال ذلك، ظلت السينما الأميركية مهيمنة على أسواق التوزيع وصالات
العرض السينمائية، أي أنها بالنتيجة ظلت مهيمنة على أذواق جماهير السينما
فيها. ومن المؤشرات الدالة على مدى سطوة هذه الهيمنة ما حدث في الأوساط
الثقافية والسينمائية في فرنسا قبل بضعة أعوام، عندما هبت حملة لمناهضة
هيمنة السينما الأميركية على صالات السينما في فرنسا، تلك الحملة التي رد
عليها وزير الثقافة الفرنسي عندما خاطب السينمائيين قائلاً لهم إنه إذا
كانوا يريدون منافسة الأفلام الأميركية فعليهم أن ينتجوا أفلاماً مثلها.
لم تكتفِ صناعة السينما الأميركية بنجاحاتها في تحقيق ذلك الهدف
عالمياً، بل استمر دورها ليشمل السعي نحو تعميم النموذج الأميركي للحياة في
علاقة تزاوج، باتت تتضح أكثر فأكثر، بين اقتصاديات السينما والأيديولوجيا.
يعدّ المصير الذي آل إليه دافيد وورك غريفث من المفارقات المريعة، بل
والمخزية، في تاريخ السينما الأميركية، فهو، الذي قدم للسينما الأميركية
فيلميه الملحميين الطويلين "مولد أمة" (1915)، الفيلم الروائي الأطول في
السينما الأميركية آنذاك، ضخم الإنتاج الذي حقق أرباحاً خيالية غير مسبوقة،
و"التعصب" (1916)..
فقد بدأ وضع غريفث العملي يتراجع تدريجياً، وأصبح المنتجون يعرضون
عنه، وباتت فرصه في العمل في السينما تتقلص إلى أن أصبح شبه عاطل عن العمل
في السنوات الأخيرة من حياته، فقد نبذته صناعة السينما الأميركية التي
انحرفت عن النهج ذي المضمون الإنساني الذي سار فيه غريفث وظل مصراً على
المضي فيه، واتجهت نحو سينما الحركة والإثارة والمغامرات، التي حققت
الانتشار العالمي الذي كان يصبو إليه غريفث، إنما في جانبه غير الحميد، أي
الجانب المرتبط بالهيمنة على أسواق السينما العالمية وتعميم النموذج
الأميركي، وليس فقط على مستوى كيفيه صناعة الأفلام، بل وعلى المستوى
الأيديولوجي، وهو النموذج الذي يحمل صفة "السينما الهوليوودية" التي
استبدلت السينما التجارية، بالسينما/ الفن، والثقافة السطحية بالفكر
العميق، والأسوأ من ذلك، استبدلت عقلية العنف بقيم المحبة والسلام البشري،
والفردية والمصلحة الشخصية الانتهازية بقيم التعاون والعمل الجماعي
والمصلحة العامة.
الرأي الأردنية في
30/04/2010 |