هناك عدّة نواح متشابهة بين هذين الفيلمين الأجنبيين والحديثين، وكل ناحية
منها مثيرة للتأمّل. لكن أهم هذه النواحي مسألتان تتعلّقان بالقصّة ذاتها.
الأولى: أنهما يعتمدان على الصورة الفوتوغرافية ككاشفة عن الجريمة التي يتم
التحقيق بشأنها، الثانية أنهما يتحدّثان عن شخصيات من اليوم تعود الى أحداث
وقعت في الماضي. طبعاً هناك الناحية الثالثة التي لا تقل أهمية: كلاهما
بوليسي.
فيلم جوان جوزيه كامبانيلا الذي حاز أوسكار أفضل فيلم أجنبي هذا العام،
يتحدّث عن محقق (ريكاردو دارين) يقرر أن يكتب رواية مستوحاة من أحداث
عايشها قبل نحو 35 سنة. يجلس ليكتب، وكلما كتب بضعة أسطر مزّقها وحاول من
جديد. أيكون الموضوع الذي يشغله عصيّاً الى حد أنه لا يجد منفذاً إليه؟
في اليوم التالي يذهب الى رئيسة القسم الذي كان يعمل فيه في القضاء
الأرجنتيني. إنها إمرأة اسمها إرين (سوليداد فيلاميل) تسلّمت عملها يوم كان
المحقق لا يزال يعمل في المكتب، ومن اللحظة الأولى أحبّها. لم يفصح عن حبّه
لكنها شعرت به لفترة طويلة من بعد. السبب الذي أبقى فيه حبّه طي الكتمان
متعدد الرؤوس. إنه كما يقول له رئيس مكتب آخر يكن له الضغينة: فقير وهي
ثرية، وصلت الى مرحلة محدودة من التعليم وهي خريجة هارفارد، أنت لا شيء وهي
ابنة نافذين في الدولة.
نظرات تقول الكثير
في أحد الأيام تُسند إليه مهمّة التحقيق في جريمة اغتصاب وقتل امرأة شابّة
متزوّجة وُجدت ميّتة والفاعل مجهول. هناك اشتباه بعاملي بناء، لكن القاتل
الحقيقي مختف.. لقد كشف المحقق هويّته من الصورة الفوتوغرافية التي وجدها
حين التقى بالزوج المصدوم. كل من في الصورة ينظرون الى اتجاه واحد،
باستثناء رجل كان ينظر تجاه الضحية.
النظرات تقول الكثير ولا فرق إذا كانت نظرة محفورة في صورة فوتوغرافية او
كانت مباشرة. وهذا الفيلم يحتوي على الكثير من النظرات. عيون تتكلّم طوال
الوقت. تنطلق حبّاً هنا وصداقة هناك وخوفا في مكان وخشية في آخر. لكن أهم
تلك النظرات هي تلك التي في الصورة. بناءً عليها لم يعد لدى المحقق شك في
أنه وجد وجهاً للقاتل، عليه الآن أن يجده هو.
فجأة يكتشف المحقق ومساعده القاتل في مباراة رياضية حاشدة. يحاول الهرب،
يلحقان به ويلقيان القبض عليه. لكن بعد أشهر قليلة في السجن يتم إطلاق
سراحه وتعيينه حارساً شخصياً لرئيس المكتب المناوئ. المحقق، الذي ليس رجل
بوليس، بل محقق إداري لا يجيد البطولة، يهرب بمساعدة رئيسة مكتبه الى الريف
حيث والدها سيخفيه. هذا من بعد مقتل مساعده. لكن القاتل بعد ذلك يختفي.
والمحقق سيعود وسيبحث وسيكتشف ما لا تصدّقه عيناه.
بين الحاضر والماضي
ينتقل المخرج على نحو متواصل بين الحاضر والماضي ويقطع بينهما في ذكاء. على
كثرة الانتقال، لا شيء يعترض سير الآخر. المنافذ الزمنية ذكية الإعداد،
أحياناً هي مجرّد لقطات يسيرة. حين ينقل المحقق الى الرئيسة خبر مباشرته
كتابة قصّة شاكياً أنه لا يزال مشوّشاً في كيف يبدأ، تقول له: «ابدأ بما
يشغلك أكثر من سواه». قطع على مشهد لهما.. هي ما يشغله أكثر من سواه.
الفيلم في منوال إخراجه لغزي على أرض متاخمة لهيتشكوك من ناحية، وتذكّر
بأفضل ما كان التلفزيون البريطاني ينجزه في هذا المنوال في السبعينيات حيث
التركيز على المحقق ليس كبطل بل كحالة إنسانية. هذا ليس للقول إن الفيلم
ينتمي الى المعالجة التلفزيونية وإن ذكّر بها. وحتى خلفية المخرج المذكورة
في إطار التلفزيون الأميركي لا أثر لغوياً لها الا من حيث إن هذا الفيلم هو
أيضاً جنائي وعن القضاء (إنما من دون مشاهد محاكمة).
إنه حياة اعتنى المخرج بتفاصيلها تبحث فيما يربط الإنسان بالآخر وموقع
الذاكرة والقلب من الحدث مهما كان مؤلماً. هذا دون أن ينسى عنصر التشويق
على نحو ناضج وفعّال.
علاقات خطرة
الفيلم الثاني مأخوذ عن رواية للكاتب البوليسي السويدي ستيغ لارسون الذي
بدأ حياته صحافياً وناشطا صحفياً، ومات سنة 2004 بعد أن أنجز ثلاث روايات
أوّلها «الفتاة ذات وشم التنين» التي قام الدانمركي نيلز أردن أوبليف
بتحقيقها كخامس أعماله الروائية الطويلة.
البطولة هنا لشخصين يسعيان لكشف ألغاز جنائية معاً. الرجل صحافي اسمه مايكل
بلومكفيزت (مايكل نيفكست) وفتاة متمرّدة اسمها ليزابث (ناوومي راباس) تحقق
أساساً في التهمة التي وُجّهت الى الصحافي وقضت بسجنه لثلاثة أشهر. قبل
تنفيذ الحكم، يقبل مهمّة البحث في قصّة اختفاء امرأة شابّة من قبل أربعين
سنة. كل ما لديه لينطلق منه هو صورة فوتوغرافية قديمة.
المفارقة التي تجمع هذا الجانب مع الفيلم الأرجنتيني تمتد لتشمل أن هناك
أيضاً نظرة خاصّة تساعد الصحافي على التقدّم في تحقيقاته كما لم يفعل أحد
من قبل بما في ذلك البوليس نفسه. لقد لاحظ أن المرأة الشابّة تنظر منفردة
الى وجهة أخرى بدورها. هناك صور كثيرة أخرى وإحداها لرجل في خلفية الصورة
ووجهه بالتالي غير واضح. المحقق يستنتج أن المختفية كانت تنظر اليه بينما
كان ينظر اليها. واكتشف أنها لم تكن سوى رقم في سلسلة إذ انه سبق له أن قتل
سواها.
إذ ينتقل الصحافي الى بيت منعزل يكمن في قرية متباعدة المنازل فوق ثلوج
الشتاء يجد نفسه في بيئة جافّة وغير مرحّبة. إنه كما لو أن هناك ستاراً من
الكتمان يحاول افراد العائلة إحاطته به لمنعه من التقدّم في تحقيقاته.
بالانتقال الى الفتاة ليزابث، المقصودة بالعنوان حيث يوجد وشم لتنين على
ظهرها، فإن الأحداث التي تواجهها تختلف تماماً. إنها من عائلة تركت لها
ثروة، لكن هذه الثروة آلت الى قريب يعتبر نفسه مسؤولاً عنها. وحين تتوجّه
إليه لأول مرّة طالبة بعض المال يجبرها على ممارسة الجنس معه قبل أن يعطيها
مبلغاً تشتري به كمبيوترا جديدا عوض ذلك الذي ما عاد يعمل.
في المرّة الثانية التي تذهب فيها إليه، يربطها ويعرّيها ويمارس معها جنساً
غير إنساني. تخرج من عنده غير قادرة على الحراك، لكنها تعود بعد أيام.
تفقده وعيه بآلة كهربائية وحين يفيق يجد نفسه مربوطاً وعارياً. فجأة الجاني
صار ضحية.
لاحقاً حين تنضم الفتاة الى الصحافي في عمله ليبدأ الأخير مرحلة جديدة من
تحريّاته..
الصورة بألف كلمة
فيلم نيلز أردن أوبليف، مثير للاهتمام ومشغول بعناية أيضاً، لكنه لا يرتقي
الى مستوى «السر في عيونهم» لأسباب مهمّة: الفيلم الأول لا ينسى الرومانسية
ويجعلها محوراً مهمًّا، الفيلم الثاني يستبدل بالرومانسية مشاهد حب
وعلاقات.
الفيلم الأول تكفيه جريمة واحدة لسبر غور جوانب الحياة والسياسة، الفيلم
الثاني يتحدّث عن جرائم لا تنتهي (كما نعرف في ثلث الساعة الأخيرة). و«السر
في عيونهم» لا يستخدم مساعدة الكمبيوتر في حل الجريمة، لأن الجريمة وقعت
قبل عصر الكمبيوتر. أما «الفتاة ذات وشم التنين» فهو يستند الى الكمبيوتر
مبتدعاً الصور (على نحو أن بعض الصور ليست موجودة في الحقيقة بل تم
ابتكارها على الآبل ماكنتوتش. ما يدفع الى السؤال: هل كان بإمكان الصحافي
معرفة الجاني وحل قضية اختفاء الفتاة صاحبة الصورة لو لم يعمد الى
الكمبيوتر؟ وإذا كان الجواب لا فما هو الجهد البوليسي الفردي الذي تقوم
عليه القصّة؟
ثم هناك مستوى الإخراج نفسه: الأرجنتيني كامبانيلا مرتاح وفيلمه آسر.
الدانمركي أوبلف مشوّش ومتوتّر ولو أنه منفّذ حرفي جيّد. لكن الاهتمام في
النهاية واحد: تلك الصور الفوتوغرافية التي تخترق فيها النظرات الورق التي
طُبعت عليه لتطبّق المثل المعروف: الصورة بألف كلمة.
بطاقة فيلم
• الفيلم: السر في عيونهم
The Secret in their Eyes
• إخراج: جوان جوزيه كامبانيلا
• بطولة: ريكاردو دارين - سوليداد فيلاميل
• النوع: دراما بوليسية (الأرجنتين 2010)
• الفيلم: الفتاة ذات وشم التنين
The Girl with the Dragon
Tattoo
إخراج: نيلز أردن أوبليف
أدوار أولى: مايكل نيكفست، ناوومي راباس0
النوع: تشويق بوليسي (السويد - الدانمرك - المانيا - النرويج 2010)
أوراق ناقد
التمثيل للتلفزيون
حين بدا أن الأفلام الأولى، تلك التي انطلقت في العقد الأخير من القرن
التاسع عشر وحتى منتصف العقد الأول من القرن العشرين، إنما وُجدت لتبقى، بل
إنها مقبلة على المزيد من التطوّر من مفهوم الفيلم الذي يتكوّن من لقطة
واحدة فقط، إلى مفهوم التنويع بين اللقطات، ثم التنويع بين المشاهد وصولاً
الى هضم مفهوم المونتاج، الى آخر ما كوّن أساس الفيلم السينمائي الذي نعرفه
اليوم.. حين بدا كل ذلك آيلا للحدوث، كان التمثيل للسينما ما زال أرضاً
جديدة، لم يُختبر ولم تنتقل اليه التجارب الشخصية التي خاضها ممثلو المسرح
أساساً. عدد كبير من الممثلين المسرحيين رفض اعتبار السينما فنا من الأساس،
بالتالي إن التمثيل يمكن له أن يكون فنّاً أمام الشاشة أيضاً. أكثر من ذلك،
عدد من الممثلين والممثلات المسرحيين رفضوا العمل في السينما تحديداً بسبب
هذا الاعتبار.
لاحقاً مجالان آخران مرّا بالتجربة نفسها: التمثيل للأنيماشن، حيث كان
الممثلون المغمورون وحدهم هم الذين يمثّلون بأصواتهم، بينما الآن كبار
النجوم يقومون بذلك، والتمثيل للتلفزيون: في مطلع الخمسينيات عزف معظم
الممثلين عن العمل لحساب ذلك الجهاز الصغير ذي الشاشة البيضاوية، على أساس
أنه أمر مهين لن يقدم عليه سوى من انتهت رحلته السينمائية، او ذلك الذي لم
يبدأ بعد تلك الرحلة.
الآن التمثيل للأنيماشن والتمثيل للتلفزيون لا يعرف صغيراً او كبيراً،
مشهوراً او مغموراً. كما كانت الحال حين انتقلت السينما الى عقدها الثالث
من العمر وصار للتمثيل السينمائي وجود يشمل مدارس وأساليب.
في العالم العربي، لم يبتعد هذا المفهوم عن المفهوم الهوليوودي والغربي
عموماً المذكور أعلاه. ممثلو السينما لا يظهرون على التلفزيون، ممثلو
التلفزيون خامة مختلفة وغالباً ما هي بمنزلة تمهيد للخطوة السينمائية،
وهكذا.
لكن الأحوال تغيّرت منذ سنوات، وازدادت تغيّراً حينما أدرك الممثلون
المشهورون سينمائياً أن هناك قطاراً يمر بهم ويتركهم على المحطّة. أفلام
ومشاريع سينمائية لا تُعرض عليهم، بل يختطفها الجيل الجديد قبل أن تصل الى
المحطة حيث ينتظرون.
ومن موقف ينظر الى العمل التلفزيوني نظرة متعالية، الى موقف يقبل بالعمل
التلفزيوني من دون سؤال. فالثمن الذي على يسرا وليلى علوي وكمال الشنّاوي
(من قبل) ومحمود ياسين والهام شاهين وآخرين دفْعُه للبقاء في العمل
السينمائي صار مرتبطاً بالبرامج والمسلسلات الرمضانية وغير الرمضانية.
أعتقد أن كل ذلك لا يوصم الممثل بالعيب، أعني لا تمنّعه السابق ولا قبوله
الحالي، لأن كلا الحالتين لهما علاقة بالوضع الذي تعيشه السينما حالياً.
المسألة هي أن الممثل لا يمكن له أن يفعل شيئاً غير التمثيل (باستنثاء
القلّة)، وإذا لم يقبل بالتمثيل للتلفزيون او للمسرح او حتى للإذاعة، فلن
يمثّل الا في المناسبات المتباعدة. في تلك المرّات القليلة الذي يتطلّب
فيها الفيلم شخصية تجاوزت سن الشباب.
يقولون إن السينما تقدّمت وإنها سائرة على منهج هوليوود. لكن في هوليوود
مازلت تجد ممثلين كبروا في السن ولا يزالون نجوماً. وبعضهم يترك التمثيل
ليصبح مخرجاً او يمارس التمثيل والإخراج او التمثيل والإنتاج.. في الواقع
السينما العربية التجارية مازالت بعيدة سنوات ضوئية عن أي نجاح حقيقي.
حكايات وراء الكاميرا
«روبن هود».. نسخة جديدة لشخصية قديمة
خرجت من لقائي يوم الجمعة الماضي مع المخرج ريدلي سكوت وأنا متشوق لمشاهدة
فيلمه الجديد «روب.ن هود»
Robin Hood الذي سيعرض في افتتاح الدورة الثالثة والستين من مهرجان «كان»
السينمائي المقبل، وذلك لأنه أصر على أنه منح الشخصية التي تداولتها
السينما كثيراً من قبل «صورة جديدة».
سألته: «كيف؟».
فأجاب: «لم أرد أن أنقل تلك المشاهد المعتادة التي استعانت بها معظم
الأفلام السابقة. كنت أريد أن أنقل مفهوم البطل وكيف اشتهر بالسطو من
الأغنياء ليوزّع على الفقراء».
الفيلم الجديد لمخرج «مملكة السماء» و«غلادياتور» يقدّم التاريخ الإنكليزي
كلّه على نحو جديد. إنه فيلم أكشن من بطولة راسل كراو وكيت بلانشيت، ويجمع
بين العاملين الفني والتجاري: «في مطلع عهدي أخرجت فيلماً تاريخياً اسمه
«المتبارزان» تم عرضه في «كان» وشاهده في عروضه الأميركية ربما عشرة
أشخاص.. قررت من هناك أن السينما الفنية وحدها لن تكون أسلوبي في العمل على
الإطلاق».
إنتاج عربي يبحث عن سبب {انتقام الفراء}
لا مانع إذا ما ارتأت مؤسسة او شركة عربية اختيار سينمائي أجنبي لإدارتها،
لكن إذا ما عزمت على ذلك، هل لها أن تختار الرجل المناسب في المكان
المناسب؟
مؤسسة «إيماجناشن» مؤسسة عربية تم تكوينها قبل سنة ونيّف، وتم استقطاب
موظّف كبير من شركة انتاج هوليوودية ليشرف على مشروع قيام المؤسسة بتمويل
أفلام أميركية.
النتيجة فيلمان: «مجانين»، فيلم الرعب المأخوذ عن فيلم رعب سابق، وهذا
الفيلم الكوميدي {انتقام الفراء}
Furry Vengance
حول انتقام الحيوانات الصغيرة ذات الفراء. كلاهما نال وخزاً من النقاد
الأميركيين. أولهما لم يحقق نجاحاً تجارياً يذكر، الثاني لا يبدو أنه سيحقق
نجاحاً تجارياً يذكر.
إنه عن محاولة تطوير منطقة ريفية نائية في ولاية أوريغون رغم اعتراض
المواطنين المحليين، والأحداث، المفترض بها أن تضحكنا، ستقود كبير
المقاولين للصدام ليس فقط مع البشر بل مع الحيوانات أيضاً التي لا تريد أن
تجد نفسها منزوعة من أرضها. التريلر يقول الكثير بما في ذلك أن النهاية
بالطبع أن ابن المدينة، ويؤديه الممثل برندان فرايزر، سيتعلّم بعض الدروس
من تلك الحيوانات الجميلة.
القبس الكويتية في
28/04/2010 |