بعد عودتها إلى تقديم نوعيات الأفلام المختلفة، على مشارف نهاية العقد
الأول من
القرن الحادي والعشرين، توزّعت السينما المصرية بين تعدّد الأبطال والخطوط
الدرامية
والأعمال التي يحمل فيها بطل واحد على كاهله عبء الدراما وخطّها الرئيس.
من الصيغة الأولى رأينا مثلاً فيلم {واحد صفر} للمخرجة كاملة أبو ذكري
والكاتبة
مريم ناعوم، {كباريه} و{الفرح} للمخرج سامح عبد العزيز والكاتب أحمد عبد
الله.
ومن الصيغة الثانية رأينا مثلاً {في شقة مصر الجديدة} (البطلة نجوى -
غادة عادل)
للمخرج محمد خان والكاتبة وسام سليمان، {خلطة فوزية} (البطلة فوزية - إلهام
شاهين)
للمخرج مجدي أحمد علي والكاتبة هناء عطية،
{دكان شحاتة} (البطل شحاتة - عمرو سعد)
للمخرج خالد يوسف والكاتب ناصر عبد الرحمن، {بلطية العايمة} (البطلة سيدة
أو {بلطية} - عبلة كامل) للمخرج علي رجب
والكاتب بلال فضل...
لا نستطيع القول إن التعبير عن رؤية من خلال أبطال متعددين وخطوط
متقاطعة هو
تعبير عن {ديمقراطية أكبر}! فالتعددية في الدراما غير التعددية في السياسة،
إنما كل
من الصيغتين في الفن هي ما يراه صانع العمل مناسباً لموضوعه ويجسد وجهة
نظره ويوضح
أو يحلل رؤيته على نحو يرضيه ويطمئنه على إيصال الفكرة.
الأمثلة الثلاثة التي ذكرناها في صيغة التعدد، زاد عليها أصحابها أن
الأحداث
تدور في يوم واحد أي الأخذ بالوحدة الزمنية الأرسطية. في فيلم {واحد صفر}
مثلاً
رأينا خمسة خطوط درامية متقاطعة، وضعف هذا الرقم من الأبطال، فقد جسدت
شخصيتان كل
خط وكانت روح الموضوع واحدة هي الحاجة والفقر الاقتصادي الشديد
(في خطي الشقيقتين:
نيللي كريم وزينة وخط الجد وحفيده: لطفي لبيب..)، أو الحاجة العاطفية
والروحية (في
خط السيدة القبطية إلهام شاهين)، أو تلاقي الحاجتين معاً (في خط الأم
وابنها انتصار
وأحمد الفيشاوي). استتبع هذا البحث والتحليل الدعوة إلى مزيد
من التأمل في هذه
المعالجة الدرامية والصيغة التعددية.
على الجانب الآخر، أقدم صنّاع فيلم {دكان شحاتة} على مغامرة فنية فيها
روح
تجريبية، حيث مُزج بجرأة بين إطار وسمات وعناصر من الملحمة الشعبية أو {تيمة}
الحكي
الشعبي، وبين تناول قضايا سياسية معاصرة بل راهنة وملحّة اليوم و{غداً}.
ينطلق الفيلم منذ بداية حكم الرئيس حسني مبارك عقب اغتيال سلفه الرئيس
أنور
السادات (1981)، الذي يستغرق كل عهده ولا ينتهي في 2009، العام الذي عرض
فيه
الفيلم، إنما يمدّ الخيط إلى عام 2013 متوقعاً، إذا استمرت الحال على
المنوال نفسه
لبضع سنوات أخرى أن {تعمّ الفوضى والانفجار الشعبي الكامل في
البلاد، بكل ما يحمل
ذلك من خطورة أو عواقب غير واضحة، {الغليان} أو {الاحتقان} ظاهر للعيان،
ويقول
المنطق إنه ليس بعد {سنوات الغليان} إلا {الانفجار} (إذا استعرنا عناوين من
أشهر
كتب محمد حسنين هيكل).
الجرأة في الفيلم أنه قام بـ {تضفير} عناصر ومفردات من الحياة
السياسية
والاجتماعية المعاشة، بعناصر وملامح من سيرة النبي يوسف عليه السلام لا
سيما علاقته
بوالده وأخوته، ومن الشخصيات في الحكايات الشعبية، حيث نرى {شحاتة} منذ
ولادته إلى
الموت، بطلا طيباً لكن ليس عن ضعف، قوياً يعفو لكن عند المقدرة، نبيلاً
طوال الوقت،
في المقابل يصوّر الفيلم خصومه بأنهم أصحاب نفوس خبيثة، على
النحو الوارد في السير
والملاحم الشعبية، عكس ما يصوّر في الدراما الواقعية، ما أدى إلى عدم تقبّل
النقاد
للفيلم عندما قيّموه ونظروا إليه كفيلم واقعي، لا بد من أن نرى فيه الأشخاص
والنفوس
أكثر غنى وتنوعاً بالأبعاد والألوان بين الأسود والأبيض والرمادي، الطيبة
والخبث
ودرجات بينهما وهكذا.
الجريدة الكويتية في
12/04/2010
وجهة نظر
أبطال متعددون...وخلطة البطل الواحد (2-2)
محمد بدر الدين
توقفنا عند نماذج من الأفلام، في مواسم السينما المصرية الأخيرة، اتسمت
بتعدد
الأبطال وتقاطع الخطوط الدرامية، مثل «واحد صفر» و{كباريه»
و{الفرح» الخ، وأفلام
البطل، الشخص الرئيس والخط الأساسي، وتسخير بقية الخطوط والشخصيات لتدعيمه،
كما في «في شقة مصر الجديدة» و{دكان شحاتة»، واليوم
نستكمل بالتطبيق على مثال آخر هو «خلطة
فوزية».
«خلطة
فوزية» فيلم آخر ظلمه النقد، أو يمكن القول إنه أحد الأفلام التي تظلمها
المشاهدة لمرة واحدة، يبدأ بمشاهد أولى توحي للمتلقي بأنه أمام «فانتازيا»
لامرأة
(فوزية)
تتزوج خمس مرات وتطلب الطلاق بسهولة، وبأن هذه الفانتازيا تتصاعد إلى مزيد
من الإدهاش أو الغرائبية، لكن ذلك لم يحدث! فلا يبقى من هذه الحال التي
قدّمها
الفيلم في ربعه الأول إلا حرص هذه المرأة على علاقة صداقة «متحضّرة» مستمرة
بينها
وبين الأزواج السابقين وبينهم هم أنفسهم، بما في ذلك «الزوج
الحالي».
كان الزوج الأخير (فتحي عبد الوهاب) الأكثر توفيقاً، إذ وجدت فيه فوزية ما
كانت
تبحث عنه في زيجات سابقة، لذا استمر زواجها به لبقية الفيلم.
في ما عدا ذلك لا يوجد ما هو غريب أو «شبه فانتازيا»! أما موضوع الفيلم
الرئيس
فيجسد تصوراً أو رؤية لـ «أسلوب حياة».
إنه أسلوب حياة فوزية، الذي يقدمه الفيلم بدهشة ومحبة وانحياز. هي امرأة
بسيطة
لكن حكيمة، لا تجد في الحياة ما يستدعي تعقيداً من دون سبب أو
معنى، أو تفريقاً بين
البشر وعدم تفهمهم لبعضهم البعض...
يبدع الفيلم صوراً آسرة، لنساء أخريات، في خطوط أخرى تومض حول الخط الرئيس
(فوزية
بأداء إلهام شاهين المتميز المتفهم لدقائق الشخصية الخاصة وروحها) من
بينها:
راقصة معتزلة تقدّم بها العمر وتشعر بأفول الحياة (نجوى فؤاد في دور جميل
أتقنته
ويعتبر تتويجاً لمشوارها الفني) وتجهّز مقبرة لها، وفي لحظات
عمرها الأخيرة تصرّ
على امتلاك هاتف محمول، ووسط استغراب صديقتها فوزية لأنها لا تعرف أحداً قد
تهاتفه،
تتعرف إلى رجل في مثل عمرها، ويعيشان قصة حبّ وتواصل رائعين، فتدخل المقبرة
بابتسامة ولا تنهض بعدها أبداً، إنما تبقى ابتسامتها وصدقها
وصلابتها وحبّ الحياة
في عيون المتلقين وذاكرتهم طويلاً.
صديقة فوزية الأخرى التي تكاد تجنّ لتأخرها في الزواج (أداء بارع لغادة عبد
الرازق ومشاهد كلها «ماستر سين» بالنسبة إليها)، تتوقّد وتحتار
وتتألم، تتميّز
بشخصية طيبة إلى حدّ السذاجة، وتوفق في النهاية في الحصول على زوج مناسب
وتتلقى
نصائح فوزية وهي في طريقها إلى عريسها في مشهد متميّز وأداء متقن للفنانتين.
في الربع الأخير من الفيلم، نفاجأ بشخصية رابعة أم فوزية (أداء مدهش بل درس
في
الأداء للفنانة الكبيرة عايدة عبد العزيز)، التي تشارك نساء
أخريات، في مقدمهن
فوزية، في حبّ الحياة والترنم بأغنية الشوق إليها حتى النهاية. تأتي من
بلدتها
لزيارة ابنتها وفي الطريق تقع ضحية نصاب يوهمها بالحب والزواج ويتجه بها
إلى
الإسكندرية في إشارة إلى مكان يضج بمعاني السعادة والاحتفاء،
لدى وصولها تفاجأ
بنفسها وحيدة ومقهورة بعدما سلبها نقودها وحليها الذهبية.
في مشهد مؤثر وبارع، تقول رابعة لابنتها التي تساعدها في الاستحمام إنها
عاشت
حياتها وحيدة وكانت تجد في تلك النقود والذهب القليل الأمان
كله، فتتعاطف الابنة مع
أمها وتتفهمها.
حينما يسألها زوجها (فتحي عبد الوهاب بأدائه المقنع والدقيق لدوره): «أمور
الحياة كلها بسيطة من وجهة نظرك، ألا تجدين هموماً؟ تجيب
فوزية: «ثمة هموم وآلام،
يجب أن نتحملها وألا نعقّد ما قد يظل بسيطاً».
هذه هي «خلطة فوزية»، أو خلطة الحياة وسرّها لدى فوزية.
ليس الطعام بالخلطة الخاصة والنكهة المتفردة، التي اكتشفتها، يطيّب مذاقها
لكل
من حولها فحسب، خلطة «الأكل» هي إشارة ‘لى خلطتها الكبرى،
أسلوب الحياة.. وهذا ما
برعت في معالجته مؤلفة الفيلم هناء عطية، في بناء درامي متماسك ومتنام
وممتع، وحوار
لافت يعبّر عن الشخصيات المختلفة، وما يزيد من الصعوبة، أن هذه الشخصيات
تتمتع
بطبيعة خاصة في مكان خاص أيضاً، ليس كما بدا في الوهلة الأولى
«بيئة عشوائيات» أخرى
في السينما المصرية، إنه مكان حقيقي في القاهرة قرب النيل، يتضمن طبقات
وعاملين في
مهن متباينة. ولا يخلو مشهد من عبارات في الحوار تبرز خصائص وحتى روح
الشخصية
ذاتها.
كان المخرج مجدي أحمد علي بالغ التوفيق في تجسيد الدراما وملامح الشخصيات
فنياً
وحرفياً، وفي قيادة عناصر الفيلم الفنية المتميزة، من تصوير
ومونتاج وديكور
وموسيقى، وفي اختيار الممثلين ومستواهم الرائع وإدارتهم.
الجريدة الكويتية في
16/04/2010
|