قبل أن تقرأ هذه الأوراق
اقتربت كثيراً منه، تحاورت معه، عشت معه لحظات فنه الخاصة، حضرت
كواليس
أفلامه. فتح لي قلبه وعقله، قدّم لي جنونه على طبق من فضة. منحني تأشيرة
دخول الى
ذكرياته وأيامه ومعاناته. كتبتُ الكثير عنه أثناء حياته، وهذه الأوراق جزء
من
حواراتي الطويلة معه تحاول أن تلخص بورتريهاً اسمه أحمد زكي!
حياته مدهشة كموهبته، مخيفة كأعماقه، دافئة كمشاعره، مجنونة كتصرّفاته
وجريئة
كأفكاره، عاش عمره في دنيا من التمرّد والوحدة فتمرّد على أحمد زكي شخصياً.
سافر في خياله الى حياة يريدها وامرأة يتمناها وعلاقة تطمئنه وتقدير
يرضيه،
بساطته تسكن ملامحه وخجله جزء من شخصيته، وأعصابه تستقر فوق جلده، توتره
هواء
يتنفّسه، دموعه لا تكف عن السقوط في قلبه، عقله لا يحصل على إجازة أبداً،
ابتسامته
سلاح يدافع به عن وجوده أكثر مما هي تعبير عن إحساسه.
عاش أحمد زكي دائماً داخل منطقة ألغام لا توجد لافتة تحذّر من
الاقتراب منها،
فالانفجار، قطعاً، سيكون من نصيب أي محاولة للاقتراب من دنياه.
دنيا حرمته من الحب وأهدته الموهبة، قدمت له النجاح وسرقت منه
الاستقرار، سلبت
منه السعادة ومنحته النجومية، أعطته المتعة وأخذت منه الإحساس بها.
بدأ أحمد زكي مشواره من تحت الصفر وصعد الى القمة.
بدأ بحقيبة تضم «بيجاما وشبشباً» وحلماً صغيراً في أن يصبح شخصاً له
قيمة.
ومنذ اللحظة التي ترك فيها الزقازيق حيث ولد وتربى وعاش، قرّر في
أعماقه أن
يتحدى أيامه وظروفه وخوفه وإحساسه باليتم.
وها هو أمامي الآن يمسح عرقه، يلتقط أنفاسه، يعود بذاكرته الى الوراء،
يستعيد
أيام الشقاء والحب ولحظات الأمل والآلم.
ها هو يحكي عن لحظة لا ينساها وإن كان لا يتذكرها، لحظة حفرت بدايات
الألم في
نفسه وحياته. فقبل أن يبلغ فطامه مات أبوه، رحل قبل أن يمنحه خبرته ويعطيه
حنانه
ويسقيه أفكاره ويساهم في تكوين شخصيّته. ولأن أمه كانت صغيرة وجميلة آنذاك،
تزوّجت
حين بلغ الأربع سنوات. فعاش مع جده وجدته في دار كبيرة في
الشرقية وبدأ يولد في
داخله شعور بالحياد.
بدأ يكتم ما في داخله، يخفيه، يضع عليه خجله ويلونّه بعذابه ويصمت!
أفراحه لا تظهر ودموعه لا تعلن عن نفسها.
يريد أن يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه على رغم الحنان الذي ضاع بوفاة
الأب وزواج
الأم ما زال رجلاً. ومنذ تلك اللحظة أدرك أحمد أن سنوات عمره ستكبر قبل
الآوان: «نزلت الترعة وأصبت بالبلهارسيا مرتين وأخذت
في كل مرة 60 حقنة أي 120 حقنة وللأسف
وصلت البلهارسيا معي الى مراحل متقدّمة لكن ربنا أنقذني منها.
أذكر اسمها. ترعة
النويسي وهي بالمناسبة كانت مكاني المفضّل لصيد السمك البلطي أنا وأصحابي.
كنت
أتأمّل كثيراً منذ طفولتي. كنت أشاهد الحياة من داخل نفسي. أكتب لها
سيناريو.
أحد الأمور التي أعيها تماماً ذكرياتي في بيت أخوالي أو أي بيت كنت
أدخله، لقد
رفضت نظرات الشفقة والعطف التي ينظرون إليّ بها كطفل يتيم.
رفضت هذا الحنان «المغشوش» الذي لا يخرج من الوجدان وإنما من باب
الإحسان.
كنت مقتنعاً بعبارة سمعتها كثيراً وهي أن «البيت ما يحبش إلا ولاده».
أحد أصعب المواقف التي واجهتها حين كنت أزور بيت أمي فوجدت هناك رجلاً
غريباً لا
أعرفه، رجلاً ربما يربّت على كتفي ليس لأنه يحبني ولكن لأنه يرى هذا واجبه.
إنه الكذب في المشاعر الذي كرهته، وكبرت كراهيتي له مع الأيام.
عندما كنت طفلاً وفيما كان الطبيب يعطيني حقنة البلهارسيا كان مشغولاً
بالحديث
مع زميله فخرجت الحقنة من الناحية الأخرى وسببت لي ألماً فظيعاً نتج منه
خراج في
يدي».
·
ماذا فعلت؟
كتمت صراخي على رغم الورم المخيف الذي ظهر في ذراعي، وعندما عدت الى
البيت دخلت
غرفتي بهدوء وثبات فيما دموعي متحجّرة في عينيّ.
عارف عملت كده ليه؟
كي لا أسمع عبارة «مالك يا حبيبي»! لم أكن أريد أن أكون عبئاً على
الآخرين. كنت
أودّ البقاء في عيونهم الطفل اللطيف الوديع الذي لا علاقة له بالمشاكل. كنت
أتفادى
أي كلمة عطف تهزّ في داخلي شعوري بإنسانيتي وكرامتي.
·
ماذا عن سنوات الدراسة؟
أردت دخول الثانوية العامة وتمنيت أن أتخرج في كلية البوليس أو الطب،
لكن عندما
التحق رفاقي بالمدرسة الثانوية الصناعية ذهبت معهم كي لا نفترق. كان
أصدقائي «حصة»
دفاعي ضد أيامي وضد أي لحظة حزن تزورني،
وفي المدرسة لم أتخيل أنني على موعد مع
الحلم. مارست هواية التمثيل على المسرح، فوجدت فيه فرصة عبقرية
أصرخ من خلالها
وأبوح بأوجاعي، كنت على المسرح أبكي «بجد».
بدأت أصقل الهواية التي عوّضتني عن أمور كثيرة. آنذاك، كانت الثقافة
الجماهيرية
منارات جميلة تضم الفنون والآداب المختلفة، كنت أذهب نهاراً الى المكتبة
وأجتمع
ليلاً مع أهل القرية أمام سيارة لها ستارة ونمثّل عليها مسرحيات كوميدية
وتراجيدية.
ومن خلال الثقافة الجماهيرية عرفت شكسبير وموليير والعقاد وقرأت الكتب
المختلفة
عن الفن والنقد. عندما قررت السفر الى القاهرة والالتحاق بمعهد التمثيل لم
يكن معي
سوى حقيبة صغيرة فيها «بيجاما وشبشب» وكان عقلي يحتضن حلماً بأن أصبح شخصاً
ذا قيمة
في هذه المدينة المرعبة. وبمجرد وصولي الى القاهرة تُهت فيها، «اتلخبطت»،
وجدت
أناساً مختلفين ومشاعر مختلفة وقيماً غريبة وظروفاً عجيبة.
وجدت الكذب في العيون والغش في القلوب والخداع في المشاعر بصراحة.
«اتبهدلت» وتعبت وذقت الويل وعلى رغم ذلك حافظت على حلمي من الضياع
والبهدلة.
·
لو انك وُلدت وفي فمك ملعقة ذهب
وكانت كلمات اليتم والحزن والمعاناة مشطوبة من
قاموسك، كنت ستحقق النجاح نفسه؟
بإصرار ردّ: طبعاً وأحسن.
·
لماذا؟
لأنني ضد مقولة «إن المعاناة تصهر الفنان وتلمعه»، وضد كل من يقول
«ناضلت وحفرت
وشقيت الصخر». غلط، لأن الموهبة مثل بئر البترول لا يستطيع أحد منع خروجها
من
الأرض، وهي تحتاج من يحميها. تعالَ نتفق أولاً على معنى لقب «فقير»، ترى
الناس أن
الفقير هو إنسان لا يملك النقود وهذا غير صحيح لأن ثمة من
يملكون الملايين وفقراء
إنسانياً واجتماعياً وثمة أيضاً فقراء تجدهم أغنياء بعزة النفس وكرامتهم،
في حين
تجد فقراء آخرين يملأ الحقد والغلّ قلوبهم. المهم ثراء الروح، «ممكن أجبلك»
فنان
ولنفترض أن معه فلوساً كثيرة لكنه يراقب نفسه باستمرار كإنسان
يشاهد ما في داخله.
يرصده يحلله، يفسره. هذا الرجل بشفافيته العالية يستطيع ببساطة رصد حياة أي
صعلوك
على رغم أنه لم يعشها وربما يجسدها أكثر من الصعلوك نفسه. وثمة صعلوك
يستطيع سرقة
الضوء إذا التقى بالكبار وهو لم يعش هذه الحياة.
«من غير ما أدوّخك معايا، المسألة كلها خبرات إنسانية، يعني ممكن شخص
عانى وتعذب
وفي النهاية أصبح مجرماً في السجن وشخص آخر عانى وطلعت عينيه وصار نجماً
وأكبر دليل
على ذلك طه حسين وعبد الحليم حافظ. كل المسألة أني بتفرّج على معاناتي
وكأنها شريط
سينما وأحوّلها الى رصيد إنساني أستفيد به في فني».
سكت أحمد زكي، نظر إليّ وقال: أنا غلطان.
·
قلت: لا.
انفعل وكشّر وقال بغضب: «طب ليه ما حدّش فاهمني»؟
وعند هذا السؤال بالضبط تبدأ الرحلة داخل أحمد زكي، وما زالت للأوراق
بقية!
الجريدة الكويتية في
26/03/2010
في ذكراه الخامسة
أوراق من حياة النجم الأسمر
(2)
ابني هيثم أصدق علاقة في حياتي!
مصطفى ياسين
أحمد زكي من مواليد 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1949، برجه العقرب، كانت
صراحته
تصل إلى مرحلة الصدمة، ناضل حتى الاستشهاد في سبيل أفكاره،
أحبّ الكلام وحوّّله إلى
مشاهد تمثيلية أدّاها ببراعة ليؤثر في محدّثه ويقنعه. يراه البعض إنساناً
نكدياً
ويصفه البعض الآخر بالجدية، واحد فقط يراه على حقيقته هو ابنه هيثم.
{أحب
ابني هيثم كثيراً، هو العلاقة الصادقة والرائعة والجميلة في حياتي. عندما
انفصلت عن زوجتي الراحلة هالة فؤاد كان من المفروض أن آخذ ابني، لكني رفضت.
أعمل به
إيه؟ أجيب له اللعب أو أفسّحه في الملاهي؟ لازم الولد يشرب
الحنان والحب والاهتمام
والرعاية، وكل هذه الأمور لن يحصل عليها إلا من أمه!}
أضاف أحمد زكي: {أدرك معنى الأم في حياة أي طفل، عشت إحساس غيابها عن حياتي
وتعذبت، عشت الجفاف العاطفي بعيداً عن صدرها ولمسة يديها، عشت
محروماً من أنفاسها
وتأنيبها ولقمة حلوة منها أو دعوة من شفايفها}.
تابع بحسرة: {المشكلة أننا عند انفصال الزوجين يقنع كل واحد الطفل بأنه
أفضل من
الآخر. الأم تقول له: أبوك وحش والأب يقول: أمك وحشة وتتمزق
مشاعر الطفل. أصريت على
أن يعيش هيثم مع أمه ولكن شاء القدر أن يفقدها فعاش مع جدته. إنه يكرر شريط
حياتي
مع الفرق أنني فقدت أمي بالزواج وهو فقدها بالموت! هو يتيم وأنا يتيم، هو
وحيد وأنا
وحيد، علاقتنا فيها صداقة وحب وحياة. أتمنى أعمل له أشياء
كثيرة وأعلمه حاجات أكثر،
لكن دائماً هو الذي يعلمني لدرجة أنني أعتبره أستاذي في أحيان كثيرة.
أستشيره في كل
حاجة، وعندما أكون محتاراً أجد لديه عقلاً جباراً}.
في محطة مقارنة بينه وبين ابنه قال: {هيثم يعيش عصراً مختلفاً عن عصري. عصر
الكمبيوتر والمعلومات والأقمار الصناعية. عصر جعل تفكيره يسبقه
وأحلامه تسبقه. أما
أنا فعشت عصراً كنت ألهث فيه وراء أحلامي خوفاً من أن تسبقني وتهزمني}.
تعالوا نحب بعضنا
فجأة سرح أحمد كأنه في لحظة سافر ورجع: {أنا واقع في مشكلة مع هيثم. أشعر
أمامه
بأنني أب مع وقف التنفيذ. كل الآباء ينهرون أبناءهم إذا
أخطأوا، هذا النوع من الحبّ
النبيل الذي يعلّم الأبناء الثواب والخطأ. مشكلتي أنني عندما أراه لا أعرف
ظروفه أو
أعماقه أو أحلامه، وفي بيتي حجرة مجهزة له تحتضنه في كل لحظة. على فكرة أنا
عمري ما
أجبرت هيثم على فعل شيء. أناقشه وأتحاور معه فحسب لأن بيننا
مساحة مدهشة من
الصداقة}.
أضاف زكي: {المصيبة أنني بنفس القدر الذي أريد أن أطبطب به على هيثم أحتاج
إلى
معاملة بالمثل وأريد من يطبطب عليّ. ففي زمن عّز فيه الأصدقاء
وكثرت العيادات
النفسية أصبح الناس منغلقين ويخشون أن يفضفضوا لبعضهم البعض. خايفين يشوفوا
بعضهم
صح، لأن كل واحد خايف من الثاني وعنده حق. أنا كويس لكن أضمن منين أنك كويس}.
توجّه إليّ قائلاً: {إسأل نفسك، مين بيطبطب عليك؟ إسأل أي حدّ في الشارع.
كل الناس عايزين طبطبة. وكل الناس عايزين يطبطبوا على بعض وكل الناس يشتكون
إنو
ما فيش حد بيطبطب عليهم، وهم مش عايزين يطبطبوا على بعض لأنهم
غارقون جوه بعض!
ما تيجوا نطبطب على بعض. نحب بعض. نشوف بعض. نسمع بعض. نحسّ ببعض. أسمعك
وتسمعني. أفهمك وتفهمني. لا تفرض عليّ رأيك ولا أفرض عليك
رأيي. صدقني... الحبّ هو
اللي حينقذنا ! الحبّ بلا مقابل، من دون فواتير، الحبّ من دون مساومات أو
لوع وزي
ما قال الراحل العظيم صلاح جاهين:
علم اللوع أضخم كتاب في الأرض،
بس اللي يغلط فيه يجيبه الأرض.
أما الصراحة فأمرها سهل،
لكن لا تجلب مالاً ولا تصون عرضاً،
آه يا حبيبي وأبويا معاك حق.
تعرف أن صلاح جاهين كان أهم إنسان في حياتي وهو الوحيد اللي طبطب عليّ}.
إزاي؟
{كنت
في مستشفى {لندن كلينك} أخضع لجراحة لاستئصال المرارة بعدما لوّثت الكبد
وتعذبت فيها من شدة الألم. بعد الجراحة جاءني خبر رحيل صلاح جاهين، تصوّر
أنو الجرح
انفتح. قالوا: جسمي غضبان! حضر أطباء نفسيون وأعصاب وجراحون. وقفوا مذهولين
أمام
حالتي. رفض الجرح أن يلتئم. أعلن جسمي الحداد بطريقته على وفاة
أعزّ الناس لي،
فصلاح جاهين إنسان مصري جميل.
كان يمارس الطبطبة عليّ وعلى كل الناس ومات لأنه مالقاش حد يطبطب عليه}.
صلاح جاهين العظيم
{ح
أقولك على حاجة! في مرة اتخانقت مع زوجتي هالة فؤاد وكان صلاح خارجاً من
المستشفى بعدما أجرى جراحة في صدره، وصعب عليه أني اتخانقت
معاها وألحّ علي أن
أصالحها لكني كنت عنيداًَ.
فوجئت به يقول لي: تيجي معايا إسكندرية في مشوار صغير؟ وافقت.
وعندما اعترضت زوجته على خروجه لأن الجراحة التي أجراها خطيرة وتحتاج إلى
الراحة
قال لها: أنا رايح التلفزيون وسأعود بعد ساعة!
فصعد معي في سيارتي. ذهبنا إلى المعمورة. طرق أحد أبواب الكبائن هناك. فتح
الباب
حمايا المخرج أحمد فؤاد ووجدت صلاح يقول لي: خش على مراتك يا
ولد وصالحها. فوجئت
بالموقف. ارتبكت. نفذت كلامه لأنه غالي عليّ جداً. وفي أقل من دقيقة لم
أجده أمامي.
لقد عاد، وحده، إلى القاهرة بعدما ركب سيارة أجرة. عاد وهو يتألم من أثر
الجهد
الذي تحامل على نفسه وبذله، عاد مشحوناً بجسده السمين في
سيارة... من دوني. أبويا
نفسه مستحيل يعمل كده! فتخيّل مقدار عشقي لهذا الرجل النادر. ولعلمك صلاح
جاهين مات
حباً بهذا الوطن، امتلأ قلبه بالحب فلم يحتمل... ورحل. أراد السعادة للجميع
واحتفظ
لنفسه بالدموع، منحنا الفرح وأخذ الحزن، أعطانا البهجة وعاش
الاكتئاب}.
عندما تحدّث أحمد عن صلاح تلوّنت ملامح وجهه بالأسى، وعندما أكّد أن جسمه
يرفض
إعلان الشفاء حزناً على رحيله فهذه ليست صدفة. فجسم أحمد زكي
كان لسان حاله ورأس
ماله ووسيلته للتعبير عن مشاعره.
وثمة موقف آخر مارس فيه الجسم احتجاجه وغضبه وألمه، موقف ربما لم يرد أحمد
أن
يتذكره، لكنه حدث. فبعد وفاة زوجته السابقة هالة فؤاد سمع أحمد
الخبر أثناء تصوير
مشهد في أحد أفلامه، فسقط مغشياً عليه في البلاتوه ونقلوه إلى المنزل في
حالة
انهيار تام. بعدما استفاق طلب ممن كانوا معه وشاهدوه ألا يحكوا ما حدث أمام
أحد،
لأن هالة كانت زوجة لرجل آخر غيره آنذاك، ولأن مبادئه كفلاح مصري تمنعه من
إبداء
مشاعره تجاهها.
إنها حساسية طاغية! وإنسانية متفانية! ومشاعر جاورت الفروسية.
وما زالت للأوراق بقية...
الجريدة الكويتية في
28/03/2010
في ذكراه الخامسة
أوراق من حياة النجم الأسمر
(3)
حلمت بإنجاب نصف دستة أطفال
مصطفى ياسين
على طريقة الفلاش باك تكلّم أحمد زكي عن علاقته بهالة فؤاد، عن علاقته
بالمرأة، بحنانها، بحاجته إليها، باهتمامه بها، بتفكيره فيها،
بجنونه معها... يحكي
عما يريده منها وما تريده هي منه. يحكي عن «طعم» مشاعرها و{بصمة» إحساسها
و{ذكاء»
عقلها و{رقة» لمساتها و{عذوبة» مشاركتها.
قال أحمد زكي: «حين تزوجت كنت أحلم بعش زوجية سعيد وإنجاب نصف دستة أطفال،
كنت
أحلم ببيت وأسرة كبيرة، وهالة كانت إنسانة رائعة وراقية ولطيفة
ومهذبة. مثلت معها
ووجدتها نموذجاً هائلاً وتوسمت فيها صفات الزوجة الرائعة وكانت متخرّجة
حديثاً في
كلية التجارة».
أضاف زكي: «اعتقدت بأن هالة لا تحبّ الفن واكتشفت أنها تعشقه، تزوجنا وبدأ
حلم
استقراري يتحقق. لم تسعني الفرحة بعد سماعي خبر حصولي على لقب
أب. كنت أكلّم ابني
وهو جنين في بطنها».
يتابع زكي بأسف: «بعد الإنجاب قررت هالة أن تعود إلى الفن... واجهتها، فشلت
في
إقناعها بعدم العودة. أصبحت عصبياً إلى أقصى درجة، كنت أرى
أنها لا تستطيع تحمّل
مشاكل الفن ومتاعبه، أردت أن أحميها من هذا العالم القاسي بأضوائه ومشاكله
غير
المنتهية، لم نحتمل العناد، انفصلنا. أعترف بأنني ظلمتها لاستغراقي في حلمي
بتأثيث
بيت وعزوه لكن الحلم انتهى».
حقك عليّ
لم ينسَ أحمد زكي موقف والد زوجته الراحل أحمد فؤاد، قال: «تزوجت هالة
وتحجبت
واعتزلت، إلا أن والدها ظل دائم السؤال عني، كانت العلاقة
بيننا شديدة العمق
والجمال. الغريب أنني أذكر آخر عبارة قالها لي من دون مناسبة وهي: حقك عليّ!
وحين مرضت هالة، رحمها الله، لم أعرف كيف أتصرّف وقيل يومها إن ثمة دواءً
في
أميركا، بحثت عنه وكنت مقيداً لأنها مرتبطة بزوج والموقف حساس!».
هل تحلم بامرأة تمسح عرقك وتشاركك نجاحك؟
انتفض زكي من فوق مقعده و{شخط» فيّ قائلاً: «بذمتك ده سؤال مين المتخلّف
اللي ما
بيحلمش بكده؟ الرجل والأنثى محتاجين دايماً لبعض. يكلموا بعض.
يستمتعوا ببعض.
يصاحبوا «مخ» بعض، وغالباً لا يحدث ذلك لأن كل واحد قافل على مشاعره ويبخل
بها على
الثاني. الحبّ... أن تكون هناك امرأة يسبقها إحساسها وأنوثتها وخجلها
وذكاؤها
وتصرفاتها. امرأة تريد «ضل» راجل تعيش فيه كي يجد معها «ضل»
امرأة تحتويه، المرأة
كيان مهم في حياة الفنان وليست مجرد شريكة حياة وإنما شريكة روح وعقل ودنيا
بأكملها.
مسؤوليتها صعبة لأنها يجب أن تملك راداراً داخلياً يجعلها تدرك احتياجات
الرجل
وتفهم مشاعره وتؤمن بتقلباته ولا تتأثر بنزواته. باختصار،
عليها أن تذاكره. تحدّد
خطوطه وملامحه».
تابع زكي: «أعيش الآن بلا امرأة لكن لو دخلت جوايا حتلاقي عشرات النساء
اللواتي
ألجأ إليهن في وقت الحاجة. الكارثة إني عاوز ست ألاقي فيها
الحبيبة والأم والابنة
والصديقة والعشيقة وهذا مستحيل. رغم ذلك يظل البحث مسألة ممتعة. البحث عن
«نصف»
يكملك، و{صوت» يؤنسك، و{ضحكة» تسعدك و{عين»
تراك، وعقل» يفهمك، و{حضن» يحتويك.
المصيبة أن الحب الآن عملية إنجاب المشاكل ونهايتها تدمير العلاقة، فاكر
فيلم «امرأة واحدة لا تكفي»؟ أهو أنا زي بطل
الفيلم. عاوز ست تجمع كل حاجة، أي امرأة
دخلت حياتي وضعتها فوق رأسي، ويهمني جداً في المرأة عقلها».
المرأة أهم من الرجل
تذكّر أحمد زكي أنه سلم على امرأة في أحد الفنادق ثم اكتشف أنها قائدة
طائرة من
دبي!: «حسيت أمامها بالخجل الشديد لخوفي من الطيران، ولما أطلع
طيارة أبلع حبوب
الفاليوم وأبقى مرعوباً! إذن الست ممكن تكون أهمّ من الراجل. وأنا عندما
أتعامل مع
النساء أكره التصنيف وتهمني النواحي الإنسانية. هل لاحظت أن معظم أغاني أم
كلثوم من
تأليف رجال مثل «بعيد عنك حياتي عذاب» و{فات الميعاد وبقينا بعاد»؟ الرجال
كتبوا
على لسان الستات حاجات ومعاني وأفكاراً عشان يحبونا بها».
آمن زكي بأنه «لازم نبقى مع بعض (ستات ورجالة)، لكن المرأة عايزه تحس بأنها
معشوقة الرجل، لا تكفيها كلمة بحبك... عايزه أكثر، لا يكفيها
حنانه ... عايزه أكثر.
النتيجة: وفاة العلاقة بسبب زيادة نسبة الكولسترول في الإحساس وتشييع جثمان
الزواج
بسبب غباء الطرفين ولا عزاء للأذكياء. تصور أنني وقعت في الحبّ وأنا في
الإعدادية.
حبيتها ولم ألمس يدها. لم أقترب منها. لم أقل لها حتى: أحبك. كنت مدركاً أن
تقاليد
قريتي في الزقازيق ترفض هذه المشاعر. رغم أن الحكاية دي قديمة إلا أنني
أذكرها
كأنها حدثت بالأمس. يبدو أن للحبّ البريء الذي لم تلوّثه
الأيام ذكرى عطرة دائماً
في نفوسنا».
يعلّق زكي: «مرة ارتبطت بعلاقة حبّ جميلة مع إحدى الزميلات وكادت تتحول إلى
زواج
لولا الغباء من الطرفين ... أنا وهي ! ثم التقيت إنسانة أخرى
أحببتها وكانت أصغر
مني بسنوات، وصارحتها أن زواجنا مستحيل، أنا رجل واقعي لا أحتمل الفشل. من
المؤكد
أن فرق السن بيننا سيضع كلمة «النهاية» على علاقتنا».
قالوا إنك أحببت سعاد حسني؟!
«الله
يرحمها كانت وردة جميلة في طريق مليان أشواك وكانت قيمة رائعة انحنيت لها
احتراماً فتصوّر البعض أنه حبّ وكانت مدهشة»...
و... سكت أحمد زكي، صمتت الحروف على شفتيه، أَخذ نفساً من سيجارته. هذا
معناه
أنه وضع نقطة في نهاية كلامه عن المرأة، معناه: تعال نغيّر
الموضوع.
الجريدة الكويتية في
29/03/2010
في ذكراه الخامسة
أوراق من حياة النجم الأسمر
(4)
لم
أشعر بالنجوميّة يوماً
القاهرة - مصطفى ياسين
في أحد الأيام ذهب أحمد زكي يتناول الغداء في مطعم على النيل، وأثناء جلوسه
اقترب منه شاب ومعه خطيبته، عرّفه بنفسه وبأنه معجب بفنّه وقال
له بصوت عال: {يا
ريت يا أستاذ أحمد تمثّل لنا حتة على ذوقك عشان المدام}! حينها كاد أحمد أن
يضرب
هذا المعجب الذي كان صاحب أسوأ تعليق على فن أحمد زكي، هذا الفن الذي لا
يخضع لمنطق
يفسّره أو فلسفة تحدده! فعقل زكي ظل دائماً في خدمة موهبته وحماسته ولم
يغادر صدقه
وبساطته أبرز ملامح ذكائه الفني!
تراه زعيماً فتصدقه وسواقاً فتحبه وملاكماً فتشجعه وصعلوكاً فتعشقه وزوجاً
متورّطاً في نزوة فتتعاطف معه. تراه مهرّباً فتبلّغ الشرطة عنه
ومظلوماً فتتمنى أن
تأخذه في أحضانك، ومهزوماً في مشاعره فتبكي من أجله. تراه دجالاً فتستسلم
له وضابط
شرطة فتخاف منه ومطرباً فتصفّق له، وزعيم عصابة فيقنعك بإجرامه!!
أحمد زكي هو الممثل الوحيد الذي قيل {إنه يمثّل بقفاه}، عاش كل شخصية
بأعصابه
ودمه وروحه مؤثّرةً في تركيبته النفسية، كادت كل شخصية أن
تجرجره وراءها الى
العيادة النفسية، كل شخصية دخلت حياته استقرت في وجدانه واحتلت مشاعره وفي
أحيان
كثيرة رفضت الخروج.
جعلته هذه المعاناة شديد العصبية وكثير الملل وقليل الصبر ودائم الانفعال!
جعلته، كما يتهمه البعض، حاد المزاج قاسي العبارة دائم الشرود.
تحوّل التمثيل لدى أحمد زكي إلى فيروس، مرض، حالة، كان لا يعيش من دونه
ويختنق
إذا ابتعد عن البلاتوه. يتعذب إذا لم يقرأ سيناريو، يتألم إذا
لم يجد قناعاً جديداً
يؤدي من خلفه دوراً يفجّر عبره طاقة وإبداعاً وشحنة أعصاب.
أما الأمر الوحيد المستحيل في حياته فكان فصل الممثل عن الإنسان، فالمزج
بينهما
تحوّل إلى حياة يعيشها أحمد بطريقته وعلى مزاجه، وعلى كلّ من يتقرب منه
إدراك هذه
الحقيقة المخيفة.
{كان
عندنا أستاذ في المعهد اسمه علي فهمي قالي لي: انت يا بني مريض بالتمثيل
وأنا عموماً لا أحب كلمة تمثيل وأفضل كلمة تشخيص. تشخيص حالة شخص ما.
التمثيل معناه أني أمثل شخصاً آخر. أكون مندوباً عن أفكاره وانفعالاته
وكلمة
تمثيل شائعة في حياتنا العادية فتسمع مثلاً من يقول لك: ياعم
ده بيمثل علينا!
هل تعلم أن الممثل الحقيقي أبعد عن التمثيل في الحياة ومن السهل جداً خداعه.
وإذا سألتني كيف أتعامل مع الشخصية التي أجسدها أقولك إني أحب أن تأخذني
الشخصية
وأذوب فيها، رغم وجود عقل بارد يراقب الحكاية من بعيد وهذا هو
جوهر المتعة في
التشخيص. ولعلمك أنا عشقت الواقع اللي بصنعو على الشاشة لأنه أكثر جمالاً
ورقة يعني
أنا أعيش على الشاشة أكثر مما أعيش في الشارع، على الشاشة كل الشخصيات
عارفها وفي
الشارع ما أعرفهاش، والتشخيص أثّر على مخي وياريتني باكون
مبسوط لكن دايماً عندي
إحساس إن اللي باعمله وحش، وفي مرة رحت للدكتور أحمد عكاشة قلت له: خللي
الراجل
اللي جوايا يرحمني. قال لي: خليه ينقدك لأنه هو اللي ورا كل الفن اللي
بتقدمه. وطلب
مني أن أروضه بدلاً من أن أرفضه أصالحه واتفق معه من دون
اختلافات حادة}.
اعترف أحمد بأن لونه الأسمر كان مصدر ألمه الأول، فهذا اللون جعل المنتجين
والنجمات في بداية حياته الفنية يرفضون مشاركته لهم في
أفلامهم، فالسينما المصرية
لم تكن تعرف قبله نجماً أسمر وفي بدايته كانت تُسند له أدوار لا قيمة لها
كدوره في
مسرحية {مدرسة المشاغبين}.
{طول
عمري في فرقة الفنانين المتحدين كنت أحس أني ضيف وداخلي حلم يؤكد أن هذا
ليس مكاني لذلك أشعر أن كل تجاربي في المسرح {هامشية}. أذكر أني مثلت
مسرحية بعنوان
{القهر}
مع كرم مطاوع الذي أعطاني خمس شخصيات دفعة واحدة فجسدتها ونلت إعجاب
الجميع. ومرة قال لي عادل إمام أثناء عرض {المشاغبين}: أعمل كوميدي يا
أحمد. إنت
بتضحكني قوي. قلت له: لا. قدمت استقالتي من الفنانين المتحدين
رغم أن راتبي وصل إلى 400
جنيه ولم يكن لي مورد رزق آخر.
أديت الدور الثاني في تسعة أفلام وحصلت على تسع جوائز وقيل آنذاك إن أحمد
زكي
يوقع الفيلم ومعه جائزة الدور الثاني.
في فيلم {الكرنك} قال المخرج علي بدرخان إن بطلة فيلمي اسمها زينب (سعاد
حسني)
وعاوزين البطل من حي شعبي وأحمد زكي الأول في المعهد وفنان مجتهد وهو اللي
حيلعب
الدور فقال موزع الفيلم: لو سعاد حسني شحاتة برضه ما ينفعش يمثل قدامها
لأنه
أسود}.
•
ما هو إحساسك بالنجومية؟
أنا بكره كلمة نجم.
•
ليه؟
-
كلمة {نجم} تعني تميّز إنسان ما في مكان ما، فيزداد عليه الضوء ويصبح حديث
الناس ويثير نوعاً من الثقة فيهم. هذه النجومية لا يأخذها من أحد ولا يحصل
عليها
بأوامر من الحكومة. الكارثة أننا نتعامل مع النجم
بـ{شيزوفرانيا}، بوجه مزدوج،
عايزين وعايزين نموته!
•
إزاي؟
إذا أخذتني كمثال، فأنا قدّمت أعمالاً متنوعة صنعت لي اسماً وحفرت لي
تاريخاً
وعليّ بعد هذا التاريخ المساهمة في صناعة تاريخ نجوم آخرين في
بداية الطريق. فالنجم
الحقيقي هو الذي يسعى الى تقديم نجوم بجواره، ومن واجبه الإشارة الى أي
موهبة،
إطلاقها ومنحها الفرصة.
تخيّل أنني وبعد 25 سنة من العرق والجهد والتعب والإصرار أشعر بمرحلة تكسير
كياني الذي عشت عمري كله احتويه وأحافظ عليه.
فإذا نجحت ستجد من يهدم نجاحك. والنجم في عالمنا العربي دائماً في حالة
دفاع عن
وجوده عما وصل إليه.
يقولون: {يا عم ده عامل لنا فيها نجم وحيتدخل في الشغل ويبوظه}،
{إذا
كان التدخّل حميداً يبقى مضبوط وإذا كان حيبوظ الرواية يبقى نجم مشكوك في
أمره}.
كرهت كلمة نجم لأنهم اعتبروها وظيفة ولقب يبيح أن يفعل من خلاله أي شيء.
يريد النجم الحفاظ على مكانته التي وصل إليها بعد عذاب. وإذا سقط فيلم لأي
نجم
تبدأ السخرية و{التريقة}، لا يتذكرونك وينسونك في لحظة.
الأدهى من ذلك {شيزوفرانيا} النقاد. فإذا لم يحقق الفيلم إيرادات يصبح
عبقرياً
وقد يهاجمونه بعد أسبوعين أو ثلاثة.
{أنا
عمري ما حسّيت أني نجم ودائماً أرثى لحال الأولاد الجداد، عجزت علشان أعمل
تاريخ ولما بدأت أقف على رجلي وأرتاح ألاقي الهجوم عليّ لا يرحمني}.
و... يصمت أحمد زكي، أسمع صوت تنهيدة عميقة.
توتره العصبي وغضب ملامحه وأنفاسه اللاهثة ونظراته الشاردة لا تضع أبداً
نقطة في
نهاية السطر. إنها محطة قصيرة يعود بعدها أحمد الى ممارسة الكلام، والكلام
لديه من
دون حماسة يفقد معناه. فأفكاره تبدو مثل طلقات الرصاص الذي قد
يخدش أحياناً أو يقتل
غالباً.
وما زالت للأوراق بقية.
الجريدة الكويتية في
30/03/2010
في ذكراه
الخامسة
أوراق من حياة النجم الأسمر
(5)
...
و رَحَل ليسكُن في قلوبنا!
مصطفى ياسين
هكذا كان،
من المستحيل قراءة أفكاره كممثل، عقله يعمل 24 ساعة يومياً. ذهنه
لا
ينطفئ لأن مسرح أحلامه كان لا يعرف كلمة {إسدال الستار}. لا مواعيد رسمية
لموهبته. كان جاهزاً، في أي وقت، لكل شخصية تسرق انتباهه وكل
دور يستحوذ على حبه.
كان مثل
النحلة يمتص رحيق الحياة ليحوّله إلى دور، مثل المغناطيس يلتقط أي إحساس
ويرصد كل صدمة ويراقب كل سلوك.
بيقولوا
عليك {نكدي} وما بتعرفش تفرح بفنك ونجاحك؟
فعلاً، في
داخلي واحد أكرهه ويكرهني. كل ما أعمل حاجة يبوخها. زهقني. مش فاهم
إيه يرضيه. تعبت منه. وفي الآخر قلت: أسيبه هو حر!! تصدق أن الناس لما تصفق
لي
أتضايق، أنا بجد مش باعيش فرحتي بدور أو مشهد أو جائزة.
سمعتك مرة
بتقول إنك دخلت موسوعة غرائب الطب!
عندما
انقلبت بي سيارتي في الطريق الصحراوي انكسرت ضلوع كثيرة، مش فاكر 20
ضلعاًً أو أكثر. المهمّ أنها كلها انكسرت من دون أن يلتوي أي ضلع منها
ويصطدم
بالرئة. الغريب أن أي ضلع إذا انكسر لازم يلتوي ويثقب الرئة
وهو ما حدث مع الأميرة
الراحلة ديانا. اندهش الأطباء من حالتي وضربوا كفاً بكف، وعلمت أن ما حدث
معي لم
يتكرر مع أي مريض انكسرت ضلوعه!
إنت وأحمد
زكي أصحاب؟
هو فين
أنا مش لاقيه. نفسي أقعد معاه، أكلمه، أشوف أحواله، أسأله عن أخباره
وأفتش في قلبه ومشاعره. يظهر أنني من كثرة الأدوار والشخصيات التي مثلتها
تهت عن
نفسي. المصيبة أنني بعد كل فيلم أصوره أحتاج إلى مجهود خرافي
لأتخلص من الشخصية
واستردّ إنسانيتي واستجمع أحمد زكي الذي أعرفه. ومشكلتي أنني أكلّم نفسي
طول الوقت،
واتخانق معها طول الوقت، وأزعل مني ومش شايفني. أنا متعب جداً وفي لحظات
كثيرة
أتمنى أن أصالح كل حاجة حواليا.
أضاف زكي:
{أنا عصبي، عارف ليه: لأن لسه عندي ضمير. عاوز اشتغل صح، ماباحبش اللف
والدوران والأقنعة، ساعات ألاقي نفسي مجرد {شخبطة على الحيطان}. شخبطة يطلع
منها
واحد جنتلمان أو بوّاب أو صايع أو ضابط. لعلمك لا يهمني أحمد
زكي، تهمني أكثر
الأدوار والشخصيات اللي بجسّدها، لأن الشاشة فيها صدق أكثر من الحياة.
أنا عامل
زي رباعية عمي صلاح جاهين اللي بتقول: مهبوش بخربوش الألم والضياع/
قلبي ومنزوع م الضلوع انتزاع/ يا مرايتي ياللي بترسمي ضحكتي/ يا هلترى ده
وشي ولا
قناع./}
آه...!
لأنه عاش
طوال حياته داخل منطقة الألغام، حين زاره المرض دخل به منطقة الآلام.
لأنه عاش طوال حياته متمرداً وعنيداً حين هزمه الوجع رفض الاستسلام ولم يقل
آه.
وحين اشتدت الالتهابات في صدره وتحولت إلى سكاكين تمزق راحته وتسرق تنفسه
وتكتم
هواءه وتخطف حيويته وتحرق أعصابه، لم يجرؤ أن يبوح لأحد بما يشعر به.
إنه قانون
أحمد زكي الخاص في الفن والحياة، القانون الذي عاش به وأصبح بسببه:
عبقري التمثيل وإمبراطور الأداء، وفنان الأدوار الصعبة. القانون الذي حارب
به أحمد
الدنيا ليصبح النجم المدهش السارق للأضواء والإعجاب.
البداية
كانت عادية جداً، مجرد نزلة برد، وعكة صحية بسيطة تعامل معها أحمد من
دون قلق أو توتر، لكن مع كل يوم كان الألم يزداد في صدره. كانت قدرته على
التنفس
صعبة وإحساسه بالراحة مستحيل وشعوره بوخز الألم يفوق الوصف. ثم
شعر بأن صدره تحوّل
إلى كتلة من النيران، ساعتها خرجت من بين شفتيه أصعب كلمة على نفسه، كلمة
طويلة،
مذبوحة، مهزومة، خائفة. أخيراً قالها: آه!
في مستشفى
دار الفؤاد خضع للفحوصات وصور الأشعة، النتيجة: التهاب رئوي حاد، كشف
عن
حالة انسكاب بلّوري مخيفة جعل الرئة تمتلئ بالمياه. أجريت له فوراً عملية
قسطرة.
المفاجأة: استخراج أكثر من خمسة لترات ماء كانت متجمعة في الرئة. مفاجأة
لأن حجم
المياه
غير طبيعي ولأن الأطباء اندهشوا: كيف تحمّل هذا النجم كل هذا الألم.
ومنذ تلك
اللحظة بدأ أحمد يعيش أصعب أدواره على الإطلاق، دور منحه صحته وأعصابه
ودمه ودمعه وأحلامه وعمره، دور لن ينجح فيه إلا بإرادة لا تنقصه وعشق
للحياة لا
يغيب عنه، انتصار أحمد على مرض السرطان سيكون أهم جائزة يمنحها
لمشواره وحياته
وفنه.
{حليم}...
الفيلم الأخير
خضع أحمد
زكي للعلاج بإيمان وصبر وقوة. استسلم للحقن وكان يموت في اللحظة ألف
مرة حين يرى في العيون دمعة شفقة أو نظرة عطف، كان يبحث عن الشفاء ليحقق
أحلامه
التي لا تنتهي. كان يتمنى أن يظل مقاتلاً من طراز خاص مثلما
قاتل على مدى سنوات في
مشوار إبداعه. كان يقف أمام المرآة ويقول: {حهزمك يا سرطان.. إنت مش أقوى
مني!}
كانت
جلسات العلاج الكيماوي تلتهم حيويته وتسبب له الضعف والألم والعذاب، لكنه
قاوم ببسالة لإدراكه أن المعركة لا بد من أن تكون متكافئة بينه وبين هذا
الوحش! إنه
العذاب الذي اكتوى به أحمد منذ بداية مشواره فكان علامة على
صلابته ودليلاً على
إصراره.
وحين دخل
البلاتوه ليجسد حلم عمره، فيلم {حليم}، لم يصدق أحد كيف وقف أمام
الكاميرا وانفعل، وأدى وتسلل تحت جلد الشخصية، كيف تحامل على نفسه ومرضه
وضعف جهاز
مناعته، كيف ركز وذاكر دوره وعاش مشاهده ونسي الموت
المختبئ
في كل جزء من جسمه!
فعل ذلك
كله أمام الدهشة والإعجاب والانبهار. كانت كل آهة تخرج منه أمام
الكاميرا تجعل عشرات الأيادي تمتدّ وعشرات القلوب ترتعش!
كان أحمد
زكي يمثل في {حليم} حتى النفس الأخير. بكل نقطة في دمه وأعصابه. بكل
حبه وعذابه، بكل إيمانه بموهبته. بكل دموعه المسكونة في قلبه.
لكن إرادة
الله أن يصبح {حليم} آخر حلم، آخر فيلم، آخر محطة، آخر نقطة في كتاب
إبداعه.
النهاية...
فجأة ومن
دون مقدمات أعلن السرطان قراره المخيف بالانتشار في جسم أحمد، انتشار
لا
يرحم ولا يمكن محاصرته، انتشار يؤكد أن لحظة الحسم قادمة وليست في صالح
أحمد،
فجأة فقد وزنه. فقد شهيته للطعام. زاد نهجان صدره. توغل الوحش
في الكبد والأمعاء.
وفقد
الأطباء السيطرة عليه. إنه التدهور الذي لا يصلح معه العلاج في أي مكان.
التدهور الذي كان يعلمه الجميع لكنهم أخفوا أسراره عن عن أحمد كي ينجح في
المقاومة.
فمنذ بدايته مع المرض وحالته ميؤوس منها!
وفجأة دخل
أحمد في غيبوبة، أعلن جسمه الهزيمة، انهارت المقاومة واختفت المواجهة
وتوقف النبض، وضاع الأمل وانتصر الموت.
وفي 27
مارس (آذار) 2005 مات أحمد زكي، ومثلما أمتعنا أبكانا، ومثلما سكن قلوبنا
تسكن أعماله ذكرياتنا، ومثلما عاش انطفأت روحه وبقيت صورته متمرداً مدهشاً
مقاتلاً،
حالماً طفلاً و... إنساناً جميلاً.
الجريدة الكويتية في
31/03/2010 |