الوصول إلي قبر أحمد زكي في مدينة السادس من أكتوبر أصبح طقسًا
سنويًا يؤديه كل أصدقائه ومحبيه لكن المكان بصمته وسكونه يبعث في النفس
نوعًا من
الحنين لأننا بمجرد أن نعود من هذه الزيارة تنمو في داخلنا
رغبة ملحة في العودة
بالذاكرة للوراء قليلاً وبالتحديد للأيام التي كان خلالها أحمد زكي حيًا
ينبض قلبه
بيننا، لذلك نعتبر شهر مارس هو شهر تقليب المواجع فقد شهد أصعب فترة عاشها
الفنان
في صراعه مع المرض إلا أن الإبحار في الذاكرة يفرض علينا شيئًا
مهمًا وهو أن أحمد
زكي علي الرغم من مرور 6 سنوات علي رحيله نكتشف أنه كان مركز الربط بيننا
كأصدقاء،
فأنا وكابتن طيار جهاد جويفل وزوجته هالة وابنتهما هاجر نلتقي ونستعيد خيوط
تواصلنا
معه، فقد مكثت ثلاث ساعات كاملة مع كابتن جهاد جويفل وزوجته
هالة رجب نتحدث عن سر
عبقرية أحمد زكي الفنان والإنسان..
فقد تنبأ بنجاح مني زكي واختارها لتكون بطلة
فيلمه اضحك الصورة.. تطلع حلوة علي أساس أنها ممثلة بحق وعندما
سألته عن حقيقة هذا
الاقتناع بموهبتها كان يقول: إنها فنانة تعيش سنها، ولم يكن هذا رأيه في
حنان ترك
حيث كان يقول: إن حنان تعيش دورًا أكبر من سنها وبعد كل هذه السنوات أصبحت
مني زكي
تعتلي قمة التمثيل في فيلم احكي يا شهرزاد بينما تخبطت حنان
ترك في أدوار أكبر
بكثير من سنها مما أثر علي فنها وجعلها تصارع هذه الأدوار الاجتماعية
وتستسلم
لأمواج الحياة من طلاق وزواج وحجاب واعتزال وعودة في سلسلة ممتدة من
الأزمات، وهذا
يدل علي أن أحمد زكي كان محللاً نفسيًا باقتدار يجيد التعامل
مع البشر وفهم إيقاعهم
الخاص ويكفي أنه يجلس علي مائدة طعام واحدة هو وسائقه الخاص ويشاركه الطعام
ويمنح
عمال المطعم بقشيش كبيرًا يفوق الخيال، مؤكدًا أنه من حقهم أن يعودوا
لأولادهم
ومعهم كيلو من اللحم مثلما أكلنا نحن، فمن أين كان يدرك أحمد
زكي ما يدور في أذهان
الناس؟ إنه صاحب قلب ينبض بالحياة.
عرض لا يقدر بمال
توالت علي أحمد زكي الاتصالات الهاتفية من الملوك والرؤساء
والزعماء العرب وهو يرقد علي فراش المرض ومع كل مكالمة هاتفية كان يتلقي
عرضًا
مغريًا بالسفر إلي الخارج من أجل العلاج لكنه كان يرفض كل هذه
العروض ولا يلقي لها
بالاً لأنه كان يعتبر أن بلده أولي بعلاجه من كل البلاد، ولكن العرض الذي
فوجئ به
أحمد زكي وهو بالمستشفي برفقة أصدقائه وأفراد الأمن لم يكن يخطر علي باله،
فخلال
توجه أحمد زكي إلي مركز الأشعة وجد رجلاً يرتدي الملابس
الريفية يندفع نحوه، وينهال
عليه بالقبلات والأحضان ولم تفلح جهود السائقين ورجال الأمن في إبعاده لأنه
بدأ
يحكي لأحمد زكي قصته وهي أنه جاء منذ 3 أيام من أسوان وظل مقيمًا أمام باب
المستشفي
ليل نهار لكي يراه، والسبب في ذلك أنه يريد أن يعرض عليه عرضًا
مغريًا ليس كعرض
الملوك والرؤساء لأن الرجل فقير جدًا ولا يملك من حطام الدنيا إلا ما
يرتديه من
ثياب، وإنما جاء العرض مثيرًا للدهشة فقد قال الرجل لأحمد زكي: يا باشا خد
الكلية
بتاعتي والقلب بتاعي علشان تقدر تكمل في الحياة وكان لهذا
الموقف مفعول السحر في
نفس أحمد زكي الذي كاد يطير من الفرح، وقال لكابتن طيار جهاد جويفل: أنا
طول عمري
اشتغل بالفن ولما أخلص شغلي أروح للبيت، ولم أشعر بحب الناس إلا لما عييت.
الغريب أن هذا الرجل الأسواني ظل طوال فترة مرض أحمد زكي مرابطًا علي
بوابة
دار الفؤاد يتناول طعامه مع السائقين وأفراد الأمن ويتابع عن بعد الحالة
المرضية
الخاصة بالفنان، وعندما حاول كابتن جهاد جويفل أن يعطي له بعض المال رفض
بشدة وقال:
أنا جيت من أسوان فوق ظهر القطار لأري أحمد زكي وأقدم له قلبي أو كليتي ولم
آت لطلب
المال، فكل فلوس الدنيا لا تعوضنا عن فقد الأستاذ.
لم يكن هذا الرجل إلا
واحدًا من عشرات الألوف بل الملايين الذين أحبوا أحمد زكي وقطع بعضهم مئات
الأميال
للاطمئنان عليه أو المشاركة في جنازته ففوق كل الرؤوس في الجنازة كانت هناك
أيدي
سمراء نحيلة ترفع لافتات ورقية كتبت بخط اليد وكلها عبارات خرجت من القلب
لتعبر عن
حب جارف لا يقدر بمال.
الأمير أحمد زكي بن عبدالرحمن ملك مصر
غيرالمتوج
قضي أحمد زكي نصف وقته في فندق هيلتون رمسيس خاصة في
الربع الأخير من حياته حتي أصبح الفندق هو بيته الخاص، لدرجة أنه كان
معتادًا علي
أن يركن سيارته أمام المدخل ولكن الإجراءات الأمنية حول
المنشآت السياحية في ذلك
الوقت شددت علي منع السيارات من الوقوف أمام الباب، وعندما رأي أحمد زكي
سيارة أخري
تركن أمام الفندق قام أيضًا بالوقوف وراءها إلا أن المسئول عن الأمن طلب
منه
الانتظار في مكان آخر طبقًا للتعليمات فقال له أحمد زكي إنه لم
يركن سيارته إلا
عندما وجد سيارة أخري تركن في نفس المكان، فرد عليه الضابط بأن السيارة
الأخري خاصة
بسمو الأمير ترك بن عبدالرحمن، ولم يصدق الضابط نفسه من الدهشة عندما رد
عليه أحمد
زكي قائلاً: وهذه سيارة سمو الأمير أحمد زكي بن عبدالرحمن وأضاف أيضًا: قل
لوزير
الداخلية لما يسألك هذا الكلام، لأن الأمير ترك مش هيحب بلدي
أكتر مني.
سائق التاكسي الملهم الأول للعبقري الأسمر
ولم
يكن أحمد زكي تبعًا لهذا الموقف إلا أميرًا متوجًا ولكن في قلب الفقراء
والبسطاء
حيث كان يذوب حبًا في أبناء هذا الشعب ويقترب منهم وهو يتنكر في نظارته
السوداء،
ولا يعرف أحد أنه كان يهوي ركوب التاكسيات 10100 القديمة
والجلوس في المقدمة بجوار
السائق ليتحدث معه عن أحوال الدنيا ومتاعب الحياة، وإذا سأله السائق عن سبب
التشابه
الكبير بينه وبين الفنان أحمد زكي يقول له: أنا فين وأحمد زكي فين.. هو لو
أنا أحمد
زكي.. كنت ركبت معاك.
أما السر الحقيقي وراء تنكر أحمد زكي ومراقبته
للسائقين في التاكسيات فهو الأمر الذي كشف عنه لنا عندما
سألناه، حيث قال له إنه
يحرص علي الاقتراب من هذه الشخصيات لأنهم يعيشون بنبض الحياة، وأنه يستلهم
منها روح
النماذج الشخصية والفنية التي يقدمها في أعماله، وكان يؤكد علي أن هذه
النماذج
الإنسانية هي التي تشحنه بانفعالاتها وتمنحه الطاقة التي تجعله
يمثل.
كان
أحمد زكي لهذا السبب يقبل علي ركوب التاكسيات علي الرغم أنه كان يمتلك
سيارة مرسيدس
يستخدمها في تنقلاته الخاصة وسيارة أخري بيجو كان يخصصها لنقل الملابس
الخاصة
بالشخصية التي يجسدها.
هالة فؤاد..حالة الندم الوحيدة في حياة زكي
لم يكن أحمد زكي يقتنع بامرأة يمكن أن تكون زوجة له إلا هالة فؤاد
فقد كانت الوحيدة تحتفظ بهذه المكانة في قلبه حتي بعد انفصاله عنها، ولو
اقتنع أحمد
زكي بأية أمرأة أخري لتزوجها إلا أنه أغلق مشروع الزواج بالضبة
والمفتاح وظل نادماً
طوال عمره علي أنه كان سبباً في الانفصال وقد سمعته يقول إنه كان أوفر في
انفعالاته
ضد هالة فؤاد وإنه لم يكن من اللازم أن يثير المشاكل ويصر علي الخناق لمدة
نصف ساعة
وكان يلوم نفسه علي اندفاعه وتحطيمه لكيان أسرته بيده قائلاً أنا غلطت في
حق هالة..
بس ده كان طيش شباب لذلك بذل أحمد زكي
جهوداً كبيرة لكي يكفر عن هذا الشعور بالذنب
لدرجة أنه كان يتحمل مصاريف هالة فؤاد كلها عندما دخل زوجها
خالد بركات إلي السجن
بل إنه تحمل كل النفقات اللازمة لعلاجها بعد أن داهمها المرض، وعندما توفي
والدها
المخرج أحمد فؤاد، وقف أحمد زكي ليأخذ عزاءه ولم يكن يعنيه أنه مطلقها أم
لا، كان
يدرك أنه مسئول عنها ولو اختلفت الظروف والأسباب، ولم يكن
يستطيع أحد أن يجاريه في
هذا المجال حتي خالد بركات نفسه الذي زاحمه أحمد زكي في سرادق العزاء وخطف
منه كل
الاهتمام، لكن الساعات الفاصلة في مشوار أحمد زكي العاطفي كانت لها دلائل
وعلامات
ومنها ذلك الموقف الذي استقبل فيه خبر وفاة هالة فؤاد، وكان
داخل البلاتوه ومشغول
في تصوير مشاهده في أحد الأفلام، ساعتها لم يتحمل أحمد زكي الخبر وانفعل
بشدة حتي
انهار ووقع مغشياً عليه في مكان التصوير، وسارع الجميع بنقله إلي المستشفي،
ليتأكدوا من أن الفنان الجميل لايزال أسيراً للحب الذي فقده
وظل نادماً علي فراقه
طوال الحياة، كان يتمني أن تعيش هالة فؤاد أكثر من ذلك لكي يعوضها عن
الأيام الأولي
التي تعبت خلالها معه، ولكن القدر لم يمهله وودعته قبل أن يعيد إليها بهجة
الحياة.
خفة دم الكوميديان
أحمد زكي كان يتمتع بخفة دم
كبيرة تغير كواليس الرهبة وتضفي نوعاً من الفرفشة علي أي مكان
ينزل به، فعلي الرغم
من ميله الشديد للنزول في المنتزه بالإسكندرية، اقترح علي جهاد جويفل وهالة
رجب أن
يذهبا إلي العجمي، وبالفعل اختاروا مطعماً أنيقاً باسم ألادينوس وهو عبارة
عن فيللا
تطل مباشرة علي البحر، وقضي اليوم كله في هذا المطعم مع أصدقائه وكان
الجمهور
الموجود بالمكان لطيفاً جداً حيث اكتفي بتحيته من بعيد حتي لا
يتسبب أحد في
مضايقته، وتصادف قيام أحمد زكي لدخول الحمام ونظراً لاستعجاله وعدم معرفته
بالمكان
الذي يأتي إليه لأول مرة، فوجئ أحمد زكي أنه دخل خطأ حمام السيدات، ولأن
الحمام ضيق
جداً ولا يتسع إلا لشخص واحد تجمعت أعدادًا كبيرة من السيدات أمام الباب،
وسيطرت
عليهن موجة من الضيق وتساءلوا عن السيدة التي شغلت الحمام ولم
تخرج حتي الآن، وما
إن خرج أحمد زكي حتي فوجئ بنوبات من الصياح والضحك والصراخ كان سببها
تعبيرات وجهه
ونظراته ككوميديان والتي حولت الموقف إلي نوع من المرح والهزار وظل واقفاً
مع
السيدات اللاتي التففن حوله وبادلهن التحية وأمطرهن بوابل من
التعليقات والقفشات،
وكان أحمد زكي في هذه الفترة قد انتهي من تصوير فيلمه أيام السادات وكان
يجيد خلط
صوته بصوت الزعيم الراحل بسرعة مبهرة وبعد أن أضفي روح المرح علي المكان
عاد
ليستكمل جلسته بين أصدقائه، وكان شيئاً مبهراً لما قرر أن
ينصرف لأن كل الموجودين
بالمطعم قد حيوه بطريقة واحدة وهي التصفيق له وكأنه قد أجاد تمثيل أحد
أدواره ولكن
هذه المرة علي مسرح الحياة، وكان لهذه التحية مردود عاطفي كبير في نفسه
لأنه رفع
يده ومال برأسه وقطب جبينه مثلما كان يفعل الرئيس السادات.
تحية
وداع
كان احساس أحمد زكي باقتراب النهاية يصل إلي حد اليقين، لذلك
كانت تسيطر عليه ارهاصات الوداع، وكأنه علي علم بأنه لن يعيش أكثر مما عاش
ولن يقف
أمام الكاميرا أو يصافح نظرات الإعجاب في عيون الأصدقاء، وشهدت
الأيام الأخيرة في
حياة أحمد زكي مشاهد إنسانية تجزع لها القلوب، لأن كل من حوله في كواليس
تصوير فيلم
حليم قد ادركوا أن الفتي الأسمر صاحب القلب النبيل والحب الجارف للبسطاء،
لم يعد
يحتفظ في عينيه بلمعة الحياة، فبعد أن قام بتصوير 10% من
الفيلم، وفي آخر يوم تصوير
له علي مسرح عتاب بالهرم لم يكف عن غناء وترديد كلمات أغنية روحت أنا...
أنا روحت
وهي خلاصة المشهد الذي جسده وهو يرتدي بذلة عبدالحليم السوداء وعند
الانتهاء من
المشهد تقدم أحمد زكي نحو الكاميرا ليودعها بنظرات حب وحزن
وانكسار ولوح إليها
وكأنه يرتل وصيته الأخيرة لها، وفي الوقت الذي اعتبرنا أن ماهي إلا تحية
الوداع
وبدأت جموع الحاضرين علي وشك الإجهاش بالبكاء كان أحمد زكي يسابق خطواته
إلي مستشفي
دار الفؤاد ولم يكن يعرف أحد أن المرض قد بدأ يسلبه أنوار
البصر لأن الفتي الأسمر
كان يستغل ذكاءه الشديد وسرعة بديهته ليقنع كل من يراه بأنه يري بحدقة
العينين
المتعبتين كل ما نراه، وكانت هاجر ابنة جهاد وهالة أصدقائه المقربين تأخذه
علي
الكرسي المتحرك بعد انتهاء الزيارات وتمشي به عبر الكريدور
ليشعر بالحركة وتغيير
الأجواء، وخلال هذه الرحلة القصيرة كان يصر علي الغناء ويتمتم بأغنية روحت
.. أنا
روحت ولكن بمشاعر تدل علي أن وقت الرحيل قد اقترب مثل اصبعين في يد الإنسان
لأنه
يغنيها حتي ينقل إلي سريره وتغيب في النوم عيناه.
وقد حضر محمد هنيدي هذا
الموقف وكانت صدمة كبيرة عندما أدرك هنيدي أن النمر الأسود لم
تعد تبصر عيناه،
ساعتها راح يبكي ومال علي أحمد زكي يقبل جبهته ويديه، لأن مشاعر الفقد قد
هزت قلب
هنيدي واستشف بروح الفنان والإنسان أن هذه هي المرة الأخيرة التي سيلتقي
فيها بأحمد
زكي وأنه لم يتبق له في الدنيا إلا أيام وربما ساعات.
هذه قطرة من بحر قليل
من كثير قد ائتمننا عليه أحمد زكي في كنز أسراره لكننا لا نفتح هذا الكنز
إلا في
ذكراه لأنه لا يتركنا وحدنا بل يتقدم أمامنا ليلقي تحيته علي كل من أحبوه،
ولو كان
بمقدوري أن أكتب علي جدران قبر أحمد زكي عبارة واحدة لقلت: إن
صاحب هذا المقام
الرفيع قد مات بجسده فقط إلا أن روحه مازالت علي قيد الحياة، لأنه الأكثر
تأثيراً
في قلوب الناس.
روز اليوسف اليومية في
25/03/2010 |